الناس

الأسطوانات المكسورة/ جمال سليمان

 

 

هناك أسطوانات لم تعد مشروخة فقط، بل تكسرت، الا ان البعض ما زال مصمماً على استخدامها بصرف النظر عما يخرج عنها من نشاز. أقول ذلك على خلفية “الهوشه” التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي بسبب تبادل السلام بيني وبين زميلة موالية على السجادة الحمراء خلال حفلة افتتاح مهرجان الجونة السينمائي في مصر. وهو فعل بروتوكولي اجتماعي لا خلفية سياسية له. لكن، وكما جرت العادة في مثل هذه المواقف، يتماهى “المعارضون” و”الموالون” في تعليقهم على مثل هذه الواقعة العابرة، مستخدمين الخطاب نفسه واللغة نفسها التي تصل أحياناً الى دَرَك مؤسف. الطرفان يستخدمان الأسطوانة نفسها: “إنه يريد العودة الى حضن الوطن”، مع أمل كل منهما بأن الأسطوانة ستخدم غايته.

الموالون الذين يعتقدون أنهم يملكون مفاتيح الوطن ويقيمون الحواجز على أبوابه، سرعان ما يزعقون: “انك خائن مهزوم تريد العودة الى حضن الوطن بعدما قبضت الدولارات الطائلة ثمن خيانتك. لكننا بصفتنا حراس الوطن لن نفتح لك باب العودة”. والمعارضون الذين نصبوا الحواجز الافتراضية في الطريق المؤدي الى الوطن يزعقون بدورهم: “لقد هنت وخنت ونكصت ولم تعد منا”. انها الأسطوانة نفسها التي سمعتها شخصياً مرات عديدة.

التجربة أثبتت أنه لن ينفعك أنك عبَّرت عن رأيك وموقفك من هذه المسألة أو تلك، مرات ومرات. في كل مرة يجب أن تبدأ من جديد، وتجد نفسك مُعلّقاً على موقفي الطرفين، وكأنهما طرف واحد.

يجب أن تعود للتحدث بمفاهيم كنت تظن أنها بديهيات. من هذه المفاهيم، مفهوم الوطن.

نعم اشتقنا لوطننا، ونريد أن نعود الى حضنه. هذا حقنا. لكن أي وطن ذاك الذي نريد العودة الى حضنه؟ وهل العودة الى حضن الوطن هي عودة الى حضن النظام؟ بمعنى، هل الوطن والنظام شيء واحد؟ أعرف أنها مفاهيم بديهية للكثيرين، لكن الواقع يقول أنها ليست كذلك بالنسبة إلى البعض الذي يتولى حملات مواقع التواصل الاجتماعي، ويماهي بين المفهومين بشكل متعمّد، أو ربما جاهل.

 

العودة إلى حضن الوطن حق مشروع، وهو غاية الثورة في سوريا. نريد أن نعود الى حضن الوطن، لأننا فيه ولدنا، وفيه نبضت قلوبنا، ومن هوائه أخذنا أول شهيق، وفي فضائه صرخنا صرختنا الأولى معلنين قدومنا الى العالم، وعلى أرضه خطونا خطواتنا الأولى. لم نكن نريد الخروج منه أساساً كي نعود اليه. إنه وطننا، وطن آبائنا وأجدادنا، ومفاتيحه ملكنا، وليست ملك نظام يحكمه. والوطن ليس مفهوماً رومانسياً فحسب، بل هو مفهوم حقوقي يجعل كل مواطن شريكاً فيه وشريكاً في الحفاظ عليه وصونه. الوطن والحرية والكرامة والعدل والأمان.. مفاهيم متلازمة لا يمكن الفصل بينها. وهذا هو جوهر الأهداف التي سعت اليها الثورة السورية عبر حناجر المتظاهرين السلميين الذين كسروا حواجز الخوف والرعب، وراحوا يطالبون بالحرية والكرامة. خرجوا لأنهم يريدون أن يكونوا أسياداً في وطن سيد، وأحراراً في وطن حر، ومواطنين في وطن المواطنة.

نعم، نريد أن نعود الى حضن الوطن، فتراب الوطن مقدس. لكن الأوطان ليست تراباً فقط.

طبعاً، أسطوانة “العودة الى حضن الوطن”، واحدة من الأسطوانات التي يلعبها كلا الفريقين. لكن هناك أسطوانات أخرى، منها: “هذا معارض مشبوه يريد أن تعود سوريا كما كانت”.. أو بلُغة الموالين: “انتصرنا وسنعيد سوريا كما كانت لأن الثورة فشلت وانتهت”. صحيح أن الحضور الطاغي للجماعات الإرهابية والراديكالية التي حجبت الثورة وراء همجيتها، وساهمت مع النظام في القضاء عليها، انحسر، لكن سوريا لن تعود كما كانت. لا أحد يستطيع تغيير التاريخ، ولا الوقوف في وجهه. سوريا التي كانت، لن تعود لا بخيانة معارض ولا بتوبته. انها أسطوانة مكسورة. سوريا لن تعود الى ما كانت عليه إذا صافحت زميلة موالية، ولا حتى لو سلَّمت المعارضة، كل المعارضة، المعتدلة والمتشددة، السلمية والمسلحة، الواقعية والحالمة، كل أوراقها وركبت باصاً أخضر وراحت لتعيش صامتة في حضن النظام. حتى ولو فعلت ذلك، فإنها لن تنفع النظام في شئ. أمام إرادة التاريخ لا تقف أي إرادة. وإذا تعاميت عن شئ، فهذا لا يعني أن هذا الشئ غير موجود. أسطوانة العودة بسوريا الى ما كانت عليه، اسطوانة مكسورة. سوريا التي كانت قبل العام 2011 لن تعود، فهي موضوعياً لم تعد موجودة. لا تتعامَ، لا تحتاج لأن تكون موالياً أو معارضاً حتى تدرك تلك الحقيقة. فقط إفتح عينيك، وانظر حولك، وسترى الحقيقة.

النظام يقول أنه ليس لدى المعارضة السياسية ولا لدى هيئة التفاوض- التي أنا فيها وجزء منها- شيء تفاوض عليه، لأنها لا تسيطر على الأرض. أسطوانة أخرى مكسورة أيضاً. نعم، كلام النظام صحيح، المعارضة السياسية لا تقود الفصائل المسلحة باختلاف عقائدها وأهدفها، وهذا ما دفعه إلى التفاوض مع الجماعات التي يسميها صباح مساء “إرهابية”. أما المعارضة السياسية التي تدلي بدلوها وتصدر بيانات تعبّر عن رأيها أو تناشد فيها هذا الطرف أو ذاك، وتذهب الى جنيف كي تفاوض من أجل حل سياسي عادل، فإن النظام يرفض الحوار معها. معظم ما يجري على الأرض، من أعمال قتالية ومصالحات وتسويات، يتم بمعزل عن هيئة التفاوض أو أي معارضة سياسية خارجها. هذا صحيح. لكنه أيضاً يتم بصرف النظر عن إرادة النظام، لذلك أقول أسطوانة النظام مكسورة.

ليس لدى المعارضة شيء تقدمه للنظام، كما أنه ليس مطلوباً من النظام أن يقدم شيئاً للمعارضة. المطلوب منه فقط أن يعترف، لنفسه أولاً، بأن الفاتورة الباهظة لحربه من أجل انتصاره كنظام، يدفعها الوطن. نحن في حال شديدة السوء، ولكن ما زال هناك الأسوأ. هل الأسوأ حتمي؟ لا، ليس حتمياً فما زالت الفرصة متاحة كي ننقذ وطننا. ليست فرصة سهلة، لكنها قائمة، إذا قامت الإرادة الوطنية.

ليس للمعارضة إلا شرعية واحدة، وهي التزامها بالأهداف العليا للوطن الحر وللمواطن السيد. وعلى المعارضة أن تفهم أنها لا تناضل من أجل انتصارها هي- فهذه أسطوانة مكسورة- بل من أجل انتصار الوطن. وعلى النظام أن يفهم أن انتصاره بات أسطوانة مكسورة ووهماً دموياً، وأنه مهما امتد أمد الصراع، فإنه لن ينتصر، أي أنه لن يعيد سوريا الى ما كانت عليه. انتصارات الأمس العسكرية، التي حققتها فصائل المعارضة المسلحة، كانت وهماً ضبطت إيقاعه الدول النافذة والممولة، ولم تكن انتصاراً على النظام، بقدر ما كانت انتصاراً للعامل الخارجي. والمعارضة التي بنت عليه، ما بنت إلا على الوهم، وما لعبت إلا الأسطوانة المكسورة. وانتصارات الْيَوْمَ العسكرية التي يحرزها النظام على الجماعات المتطرفة، أو حتى الجماعات المسلحة غير المتطرفة، هي أيضاً أسطوانة مكسورة، لأن هذه الانتصارات أملَتها تفاهمات دولية هي من يمتلك حصيلتها، وليس النظام. وهي أيضاً ليست انتصاراً على الثورة، لأن الثورة شيء، والاٍرهاب والفوضى شيء آخر. الثورة من أجل الوطن، كل الوطن بترابه وأهله، والوطن هو الذي يجب أن ينتصر.

يبدو الكلام فضفاضاً ورومانسياً؟ لا، ليس كذلك. انتصار الوطن السوري ما زال ممكناً، من خلال عملية تفاوضية برعاية الأمم المتحدة، ووفق مرجعيات جنيف وقرارات مجلس الأمن الدولي، وعلى رأسها القرار 2254 الذي يقوم في جوهره على الحفاظ على وحدة سوريا، ونبذ الاٍرهاب، والحفاظ على مؤسسات الدولة، واللاطائفية، وكذلك على ضرورة الانتقال السياسي في سوريا من نظام استبدادي ديكتاتوري الى نظام ديموقراطي عادل لا مكان فيه للتطرف والاستبداد. هل إن حدث ذلك، سنسميه انتصاراً للمعارضة وهزيمة للنظام؟ سمِّه ما شئت، لكنه بالنسبة إلى كثيرين -وأنا منهم- هو انتصار للوطن، وهزيمة لمن باع واشترى في الوطن. هزيمة لمن رهن الوطن من أجل شخصه أو جماعته. هزيمة لمن هانت عليه دماء السوريين وآلامهم. هزيمة لمن كان مشروعه الخاص أو مشروع جماعته، أكبر من مشروع وطنه. مَن سيحزن لهزيمة هؤلاء؟ عندها، مَن منا لن يعود الى حضن الوطن الذي لا حضن غيره؟

نعم، نريد أن نعود الى حضن الوطن، لا إلى حضن النظام، ولا إلى حضن الفوضى والتطرّف والطائفية وثقافة الموت. إلى حضن الوطن الحر الديموقراطي السيد، مواطنين نتمتع بحقوقنا ونقوم بواجباتنا. نحن سوريون، ونستحق ذلك. لكن هذا لن يتم عبر لقاء بروتوكولي أو اجتماعي، بين معارض و موالٍ تربطهما قرابة أو صداقة قديمة أو زمالة مهنية. بل يتم عبر تفاوض جاد، يُفضي الى حل سياسي لكل السوريين، موالين ومعارضين وصامتين. لهذا، علينا أن نلقي بالإسطوانات المكسورة جانباً، ونعزف معاً لحناً وطنياً جامعاً، يحتفي بالكرامة والحرية والعدل والمساواة.

المدن

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى