أبحاث

شيء عن سوريا منذ مئة عام استحضار أشباح كينغ – كرين/ موفق نيربية

بعد رحلة الباحثين العثمانيين محمد رفيق ومحمد بهجت، بعد فوات الأوان، في كلّ أنحاء ولاية بيروت العثمانية، وتحرير كتابهما- تقريرهما الممتاز إلى حكومتهما في عام 1913، الذي قدّما فيه مسحاً ميدانياً للحياة بكل فروعها في الولاية، التي ضمت كلّ غرب سوريا آنذاك، جاءت بعثة كينغ- كرين الأمريكية في صيف 1920، بتكليف من الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، بالتوافق مع البريطانيين، وقامت بدورها بأول استطلاع للرأي العام، جرى إهماله نهائياً في ما بعد. ولا بأس بمراجعة بعض ملامحه الآن، في ظلّ ما يجري شرق المتوسط.

جاء إيفاد البعثة على ضوء مناقشات مؤتمر الصلح في فرنسا، وما أقرّ في ميثاق عصبة الأمم من خلاله، حول مفهوم «الانتداب»، حين انفرط عقد الامبراطورية العثمانية، بعد هزيمتها في الحرب، وانفتح الصراع على التركة، شرق المتوسط في سوريا وبين النهرين. وكان المعنى المقصود آنذاك هو أن تلك المنطقة تستحق مرحلة متوسطة بين الاستعمار والاستقلال، تتأهل فيها وتتدرب على حياة الدول من خلال «دولة مُنتدبة» عليها لتلك المهمة.

شمل استطلاع البعثة ثلاث مناطق جغرافية في الشرق، الذي يمتد من شمال حلب إلى جنوب دمشق حتى عمان، والجنوب الذي يشمل فلسطين، وقد جرى فصلها بشكل مقصود، والغرب الذي يشمل الساحل السوري من شمال فلسطين وحتى شمال إسكندرون. ووردت إلى البعثة 1157 عريضة من الشرق، و260 من الجنوب، و446 من الغرب، في الرد على أسئلة وموضوعات محددة. استطاع ما سُمّي «برنامج دمشق» الذي صاغ معالمه المؤتمر السوري 1919، أن يحقق انتصاراً كاسحاً في استبيان مواقف الشرق والجنوب، ونجاحاً متوسطاً في الغرب، بسبب قوة التيار الفرنساوي في لبنان. فوقفت العرائض الممثلة لتلك المناطق مع سوريا موحدة، ومع مملكة دستورية ومع الأمير فيصل بن الحسين ملكاً في دولة ديمقراطية، مع حفظ حقوق الأقليات. والأكثر إثارةً من ذلك أن ما يزيد عن 60% أيدوا مبدأ «المساعدة الأمريكية»، وإن كان الانتداب مفروضاً فالانتداب الأمريكي- بنسبة أقل بقليل- هو الخيار الأول. وكان الخيار الثاني، البعيد جداً، هو الفرنسي، بسبب الهوى اللبناني، بنسبة من تلك العرائض في غرب سوريا أقل من 48%، بما يعنيه ذلك من فرق بين المناطق السورية شمال لبنان، وتلك الواقعة في إطاره الذي لم يكن قد أصبح كبيراً بعد. ولكن الولايات المتحدة أفسحت الطريق تماماً لانفراد البريطانيين والفرنسيين بالأمر، ليعود الطرفان إلى اتفاقية سايكس- بيكو مع تعديلات ضرورية. فكانت سوريا ولبنان من حصة فرنسا، وفلسطين غرب وشرق الأردن إضافة إلى العراق من حصة بريطانيا.

كان ذلك تغيراً كبيراً في الموقف الأمريكي، جعل الشخصيتين البارزتين كنغ وكرين في وضع حرج، لأن وودرو ويلسون كان قد أصبح في منتهى الضعف السياسي، قبيل الانتخابات الرئاسية القريبة جداً. في تلك الانتخابات، نالت النساء حق التصويت للمرة الأولى، بعد التعديل التاسع عشر على الدستور، وساد غضب كبيرٌ على ويلسون من قبل الأمريكيين- الأيرلنديين بعد إخلاله بوعوده لهم عند دخول الحرب، مراعاةً لحليفته بريطانيا. ومثل ذلك في وسط الأمريكيين- الألمان أيضاً. فخسر المرشح الديمقراطي بصخب وجلبة كبيرين. في حين نجح المرشح الجمهوري هاردينغ، تحت شعارات ومقولات، منها «أمريكا أولاً»، «لننته من الميوعة والتذبذب»، «الاستقلال يعني الاستقلال»، «الرئيس الأمريكي سيبقى داخل الولايات المتحدة»، وغيرها من الشعارات التي تدعو إلى عودة الأيديولوجيا الانعزالية بعيداً عن العالم وصداعه، وما يفرضه على الأمريكيين من خسائر كبيرة في اقتصادهم وحياتهم.

يمكن إجراء بعض المقارنات بين المؤتمر السوري وبرنامج دمشق، وما انعكس منهما في استطلاع واستفتاء بعثة كنغ ـ كرين، ولكن مقارنة أقرب إلى الواقع تقفز إلى المخيلة بين الوضع الناهض منذ مئة عام، وذلك الذي ساد في العام الأول للثورة السورية. يمكن أيضاً إجراء بعض المقارنات ما بين الانعزالية الأمريكية والتراجع عن توقيع اتفاقية فرساي وميثاق عصبة الأمم، ومن ثمّ التراجع عن اعتماد تقرير بعثة كنغ – كرين، بنتيجة الانتخابات الأمريكية آنذاك، بالمواقف الأمريكية في العقد الأخير، بين إقبال أوباما في خطابه في جامعة القاهرة، وتحفظه الانعزالي بعد الهجوم الكيماوي، الذي شنّه النظام في غوطة دمشق عام 2013. والأكثر وضوحاً في تلك المقارنة، هو ما يجمع الفكر السياسي الذي جاء بهاردينغ رئيساً للولايات المتحدة، وذلك الذي جاء بترامب في رئاسته الحالية، والقائمة على شعار من قبيل «أمريكا أولاً»، ولو بشكل غير حرفي، وهيمنة جوٍ انسحابي من الالتزامات الدولية المشتركة، مع كافة الشعارات الأخرى التي سبقت الإشارة إليها، ومن مشتقاتها ذلك البيان الغريب الذي صدر عن ترامب حول سوريا، «أرض ليس فيها إلا الرمال والدماء، وطبيعي إذن أن نترك شعبها لمصيره».

في زيارته الثانية إلى دمشق في مطلع إبريل/نيسان 1922، رافق عبد الرحمن الشهبندر تشارلز كرين منذ نزوله من القطار. وقام كرين بزيارته السريعة تلك بشكل شخصي، وإن كان قد أعلم وزارة الخارجية بها. ويُشار إلى أنه لاقى استقبالاً شعبياً كبيراً في أحياء الميدان والشاغور والقنوات والقصاع بترتيب من الشهبندر وفارس الخوري وآخرين، الأمر الذي أغضب الفرنسيين كثيراً ودفعهم إلى القبض على الشهبندر ورفاقه، والحكم عليهم بأحكام وصلت إلى العشرين عاماً سجناً في حالة الشهبندر نفسه، ثم صدور عفو عنهم لاحقاً بعد عام أو عامين، وإضافةً إلى ذلك، اضطرت الخارجية الفرنسية إلى إصدار بيان ينفي بشكل قاطع خبر الحكم على تشارلز كرين شخصياً بالسجن عشرين عاما، من قبل محكمة فرنسية في دمشق.

هنالك كتاب مهم نشره سامي المبيض عنوانه «سوريا والولايات المتحدة: من ويلسون إلى أيزنهاور» ينقل فيه قول الشهبندر لكرين، إن «الدول الأقل تطوراً من سوريا كالفلبين، على وشك نيل استقلالها من الولايات المتحدة، بينما قد نعلق نحن مع فرنسا إلى الأبد». في مناورةٍ واضحة لكسب تأييد الأمريكان والتحريض على دورٍ أكبر لهم. ولكن الوضع في عام 1922 كان قد أصبح مختلفاً في الإدارة الأمريكية، التي عادت إلى الانغلاق والانعزال والاستنكاف عن لعب دورٍ متكافئ مع مركزها الدولي آنذاك

(فكيف بالأمر الآن بعد قرنٍ كامل؟).

خرج الدستور الذي أعدته لجان المؤتمر السوري آنذاك، ورغم طراوة عود البلاد، أكثر تطوراً من بعض البلدان المتقدمة، ويمكن مراجعة ذلك في مجال حقوق المرأة مثلاً، التي نالت ما نالته المرأة الأمريكية، من حيث حقوق التصويت والمساواة في الحقوق والواجبات في العام التالي، وإضافةً إلى ذلك، كانت مناقشات مسألة علاقة الدين والدولة أكثر تقدماً، حتى مما حدث في سوريا ذاتها في عام 1950، وخصوصاً مما يحدث من مداولات حالياً، أيضاً بعد قرنٍ كامل.. وعام فوقه أيضاً، وهذا بحث آخر.

يبقى أن هنالك فرقاً أساسياً ما بين أثر تغيّر الإدارة الأمريكية في عام 1920، وذلك الذي لوحظ بين إدارتي أوباما وترامب، يكمن في أن من الصعب مقارنة أوباما بويلسون، وأسهل منها مقارنة ترامب بهاردينغ. ويمكن ملاحظة ذلك في كلام مايكل راتني، الذي عايشناه في المعارضة السورية طويلاً، كمبعوث لإدارة أوباما للقضية السورية، وهو يُفذلك في ورقته المطولة التي صدرت في كتاب في الصيف الماضي تحت عنوان «خمس معضلات: الولايات المتحدة والنزاع في سوريا» ويعطي الذرائع لامتناع الولايات المتحدة عن دورها، بأنه كان يمكن أن يفاقم الوضع.. مع أنه يصف حالة سوريا بنتيجة عنف النظام الخارق للعادة، وللتدخل الروسي والإيراني، بأنها كارثة بالفعل، وبكل المعاني، بحيث لا توجد حالة محتملة أكثر تفاقماً.. وهنالك كما يُقال أشباح طيبة وأخرى شريرة.

كاتب سوري

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى