مراجعات كتب

الخالدي وهرتزل: حوار مستعمَر ومستعمِر/ صبحي حديدي

في مقدمة كتابه الجديد «مئة عام من الحرب على فلسطين»، الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات متروبوليتان في نيويورك، يعود المؤرّخ والأكاديمي الفلسطيني رشيد خالدي إلى الشخصية المقدسية المحورية يوسف ضياء الدين الخالدي (1842 – 1906)؛ من زاوية رسالة مفصّلة، في سبع صفحات باللغة الفرنسية، بعث بها إلى مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل، عن طريق الحاخام الفرنسي الأكبر زادوك كاهن. أهمية الرسالة تنبثق، في يقيني، من مقدار الوعي العالي الذي تحلى به مُسطّرها (إذْ كُتبت بخطّ اليد فعلياً)، لجهة الارتباط الوثيق بين الخطط الصهيونية واثنتين على الأقلّ من الظاهرات الأوروبية الكبرى المهيمنة خلال تلك الحقبة: العداء للسامية، في الغرب على وجه التحديد؛ وصعود المشاريع الاستعمارية والاستيطانية والانتدابية.

أهمية ثالثة، وخاصة، هي سجلّ حياة يوسف ضياء الدين نفسه: أنه كان عضواً في أوّل برلمان عثماني (إلى جانب ستة نوّاب آخرين مثّلوا مناطق مختلفة من سوريا، هم مانوك كراكا وحسين بيهم وعبد الرحيم بدران ونقولا النقاش ونقولا نوفل وحسني باقي)؛ ورئيساً لبلدية القدس، ثلاث مرّات؛ ودبلوماسياً عثمانياً، وقنصلاً؛ وقائمقاماً، في حيفا وحاصبيا وجبل الدروز؛ وأكاديمياً، درّس اللغات الشرقية في فيينا؛ ولغوياً أتقن وواضع العديد من المؤلفات مختلفة المواضيع (بينها أوّل قاموس كردي ــ عربي، تضمّن كذلك أوّل بحث حول اللغة الكردية في الدراسات اللسانية آنذاك). الأهمّ، في يقين شخصي هنا أيضاً، أنّ جملة ظروف، بينها إقامته في فيينا، وإتقانه للغتين الإنكليزية والفرنسية، وشغفه الواضح بمتابعة أفكار العصر وتياراته؛ أتاحت له إدراك الأبعاد الأعمق، وبالتالي المخاطر الأدهى، وراء صعود الحركة الصهيونية وإطلاق خطط الاستيطان في فلسطين.

وفي ردّه على رسالة يوسف ضياء الخالدي حاول هرتزل الإيحاء بأنّ الدولة اليهودية المقبلة في فلسطين لن تكون على حساب «الآخرين»، بل ستنقلب إلى مناسبة تاريخية لازدهارهم اقتصادياً واجتماعياً؛ فبدا أقرب إلى محاورة مستعمَر، من موقع مستعمِر؛ والأنكى أنه لم يعترف بوجود الشعب الفلسطيني أصلاً. ويومذاك كان هرتزل يمارس كلّ أدوار الرؤيوي المؤسس للقومية اليهودية الحديثة من جهة (الأمر الذي جعله نبيّ جميع القوميين اليهود، من متدينين وغير متدينين)؛ وكان، من جهة ثانية، المفكّر المحافظ الذي آمن على الدوام بوجود رباط متين بين فكرة الدولة الحديثة التي تجمع اليهود من الشتات، وفكرة القومية اليهودية التي تشدّ أواصر اجتماعهم في كيان واحد. مدهش أنّ يوسف ضياء أدرك البُعدَين في تكوين هرتزل، فلم يحمل أيّ وهم حول طاقات الأخير الفكرية والسياسية والتعبوية، المكرّسة للمشروع الصهيوني بوصفة استعماراً استيطانياً في المقام الأوّل؛ ولم ينزلق إلى الاستخفاف به، انسياقاً وراء التيارات القوموية والإسلاموية العربية في حينه.

والحال أنّ كتاب رشيد خالدي الجديد ينقسم إلى ستة فصول، غير المقدّمة والخلاصة، ينطوي عنوان كلّ فصل منها على تعبير «إعلان الحرب»: في 1917 ــ 1939، 1947 ــ 1948، 1967، 1982، 1987 ــ 1995، و2000 ــ 2014. ولا يكاد فصل واحد يغفل، في قراءتي الشخصية دائماً، تلك الركيزة الكبرى في فلسفة «هرتزل الجوهري»، إذا جاز القول: أنّ قيام الكيان الصهيوني يعتمد على الجبروت العسكري، أوّلاً؛ وعلى استشراس دبلوماسي في إقناع القوى الكبرى بأنّ قيام «الدولة»، ثمّ ضمان منعتها وتسليحها وتمكينها ورعايتها، يصبّ في مصالح تلك القوى، خاصة المنخرطة في مشاريع استعمارية إمبراطورية التوسّع أو إمبريالية الطابع. وأما في الداخل فإنّ تماسك الدولة لن يعتمد على ثرواتها المادية وحدها، بل أساساً علي تطوير تلك الثروات الروحية التي تعمّق الإحساس بوعي الذات ووعي الوجود.

وكان هرتزل واضحاً، والكتيب الصغير الذي وضعه في سنة 1896 بعنون «الدولة اليهودية» لم يكن يحتمل الكثير من الالتباس في كل حال، حين أشار إلى ثلاثة أنواع من هذه الثروات الروحية: 1) روحية الاستثمار في الأعمال والتجارة، الأمر الذي سيتيح لليهود (وللمرّة الأولى في الألفية السالفة بأسرها) فرصة تطبيق مهاراتهم الإبداعية في هذا الميدان، الذي عُرفوا به تاريخياً في كل حال؛ و2) روحية التفوّق الثقافي والعلمي، حيث ستعطي الأدمغة اليهودية أفضل ما تحلم به الإنسانية من إنجازات؛ و3) روحية الديانة اليهودية ذاتها، وهنا بيت القصيد. ولقد كتب بوضوح: «طيلة السنوات الممضة من ليلهم التاريخي الطويل، لم يكفّ اليهود عن إدامة هذا الحلم البديع النبيل: السنة القادمة في أورشليم! وليس في وسعنا أن ندرك هويتنا التاريخية إلا إذا عملنا بوفاء مطلق لهذا الحلم الذي لازم الأسلاف وينبغي أن يلازمنا..

ويكتب رشيد خالدي أنّ ردّ هرتزل، وكان الوحيد من نوعه مع مُكاتِب عربي فلسطيني معترض على المشروع الصهيوني، جعل يوسف ضياء يرجح واحداً من أمرين: إمّا أنّ هرتزل تعمّد الخداع حول المرامي الحقيقية للحركة الصهيونية في فلسطين، أو أنه ببساطة لم يقدّر أنّ صاحب الرسالة يستحق أن يؤخذ على محمل الجدّ! وهذا، في واحد من دلالاته، شكل آخر لإعلان الحرب على فلسطين والفلسطيني؛ الأمر الذي يفصّل كتاب «مئة عام من الحرب على فلسطين» الكثير من جوانبه وتجلياته، ويستحق استطراداً وقفة أخرى أكثر إنصافاً لفضائل جهد ممتاز وفريد.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى