مقالات

استشهادات وقالات وعنعنات/ فرج بيرقدار

يقولون لك: قال الحكيم الفلاني كذا، وقال العلامة فلان كذا، وقال الفقيه، وقال المَثَل، وقال القدماء،.. إلخ.

وأحياناً لا داعي لتحديد مَنْ هو الذي قال. إن لفظة “قيل” وحدها تكفي.

الجهل بالقائل يعطي القول، أحياناً، مهابةً لا يمتلكها مَنْ يخبرنا بما قيل.

وراء كل “قال أو قيل” كمين يستهدف الإيقاع بنا، وجرّنا مضبوعين إلى الشَرَك الذي ينوي المتحدِّث أخذنا إليه.

هل تتشابه جميع الشعوب في ذلك، أم أن الأمر ينطبق على شعوب دون غيرها، أو أكثر من غيرها؟

يصعب عليّ الجزم بذلك، فأنا لم أعاشر الكثير من الشعوب، ولم أطّلع على الكثير من الثقافات، غير أن ما عاينته على صعيد الشرق، والعرب جزء منه، يعتمد في جزء كبير من حاضرهم على ماضيهم، وما اختزنوه من عنعنات (أي عن فلان عن فلان)، وذلك أحد أبواب قال فلان، وقال فلان. لا يختلف في هذا المضمار أدعياء المادية والروحانية، أو اليمين واليسار، أو التقدم والأصولية، فلكل منهما رموزه وكتبه وقديسوه.

ما إن يتجهَّم أحدٌ ممن هم على الضفة اليسرى، ويعلن بثقة أن ماركس قال كذا، ولينين قال كذا، ويمكنه أحياناً أن يبتعد قليلاً عن هذه الرطانة الكلاسيكية فيتحدث عما قال جيفارا، أو غرامشي، أو آلتوسير، أو سارتر، أو فوكو، أو باشلار، أو دريدا، أقول ما إن يتحدَّث أحدهم على هذا النحو حتى تجد مستمِعيه، أو نسبتهم الغالبة، على الضفة اليسرى، وقد أُسقِط في أيديهم، فارتخت أحناكهم وشخصت أبصارهم إلى التسليم.

وما إن يتجهم أحدهم على الضفة اليمنى، ويعلن بثقة أنْ قال الطبري إمام المفسّرين، أو جاء في كتاب الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، أو حدَّثَنا الإمام الأعظم، أو الشيخ الرئيس ابن سينا، أو قرأنا في الصحيحين، ويمكن أحياناً تخفيف التجهّم والتحدُّثَ عن أئمّة أكثر قرباً من عصرنا. أقول ما إن يتحدث أحدهم على هذا النحو، ويضيف بعدها من عندياته ما يريد، حتى تجد مستمعيه على الضفة اليمنى وقد أُسقِط في أيديهم أيضاً، فارتخت أحناكهم وشخصت أبصارهم إلى التسليم.

ما أقول لا يعني أنه ليس في تاريخنا ما هو مشرق، أو من كانت أفكارهم مستشرِفةً في زمانها. المشكلة ليست هنا، بل في مَنْ هم لا يزالون عند ذلك التاريخ، وأحياناً عند جوانبه المظلمة، أو الأكثر ظلامية.

حدَثتْ وتحدث وستحدث اكتشافات ما كان لأجدادنا الأوائل ولاحقيهم أن يحيطوا بها ولو من بوابة التنبّؤ والخيال، ومع ذلك سنجد هناك من يحدِّثنا عن أن فلاناً، أو فلاناً، في عصورنا الغابرة، قال، أو تحدّث، أو ذَكَرَ، أو أشار إلى هذا الاكتشاف. وما دام فلان، أو فلان، من سَلَفنا الصالح مئة في المئة، حتى لو ارتكب بعضهم مجازر في ما بينهم، فلا بد أن ما قالوه، أو قيل عنهم، يندرج في حقل الحقائق المقدسة، أو المسلَّمات التي لا يرقى إليها الشكّ.

ذات مرة، قرأت بحثاً ضمَّنه صاحبُه حشداً من الاستشهادات بأقوال لينين، مع تحديد المراجع، وأرقام الصفحات. لا أدري لماذا شعرت أن بعض الاستشهادات لا تنسجم مع منطق تفكير لينين الذي قرأت معظم كتاباته المترجمة إلى العربية.

عدت إلى مراجع لينين التي حددها البحث، فوجدت أن بعض الاستشهادات غير دقيقة، وأن أحد الاستشهادات سقطت منه لا النافية، فانقلب المعنى إلى نقيضه. لا أجزم إن كان صاحب البحث تعمّد إسقاط لا النافية، أو أن هوى النفس غضّ بصره وبصيرته عن لا النافية، لأن وجودها لا يخدم دفاعه عن فكرته. ما يعنيني من سرد هذه الواقعة هو الإشارة إلى تعاطي كثير من القرَّاء، أو الكُتّاب اليساريين، مع تلك الاستشهادات، وبالتالي العقلية والآلية النفسية للتعامل مع “قال فلان”، أو “عن فلان”، أو وَرَدَ في كتب، أو أخبار الأوَّلين،.. إلخ.

ولا يغيب عن ذهني، في هذا السياق، الأبحاثَ العديدة التي تتحدث عن أسباب وضع أحاديث كثيرة على ألسنة الأنبياء.

في البلدان المتطوّرة، تكون الاستشهادات غالباً بأحدث ما ينتجه مفكروهم وعلماؤهم، في حين تكون الاستشهادات الأهم في البلدان الأقل تطوّراً، أو الأكثر تخلفاً، متركّزة غالباً على تلك الاستشهادات الضالعة في قِدم منتجيها، أو قائليها، هذا لو صحَّت ولم تكن موضوعة. لكأن معظم شعوب الشرق ترى عصورها الذهبية في الماضي، وليس في الحاضر، أو المستقبل.

ولكأنه تاريخ الإسقاط في اليدين، أو تاريخ سيادة المنقول واستبداده بالعقل والمعقول. ولا أدري كيف يمكن لهذا التاريخ أن يتنفّس هواءً طازجاً إن لم تتوقف التقوُّلات والعنعنات وتناسخ الأزلام والطغاة.

بدأتُ حديثي بكثير من الجدية، ثم قلت في نفسي لا بأس من ترطيب الحال، أو إنهائه بشيء من الطرافة، أو النكتة، التي هي ليست دائماً نقيض الجدية.

كنت أتحدث في موضوع مقالتي هذه مع صديقة إيطالية تتقن العربية، فقالت لي: إليك، إذاً، واقعة تصبُّ في هذا المنحى. في أحد الأيام، كان لدي محاضرات في القاهرة عن تاريخ مصر، فهو تخصصي الدراسي، كما تعرف. يومها شربت من القهوة أكثر من المعتاد، أي أكثر مما أنا مدمنة عليها، فسمعت تعليقات واستغرابات وتساؤلات عديدة عن أسباب مبالغتي في شرب القهوة. كنت حينها متعبة جداً، ولا طاقة لي على الأخذ والردّ، فقطّبت ما بين حاجبيَّ وأنا ألقي على مسامعهم القول الفصل: تعرفون كونفوشيوس بالطبع. كونفوشيوس نفسه قال إن الحياة من دون قهوة مثل الصين من دون حكمة.

وهكذا كان عند كونفوشيوس الخبر اليقين.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى