الناس

كفرنبل: ذاكرة مدينة مشتعلة/ محمود يوسف السويد

تخلو كفرنبل اليوم من معظم سكانها، يتناوب على المرور في شوارعها بعض الأشخاص الذين يحرسون جدران المدينة المهدمة، وأفرادٌ من عائلات قليلة آثرت البقاء رغم القصف والموت الذي أجبر أغلب الأهالي على النزوح، بينما تتداول الصفحات صوراً لأطلال بيوتها وأسواقها ومدارسها ومشافيها، التي تتعرض لموجات متتالية من القصف المدمّر منذ أشهر.

قصف للطائرات الروسية على مدينة كفرنبل

هكذا كانت البداية

انطلقت أولى صرخات الثورة في كفرنبل في الجمعة الأولى من نيسان 2011، سجّلتها حنجرة محمود القدور ومن بعده جموع المصلين، وردَّدَت صداها جدران المسجد الكبير في المدينة، لتشكل الشرارة البكر لالتحاق منطقة جبل الزاوية في ريف إدلب الجنوبي بالثورة السورية، وهو ما أعقبه مظاهرة كفرنبل الأولى التي وُصِفَت بـ «الخجولة»، إذ لم يتجاوز عدد المشاركين فيها خمسة وعشرين شخصاً. يقول أهالي المدينة إن رئيس فرع الأمن العسكري، العميد نوفل الحسين، كان حاضراً بشخصه رفقة عناصره، يراقب المتظاهرين على بعد أمتار قليلة. قبل المظاهرة كان أحد أبناء المدينة قد كتب على قبة المسجد عبارة «يسقط النظام»، ليكون هذان الحدثان إيذاناً بزمن جديد ستدخله المدينة.

تتالت المظاهرات بعدها، وكانت أعداد المتظاهرين تتزايد في كل جمعة، حتى باتت شوارعها تغلي بالمظاهرات السلمية، التي راح النظام يواجهها بحملات الاعتقالات، ثم إطلاق الرصاص الحي في بعض الأحيان.

ثوار التين وولادة لافتات ورسومات كفرنبل

في الرابع من تموز لعام 2011، دخلت قوات الأسد وانتشرت في مفارق المدينة الرئيسية وشوارعها بغرض ترهيب الأهالي وإخماد التظاهرات. يقول بعض السكان إن المشهد لم يكن مألوفاً، استُخدمت فيه الدبابات والأسلحة الثقيلة، ورافق ذلك حملات مداهمة وتفتيش نفذها عناصر فروع الأمن لمنازل أبناء المدينة، قاموا خلالها بمصادرة الدراجات النارية غير المرخصة وإحراقها، واعتقال عدد من الأهالي.

على الحواجز التي انتشرت في المدينة، كانت الاعتقالات تتم حسب مزاجية العناصر، كما راحت قوات النظام تقوم بتنفيذ حملات مداهمة على بساتين التين والزيتون في محيط المدينة بحثاً عن الشباب الذين فروا إليها خوفاً من الاعتقال، ونصبوا خياماً أقاموا فيها وتابعوا من هناك نشاطهم الثوري، حيث ولد ما عرف لاحقاً بمصطلح «ثوار التين والخيام».

في واحدة من هذه الخيام خُطَّت أولى لافتات كفرنبل باللغتين العربية والانجليزية، وولدت أيضاً أولى رسوماتها التي اشتهرت فيما بعد، وجابت صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع المحلية والعربية والعالمية. كان الرسم الأول على يد أحمد الجلل، الذي يحسب له ولرفاقه استخدام الصورة الكاريكاتورية واللافتات الساخرة كأداة في الثورة، زادت من حنق النظام ما دفعه لتشديد قبضته الأمنية ومعاقبة سكان المدينة من خلال الاعتقالات وتكسير المحال التجارية.

قتل أكثر من عشرة مدنيين برصاص قوات الأسد خلال مرحلة الثورة السلمية، كان أولهم عبد الله حمود الداني، الذي استهدفته رصاصة قناصة وهو يحفر قبراً لأحد أموات المدينة.

دفعت أعمال القتل والاعتقالات، وبدء تحوّل الثورة إلى الطور المسلّح، عدداً من أبناء المدينة إلى حمل السلاح، ثم الإعلان تشكيل أولى الكتائب المسلحة فيها مطلع العام 2012، وكانت تعرف بكتيبة «فرسان الحق»، التي شكّلها عدد من الضباط والعساكر المنشقين، والتحق بهم بعض أبناء كفرنبل. وفي العاشر من شهر آب 2012، عقد المقاتلون العزم على تحرير المدينة؛ تجمعت قوات الأسد في مركز البريد وبناء الثانوية، وبعد خمسة أيام من المعارك، التي سقط خلالها عشرات القتلى والجرحى، انسحبت قوات النظام من كفرنبل، ليتم الإعلان عن تحرير المدينة، وتكون بذلك أول مدينة في محافظة إدلب تنجح في طرد قوات النظام تماماً من داخلها، ويبدأ بذلك فصل جديد من تاريخ المدينة.

أسبوع واحد كان الفاصل بين تحرير المدينة وأول المجازر المرتكبة على أرضها، ففي الثاني والعشرين من آب 2012 أغارت طائرة حربية من نوع ميغ 21 على منطقة آهلة بالسكان، وألقت صواريخها الأربعة، فقتلت اثنا عشر شخصاً من أبنائها. كانت تلك المرة الأولى التي يستخدم فيها النظام الطيران الحربي في المدينة، وبعد ستة أيام فقط حصدت طائرة سوخوي 22 أرواح نحو ثلاثين شخصاً آخرين في دوار كفرنبل. كانت النيران تشتعل في المكان، ورائحة الجثث المتفحمة تزكم الأنوف؛ كان ذلك في يوم الثلاثاء 28 آب، اليوم الذي لن يمحى من الذاكرة كما يقول من التقيناهم من أبناء المدينة.

توالت المجازر وإن اختلفت أعداد الشهداء في كل مرة، وصار يوم الثلاثاء يوماً أسود يخافه جميع أبناء كفرنبل، فإن خلا من الطائرات، لا يخلو من قذائف المدفعية والصواريخ القادمة من معسكري وادي الضيف والحامدية وخزانات خان شيخون. كانت حصيلة الموت كبيرة جداً، إذ قضى نحو ثلاثمائة شخص في المدينة خلال عام ونصف العام.

في مقابل الموت، كانت حياة جديدة تولد في المدينة، إذ تشكلت هيئات تدير وتنظم شؤون كفرنبل، كما تأسست فيها مفرزة لضبط الأمن وتنظيم حركة السير، شكّلت فيما بعد نواة ما يعرف بـ «الشرطة الحرة». كذلك تشكل أواخر 2012 أول مجلس عسكري ضم الضباط والثوار الأوائل لتسيير شؤون المنطقة العسكرية، وتم إحداث تجمّع لإدارة شؤون المدينة خدمياً عرف بـ «المجلس المحلي» منذ مطلع العام 2013، تشكّلَ من أعيان المدينة وممثلين عن القيادات الثورية، ثم تمت إعادة تشكيله في العام 2014 عبر آلية التمثيل العائلي (عضو لكل ألف نسمة)، التي تم اعتمادها حتى تشرين الأول من العام 2017، حين قُسّمت المدينة إلى خمسة قطاعات يتم انتخاب أعضاء المجلس فيها ضمن كل دائرة. قبل ذلك، كان قد ظهر أول تمثيل للمرأة في المجلس أواخر العام 2016، عبر إحداث مكتب للمرأة فيه.

منذ طرد قوات النظام منها، عوقبت المدينة وقُطعت عنها الخدمات كافة وباتت شبه معزولة، وعاش سكانها حصاراً خانقاً استمر مدة عام، حتى توسّعت دائرة المناطق المحررة لتشمل جبل الزاوية ومعرة النعمان. رافق هذه الفترة ظهور العمل المنظماتي كبديل عن مؤسسات الدولة، وبرزت منظمة اتحاد المكاتب الثورية كهيكل إداري يسعى لتقديم العون عبر استجرار مشاريع تخدم أبناء البلدة، وعلى رأسها كان مشروع مد وصيانة شبكة المياه، وتفعيل الآبار لتأمين مياه الشرب للبيوت. ومن مشاريعه كان إنشاء راديو فرِش كإذاعة تنتج برامجها من الداخل، وتبثّها بلهجة المذيعين المحلية، حتى أصبحت الإذاعة ملازمة لاسم كفرنبل، كما لافتاتها ورسوماتها.

بعد اتساع رقعة المناطق المحررة، شهدت كفرنبل نشاطاً اقتصادياً، خاصة مع استقبالها للنازحين من المناطق المجاورة بمن فيهم نازحو معرة النعمان، الذين لعبوا دوراً أساسياً في تنشيط الاقتصاد، من خلال افتتاح محال تجارية كسوق الهال للخضار والفواكه ومحلات بيع الجملة للمواد الغذائية وغيرها. كما ساهم ورود البترول المكرر ومشتقاته في ظهور مهن جديدة كبيع المحروقات وحرّاقات تكريرها، ما أمَّنَ فرص عمل لكثيرين من أبناء المدينة والوافدين إليها.

استمرت الحياة في المدينة بالتزامن مع استمرار القصف المتكرر، الذي كان يزداد كلّما أُعلن عن معركة هنا أو هناك، ومن أبرز الأحداث في تلك الآونة استهداف مشفى كفرنبل الجراحي «الأورونتال» في العام 2014 بغارتين من الطيران الحربي، ودّعت المدينة على إثرهما أكثر من عشرة شهداء بينهم كوادر طبية. كما شهدت كفرنبل صنع أطول علم للثورة في الشهر التاسع من العام نفسه 2014، بلغ طوله 75 م وعرضه 2.25م، شاركت في صنعه ورفعه 45 امرأة من نساء كفرنبل.

كذلك شهدت كفرنبل موجة الاغتيالات من قبل جهات وصفت بالمجهولة، حيث تم استهداف الناشط الثوري رائد الفارس برصاص خلية تتبع لداعش خلال العام 2014، غير أنه نجا من موت محتم، وفي الشهر الأخير من العام نفسه، اغتيل القائد الثوري جهاد زعتور بعبوة لاصقة في سيارته. ومن الأحداث التي نغّصت عيش أبناء المدينة خلال العام 2014، ورود أنباء تفيد باستشهاد مجموعة من طلاب المدينة في سجون النظام بعد اعتقالهم من جامعة حلب قبل نحو عام ونصف.

في تشرين الثاني من العام 2014، اقتحمت جبهة النصرة معاقل جبهة ثوار سوريا، وسيطرت على مساحات واسعة في ريف المعرة الغربي وجبل الزاوية، لكنها لم تسيطر على مدينة كفرنبل، التي لم تخضع لسيطرة مباشرة من أي فصيل عسكري، وبقي سكانها يديرون شؤونهم بأنفسهم حتى ربيع 2015.

تحرير مدينة إدلب، ماذا بعد؟

كان شهر نيسان من العام 2015 تاريخاً مفصلياً في الثورة السورية، إذ شهد طرد قوات النظام من كامل محافظة إدلب على يد تحالف فصائل عريض حمل اسم جيش الفتح، وكان لجبهة النصرة وحركة أحرار الشام حضورٌ وازنٌ فيه، وهو ما كان له تأثير على الأوضاع في عموم مناطق إدلب بما فيها كفرنبل.

في حزيران من العام 2015، هاجمت جبهة النصرة برفقة فصيل جند الأقصى مخفر كفرنبل التابع للشرطة الحرة، وهو ما أدى إلى صعود نفوذ جبهة النصرة في المنطقة، وأسهم في تراجع الازدهار الاقتصادي وتقليل الدعم المقدم من قبل المنظمات، إذ ارتفعت أسعار المواد الأساسية كالوقود، وارتفع ثمن كيس الخبز من 65 إلى 125 ليرة لانقطاع الدعم عن الطحين، وتوقفت المشاريع الخدمية من تعبيد للطرقات وصيانة لشبكات الصرف الصحي ومدّ لخطوط الكهرباء.

أفرزت هذه الأحداث واقعاً جديداً، حيث انبثقت هيئات لإدارة شؤون المحافظة عن جيش الفتح وأشرفت على أغلب مفاصل المناطق المحررة، وظهرت حالة من التخبط في الإدارة وسنّ القوانين، وذلك لتقاسم السلطة والإشراف وقتها مع الحكومة المؤقتة المرتبطة بائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية. وكان لهذا التخبّط آثار سلبية على المجتمع ككل، فالجميع كان يسعى لبسط سيطرته على المحافظة، حتى بات التعليم مثلاً يخضع لجهات ثلاث (المؤقتة والفتح والنظام)، وقِس على ذلك.

تأثرت كفرنبل كغيرها من المناطق بالسلطة الجديدة، وتراجعت حياة السكان فيها على صعيد الخدمات والمشاريع التي توقفت، وشهدت المدينة هجرة لعدد كبير من أبنائها نحو الأراضي التركية أو الدول الأوروبية. ثم ازداد الأمر سوءاً مع دخول القوات الروسية في الحرب السورية لصالح قوات الأسد، لتستهدف طائراتها وبشكل مباشر المشافي والنقاط الطبية والمدارس والأفران، ما أنتج شللاً في الحياة العامة والاقتصادية في عموم المنطقة بما فيها كفرنبل. ارتفعت حدة الخوف مع ازدياد الضربات الجوية من جهة، وتناحر الفصائل من جهة أخرى، الأمر الذي ألقى بأثره على كافة القرى والبلدات التي شهدت اعتقالات في صفوف المدنيين والناشطين، فتصدرت صفحات فيسبوك ومواقع التواصل صورٌ تطالب بالحرية لأشخاص تم اعتقالهم على يد هذه الجهة أو تلك، ومن أشهر المعتقلين على صعيد كفرنبل كان رائد الفارس وزميله الإعلامي هادي العبد الله في بداية العام 2016.

نجحت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) في السيطرة على المشهد في إدلب، وشكّلت حكومة الإنقاذ كواجهة مدنية، لم تحظ بمباركة الأهالي وزادت من سوء الواقع الحياتي للسكّان، وهو ما زاد عليه خسارة المعارضة لعدد كبير من معاقلها في حمص ودمشق ودرعا، ونزوح وتهجير مئات الآلاف من السكان إلى الشمال السوري الذي يفتقر في الأصل للخدمات والتنظيم، فازدادت وتيرة الهجرة، وأغلقت كثيرٌ من المنظمات أبوابها، أو انتقلت نحو المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المدعومة تركياً، أو نحو مناطق قوات سوريا الديمقراطية شمال شرقي البلاد.

هدنة مؤقتة ونزوح للمرة الأولى

مع الهدنة طويلة الأمد التي فرضتها مقررات مؤتمر سوتشي مطلع العام 2018، وإقامة نقاط المراقبة التركية في إدلب، ساد نوع من الهدوء، وعادت الحياة شيئاً فشيئاً لتزدهر في كفرنبل وغيرها، مع بقاء الواقع الداخلي على حاله من ناحية الاعتقالات والاغتيالات، التي كان من أهمها اغتيال رائد الفارس وحمود جنيد في تشرين الأول من العام 2018. طويت صفحة الشهيدين دون محاسبة الجناة، ودُفنا وسط غليان شعبي واتهامات لهيئة تحرير الشام بالمسؤولية عن اغتيالهما.

لم تستمر الهدنة، ومنذ نيسان 2019 تعيش كفرنبل ما يشبه «القيامة»، إذ دمرت القذائف والبراميل والصواريخ معظم بيوت المدينة ومرافقها العامة، وهجّرت سكانها للمرة الأولى منذ بداية الثورة. تم تدمير المشافي الخاصة الأربعة فيها، الحكمة والخطيب والسلام والروضة، واستُهدفت المشافي العامة الثلاثة، الأورونتال وشام 4 ومريم، إضافة إلى توقّف المستوصف المجاني وبنك الدم ومركز الثلاسيميا والمكتب الطبي. كذلك خلت مدارسها الثمانية من طلابها في المرحلة الأساسية، ومثلها الثانويات العامة الثلاث والثانويتان الصناعية والتجارية، فيما أقفلت وانتقلت أو استُهدفت أفرانها الثمانية، وتم استهداف مقر اتحاد المكاتب الثورية وراديو فرِش.

خمسة وثلاثين ألف نسمة هو عدد أبناء المدينة وبناتها، يضاف إليهم نصف هذا العدد من الوافدين والمهّجرين، تم تشريد معظمهم إلى شمالي محافظة إدلب، فيما تواصل قوات الأسد وسلاح الجو الروسي قصف المدينة وتحويلها إلى ركام، حتى بات ثلثاها مهدماً. لن يجد من يسير في كفرنبل اليوم سوى رائحة الموت والبارود، وأشجار التين التي تحنّ إلى أهلها وثوارها، وتحنّ إلى رسومات الحرية وروح الفكاهة التي دُفِنَت مع أصحابها.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى