مراجعات كتب

الرضائية كمفهوم شائك في الجنس/ نائلة منصور

ملفتٌ كتاب الرضا أو الرضائية (Le Consentement)، لكاتبته الناشرة فانيسا سبرنغورا، الذي صدر في فرنسا بداية الموسم الأدبي لهذا العام عن دار نشر غراسييه. هو ملفتٌ بين أمثاله من الكتب الشهادات غزيرة الإنتاج و الآفلة بسرعة خارج الموسم الأدبي من كل عام، وذلك نظراً لأثره الكبير ضمن السجال الاجتماعي الثقافي الفرنسي حول الحريات والعلاقات الجنسية، غير أنه يتعدى هذا الأثر، وهو ما سأحاول أن أحيط به في هذا المقال، كما سأحاول أن أطرح ما تحفزّه موضوعة الرضائية من نقاش وإعادة أشكلة لمجموعة من المفاهيم.

تروي الكاتبة تجربتها الشخصية حين تعرّفت، وهي مراهقة بعمر الأربعة عشرة عاماً، على الكاتب غابرييل ماتزنيف، الذي كان  حينئذ في بداية العقد الخامس من عمره، أي أنه يكبرها بأكثر من ستة وعشرين عاماً، وذلك من خلال عالم النشر والثقافة حيث كانت أمها تعمل. التقته في سهرة للأصدقاء، أطال خلالها التحديق فيها هي الصبية الخجولة، وظلّ يبتسم لها حتى آخر السهرة، وهي التي كانت متعطشة لاهتمام أي رجل بعد تجربة عائلية قاسية عانت فيها من إهمال أبيها وتركه للبيت العائلي وهي في عمر صغير. وقعت الراوية في غرام الرجل وما يمثّله في عالم الكتب، عالمها المفضل، وانجرّت معه في أهوائه البيدوفيلية، التي لم تكن تعرفها في حينها رغم تناهي الكلمة إلى مسامعها، ورغم أن الرجل في لقائهم الجنسي الأول لم يتردد في قلبها على بطنها حين توجست من إيلاجه، قائلاً لها «حسناً، سيكون الأمر كما مع الصبيان الصغار»، أي أن بيدوفيليته لم تكن مخبّأة أبداً.

قبل عقد من لحظة اللقاء تلك، كان الكاتب قد أصدر روايتين جُمعتا في كتاب واحد بعنوان تحت سن السادسة عشر، يحكي فيه الكاتب عن حب الفتوّة على العموم «الأيفيبولية»، الفتية من الصبيان والبنات، وتتذكر الكاتبة أنه كان دائماً ما ينظّر لفكرة أن الفتوّة هي «جنس ثالث» غير مرتبط بجنس بعينه، ويبدو أن الكتاب، في تلك الحقبة التاريخية اللاحقة للحظة آيار 1968، قد لاقى ترحيباً في الأجواء الثقافية المتغنية بالتحرر الجنسي.

في الكتاب محكّات تطرح كثيراً من الأسئلة، مثل الأجزاء التي تحكي فيها الكاتبة عن موقف أمها، المستغرقة في عملها الثقافي في مجال النشر الأدبي، فاستهجان الأم العابر لتلك العلاقة لم يصمد أمام عِناد المراهقة المتشبثة بموقفها رغم بعض التحذيرات والتلميحات بأن الكاتب التي تقيم معه علاقة بيدوفيلليّ. وقد تراوحت ميوعة موقف الأم بين أن تقبل باستئجار الكاتب لشقة صغيرة خصّصها للقاءات الغرامية مع ابنتها المراهقة، وبين أن تطلب من ابنتها ألّا تذكر شيئاً عن العلاقة إياها أمام جديّها، والديّ الأم، تجنباً للمشاكل. وكان الأصدقاء المقربون للأم على دراية بتلك العلاقة، واعتبر بعضهم أن الفتاة محظوظة لأنها عشيقة كاتب معروف في الأوساط الثقافية.

والحال أن الكاتب في فرنسا كان، وربما ما يزال، أيقونة لها هالتها من القدسية والحصانة. في الحقيقة، يطرح موقف الأم تساؤلاً حول تاريخانية مواضيع الرغبة والجسد والعلاقات الجنسية بين عالم الكبار وعالم الصغار، ويطرح كذلك تساؤلاً حول تاريخانية وثقافوية مفهوم النضوج الجنسي والمراهقة. الأم، ابنة عصرها كما قلنا سابقاً، العصر الداعي للثورة جنسية وتحرر الأبدان من كل سلطة وعرف اجتماعي؛ ولكن ألا ينتاب أولياء المراهقين في كل العصور كدرٌ ما، أو عدم راحة، لفكرة ارتباط صغارهم بعلاقات جنسية مع من يكبرونهم بثلاثة عقود؟ هل محرمات الرغبة تاريخانيةٌ وثقافويةٌ فعلاً؟

تخبرنا لحظة مفصلية ثانية عن الحقبة التاريخية المتعلقة بالجنسانية في فرنسا، وهي عندما تتعرض الكاتبة في مراهقتها، وأثناء علاقتها بالكاتب المشهور، لجرثومة تهاجم مفاصلها، تبقى على إثرها نزيلة المستشفى لفترة طويلة للاستشفاء، يزورها خلالها العديد من الأقارب والأصدقاء والأطباء، من بينهم طبيب نفسي، دون أن يستهجن أو يستقصي أحد من أولئك عن علاقتها الجنسية المبكرة، ولا عن كون المرض عدوىً من العشيق الذي يكبرها بأكثر من ثلاثة عقود، والذي يعيش علاقات غرامية متعددة خارج وداخل فرنسا. كذلك، استوقفت شرطة حماية الأطفال والمراهقين الكاتب، بعد تلقيها رسائل مغفلة الهوية حول غابرييل متزنيف وعلاقته بالصبية، ولكن الأسئلة لم تأخذ طابعاً جدياً، بل طابعاً شكلياً بحتاً تكفلُ عدمَ جديته حصانة الكاتب وسمعته في الأوساط الأدبية، وكانت كافية ليأخذ المذكور احتياطاته حول الموضوع ويتجنب المساءلات.

وهناك أيضاً لحظة أخرى بالغة الأهمية، تستذكر فيها الكاتبة البيان الذي وقع عليه 69 مثقفاً فرنسياً من كل الضفاف السياسية، وتم نشره في صحيفتي لوموند وليبراسيون عام 1977، يطالبون فيه، باسم الحريات، أن يُسمح للبالغين بإقامة علاقات مع الصغار؛ ويدافعون فيه عن ثلاثة رجال كانوا قد أوقفوا قبل ثلاث سنوات لاستغلالهم الجنسي لقُصرّ تحت سن الخمسة عشر عاماً. ومن بين الأسماء الموقعة نقرأ: جان بول سارتر، رولان بارت، سيمون دو بوفوار، جيل وفاني دولوز، جاك لانغ، برنارد كوشنر، لوي أراغون، أندريه غلوكسمان، فرانسوا شاتليه، وفيليكس غاتاري. كانوا يرون أن المراهقين ليسوا ضحايا، بل راضين وموافقين تماماً.

ونذكر تعقيباً على ما ورد في كتاب سبرنغورا، أن هناك مقابلة شهيرة لميشيل فوكو مع الكاتب غي كوغنهيم، أحد مؤسسي «جبهة المثليين للعمل الثوري»، على راديو فرانس كولتور، يُدينان فيها تجريم البيدوفيليا وتقنين سن الرشد الجنسي، وينتقدان التدخل الزائد للأطباء والأخصائيين النفسيين في عمل المحاكم القانوني، باعتبار أنهم يخلقون مظلومية جديدة حول الانتهاك الجنسي للأطفال القُصَّر، ولا يستمعون لكلام الأخيرين الذين رددوا أمام منابر المحاكم أنهم كانوا راضين/موافقين. ومن الحجج التي أوردها فوكو كذلك، أن لا أحد يستمع لحق الأطفال في اللذة الجسدية. في سياقات أخرى، ينتقد ميشيل فوكو مفهوم الرضا كمفهوم غائم وغير محدد لا يرقى لأن يكون مفهوماً قانونياً.

في النهاية، تتمكن الراوية من إنهاء علاقتها مع الكاتب غابرييل ماتزنيف، محاولة لسنوات أن تتخلص من آثار تلك العلاقة على حياتها العاطفية والجنسية، ونشعر من خلال الكتاب أنها لم تفهم موقف أمها غير الصارم من تلك العلاقة المدمرة. تتساءل سبرنغورا إن كان هناك رضائية/ رضا من طرفها، وكانت إجابتها حتماً نعم؛ كانت موافقة على العلاقة، وقاومت استهجان أمها كمراهقة عنيدة تعرف ماذا تريد، ولكن ما الذي يغيره رضاها في أن الكاتب غابرييل ماتزنيف كان معتدياً وبيدوفيللياً؟ يتركنا الكتاب مع هذه التساؤلات حول مفهوم شائك جداً، مفهوم الرضائية.

قد يكون المعادل المختار في العربية محفزاً أولياً للنقاش، فالرضا هو القبول في تبادل إنساني ما (consentement)، والرضا هو الاكتفاء والامتلاء (satisfaction)، وهما ليسا مفهومان متلازمان بالضرورة، وخاصة في العلاقات الجنسية. ولا نقصد بالاكتفاء هنا الاكتفاء بالمعنى الجنسي، ولكن مجرد الاكتفاء النفسي. قد يكون النقاش الفلسفي حول ما يفترضه القبول في العلاقات الجنسية ضرورة أولية للتفكير في كيفية تقنينه، للبتّ والفصل فيما هو اعتداء وما هو عنصر من فضاء الرغبات والتهويمات الجنسية. وليس من السهل، بل ليس من النزاهة أيضاً، أن نتجاهل دون تفكّر وتأمل مسبق ما أصبح يُسمى «بيان دونوف»، إشارة إلى الممثلة الفرنسية كاثرين دونوف التي نشرت عقب حملة «مي تو» بياناً وقعه مثقفون آخرون، تعترض فيه على تقييد فضاء المخيال الجنسي اللازم للمغازلة بحيث يصبح عقيماً؛ أين الرضا في مقاربة دونوف؟ الرضا بوصفه العنصر الإيثيقي الأهم في أي علاقة جنسية؟ وهل يمكن أن تُكرّس فكرة الرضائية دون تبريد لحيز الغواية يجعل من العلاقة الجنسية عقد بليد كأي عقد آخر؟ لا يخبرنا الكثير باللغة العربية على الموضوع.

أعجبني نقاش أحد الفلاسفة الأكاديميين حول الرغبة والإرادة الحرة في تعريف الرضا/القبول1، وحول مفهوم الكرامة كمبدأ أعلى؛ أعلى من الأفراد والذوات وقبولهم المشروط ضمن ظروفهم غير الحرّة بالمطلق، حيث لا حرية مطلقة في الشرط الإنساني، وبالتالي لا خيار حراً  بالكامل نُحمِّلُ الفرد الواحد عِبأه، أي عبء القبول.

يسند دافيد سيمار الرضا/ القبول إلى أحد مفهومين اثنين: الإرادة الحرة أو الرغبة، وهما منظوران يغيران في معادلة الرضائية الجنسية، حيث أن الإرادة والرغبة ليستا مترادفتين يمكن التبديل بينهما بحرية. فمن الممكن جداً أن نرغب بالشيء دون أن نريده، وهذا ما يحصل أحياناً في العلاقات الجنسية. على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يرغب بطرف ثالث غير الزوج كشريك جنسي دون أن يريد ذلك حقاً، تمسّكاً بالوفاء للزوج؛ وعلى العكس من ذلك، يمكن للمرء أن يريد علاقة جنسية دون أن يرغب حقاً بها، وهو ما يحصل حين يقيم علاقة جنسية لإرضاء هاجس نرجسي أو لتهدئة قلق ما، أو حتى من أجل المال.

الإشكالية في إسناد الرضائية إلى الرغبة أو إلى الإرادة الحرة هو المكانة التي نعطيها للعقلاني الواعي، أو اللاعقلاني اللاواعي، في السلوكيات البشرية. حين يتم ربط الرضائية بالرغبة، ويصبح العمل الجنسي مقابل المال مُجرَّماً، وهذا ما حدا ببعض المنظمات النِسوية الفرنسية إلى تجريم البغاء واعتباره امتهاناً للإنسان، باعتبار أنه لا يمكن الحديث عن رضائية حين تكون الحاجة إلى المال هي الدافع وراء ممارسة الجنس.

بحسب ديكارت، الرغبة محكومة بالإرادة والإرادة محكومة بدورها بالعقل وما يوفره للرغبة، حتى أن الإرادة والعقل قادران على تغيير الرغبات. على عكس سبينوزا وفرويد، اللذين يريان أن الرغبة هي أساس وجوهر الإنسان. بالنسبة لسبينوزا، الرغبة مثل كل شيء تجتهد لاستمراريتها وتحقيق ذاتها، ليس ذلك فحسب، بل إنها تعي جهدها للاستمرار وتحقيق ذاتها، وليس للعقل القدرة على تقييم الرغبات وفقاً لما هو جيّد وما هو سيء، بل إنه يُضفي قيمة جيدة على موضوع الرغبات بقدر ما نرغب بها. وبحسب فرويد، الرغبة هي البحث عن شعور بالرضا مُعاش سابقاً ومرتبط بتمثيل ما، وهي من القوة بمكان بحيث تنظم طبيعة علاقات المرء مع محيطه، ولكنها قد تُكبَت بفعل الوعي والإرادة، وبالتالي فمن الصعب بناء تصور عن الرضائية مبني على الرغبة الصرفة أو على الإرادة الحرة للفرد المجردة من أي مُقيِّد.

إن غياب الشرط الإنساني الحر بالمطلق، الحرّ من كل قيد اجتماعي أو قيد نفسي متعلق بالكبت النفسي للرغبات، كل ذلك يجعل من الرضائية مفهوماً صعب التحديد، ما جعل كثيراً من المنظمات النِسوية تنتقده في إطار مناهضتها للدعارة والجنس المأجور، معتبرة أن القبول والرضائية مفهوم يتراوح بين الانخراط الكامل في العلاقة الجنسية كقرار واعٍ والإذعان تحت ضغط ظروف معينة، مثل ظروف الرق والإتجار بالبشر، أو الضعف والهشاشة، أو الوقوع تحت سلطة ما.

بحسب الفيلسوفة والمنظرة النِسوية جنفييف فريس -وما زلنا نقرأ من مقال دافيد سيمار- فإنه من العسير الدخول في حميمية الأفراد لتقييم طبيعة رضاهم في العلاقة الجنسية، وهو ما يبقى العامل الأهم قانونياً. ومن المهم أن نفهم العلاقة الإشكالية بين الرضائية على المستوى الفردي، أي حين يعلن الفرد بضمير المتكلم «أنا راضٍ»، وبين الرضائية على المستوى السياسي الجمعي، ومن هنا تأتي قيمة الكرامة الإنسانية كقيمة عليا تتسامى على الأفراد والحالات والمُقيِّدات بعينها، ويجب مراعاتها والرجوع إليها بغض النظر عن الحالات الخاصة. نِسوية أخرى هي ميشيلا مارزانو تؤكّد على تعقيد مفهوم الرضائية، حيث لا يمكن أن نختزل الفرد إلى ما يقوله، فما يقوله واعياً ليس بالضرورة ما يخفيه في لا وعيه، وهو المبدأ الأساسي في كل مقاربة نفسية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فليس بالضرورة أن يكون الفرد شفّافاً تجاه نفسه، لا يترواح في رغباته وأقواله، وحرٌ من أي شرط ومُقيِّد.

من هنا نعود مرة أخرى إلى الكرامة الإنسانية، أي الاستناد إلى عنصر خارج عن فردانية ومحددات شخص بعينه، للتدقيق في الممارسات الجنسية وإدانتها حين يلزم، حتى تلك التي قد لا يدينها القانون، أو لا يدينها بالإجماع، مثل العمل الجنسي. فالمسألة أخلاقية هنا، وليست قانونية. والكرامة كقيمة بالمعنى الكانطي للكلمة، التي يُزعَم أن البشر يتقاسمونها، هي احترام الإنسان لنفسه وللآخرين.

وطبعاً يرجع التفسير الكانطي للكرامة كقيمة عليا في لحظة ما إلى الحرية المطلقة للعقل، عقل الفرد الذي يستطيع أن يُحاكم ويلج إلى قيمة الكرامة، وهو ما طرحته الجمعيات النِسوية التي أتينا على ذكرها سابقاً في النص كشرط غير متحقق. الحرية المطلقة دون مُقيِّدات هي شرط لا إنساني، فكيف يمكن إذن إحقاق الكرامة كمبدأ أعلى. تتعلق المسألة بتقييم بعض الممارسات مبدأياً دون الدخول في ظروفها وحيثياتها، والمثال الأسطع هو العمل الجنسي، فوفق مقاربة النِسويات والمنظمات النِسوية الرافضة للعمل الجنسي والدعارة، هذه الممارسة هي بالمطلق اغتصاب، والمنخرط فيها هو ضحية بغض النظر عن حيثياته أو عن كونه أبيضاً أو ملوناً، يمارسها بملء إرادته أو لحاجته الاقتصادية، أو لوقوعه تحت نير عصابات للاتجار بالبشر.

ينطبق التوتر عينه بين إرادة الفرد وبين إحقاق قيمة عليا في حالة تقييم الممارسات الجنسية السادومازوشية، حين ننظر من منظور أخلاقي، وليس من منظور أنثروبولوجي أو من منظور التهويمات الجنسية المشروعة حين تُحدَّدُ زمنياً بفترة الممارسة وتكون خارجة عن علائق السلطة والتسلط. بالنسبة لبعض التوجهات النِسوية، هذه الممارسات هي بالمطلق امتهان، وخاصة للمرأة. تُذكرني هذه التساؤلات بمقطعين من الثلاثية السينمائية المأخوذة عن رواية إيروتيكية هي خمسون درجة من السيد غراي، التي حققت نسبة مبيعات عالية جداً. في المقطع الأول، يفاوض السيد غراي من وقع عليها خياره وأحبَّها حول ممارسته الجنسية التي لا يريدها خارج الـ«ب د إس إم» أو السادومازوشية، ويأخذ التفاوض شكل التعاقد الرسمي، حيث يُدرَس كل تفصيل للممارسة المقبلة في عقد مكتوب يمكن للمتعاقدة أن تفاوض عليه، تقبله أو تنقضه أو ترفضه كلياً. «تقبل» المتفاوضة ضمن مشهد أكثر إيحاءً إيروتيكياً من مشاهد الجنس الصرفة، لوجود تلك المساحة من غير المَقول حيث تقبع الرغبات غير المحددة، رغم وجود العقد. ننتقل إلى المقطع الثاني، حين تطلب الشريكة المرأة من السيد غراي التوقف فوراً عن إكمال جلده لها، وإنهاء العلاقة المؤلمة والممتهنة لها. بالرغم من تجارية الفيلم الهوليودي وإشكاليته بالنسبة للنِسويات، لكني أرى أن هذين المقطعين قد أوضحا بشكل جليّ إشكالية مفهوم الرضائية، كمفهوم متحرك وظرفي وذاتي شخصي، وقد يكون قد ألمَح كذلك إلى وجود شيء ما، أعلى، لا أريد بالضرورة تسميته قيمة عليا، لكنه مرتبط بالكرامة وعدم الامتهان.

بالعودة إلى كتاب سبرنغورا، وإلى تأكيدها على أنها كانت قابلة وراضية في لحظة مراهقتها بالعلاقة الجنسية مع الكاتب البيدوفيللي، وهو التأكيد الذي أراه أهم ما في الكتاب، إلى جانب تساؤلها الجوهري حول قانون الصمت «الأوميرتا» الذي كان سائداً في الأوساط الثقافية الفرنسية، أوساط الكتابة والنشر المتحررة في حينها من ضوابط أخلاقية آدابية. بالعودة إلى هاتين النقطتين، نرى أن القيمة العليا للكرامة الإنسانية ينبغي أن تُصاغ بوضوح ووفقاً لضوابط أخلاقية بيّنة، حتى لو بدت شديدة الطهرانية، منعتقة من الأفراد ورضائيتهم أو عدم رضائيتهم، فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية مع القصّر، وفيما يتعلّق بسن الرشد الجنسي. لا ينبغي أن يختلط فضاء الرغبة الجنسية عند القاصر بأي شكل من الأشكال مع من هم أكبر منه سناً، ومن المؤكد أن فوكو على حق حول رغبات واستمتاع القاصرين الجنسي، ولكنه حتماً ليس على حق في تفصيل أين ومع من تُقضى تلك الشهوات. العلاقة مع الكبير هي علاقة سلطة فيها امتهانٌ مهما ادعيّنا، والضوابط ينبغي أن تصطبغ بسمة كونية غير ثقافوية رغم اختلاف مفهوم النضوج الجنسي بين الشعوب والثقافات.

لا يبدو أن مفهوم الرضائية سيصبح أقل إشكالية قريباً، ولكنه يستحق تأملاً واشتباكاً أكثر حدة في ثقافتنا على وجه الخصوص، ويستحق أن نعالج كل سياق على حدة، مع إعلاء قيمة الكرامة واللاامتهان. وحين نقول إن حيّز الرغبة وحيّز الإرادة متداخلان وغير واضحين، فهذا لا يعني أن الرضائية مفهوم غير سديد بحيث يتم افتراض رغبات مخبّأة وراء تمنّع ظاهري، كما أن الرضائية كعنصر أخلاقي أساسي في العملية الجنسية لا تعني من جهة أخرى قتل فضاء الرغبة وغير المقول كحيّز للفتنة. المقصود بكل بساطة أن الرضائية تحتاج إلى نقاش وتعريفات جديدة في لغتنا وثقافتنا.

ختاماً، ومن قبيل الساركازم، وللتدليل على نفاق الأوساط السياسية، دعونا نُذكِّر أن جان ماري لوبين الذي لم ينقطع، في سياق نقده وتشهيره باليسار الفرنسي، عن التذكير بأن دانييل كوهن بندت، السياسي الفرنسي الألماني والنائب الأوروبي عن حزب الخضر الفرنسي، هو شخصٌ بيدوفيليّ، ولكن جان ماري لوبين صديقٌ مقرّبٌ لغابرييل ماتزنيف، الكاتب، بطل كتاب سبرنغورا.

1. Simard, David. La question du consentement sexuel: entre liberté individuelle et dignité humaine. Sexologies, Elsevier, 2015, 24 (3)

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى