الناس

عودة إخوان سوريا من بوابة فيسبوك 2011/ وسام الناصر

في الوقت الذي تطوي فيه الثورة السورية عامها الثامن، تتوالى الأصوات الناقدة لتجربة المعارضات السورية عبر تلك السنوات. وإن كان يؤخذ على هذا النقد أنه جاء متأخراً، وانعكس بغالبيته في صورة مناكفات بين شخصيات وجماعات اختلفت على مراكز الصدارة والنفوذ؛ إلا أنّ أهميته تكمن بصدوره عن معارضي الصف الأول الذين عايشوا الحدث بتفاصيله الدقيقة، وهذا ما قد يشكل فرصة لهم ولغيرهم للاستفادة من هذا النقد والاستئناس به في المراحل القادمة.

نالت جماعة الإخوان المسلمين الحظ الأوفر من هذا النقد، سواء لجهة محاولاتها الدائمة احتكار العمل المعارض والسيطرة على معظم هيئاته ومؤسساته، أو لجهة ادعائها المستمر في تمثيل الثورة السورية وأدلجتها بالطابع الإسلامي. يهمّنا في هذا السياق العودة بالذاكرة إلى الأسابيع الأولى من عام 2011، لإلقاء الضوء على خطاب هذه الجماعة عبر إحدى أذرعها الإعلاميّة في الشبكات الاجتماعيّة المتمثلة بصفحة “الثورة السورية”، والتي غيّرت اسمها سريعاً ليصبح “الثورة السورية ضد بشار الأسد”. انطلقت الصفحة بتاريخ 18 يناير/كانون الثاني 2011 في لحظة تاريخيّة فاصلة عاشها الشارع العربي الذي أدهشه مشهد هروب الرئيس التونسي السابق “زين العابدين بن علي” إلى السعوديّة، وألهبته الجموع الهادرة ضد نظام “حسني مبارك” في “ساحة التحرير” المصرية.

حاولت هذه الصفحة منذ انطلاقتها أن تلعب دوراً في تعبئة السوريين وتهيئتهم نفسياً ومعنوياً للتحرك ضد نظام الأسد وتحولت بعد 15 مارس/آذار 2011، تاريخ أول

مظاهرة في دمشق، إلى ما يشبه “وكالة أنباء” استطاعت تأمين سيلان المعلومات من سوريا إلى العالم الخارجي بشكل شبه مباشر ومستمر. كما تعرّضت الصفحة لانتقادات واسعة، منها ما تعلّق بمهنيّة القائمين عليها ومساهمتهم بتشكيل رأي عام زائف، أو باحتكارهم للحيّز الافتراضيّ واستفرادهم بالنطق باسم الثورة وتجيير ذلك لصالح جماعة الإخوان التي تنتمي إليها إدارة الصفحة.

لم تحظَ المرحلة الأولى في عمر الصفحة، أي مرحلة ما قبل أول مظاهرة في 15 مارس/آذار، باهتمام كافٍ؛ ذلك لأن الحدث في مصر وتونس غطّى على ما سواه، وأيضاً لأن الأحداث في سوريا بعد هذا التاريخ تطوّرت بسرعة وديناميّة غير مسبوقة، سالت فيها دماء المتظاهرين في أول جمعة “جمعة الكرامة” بتاريخ 18 مارس/آذار 2011. تنبع أهميّة هذه المرحلة من كونها أول احتكاك مباشر لجماعة الإخوان، وخاصة الشباب منهم، بالجمهور السوري العريض عبر نافذة “صفحة الثورة”، بعد عقود من الاغتراب عن المجتمع على خلفية أحداث (1979-1982) وتجريم الانتماء للجماعة بعقوبة الإعدام عبر القانون رقم (49) لعام 1980.

واقعيّاً، لم يكتفِ النظام السوري بحظر الجماعة وملاحقة منتسبيها؛ إنما حاول اجتثاثها كليّاً من المشهد السوري، عبر تكريس وعي جمعيّ ربط الجماعة بالإرهاب والتطرف والخيانة. تجلى هذا الأمر في العديد من المنشورات والكتب التي اكتظت بها المكتبات السورية آنذاك، ولعل أشهرها كتاب “الإخوان المسلمون: نشأة مشبوهة وتاريخ أسود”، وانعكس أيضاً في التنشئة الاجتماعيّة للأجيال التي كانت تردد ببغائياً عهدها كل صباح : “أن نتصدى للإمبريالية والصهيونية والرجعية. ونسحق، أداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة”.

عكست “صفحة الثورة” مهارة شباب الإخوان وتمرسهم في استخدام التكنولوجية الحديثة ووعيهم بدور الشبكات الاجتماعيّة كوسيلة من وسائل التعبئة والحشد؛ إلا أن هذا لم يترافق بوعي مماثل بأهميّة تبنّي خطابٍ وطنيٍ جامعٍ متحررٍ من المصلحة الحزبيّة/ الإخوانيّة الضيّقة. ولم يهتم هؤلاء الشباب بالصورة النمطية المترسّخة عن الجماعة في أذهان نظرائهم في سوريا، بل ساهموا بشكل أو بآخر في إعادة تأكيدها من خلال محاولات إخفاء انتماء مدراء الصفحة لجماعة الإخوان أو بادعاء “ساذج” بأن الصفحة تدار من داخل سوريا. كان لهذه المراوغات والضبابيّة أن ساهمت في إعادة الحياة للسرديات القديمة عن جماعة الإخوان وعززت أجندة المجموعات المدافعة عن النظام السوري في الشبكات الاجتماعيّة.

لم يَعِ، أو لم يهمّ، القائمون على الصفحة بطبيعة وتكوين المجتمع السوري وتنوعه، بل عكست منشوراتهم جهلاً أو تجاهلاً لهذا المجتمع؛ فكيف يستقيم القول بأن الصفحة تمثل كل السوريين بطوائفهم وأعراقهم المتنوعة وتسعى لإقامة دولة مدنية ديمقراطية مع الحديث بنفس الوقت عن “جند الشام والفتوحات الإسلامية”، هل من الحكمة الاستسهال في اختيار هذه التعابير من قبل من يُقدم نفسه كمشروع “ثورة” على نظام مستبد؟ هل يستميل هكذا خطاب غالبيّة الشباب السوري ويساهم في تحفيزهم على المشاركة في المظاهرات؟

كما كان مديرو الصفحة مسكونين بهاجس زيادة عدد متابعيها ومدى انتشارها، وهذا مفهوم في عالم الشبكات الاجتماعيّة، إلا أنّ هذا الأمر أثر بشكلٍ واضحٍ في طبيعة المنشورات التي صِيغَ معظمها بطريقة ارتجاليّة ومُذَبذَبة، تقول الشيء ونقيضه بنفس الوقت، بعبارات جامدة تقليديّة. فبعيداً عن الموقف من رأس النظام السوري الذي تارةً تتهجم الصفحة عليه بعبارات وشتائم قاسية، وتارة أخرى تدعي بأنها لا تستهدف شخص الأسد بل تسعى لتغيير سلوكه، وبعيداً أيضا عن الاستسهال والتسرع بتبني شعار إسقاط النظام المنفصل عن الواقع آنذاك؛ بعيداً عن كل ذلك، لم يَبرز في منشورات الصفحة خط تحريري واضح أو خطاب وطني متماسك يعكس حرص القائمين عليها لتحويلها إلى منبرٍ سوريٍ جامع. بل غَلَبَ على المنشورات ما يمكن وصفه بسياسة “تبويس الذقون” أو “الترقيّع”؛ كلمة من هنا للأقليات، وجملة من هناك للمعارضة، نفي لمعلومة وتأكيد لأخرى.

وصحيح أن الصفحة تعرضت لهجوم عنيف ومنظّم من قبل مجموعات مناصرة للنظام السوري، لكنها

بنفس الوقت لم تنفتح على أيِّ مبادرات للدخول بنقاشات وحوارات مع باقي شرائح المجتمع السوري، وخاصة الشباب منهم. ولم تشجّع الصفحة، بل عارضت، أيّ مبادرات قدمها معلقون فيها للدخول في حوارات مع من يُصَنفون في ضفة النظام. وجاء هذا الميل لإهمال الحوارات بوقت مبكر جداً، لم تتبلور فيه بعد الاصطفافات ولم تطفُ فيه تعابير كالموالاة والمعارضة. ولسنا هنا بصدد القول إنه كان من الممكن أن تتحول الصفحة لمنتدى تدور فيه نقاشات عقلانية وعميقة، ولكن على الأقل أن لا تضع الصفحة حواجز مسبقة بوجه أي حوارات ممكنة!

أضاع شباب الإخوان فرصة ذهبية، كما أضاعها كبارهم في المراحل اللاحقة للثورة، لتقديم أنفسهم، بعد اغتراب طويل عن المجتمع السوري، بطريقة أكثر انفتاحاً ومرونة، كان من شأنها أن تساهم في دحض صورة الجماعة النمطيّة وردم الهوّة بينهم وبين باقي شرائح المجتمع؛ إلا أنهم آثروا الانغلاق والتمترس خلف “مظلومية تاريخيّة” ساهمت أكثر فأكثر في ابتعاد الشباب السوري عنهم وكرّست من جديد معضلة اغترابهم عن بلدهم.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى