ثقافة وفكر

لكن ماذا عن “البرميل” يا جوديث؟/ عمار المأمون

صدر مؤخراً للفيلسوفة والباحثة في شؤون الجندر جوديث بتلر، كتاب بعنوان “قوة اللاعنف” The Force of Nonviolence: The Ethical in the Political، وتناقش فيه معنى اللاعنف، لا بوصفه فقط “أداة” للتغير، بل شكلاً جديداً من العلاقات بين الأفراد والسلطة، وذلك عبر محاولة إيجاد الإجابات الأخلاقية والسياسية عن الأسئلة التالية: ما هي الأرضية التي تبرر أن القتل أمر خاطئ؟ وكيف نبرر منع القتل؟ ولماذا يستثنى الدفاع عن النفس من هذا المنع؟

تتحرك الفصول في الكتاب بين التحليل النفسي-الاجتماعي والنظرية النقدية وفلسفة الأخلاق، إلى جانب تعليقات على نظرية السيادة، لكن ما يثير الاهتمام -والحنق أحياناً- أن بتلر تتحرك ضمن الحدود البيضاء الحالية، وتشير إلى ما يحدث ضمنها من عنف مؤسساتي، وتكتفي بإشارات إلى “الحدود” وما تشهده من عنف يهدد حياة المهاجرين بسبب سياسات الاستثناء الأوربية والأمريكية، وتستحضر فرانز فانون لتناوله “الزنوجة” في المستعمرات، دون الإشارة إلى المساحات الأخرى القمعية والديكتاتورية، التي فُعّل عنفها وازداد تسليحاً بسبب سياسات “الدول البيضاء”.

ترى بتلر بداية، أن العنف واللاعنف يخضعان لتعريفات متعددة ومتغيرة، تضعها مؤسسات سياسية وخطابية، سواء كان العنف مباشراً كحالة الأعداء الذين يواجهون بالعنف العسكري، أو لفظياً كحالات الإهانة والتحريض، ذات الأمر مع اللاعنف، فقد يعتبر إضراب ما أو تجمع ما عنفاً من قبل الدولة، لكنه لاعنفي كونه لا يستهدف الحياة أو يهددها.

تشير بتلر لاحقاً إلى أن العنف يُمارَس ضد فئة، ما يعني أن حياة هذه الفئة من البشر غير مهمة، أو لا تستحق الحياة، أو لا يعترف بها كموضوعات تمتلك حق الحياة، وما يعني أن هناك تقسيماً بين من يستحق ومن لا يستحق الحياة، والذي يتضح في السياق العسكري والقانوني، لكن ما يستثنى دوماً من هذا الموضوع هو الدفاع عن النفس، أي لماذا حياة من يهدد “نفسي” تستحق أن تواجه بالعنف.

تنتقل بعدها بتلر إلى مفهوم النفس أو الأنا، في محاولة لفهم من هم “الآخرون” الذين يمكن تصنفيهم كـ”أنا”، ويحق لي الدفاع عنهم، أي من هي الجماعة البشرية التي تتمتع بهذه الخصائص ويمكن لي الدفاع باستماتة عنها دون أن “أٌجرّم”، وما هي علاقة المنضوين تحتها مع “أناي”، هل هي محصورة بالدم؟ باللون؟ بالمنطقة؟ هذه الأنا التي تعيد بتلر تعريفها بحاجة لآخرين كي تكون موجودة وكي “تحيا” وتنمو وتكبر، أي أنها أنا علاقاتية، وإدراك هذه العلاقات يحررها من لاأخلاقية العنف حين تدافع عن نفسها، ضد آخر أو مؤسسة أو فئة تضعها في مكانة “الحياة الصرفة” أو “مساحة اللاوجود”، كما في المستعمرات.

تفرق بتلر بين العنف والاعتداء-aggression ، وترى أنه يمكن توظيف الاعتداء في حركة اللاعنف التي تقرر فيها فئة بشرية مستضعفة أن تواجه مؤسسة أو فئة أخرى تهدد استمرار حياتها، لكن هذه المقاربة قائمة على أساس “راديكالية المساواة في الحياة”، وهو محرك نظرية اللاعنف التي تقدمها بتلر، أي أنه لا توجد حياة تستحق الموت مهما كانت خصائصها أو وظائفها، سواء كانت حياة الخاضع للعنف أو منتجه، خصوصاً أن حالة الصراع ضمن هذه النظرية تفترض على المستوى الأخلاقي أن هناك فئة ضعيفة تتشابه مع تعريفاتي لـ”أناي”، ولا بد من نصرتها، وعدم قتلها، هذه الفئة تلجأ إلى اللاعنف كشكل من أشكال الاحتجاج، لجعل أصواتها مسموعة، كالأقليات الجنسية واللاجئين والملونين، وسبب هذا الخيار باللاعنف، نابع من فكرة أن أذية الآخر تعني أذية أناي نفسها.

المساواة الراديكالية تعني أيضاً ضبط حدود الأنا في علاقتها مع الآخرين، والتأكيد على الاعتماد المتبادل بين الأفراد، الذي قد يحوي في حد ذاته عنفاً، لكن تمكين مفهوم المساواة بين “الحيوات” يعيد التفكير في هذا العنف، ويتحول اللاعنف إلى أداة عدوانية لا تهدد حياة أحد، وتؤكد على حق جميع الحيوات بأن تكون ذات قيمة، وتخضع للنحيب العلني للتأكيد على قيمتها، وأنها تركت أثراً سياسياً وأخلاقياً لرحيلها، بالتالي اللاعنف يعني الوقوف بوجه أي عنف ضد أي حياة، سواء كان هذا العنف مباشراً أو يهدد الحياة على مدار الزمن.

تضرب بتلر أمثلة عن فن الأداء في تركيا لتحدي القوانين التي تمنع التجمع، وتشير إلى العنف الذي يواجهه السوريون والأكراد على حدودها، وتنتقد السياسات الأوربية التي تركت “البشر” يعبرون البحر تحت تهديد الموت، وكأن حياتهم لا تستحق أن تُحيا، وتعلق على مفهوم غاندي حول “قوة الروح”، بقولها إنه في بعض الأحيان أن نستمر بالوجود ضمن العلاقات التي نخضع لها هو الهزيمة الكبرى للقوة العنيفة، وتضرب لاحقاً مثال اللاجئين في ألمانيا الذين قاموا بتخييط أفواههم اعتراضاً على ممارسات المخيم ضدهم، وقوانين منعهم من التنقل.

لكن، ماذا عن البرميل يا جوديث؟ كيف يمكن استثمار “قوّة الروح” والاستمرار في البقاء ضمن مساحة جغرافية، الحياة لا فقط مهددة فيها بصورة يومية، بل تتعرض لعنف شديد واستعراضي، الهدف منه نفي الحياة كلياً عبر الزمن، أي مجرد التواجد في مساحة ما في شمال سوريا مثلاً يعني الخضوع لأثر الجاذبية الأرضية، تلك التي تتحكم بالبرميل المرمي من الطائرة بصورة شبه اعتباطية، كيف يمكن توظيف اللاعنف والمساواة الراديكالية، إن كان حق النحيب نفسه ممنوعاً والقبور تنبش علناً والمشافي التي تضمن استمرار الحياة تستهدف بسبب وظيفتها نفسها.

لا نحاول هنا الإشارة إلى حمل السلاح كأسلوب للدفاع عن النفس، بل ندافع عن الحق بالنجاة، حق الحياة بالاستمرار والسعي للرحيل خارج مساحة الخطر مهما كلف الثمن، الدفاع عن الذات لا يعني مواجهة الآخر بالعنف، بل النجاة من الجغرافيا العقيمة ذاتها، المساواة الراديكالية التي تدعو لها بتلر في الحالة السورية لا تبدو قابلة للتحقيق، لأن قرار “قتل” فئة ما مأخوذ مسبقاً، والحفاظ على كل الحيوات يعني رحيل كل المهددين، أو الاستسلام للقمع إن كان هذا الخيار قائماً، فالبعض لا يمتلك حتى حق الاستسلام. ذات الأمر في المساحات الآمنة، تمكن البعض في تركيا من التجمع ضمن الحدود القانونية، عبر الوقوف بعيداً عن بعض، غير موجود في الحالة السورية، فالعنف الممارس على الجسد في سوريا وأساليب الإخفاء، تجعل أي علامة على الاحتجاج ضد السلطة، أو الفئة البشرية التي تحتكر العنف، محركاً لعنف استثنائي قد ينفي حياة المحتجين.

الطاعة هي المتخيل عن العلاقة مع السلطة في الأنظمة القمعية، كون العنف بالأصل غير قانوني وارتجالي، والعرف في ما يتعلق بتطبيق العنف الاعتباطي من قبل قوى الأمن قائم على أساس إنتاج الطاعة، التي كما الجندر، أداء ذو أسلوب يتم تكراره علناً بصورة دائمة ثم تبنيه وإنتاجه، لأن سوء الاقتباس من سيناريو الطاعة هذا، يعني التهديد الفوري في بعض الأحيان، في ظل غياب التمثيل القانوني للفرد. والأهم أن “طاقة الروح” تتجه نحو النجاة اليومية في ظل غياب مقومات الحياة، والسعي للاستمرار في ظل مساحة تشبه المستعمرة.

تتحجج الأنظمة الشمولية، حيث يمارس العنف خارج القانون، بأن تعليق القانون/الدستور، سواء بقوانين الطوارئ أو مكافحة الإرهاب، سببه أن الوضع القائم غير صالح لتنفيذ الدستور، ما يبرر العنف المستخدم بأنه تأسيسي لشكل جديد من أنظمة حفظ الحياة، ولا بد من “تطهير المجتمع من الجراثيم” كي يتحقق شرط الحياة الصحية، بالتالي الفئة التي تعترض على النظام القائم وتقنياته ومن المفترض أن توظف اللاعنف، لا تستحق الحياة ويجب إنهاؤها، وهنا نكرر، النقيض لا يعني العنف المسلح، بل النجاة، كون المساوة الراديكالية في مساحة شديدة العدوانية، يقسم فيها الأفراد إلى “أعداء طبيعيين” و”مواطنين صالحين”، شبه مستحيلة، خصوصاً أن الموضوعات المهددة ممنوعة من الظهور، ولا يمكن لها أن تثبت مرئيتها.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى