وجها لوجه

المقابلة: ألبرتو مانغويل

(١/٢)

سليم البيك

التقيناه مساءً في بهو فندق “لْوي الثاني” في حيّ دور النّشر والمكتبات في باريس، وكان أوّل ما قاله “نادني مانغيل، بدون مستر”. أجرينا المقابلة التي خرجت بمعظمها عن الأسئلة المعدّة مسبقاً لها، وامتدّت لساعة تناولت فيها القراءة والمكتبات والمنفى وفلسطين ودرويش…

شاركت في إجراء المقابلة وترجمتْها عن الإنكليزية ياسمين حاج. ما يلي هو الجزء الأول…

في كتابك “يوميّات القراءة”، تعيد قراءة كتبك المفضّلة. كيف تختلف إعادة القراءة عن القراءة؟

هو سؤالٌ مهمّ. مع التّقدّم في السّنّ، تكتسب، أو أكتسب أنا، تفضيلات للقراءة. والأمر ذاته بالنّسبة للأمكنة والنّاس. لا أريد اكتشاف أماكن جديدة ولا أريد تكوين صداقاتٍ جديدة. أرغب بالتّواجد في الأمكنة القديمة ورؤية أصدقائي القدامى. أرغب بالسّماح لروتين ما بتأسيس ذاته. الأمر ينطبق على الكتب كذلك. أنا أقرأ أعمالاً أدبيّة جديدة، وأكتشف بالطّبع كتباً جديدة، لكنّني أفضّل العودة إلى الكتب الّتي أحبّ.

تتيح لك إعادة القراءة إدراك كم القراءة هي عملٌ خلّاق. أي لدى قراءتي لكتاب كـ “كيم” لرديارد كيبلينغ أو “مدام بوفاري” لغوستاڤ فلوبير، كلّما أقرأه، أكتشف أموراً جديدة في الكتاب، وأجلب معي للكتاب ذكريات من قراءاتي السّابقة. لكنّ هذه الذّكريات لا تشكّل قراءات توثيقيّة، هي قراءات مبتكرة. ذاكرتنا ترغب بأن تكون كاتبة، وتعيد كتابة فقرات وتضيف الشّخصيّات… أحياناً، أعتقد أنّني أتذكّر كتاباً ما، لكنّني أكتشف لدى معاودة قراءة صفحة ما بأنّه مختلف. لكن مع ذلك، يبقى ما اختلقته أنا، ما أعتقد أنّني أتذكّره، جزءاً من ذلك الكتاب.

كتبك ومكتباتك هذه… هل تعتبر نفسك في منفى، بعيداً عنها؟ وأنت تنقّلت بين مدن عديدة.

كلّا. لقد كنت… أنا لستُ منفيّاً، لأنّني أعرف الكثير من الأشخاص الموجودين في المنفى قسراً. لكنّني لم أُجبَر على المكوث في المنفى. أنا، كيف أصف ذلك؟ أنا منفيّ بالصّدفة. لقد وُلدتُ في الأرجنتين، وعندما كنت أبلغ شهرين من العمر، بُعث أبي حينها ليشغل منصب السّفير الأرجنتيني في إسرائيل. أمضيتُ السّنوات السّبع الأولى من حياتي هناك. عندما بلغتُ التّاسعة عشر، سافرتُ وعشتُ في خمسين مكان مختلف، بما في ذلك في البحار الجنوبيّة. ثمّ عام ١٩٨٢ وصلتُ إلى كندا وأصبحتُ مواطناً كنديّاً، وعشتُ هناك مدّة عشرين عاماً. انتقلتُ بعدها إلى فرنسا حيث عشتُ مدّة خمسة عشر عاماً، وأنا الآن في نيويورك. خلال مكوثي في نيويورك، طُلب منّي أن أدير المكتبة الوطنيّة في الأرجنتين، قانتقلتُ إلى هناك ومكثتُ مدّة ثلاث سنوات، عدتُ بعدها إلى نيويورك. والآن، أعتقد أنّه ستتوجّب عليّ مغادرة نيويورك في حال أعيد انتخاب ترامب، فأنا لا أودّ العيش في ظلّ دكتاتوريّة أخرى.

لديك إذن مكتبات في العديد من هذه الأمكنة.

نعم.

إلى أيّ مدّى تعزّز مكتبتك في كلّ من هذه الأماكن روابطك مع هذه الأماكن وهذه المدن؟

لا أعتقد أنّها تعزّزها. لقد وجدتُ أنّني أخلق في كلّ مكانٍ أعيشه عشّاً ما، وتكون الكتب هي الأغصان والأوراق لذلك العشّ. بالتّأكيد، الكتب تتراكم، ولذلك لم أتمكّن من حمل كتبي معي من مكانٍ إلى آخر، باستثناء فترة استقراري في فرنسا. هناك، اعتقدت أنّني سأعيش هناك للأبد، فمكتبتي، كلّ كتبي كانت هناك، كتب أتت من الأرجنتين، من كندا، من جميع الأنحاء.

لقد ذكرت ذلك في كتابك “المكتبة في اللّيل”.

بالضّبط. وعندها، اعتقدت أنّ تلك هي الجنّة، لكن إحدى الدّلالات على الجنّة هي فقدانها. فقدتُ الجنّة عام ٢٠١٥ لأسباب إداريّة، حيث اضطررتُ إلى مغادرة فرنسا. بعنا المنزل، وعرض عليّ ناشري في كيبيك مساحة للاحتفاظ بصناديق الكتب، وهي هناك حتّى الآن. لذلك، في كلّ مكانٍ عشتُ فيه، كان منزلي هو المكتبة، وتلك المكتبة، التي صدف ووُجدت في عدّة أماكن مختلفة، كانت كالبساط السّحريّ من “ألف ليلة وليلة”، حيث تجد نفسك في مكانٍ مختلف، لكنّ البساط يبقى هو ذاته.

 ذكرتَ أمراً عن الأشخاص في المنفى، وأودّ ربطه مع المكتبة والمدينة. هل يمكن لمكتبة في بيتك أن تشعرك بالاطمئنان أنك فعلاً في مكانك، أن تخفّف من الشعور بالمنفى حيث لا يكون أحدنا في مكانه؟ كحال الفلسطينيين وغيرهم ممن يعيشون قسراً خارج أوطانهم.

لقد كان لي الحظّ أن أتعرّف جيداً إلى -ولا أقول أن أتصادق مع، لأنّ الصّداقة كلمة كبيرة- محمود درويش، وكانت لنا عدّة محادثات. وتلك المحادثات كانت تعود دوماً إلى موضوع المنفى. أنا أعتقد أنّ الجانب الّذي اهتمّ به هو أنّه بينما على المنفيّـ/ة أن يترك مكاناً له في المنفى ليشعر أنّه يخصّه، يُحمَّل المنفيّـ/ة فجأة عبأً اسمه المنفى، وأنّه يحمل ذلك المنفى إلى كلّ تلك الأمكنة المختلفة، تصبح مكتبة الشّخص المنفيّ في الوقت ذاته منزلاً في ذلك المنفى ورمزاً له. إن اطّلعنا على الأعمال الأدبيّة ورأينا كيف بنى المنفيّون مكتباتهم والعلاقة بينهم وبين مكتباتهم، سنرى مجالاً متعدّداً من العلاقات. أحد أشهر المنفيّين السّياسيّين هو بروسبيرو في مسرحيّة “العاصفة” لشكسبير. هناك، لديه كتبه بحوزته، وتمنحه هذه الكتب قوّته. يقول كاليبان للبحّارة “خذوا كتبه منه وبذلك تنزعون قوّته عنه”. لكنّ قصّته مختلفة جدّاً عن مكتبة القبطان نيمو، الّذي هو منفيّ، لكنّه منفيّ طوعاً. هو اختار المنفى لأنّه اختار أن يبني النّوتيلوس (أي الغوّاصة البحريّة)، والفرار من الحضارة. لكنّ الحضارة هي الّتي نفته في الحقيقة، لأنّ عائلته كانت قد قُتلت في حرب تلك الحضارة. وقد أخد مكتبة معه، والّتي تكبر وتزداد حتّى اليوم الّذي يدخل فيه هو إلى الغوّاصة. لذا، لا تشكّل تلك المكتبة رمزاً لقوّته كما في حال بروسبيرو، بل محاولة للاحتفاظ بالعالم كما هو في لحظة مغادرته له. يمكننا التّمعّن في مكتبات أخرى من المنفى، لكنّني أعتقد أنّ مكتبات المنفى الأكثر تأثيراً هي تلك الّتي لا تحوي على كتب ملموسة.

لديّ صديق هو في المنفى في فرنسا، وعندما أراد المغادرة، لم يستطع أخذ أيّ كتب معه، لكن لحسن حظّه أنّه كان قد حفظ العديد من الأشعار والنّصوص عن ظهر قلب، فكانت تلك هي مكتبته. لقد جمّع الآن كتباً في فرنسا، لكن لم يكن أيّها مشابهاً لتلك الّتي كانت بحوزته قبلها. ينطبق الأمر كذلك على بعض الكتّاب الّذين نجحوا في العمل ضمن مكتبة لم تكن مكتبتهم. مثلاً دانتي، الّذي كتب الكوميديا الإلهيّة كاملةً في المنفى. لا يمكنني تخيّل كيف تمكّن من ذلك. لا يمكنني تخيّله حتّى لدى عملك ضمن مكتبتك الخاصّة، حتّى لدى وجود عشرين شخصاً يعملون لديك. كيف تنظم قصيدة متكاملة كهذه مع كلّ ما يتضمّنها من معرفة الثّيولوجيا والتّاريخ والسّيكولوجيا وعلم الحيوان وكلّ ذلك، ضمن أبيات شعريّة بديعة! لذا، مكتبات المنفى هي مختلفة جدّاً، لكن ما من مكتبة تستطيع انتزاع حالة المنفى، حتّى ولو شيّدتَ مكتبةً خارقة، كما في حال بروسبيرو أو القبطان نيمو، تبقى أنت منفيّاً.

أمرٌ آخر أودّ إضافته. شيءٌ ما اكتشفته لدى حديثي مع، ليس مع الكتّاب الفلسطينيّين، بل الكتّاب الإسرائيليّين، هو أنّه في عام ١٩٤٨، العام الّذي وُلدت، وعندما أقيمت دولة إسرائيل، أحد الأمور الّذي قام بها الجيش، عندما شرّدوا الفلسطينيّين كان نهب مكتباتهم، وذلك لم يكن نهباً عاديّاً. حسناً، أنت تعرف القصّة أفضل منّي، حيث يدخل الجيش البيوت ويدمّر الكتب. كلّا، لقد أقرّوا بأنّ “فلان هو صاحب هذا المنزل ونحن أخذنا منزله منه، لكنّه لم يعد لاسترداد الكتب، ولذلك سنضع الكتب في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة”. وكنتُ قد كتبتُ نصّاً منذ مدّة عن المكتبات حيث ذكرتُ هذه الحقيقة –وعندها أخطأت فقد كتبتُ أنّ هذه القصّة حدثت بعد حرب ١٩٦٧ بدل عام ١٩٤٨، لا يهمّ إن كانت السّرقة قد حصلت في الوقت هذا أم ذاك. لكنّني حينها استلمتُ رسالة مثيرة للاهتمام من أحد أمناء المكتبة في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة تنصّ على أنّه “صحيح، لدينا هنا كتب لهؤلاء الفلسطينيّين، لكنّنا على استعداد لردّها لهم في حال عاد الفلسطينيّون للمطالبة بها”. حسناً، طبعاً، لكنّ ذلك يشابه الحكومات الّتي تقول الآن إنّها على استعداد لمناقشة إعادة اللّوحات الّتي نهبها النّازيّون والموجودة اليوم في المتاحف الوطنيّة. هنالك أناس استغرقتهم ٢٠ و٣٠ عاماً في المحاولة لاسترداد لوحة واحدة، لكنّ الحياة أقصر من ذلك. ذلك كلّه للقول إن مكتبة المنفى تستمرّ في التّواجد في المنفى.

وحديثاً كذلك، فقد صادرت إسرائيل كتباً عربيّة في السّنة الماضية، وفي عدّة مناسبات أخرى، مانعةً إيّاها من العبور إلى القراء الفلسطينيين. السياسة ذاتها لنهب مكتبات كاملة عام ١٩٤٨، كما سبق وذكرت.

نعم، والأمران مختلفان جدّاً. يختلف كثيراً نهب مكتبة خلال احتلال الأرض عن فرض الرّقابة على الكتب الوافدة عبر حدود دولة يُفتَرَض أن تكون ديموقراطيّة.

ما الفرق؟

حسناً، الفرق هو أنّ الحالة الأولى تدرج ضمن أفعال الحرب، والأخرى هي فعل لفرض الرّقابة خلال حكم يفترض أنّه ديموقراطي. وهذا حصل عدّة مرّات كذلك خلال حكومة ساركوزي في فرنسا: أرادت حينها “الجبهة الوطنيّة” (يمين متطرف) في جنوب فرنسا تطهير المكتبات الحكوميّة من جميع الأعمال، حتّى تلك المكتوبة بالفرنسيّة، الّتي كتبها كتّاب من شمال أفريقيا. لذا، لم يكن ذلك فعلاً حربيّاً بل إرهاباً فكريّاً إن صحّ التّعبير. وبالطّبع، يحدث هذا في عدّة أماكن خلال الحرب. لكنّني أعتقد أنّ الأمر يختلف عمّا حدث في عام ١٩٤٨، حيث كان ذلك استغلال المحتلّ لقوّته. وقد فعل الإسبانيّون الأمر ذاته في المكسيك، حيث حرقوا الكتب.

كذلك النّازيّون في الثّلاثينيّات، حادثة حرق الكتب المعروفة…

نعم، لكن علينا التّفريق بين هذه جميعها، فالنّازيّون في الثّلاثينيّات أحرقوا كتب مواطنين ألمان وكتّاب ألمان، لذلك فهو لونٌ مختلف من الظّلم.

لكن جميعهم يتشاركون الحدث ذاته.

ما يتشاركونه هو عدم احترامهم للحرّيّة الفكريّة. يتشاركون اعتقادهم بأنّ هذا النّوع من الرّقابة يستطيع وقف تبادل الأفكار. لكن منذ زمن جلجامش وهذه الأمور لا تنجح. كلّ حكومة حاولت فرض الرّقابة لم تتمكّن من فرض الرّقابة على الفكر ذاته، حتّى ولو قتلت الكاتب.

لماذا يستمرّون إذاً؟

أعتقد أنّ الحكومات موهومة بالسّلطة المطلقة وبالخوف من التّنازل عن تلك السّلطة. لذلك تعتقد الحكومات أنّها مع قضائها على الشخص أو الشيء المادي ستنجح هي في القضاء على حرّيّة الفكر والأفكار الموجودة في الجوّ. وبالطّبع، أنا وأنت نعلم أنّ الأمر مستحيل. لو كان الأمر ممكناً، لكنتُ حاولتُ القضاء على الجبهة القوميّة في فرنسا أو النّازيّين الجدد أو الفاشيّين في حكومة نتنياهو أو في حكومة ترامب. لكنّ الأمر غير ممكن، وعلينا العيش مع هذا الواقع. أمّا الإشكاليّة الاستراتيجيّة المتجذّرة فهي أنّه بتبنّيك الموقف الإنسانيّ، عليك إتاحة الحوار، لكن من حيث الموقف الفاشيّ، عليك القضاء على الحوار. لذلك، في حال أردت إجراء حوار مع أحد مؤيّدي ترامب، لن يكون الأمر ممكناً، كونه هو لا يشجّع الحوار، كونه يعلم أنّه في حال سمح لأيّ شرخ ولو بسيط يُتاح من خلاله تبادل الأفكار، قد يثبت خطأه. هذه نقطة ذكرها عاموس عوز عن الحوار. قال إنّه قادر على التّحاور مع الفلسطينيّين لكنّه غير قادر على التّحاور مع مؤيّدي نتنياهو.

حسناً، خلال محاضرتك أخيراً في تونس، قلت “لا أحد يعاني كما يعاني الفلسطينيّون”. الآن والفلسطينيّون ناشطون في المجال الثّقافي والأدبي والفنّي وغيره. هل ترى رابطاً بين المعاناة والإبداع؟

طُرح عندها هذا السّؤال. هذه فكرة وُلدت مع نصّ يُنسَب لأرسطو. في رسالة له، نجد قطعة يقول فيها، أو يسأل: “لماذا يولد العقل الخلّاق من الميلانكوليا؟” يطرح السّؤال جوابه، ولا أعتقد أنّ الإجابة صائبة بالضّرورة. في تاريخ الأدب، في تاريخ الفنون، لطالما كانت هناك نزعة للحديث عن المعاناة أو تصوير المعاناة، لأنّها ملفتة كموضوع، على ما أعتقد. فهي تخلق التّعاطف بطريقة قد لا تتمكّن منها القصص السّعيدة. نحن لا نثق بالسّعادة، ونرغب بالتّعاطف مع معاناة قد لا تخصّنا بالضّرورة. ندرك عند الاطّلاع على قصص الرّعب والقصص الدّراميّة والقصص التّراجيديّة أنّها تشكّل جزءاً من الحالة الإنسانيّة.

لكنّني أعتقد أنّه من الخطر اقتراح الفكرة الّتي تنصّ على وجوب المعاناة من أجل الخلق. فذلك يؤدّي إلى عدّة أمور: أحدها هو إذلال الفنّان، أي بموجب هذه الفكرة، على الفنّان أن يكون معدماً أو محروماً، لا يجوز دفع أجرٍ جيّد للفنّان لأنّ ذلك، أي عدم دفع ما يستحقّه، يساعده على خلق فنّه. في ذلك الصّدد، قصّة لا أعرف صحّتها تماماً، لكن يُحكى أنّ ناشراً ما، كان مهتمّاً بكتابات بلزاك الأولى، فذهب لرؤيته لاقتراح كتابٍ عليه لنشره، يدفع هو، أي النّاشر، مستحقّاته. وهنا أنا أختلق العدد تماماً، لكن لنقل أنّه أراد دفع مئة فرنك في حينه. لكن مع تجواله في الحيّ الّذي كان يقطنه بلزاك وإدراكه لفقر ذلك الحيّ في باريس، قال لنفسه أنّه سيعرض عليه خمسين فرنكاً بدل ذلك. أمّا لدى دخوله البناية السّكنيّة المهملة فجعله يقول لنفسه “سيفي خمسة وعشرون فرنكاً بالغرض”. فيصعد الدّرج نحو العلّيّة الّتي كان يقطنها بلزاك، ويقول له: “مسيو بلزاك، أنا معجب بأعمالك وأريدك أن تؤلّف كتاباً لي، أعطيك مقابله عشرة فرنكات”. إذاً الفكرة هنا هي ربط فقر الفنّان بالحسّ الإبداعي. وذلك أمرٌ خطيرٌ جدّاً.

أمّا الأمر الآخر فهو أنّه على الفنّان أن يعاني في سبيل الإبداع. وهنا، نبدأ بالتّشكيك في الكتّاب والفنّانين الّذين لا يعانون. شخص مثل روبرت لويس ستيڤنسون كان رجلاً عانى طول عمره من مرض السّل. أخذُ نفسٍ واحد كان يرهقه. مع ذلك، كان أحد أسعد الأشخاص على قيد الحياة. لذلك، لفترة طويلة من الوقت، كانت كتاباته تُعتبر متدنّية لكونها انبثقت عن شخص لم يجسّد معاناته الخاصّة، بل صرف النّظر عنها.

 (٢/٢)

ما يلي هو الجزء الثاني من المقابلة. يمكن قراءة الجزء الأوّل هنا.

كيف يمكن أن تساعد القراءةُ بالعربيّة ووجود مكتبات عربيّة المجتمع الفلسطيني داخل دولة إسرائيل مثلاً (كأقلية أصلانية) أو في الضّفة وغزة، على الحفاظ على وجودهم الثقافي؟

أوّلاً، أعتقد أنّه علينا وضع فكرة الأقلّيّات جانباً، لأنّه في اللّحظة الّتي تعرّف فيها مجتمعاً ضمن نطاق الأغلبيّة والأقلّيّة، تنسب أنت قوّة معيّنة للأغلبيّة ودونيّة ما للأقلّيّة. سواء كان ذلك المجتمع أصلانيّاً أم مثليّاً أم أيّ مجتمع آخر. أودّ اعتبارهم كجزء من المجتمع نفسه، بينما تتقاطع التّصنيفات الّتي تعرّف المجتمع بدوائرها. لذا، يمكنك أن تجد فلسطينيّاً أسود مثليّاً، حيث تتقاطع عدّة عناصر في الشّخص ذاته. لكنّني أعتقد أنّه على المجتمع، ذلك الّذي نسمّيه مجتمع الكتاب، مجتمع الكلمة المكتوبة، أن يخلق مكتبة بأيّ طريقة ممكنة، لأنّ المكتبات كينونات حيّة تحمل ذكرى قرّائها وتعكس لقرّائها هويّتهم. أعرف من أنا لأنّ المكتبة تمنحني الوثائق لفهم من أكون. صديقٌ لي في مكتبة بودليان في أوكسفورد، قال لي مرّة ضمن حديثٍ عابرٍ لنا: “المكتبة هي المكان للأدلّة”. وأعتبر هذا أفضل تعريف للمكتبة. كون المكتبة مكاناً لحفظ الأدلّة. في حال أردت فحص واقع تاريخيّ ما لمجتمع ما أو فرد ما، ستملك المكتبة تلك الوثائق. لا أدري إن كنت تعرف الصّحافيّ الإسرائيليّ جدعون ليڤي… حسناً، هو واضحٌ جدّاً في هذه النّقطة، وأظنّني ذكرت ذلك خلال حديثي. هو يقول إنّه يمكننا الحديث عن كلّ الأمور، لكنّ هناك أمر واحد لا جدال فيه: على إسرائيل أن تعيد الأراضي المحتلّة. نقطة. لا يوجد ما بعد ذلك.

أمّا المكتبة فستعطيك تلك الأدلّة. لا حاجة بك إلى السّياسيّين للجدال حولها ونقاشها. تذهب إلى المكتبة وتحصل على النّصوص والخرائط والقصص، تجدها كلّها هناك. لذلك باعتقادي أنّ المكتبة أمرٌ ضروريّ. ربّما أخبرتك عن المحاولة الّتي قمت بها في المكتبة الوطنيّة الأرجنتينيّة، لدعم المكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة، لكنّها كانت محاولة صعبة جدّاً. لا أريد ذكر الأسماء المعنيّة، لكنّني أستطيع أن أفهم…

يمكننا ذكرها…

حسناً، أعتقد أنّ المجتمعات في المنفى، وأعرف أنّ ذلك ينطبق على المجتمع الأرجنتيني في المنفى خلال فترة الدّكتاتوريّة وما إلى ذلك… أوّلاً، حقيقة أنّك منفيّ لا تجعل منك قدّيساً. هنالك أناسٌ رائعون في المنفى وهنالك محتالون في المنفى. كما أنّ الطّموح إلى تقلّد السّلطة في المنفى لا يموت أبداً. لذلك، عندما تحاول تطبيق مشروع مشترك، تكون لديك عشرون مجموعة ذات مصالح متضاربة، فيفشل المشروع ولا يتحقّق. فيقول شخصٌ ما: “لا كلّا، عليّ الموافقة أوّلاً على…” والثّاني يقول “عليها أن تكون في هذا المكان في رام الله”… لا يهمّ، لكنّني أسترجع الفكرة الأولى: أعتقد أنّه من الضّروريّ أن تكون لفلسطين مكتبة وطنيّة، وستتمتّع بدعم العديد من المكتبات الوطنيّة. لقد سبق وتحدّثت إلى مدير المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة، ومدير المكتبة الوطنيّة الإسبانيّة، ومدير المكتبة الوطنيّة الكولومبيّة، حتّى مكتبة الكونغرس، والمكتبة البريطانيّة. جميعها كانت ستكون راعيات للمكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة، وكان بإمكانها أن تكون مكتبة افتراضيّة كذلك. العديد من المكتبات، إضافة إلى المكتبة الوطنيّة الأرجنتينيّة، كانت ستمنح مكتباتها الافتراضيّة للمكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة. ولم أتوصّل حتّى للحديث مع الدّول العربيّة، الّتي، بين قوسين، أعتقدها جبانة للغاية في عدم مساندتها لفلسطين. أعتقد أنّ الأورغواي تدافع عن فلسطين أكثر من السّعوديّة أو… على أيّة حال، يمكن إتمام الأمر، وأتمنّى أن يتمكّن الأشخاص من وضع طموحاتهم الخاصّة جانباً واستثمار إيمانٍ حقيقيّ بقضايا أهمّ.

عند تحدّثك عن المكتبات في المنفى، خطر لي –بما يخصّ كونها غائبة لكنها حاضرة في الوقت ذاته– سؤال عن المكتبات الشّفويّة (أو التراث الشفوي) في حال كحال الفلسطينيين مثلاً.

طبعاً. حسناً، أقول دوماً عندما أتحدّث عن مجتمع الكتب بأنّنا نحتاج إلى التّذكّر أنّها جميعها مجتمعات قويّة جدّاً وتعمل بشكلٍ جيّد، ولديها مفاهيم مختلفة عن الزّمان والمكان، كما العلاقات بين المستمع والقارئ، وإلخ. المشكلة هي، وهنا عليّ التّطرّق إلى الدّعاية السّياسيّة، أنّ الأمر سيلائم ويريح كثيراً الموجودين في السّلطة في عدّة أماكن. مثلاً، سيريح حكومة نتنياهو القول إن قصص ولقاءات وأحاديث الشّعب تكفيهم… يكفيهم ذلك. بالطّبع، فكريّاً، للشّفويّ ذات القيمة والقوّة المنسوبة للمكتوب، لكن سياسيّاً، الأمر مختلف. فنرى الأمر يتكرّر طول الوقت، في المجتمعات الأصلانيّة في الأمازون -الّتي هي مجتمعات شفويّة- تُصرف قضاياها الّتي تأتي بها للمحكمة في البرازيل: عليكم بوضعها على الورق.

لذلك، استراتيجيّاً، سيكون من الخطأ اتّباع تلك الفكرة. طبعاً، في اللّحظة الّتي تُنشأ فيها المكتبة، يكون على المكتبة الوطنيّة دمج قسم هامّ من التّقليد الشّفويّ. طبعاً، يجب فعل ذلك. لكن لا يمكن اقتراحها كبديل، فسيُحطّ من قدرها.

هي ليست بقوّة المكتوب…

للأسف، لأنّه في الواقع يجب أن تكون بقوّة المكتوب. كان يجب أن تكون كذلك، لكن ثبت أنّها ليس كذلك… لا في أستراليا، ولا في شمال كندا، وما إلى ذلك. لهذه المجتمعات تقليد شفويّ مهمّ. هذه المجتمعات أكثر تعقيداً بكثير ممّا نتصوّر، لكنّها لا تُؤخذ بعين الاعتبار، لا تتواجد على نفس مستوى الملعب العالمي، كمجتمع يتعامل مع الكتب المطبوعة. كما أنّه ما من سبب يمنع فلسطين من الحصول عليها. فهي موجودة لديها. لا نتكلّم هنا عن الحاجة إلى فرض لغة مكتوبة ومطبوعة على مجتمع لا يحتوي عليها، كما في حال قبائل الأمازون، تلك ليست حالة فلسطين. لفلسطين تقليد أدبيّ غني. أنتما أدرى منّي. لذا لن أنصح أبداً بقبول فكرة “يسمح لكم بالحفاظ على تقليدكم الشّفويّ لكنّكم لا تستحقّون المكتوب.”

ماذا عن دمج التراث الشّفويّ في المكتوب؟

طبعاً. يجب فعل ذلك. في أستراليا، المكتبات الوطنيّة حريصة جدّاً على دمج التراث الشّفويّ، ولديها نظام كامل لاستشارة الحضارات الأصلانيّة. لقد حاولت فعل أمرٍ مشابه في الأرجنتين، لكنّني لم أستطع بسبب السّياسة هناك. أردتُ إنشاء مركز للدّراسات الأصلانيّة، فهناك العديد من الأشخاص الأصلانيّين المستبعدين عن التّصوير السّياسيّ. لذلك اتّبعت بعض الأمثلة من كندا، فلكندا محاولات جيّدة جدّاً، لن أقول مثاليّة، لكنّها أفضل من لا شيء. وأستراليا كذلك، لديها أنظمة تتّبعها. لكن مرّة أخرى، ليست تلك الحال بالنّسبة لفلسطين. الفلسطينيّون ليسوا قبيلة صحراويّة صغيرة.

 وحالتها أحدث تاريخيّاً…

هي أحدث ولكن لفلسطين كذلك تقليد أدبيّ وفلسفيّ طويل الأمد. لن أعرّفه لكما، فأنتما تدركانه أفضل منّي.

طبعاً.

هل يحتاج الفلسطينيّون إلى شاعر طروادة؟

آمل ألّا يصل الأمر إلى طروادة. كان على عوليس التّوجّه إلى المنفى لأنّهم أحرقوا المدينة واغتصبوا نساءها وقتلوا رجالها، ولذا، انشالله [يقولها بالعربيّة] لا يحصل ذلك. لكن علينا أن نتذكّر أنّ الشّعراء الإغريق، التّراجيديّين الإغريق، منحوا الطّرواديّين أصواتاً. لذا نجد صوت المهزوم في “نساء طروادة” وفي “أجاكس” وفي غيرها من المسرحيّات. تلك هي عظمة التّراجيديا الإغريقيّة، أنّها لم تهلّل للإغريق. في الواقع، لقد عوقب يوريبيدس لأنّه مدح الفرس في إحدى كتاباته. لذا، صحيح، بالنّسبة لشاعر طروادة، لأنّ الفلسطينيّين لم يعطوا صوتاً من خلال شعراء غير فلسطينيّين. مع العلم بوجود البعض الّذين تكلّموا أو كتبوا عنهم.

هل تعرف شاعرة تدعى روث پاديل؟ شاعرة بريطانيّة؟ إنّها رائعة، ولديها قصيدة بعنوان “تعلّم صنع عود في النّاصرة”. هي قصيدة طويلة، شبه ملحميّة، عن صناعة… هنالك حرفيّ يبني عوداً ويتحطّم العود… هي قصيدة جميلة جدّاً. لكنّ درويش سبق وأصبح شاعر طروادة. دائماً ما يذكرون أدونيس وتقدّمه لجائزة نوبل، حسناً، يتحجّم أدونيس أمام درويش. درويش شاعرٌ هائل، هو شاعرٌ ملحميّ، بذكاء وإدراك عميق، فهو ليس بوقاً للبروباغندا بأيّ معنى للكلمة. هو يقف جنباً  إلى جنب مع دايدو. لديه شعرٌ رائع عن… لا أذكر اسم القصيدة، لكنّه كان يتحدّث إلى صديق والصّديق يمانع الحوار، ودرويش يحاول الضّغط من أجل الحوار.

هل تقصد “سيناريو جاهز”، قصيدة يجد إثنان نفسيهما فيها عالقين في حفرة مع ثعبان؟

نعم، هذه هي.

في الحقيقة، وفي موضوع آخر، لديّ فضول حول ما يجعلك تقتني كتاباً لا تعرف كاتبه؟

[يضحك] الغلاف، العنوان، دار النّشر، الجملة الأولى، الجملة الأخيرة…

قبل بضعة سنوات، اقتنيت ما تحوّل إلى إحدى كتبي المفضّلة. وهي قطعة إنشائيّة قصيرة كتبها فيلسوف هنغرايّ. قرأتها بالإسبانيّة لأوّل مرّة -وقد كلّفت أحدهم بترجمتها للإنكليزيّة بعدها- عنوانها كان “دوستويفسكي يقرأ هيغل في سيبيريا وينفجر بالبكاء”. كيف لك ألّا تقرأ كتاباً كهذا؟

هل القراءة مهنة؟ هل هي هواية؟ كيف تعرّفها؟

هي كلّ تلك الأشياء، لكن قبل أيّ شيء، هي فنّ. نحن مخلوقات قارئة، أي أنّنا طوّرنا، أكثر من أيّ حيوان آخر، حسّاً لقراءة العالم، ولقراءة النّاس حولنا -لذا نقرأ المشهد الطّبيعي حولنا، السّماء، نقرأ وجوه الآخرين، ومن ثمّ طوّرنا المخطوطات في بعض المجتمعات لتدوين وقراءة تجاربنا. هي جزء من تركيبتنا الجينيّة من أجل البقاء. وبنفس الطّريقة الّتي يبني بها الرّياضيّون أجسادهم للتّمكّن من الصّمود في الماراثونات أو رفع الأثقال، يتمكّن القارئ المتمرّس من الغوص أكثر في عمق النّصّ والاستفادة منه بشكلٍ أكبر. لكن مرّة أخرى، نحن نعيش في مجتمعات، وقد أصبحت برمّتها تقريباً، استهلاكيّة لدرجة أنّ المجتمع نفسه لم يعد يريد احتضان القراءة أو تشجيعها. لأنّ القراءة ليست فعلاً مستقلّاً عن الوظائف الفكريّة.

لقد حلّل بعض علماء الأعصاب عمليّة القراءة وقالوا بصددها إنّها “معقّدة جدّاً، ولو نجحنا في فهم ما يحصل في الدّماغ عندما نقرأ، ما يحصل بالضّبط، سنتمكّن من فهم فعل التّفكير”. فالقراءة والتّفكير مرتبطان ببعضهما البعض. لذا، يشكّل المواطن الّذي يقرأ بشكلٍ فعّال مواطناً متأمّلاً مفكّراً ويطرح الأسئلة. أمّا المجتمع الاستهلاكيّ، فلا يريد لذلك أن يحصل. كلّما طرحت المزيد من الأسئلة، كلّما قلّ قبولك للدّعايات. إنّ الدّعاية… لغة الدّعاية مركبّة بطريقة تجعلك تستقبل رسالتها كالمانترا، وأحياناً لا يكون لها أيّ منطق، لكنّها تتردّد في العقل، وتزرع فكرة الاسم أو الشّيء الّذي عليك شرائه. لكن، في ٩٠ بالمئة من الحالات أو أكثر، إن توقّفت للتّفكير بالأمر، فتسأل نفسك، هل أحتاج حقّاً لهذا الشّيء الّذي يكلّف ٢٥ مرّة مبلغ كتاب؟ هنالك الكثير من هذه الأمثلة.

على فكرة، كان كتاب “بدون لوغو” لنعومي كلاين يصلك مع إبرة صغيرة تمكّنك من إزالة العلامات التجارية عن الملابس. لكن في جميع الأحوال، هذه المبادرات الصّغيرة لن تفعل شيئاً لتوقف المجتمع الاستهلاكيّ. تواجه العديد من الأسئلة حول كيفيّة العيش بطريقة أفضل ومحاولة الانخراط نحو مجتمع أكثر عدلاً، تواجه مشكلة فصل نفسها عن السّياق العام. لا تعتبر القضيّة الفلسطينيّة، ومسألة الافتقار إلى القراءة، ومسألة المليون لاجئ على أبواب تركيّا مواضيع منفصلة. لو كانت هذه رواية، كان مؤلّفها سيجعلها متضافرة في كلّ من فصولها -سيكون على تولستوي أن يحكي القصّة– فلا يمكنك فصلها لأنّ المشكلة والحلّ مرتبطة بعدّة جوانب من المجتمع، بحيث لا توجد طريقة لحلّ قضيّة واحدة بدون حلّ جميعها، أو أقلّه قسم كبير منها.

لديّ حفيدتان، إحداهما تبلغ ٨ سنوات من العمر والأخرى ٤. وأنا أحاول أن أكون متفائلاً من أجلهما، لكنّهن لا أعرف كيف، لا أرى ما يشجّع على التّفاؤل بطريقة ذكيّة.

هل تؤمن بفكرة غرامشي ” تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”؟

بالتّأكيد، ولدينا جميعاً مسؤوليّات فكريّة، لكن تأتي لحظة يكون فيها ضغط المياه كبيراً جدّاً فينفجر السّدّ. يمكنك محاولة تثبيته مكانه، يمكنك محاولة تقليد الولد الهولنديّ الصّغير وإدخال إصبعك في شقّ السّدّ، لكن تأتي لحظة لن تتمكّن أكثر من احتوائه.

في أكثر لحظاتي حلكة، أفكّر بالبشريّة بأنّنا نتمتّع بنزوة انتحاريّة، أنّ تدمير أنفسنا هو جزء من إرادتنا. ولعلّ الأمر سيكون جيّداً للكوكب، فنحن سرطان لهذا الكوكب، وسيكون الكوكب بحالٍ أفضل من دوننا، لحسن الحظّ، أو لسوئه، لحسن حظّ الكوكب ولسوء حظّنا نحن. كلّ ما نفعله الآن هو سامّ لنا لكن ليس للعديد من المخلوقات الأخرى. فالصّراصير ستبقى على قيد الحياة، أعشاب البحر ستبقى… لا تهمّها السّموم، لكن الأمر مختلف بالنّسبة للمخلوقات الأخرى.

هنالك كاتب أرجنتينيّ يدعى ماركو دي نيڤي، ولديه كتاب من النّصوص القصيرة، جميعها مختلقة، ويدعو الكتاب “فالسيفيكاسيونس” [أي “فبركات”]. وفي إحدى القصص المختلقة من الكتاب المقدّس، نجد نوح، الّذي طلب منه بناء الفلك وإحضار اثنين من كلّ أصناف الحيوانات، يقول إن بعض المخلوقات كانت أرقّ بكثير من أن تتمكّن البقاء على قيد الحياة، مخلوقات، يقول، يبدو إلى جانبها الغزال كمخلوق متوحّش. ولذا، هذه المخلوقات آخذة بالاحتضار الآن أو قد سبق واحتضرت. لذلك هي لن تنجو. لكنّ الصّراصير ستنجو. إذاً ربّما كان كافكا على حقّ.

نعم، قد نتمنّى يوماً أن نستيقظ لنجد أنفسها صراصير. كي لا نأخذ المزيد من وقتك، أطرح عليك سؤالاً أخيراً: هل لديك طقوس للكتابة والقراءة.

طاقتي في الصّباح تختلف عن طاقتي في المساء. أصحو في ساعة مبكّرة جدّاً، الخامسة أو السّادسة صباحاً، وأحبّ الكتابة في الصّباح حينما يكون عقلي منتعشاً. كذلك، عندما أخلد إلى النّوم وأعرف أنّني سأكتب في اليوم التّالي، أحاول التّفكير فيه، لأنّه بشكلٍ ما، تعمل الشخصيات الصّغيرة في دماغي خلال اللّيل، وفي الصّباح أستيقظ لأجد فيه بعض الأفكار لوضعها على الصّفحة. لكن بعد الغداء، أكون شبه عاجز عن الكتابة. يمكنني القراءة وأستطيع كتابة الملاحظة وربّما التّرجمة، لكنّ طاقتي المسائيّة تختلف جدّاً عن تلك الصّباحيّة.

لا يوجد مكان معيّن حيث أقوم بالقراءة. أقرأ في جميع الأوقات وجميع الأمكنة. وكنت أعتقد أنّني عاجزٌ عن الكتابة بعيداً عن مكتبي، لكن الآن، مع سفري المستمرّ، أجدني قادراً على الكتابة في الطّائرات والمطارات، الأمر الّذي كان يبدو لي مستحيلاً في السّابق. لقد خطّطت لهذه الرّحلة إلى باريس لأنّه كان عليّ إلقاء محاضرة في كوليج دو فرانس لكنّها ألغيت لأنّ المنظّم كان في مدينة ميلانو، وهو يخضع الآن للحجر الصّحّي لمدّة أسبوعين بسبب الڤايروس. أتدري، نحن نتكلّم عن مشكلات سياسيّة وفكريّة، وها هو ڤايروس صغير يغيّر كلّ شيء.

مجلة رمان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى