الناس

بدء مقاضاة ضابطين سوريين بجرائم ضد الإنسانية -مقالات تناولت الحدث-

==================


في العدالة (الجنائية الدولية): في غصة سوريين من محاكمة أنور رسلان (غير) العادلة/ حسام الدين درويش

في ظلّ نظامٍ عالميٍّ غير ديمقراطيٍّ يسود فيه، غالبا، حق القوة على قوة الحق، ويبدو فيه، أن رئيس الدولة الأقوى في العالم، ترامب، قادر على حكم العالم، أكثر من قدرته على حكم أمريكا نفسها، وتبدو فيه روسيا البوتينية قادرةً على منع محاكمة النظام الأسدي على جرائمه الوحشية والمستمرة، بحق السوريين، يجري الحديث عن العدالة الدولية، وعن الصلاحية القضائية العالمية أو الشاملة لمحاكمة المجرمين.

وتعني العدالة الدولية إمكانية أو فعلية محاكمة مرتكبي أشد الجرائم خطورةً التي تمس المجتمع الدولي بأسره، والمتمثلة في جرائم الحرب، وجرائم الإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم التعذيب، وجرائم الاختفاء القسري، في محاكم دوليةٍ (المحكمة الجنائية الدولية مثلا وخصوصا)، وضرورة هذه المحاكمة. أما الصلاحية القضائية العالمية أو الشاملة فتعني، فيما تعنيه، السماح للدول أو إلزامها، بالتحقيق في الجرائم الدولية ومحاكمتها، بغض النظر عن أماكن ارتكاب هذه الجرائم، وعمن قام بارتكابها أو عمن كان ضحيةً لها.

ضمن هذا الإطار، تجري محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب، في مدينة كوبلنز الألمانية. وينبغي التمييز بين هذين الشخصين، بسبب الاختلاف الجذري بين وضعيهما، من حيث التهم الموجهة إليهما، ومن حيث الكثير من العوامل الأخرى. فأنور رسلان كان رئيس قسم التحقيق في الفرع “251”، المسمى ﺑ “فرع الخطيب”، وهو متهمٌ بالمسؤولية الجنائية المباشرة عن جرائم كبيرةٍ وكثيرةٍ، تعرض لها آلافٌ من المعتقلين/ الضحايا. أما إياد الغريب فلم يتجاوز ما فعله اعتقال عددٍ من الأشخاص، خلال شهري خدمته في الفرع، قبل الفرار منه. كما أنه هو الذي تقدم، طوعا، واعترف بذلك، على الرغم من عدم وجود أي شاهدٍ أو دليلٍ يدينه.

ووفقا للمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، فمن المتوقع استمرار هذه المحاكمة التي بدأت في 23 نيسان/ أبريل من هذا العام، عدة سنواتٍ. وقد أثار الإعلان عن هذه المحاكمة، وبدؤها، الكثير من ردود الفعل بين السوريين. وعلى الرغم من وجود ترحيبٍ كبيرٍ، مبدئي، جزئيٍّ أو مطلقٍ، فقد ظهر الامتعاض على ردود فعل بعض السوريين، وشعر كثيرون منهم بما يشبه الغصة، جراء هذه المحاكمة، ولم يتردد كثيرون في إبداء تحفظاتهم عليها. وسأشير، فيما يلي، إلى بعض الأسباب التي جعلت بعض السوريين يظهرون الامتعاض و/ أو يشعرون بالغصة، و/ أو يبدون التحفظ، في خصوص محاكمة أنور رسلان، تحديدا.

لكن قبل البدء بذلك، من الضروري التشديد على أنني سأركِّز على مناقشة الأسباب المستندة إلى فكرة أو قيمة العدالة، والمؤمنة بهذه القيمة، أما الاعتراضات التي يبدو أنها لا تؤيد التطبيق العام والشامل للعدالة، وتقتصر على تأييد محاكمة أو معاقبة الأعداء والأباعد، وإعفاء الأصدقاء والأقارب، من المتهمين أو المجرمين، فهي أوهى من أن تؤخذ، بجديةٍ، في المستوى النظري، على الأقل.

يكمن السبب الأول، للغصة، في التطبيق الجزئي والانتقائي للعدالة (الدولية). فهذه العدالة لا تطال إلَّا عددا ضئيلا من المتهمين/ المجرمين، لا بل إنها لا تطال إلا “الضعفاء” منهم، مقابل عجزها أمام معظم المتهمين/ المجرمين “الأقوياء”، الذين يستمرون في إجرامهم، لثقتهم بأنهم أقوى من أن تجري مساءلتهم عن الجرائم الكثيرة والكبيرة التي ارتكبوها. وقد سبق وأن علت أصواتٌ مماثلةٌ، في خصوص إصدار المحكمة الجنائية الدولية أمرًا بملاحقة الرئيس السوداني عمر البشير، في الوقت الذي لم تستطع، فيه، فعل أي شيءٍ مماثلٍ في خصوص الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، على سبيل المثال، الذي مُنح لاحقا جائزة نوبل للسلام، وتسلَّمها بيديه المغمَّستين بدماء ضحايا مجزرة قانا، من الأطفال والمدنيين عموما. وفي السياق الحالي، يخضع أنور رسلان للمحاكمة، بينما تقف العدالة الدولية عاجزةً عن ملاحقة الأغلبية الساحقة من المسؤولين السوريين، وغير السوريين، عن ارتكاب جرائم، أسوأ، كمًّا وكيفاً، من الجرائم الخطيرة المتَّهم أنور رسلان بارتكابها. من يشعرون بالغصة، لهذا السبب، لا يعارضون محاكمة رسلان، لا من حيث المبدأ، ولا من حيث النتيجة، لكنهم يرون أن العدالة الانتقائية تجسِّد الظلم، بقدر تجسيدها للعدالة، وربما أكثر بكثيرٍ. وانطلاقاً من ذلك، تفقد قوانين العدالة الدولية عموميتها، وتتحول إلى ما يشبه المراسيم الخاصة المختصة بمحاكمة ثلةٍ قليلةٍ وضعيفةٍ أو مستضعفةٍ من المجرمين.

السبب الثاني للشعور بالغصة هو أن هذه المحاكمة لا تجري في إطار “عدالةٍ انتقاليةٍ”، تسمح للسوريين (الضحايا) عموما، بطي صفحة الماضي، وما يتضمنه من جرائم ومعاناةٍ رهيبةٍ. فالجرائم التي يجري محاكمة أنور رسلان على بعضها، ما زالت مستمرةً، وما زال معظم مرتكبيها على رأس عملهم، وما زال الأشخاص الذين يتحملون المسؤولية الأكبر مستمرين في إجرامهم. فكيف يمكن الشعور بتحقق العدالة، في محاكمةٍ لا زالت الجرائم التي يُحاكم عليها أحد الأشخاص تُرتكب، ومعظم مرتكبيها في أمانٍ ولا يخشون أي ملاحقةٍ أو محاكمةٍ قانونيةٍ على جرائمهم؟ ولا يبدو أنه بإمكان تلك المحاكمة أن تسهم في إيقاف الجرائم التي ما زالت ترتكب في فروع أمن “سوريا الأسد”. إن محكمة أنور رسلان تذكيرٌ إضافيٌّ بالجرائم الكبيرة والكثيرة التي ما زال النظام الأسدي يقترفها في حق السوريين، وعلى هذا الأساس يشعر سوريون كثر بالغصة حيال المحاكمة المذكورة.

ويمكن المضي، في هذا المنطق، إلى حده الأقصى، من خلال القول إن محاكمة رسلان هي نتيجةٌ لانشقاقه، الفعلي أو المزعوم، عن النظام الأسدي، وتركه لعمله الإجرامي السابق في فروع الامن الأسدية، بقدر كونها نتيجةً لارتكابه الجرائم المنسوبة إليه. فلم يُحاكم، حتى الآن، أي مجرمٍ ما زال على رأس عمله في النظام الأسدي، وموالياً له. فالغصة، هنا، ناتجةٌ عن أن المحاكمة تجري في حق من توقف عن إجرامه، بدون أن تطال من هو مستمرٌ في هذا الإجرام.

وفي الرد على بعض ما سبق ذكره، يشدد المحامي أنور البني، وكثيرون غيره، على أن المحاكمة تمثل مدخلا بالغ الأهمية، لفضح كل ما يجري في “سوريا الأسد”، عموما، وفي فروع الأمن الأسدية خصوصا، من جرائم، خطيرةٍ، وكبيرةٍ، وممنهجةٍ، بحق السوريين، وتقدِّم منبرا علنيّاً استثنائي القيمة، لإدانة النظام، إدانةً قانونيةً وأخلاقيةً رسميةً. كما يشدِّد المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان على أن “مجرد فتح هذه المحاكمة يبعث في نفوس الكثيرين، داخل سوريا، وخارجها، الأمل في تحقيق العدالة، لجميع من وقع ضحية لنظام التعذيب الخاص بالحكومة السورية”. وبدون التقليل من المعقولية الكبيرة لهذين الرأيين المهمين، يرى كثيرون أن الأمل الذي يتحدث عنه المركز الأوروبي مشوبٌ بيأسٍ كبيرٍ. ويذهب بعضهم إلى حد الخشية من أن تقلل هذه المحاكمة من إمكانية تحقيق العدالة المذكورة، بسبب إسهامها في منع المجرمين القائمين على رأس عملهم، في الفروع الأمنية الأسدية خصوصًا، من التفكير ترك هذا النظام و”الانشقاق” عنه مستقبلًا. ويزيد ذلك من تماسك النظام، وشعور أو اعتقاد المرتبطين به بوحدة المصير، وبانعدام وجود أي خطٍ للرجعة. ويمكن لذلك أن يسهم، أيضًا، في زيادة وحشية القمع الأمني وجرائمه، بوصفه الوسيلة الوحيدة لضمان بقاء النظام الأسدي، وحماية عناصر هذا النظام من الخضوع لمحاكماتٍ، على غرار “محكمة كوبلنز”.

لقد قيل الكثير، للتشديد على أهمية هذه المحاكمة، وقيمتها الكبيرة، الفعلية والرمزية، ونتائجها المتوقعة والمرجوة. ولا أهدف بمقالي هذا إلى الاختلاف مع التشديد المذكور، وإنما أروم إظهار المعقولية الجزئية والنسبية لما أسميته بالشعور بالغصة لدى سوريين كثر. في المقابل، لا ينبغي لتلك الغصة، ولمسوغاتها، ولما يرافقها من امتعاضٍ وتحفظاتٍ مشروعةٍ، أن يقلل من أهمية الخطوة التاريخية، والقيمة الرمزية والفعلية، لتلك المحاكمة. كما لا ينبغي أن ننسى، أو أن نتناسى، أن الجهود القيمة الكبيرة التي أفضت إلى ملاحقة أنور رسلان ومحاكمته، قد أسهمت في رفع قضايا أخرى على كثير من المسؤولين الكبار في النظام الأسدي، ومن ضمن هؤلاء بشار وماهر الأسد، ومسؤولي “الفرع 235” المسمى ﺑ “فرع فلسطين” ومسؤولي “الفرع 215″، المسمى ﺑ “فرع كفر سوسة”، ومسؤولي “الفرع 227” المسمى ﺑ “فرع المزة” المرتبط بصور قيصر، ومسؤولي المخابرات الجوية، وسجن صيدنايا، ومشفى تشرين العسكري، ومنهم علي مملوك، وعبد الفتاح قدسية، ورفيق شحادة، وجميل الحسن، ومحمد خلوف … إلخ.

ولا ينبغي للغصة المذكورة أن تفضي إلى، أو تنبثق عن، تخييرٍ علينا أن نختار فيه، بالضرورة، بين طرفين نقيضين: إما العدالة الكاملة، وإما انعدام العدالة، انعدامًا كليًّا. فمن حيث المبدأ، وفي الواقع، تبقى العدالة أشبه بالمثل الأعلى الذي ينبغي لنا السعي إلى الاقتراب منه، قدر المستطاع، على الرغم من معرفتنا باستحالة بلوغه، بلوغًا كاملًا. وتمثل محاكمة كوبلنز خطوةً في الاتجاه الصحيح والعادل؛ والآمال، المقترنة بالأفعال، قائمةٌ في أن تتبعها خطواتٍ أكبر أخرى، في الاتجاه ذاته. ويبقى ضروريًّا دعم الجهود القانونية الهائلة والعظيمة التي يقوم بها المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، ورئيسه المحامي أنور البني، والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير، ورئيسه المحامي والصحفي مازن درويش، وعددٌ من الناشطين والضحايا الناجين من التعذيب، بدعمٍ كريمٍ من المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، وجهاتٍ أخرى. فبدون مثل هذه الجهود لم يكن بالإمكان تحقيق هذه الخطوة الهامة، وبفضل هذه الجهود، وتضافر جهودٍ أخرى معها، هناك أملٌ حقيقيٌّ ومسوّغٌ في الذهاب إلى مدىً أبعد بكثير مما تحقق حتى الآن.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي بروكار

بروكار برس

———————

محاكمة أنور رسلان تُحيي آمال السوريين في العدالة

تفاعل السوريون في مواقع التواصل الاجتماعي، مع الأخبار المبشرة الآتية من ألمانيا، التي انطلقت فيها جلسات أول محاكمة لاثنين من مسؤولي النظام السوري السابقين بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سوريا.

وفيما تجاهلت وسائل إعلام النظام الرسمية وشبه الرسمية، الخبر تماماً، تداول السوريون في “فايسبوك” و”تويتر” صورة من داخل محكمة “كوبلنز” الإقليمية العليا، أثناء بدء جلسات محاكمة رئيس قسم التحقيق في أحد فروع أمن الدولة بدمشق أنور رسلان (57 عاماً) لارتكابه جرائم قتل وتعذيب بحق مواطنين سوريين. ويظهر فيها رسلان في قفص الاتهام.

وكتب الصحافي منصور عمري الذي حضر الجلسة، الخميس، معلقاً على الصورة: “المجرم أنور رسلان كما ظهر اليوم في قفص الاتهام . أغلب الوقت في الجلسة بدا عليه الامتعاض واللامبالاة وتثاءب أحياناً. لم أره ينظر إلى ضحاياه على يمينه ولا مرة، وبعد نحو ساعة من بدء الجلسة نظر للمرة الأولى إلى الحضور في قاعة المحكمة”.

وبدأت ألمانيا محاكمة رسلان بعد أكثر من عام على توقيفه، ووجه الادعاء العام الألماني 58 تهمة إلى العقيد السابق في قوات النظام، بينها ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والتعذيب والاغتصاب. ويُتهم رسلان، الذي كان ضابطاً بارزاً في الاستخبارات السورية في “الفرع “251” أو فرع أمن الخطيب في دمشق، بتعذيب نحو 4 آلاف شخص قتل منهم 58 في الفترة الممتدة بين نيسان/أبريل 2011 وأيلول/سبتمبر 2012. بالإضافة لاتهامه بارتكاب حالتي عنف جنسي واغتصاب، بحسب لائحة الاتهامات الموجهة إليه.

وأعادت الصور وأخبار المحاكمة، التفاؤل لملايين السوريين الحالمين بتحقيق العدالة ومحاكمة رموز النظام السوري المسؤولين عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وكتب أحد المعلقين في “فايسبوك” مع صورة رسلان: “هالصورة بتمنحك شعور بالسعادة مابينوصف. وحدها العدالة قادرة على أنها ترمم أرواحنا اللي تشوهت من سنين بفضل هالوحوش. يارب ما أموت قبل ماشوف وحوش المخابرات الجوية بحلب عم يتحاكموا بكل عدل”.

وفيما حاز رسلان على الاهتمام الأبرز، لم ينسَ السوريون الحديث عن المتهم الآخر إياد الغريب (42 عاماً)، وهو مسؤول في جهاز أمن النظام، يواجه اتهامات باحتجاز المتظاهرين إلى جانب 30 تهمة متعلقة بالمساعدة في التعذيب والقتل. وهنا انتشر جدل بسيط في مواقع التواصل، بأن المتهمَين انشقا عن النظام وانضما للمعارضة في وقت مبكر نسبياً من عمر الثورة السورية، وأنهما مسؤولان صغيران مقارنة برموز النظام الكبار.

في ضوء ذلك، كتب المحامي والحقوقي البارز ميشيل شماس عبر صفحته في “فايسبوك”: “بمناسبة بدء محاكمة أنور رسلان الضابط المنشق عن المخابرات السورية. لا بد من التأكيد على أن انشقاق أي مسؤول في النظام السوري وانضمامه للمعارضة لا يجب ان يكون وسيلة لتبرئته من الأفعال الجرمية التي ارتكبها قبل انشقاقه. وبحسب ما نشر عن قضية رسلان تبين أنه اكتفى بالانشقاق والانضمام للمعارضة فقط، ولم يكلّف نفسه التعبير عن أسفه وندمه والاعتذارعن عمليات التعذيب التي جرت خلال خدمته وبإشرافه، ولم يضع كل ما يملكه وما يعرفه عن عمليات التعذيب في خدمة العدالة لا بل تكتم عليها. الأمر الذي سيحرمه من الاستفادة من الأسباب المخففة للعقوبة. على أية حال لنا ملء الثقة بالقضاء الألماني في إجراء محاكمة عادلة بحق أنور رسلان وغيره”.

إلى ذلك، وصفت مديرة البحوث للشرق الأوسط في منظمة العفو الدولية “أمنستي” لين معلوف، المحاكمة بأنها “خطوة تاريخية في طريق النضال من أجل تحقيق العدالة لعشرات الآلاف من الأشخاص الذين احتجزوا، وعذبوا، وقتلوا بصورة غير مشروعة” داخل مراكز الاحتجاز في السجون السورية الخاضعة لسيطرة النظام السوري.

وكتب بعض الناجين من معتقلات النظام تجاربهم في ضوء المحاكمة. ومن بينهم الصحافي السوري عامر مطر الذي قال في “فايسبوك”: تم اعتقالي من منزلي في دمشق نهاية آذار عام 2011، وأخذت إلى فرع المخابرات (أمن الدولة- فرع الخطيب) أو ما يسمى بالإدارة العامة 251، وكان أنور رسلان رئيس الفرع حينها، وقام بالتحقيق معي وتعذيبي. اليوم هو سجين وأنا مدّعٍ ضده أمام القضاء الألماني”.

وأكمل مطر: “تم تعذيبي والتحقيق معي بسبب عملي الصحافي وتغطية الأيام الأولى للثورة السورية. رموني في منفردات قذرة عرفت فيها أنواع مختلفة للتعذيب، لأن العمل الصحافي في سوريا الأسد بمثابة أبشع الجرائم. كان محقق فرع أمن الدولة يقرأ مقالاتي ويشتمني. لم تنقطع أصوات حفلات التعذيب أثناء وجودي في فرع الخطيب، تعذيب الأطفال والمسنين حتى. كنت أتمنى أن نحاكم كل المجرمين والقتلة أمام القضاء السوري في سورية الحرة، لكن مع استمرار الديكتاتورية يمنحني القدر فرصة محاكمة أحدهم في المنفى، بعدما فقدت أملي في تحقيق العدالة”.

    أنور رسلان الذي كان يتجول بين أفرع المخابرات ويتفنن بتعذيب السوريين، يجلس اليوم مثل الصوص لينتظر حكم بالمؤبد بأحسن الأحوال

    من يعتقد من اذناب النظام اليوم ان رسلان ارتكب خطأ بهروبه لألمانيا سيتمنى ان يكون مكانه غداً لأن المانيا ارحم بكثير من المحاكم السورية التي ستطال الجميع pic.twitter.com/DRk6FvMDw9

    — Roushan Bouzo – روشان بوظو (@RBouzoAH) April 23, 2020

    محاكمة العقيد أنور رسلان في ألمانيا الذي كان رئيس فرع الخطيب من عام 2011 إلى عام 2017 وقد أشرف على تعذيب أكثر من 4000 سوري واغتصاب أكثر من 200 امرأة سورية داخل الفرع. هذا يذكرني بالعقيد الشيعي نزار حسين الحلو الذي كان رئيس الفرع نفسه والذي أشرف على تعذيبي عام 1977م. pic.twitter.com/LayIbJDaBP

    — عبدالرحمن الخطيب (@khtibabdul) April 23, 2020

    بدأت منذ حوالي نصف ساعة محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب الضابطين السابقين في أجهزة مخابرات النظام السوري.

    وصلنا لأمام المحكمة قبل ساعة من الموعد، رفعنا لافتات تطالب بالإفراج عن المعتقلين ومحاكمة الأسد.

    تحدثت معنا الصحافة وسألتنا عن سبب تواجدنا كناشطين أمام المحكمة اليوم.

    — عوداي (@Odayovisky) April 23, 2020

    العدالة غير مألوفة لالنا لدرجة انو صورة العقيد المجرم انور رسلان بالمحكمة الالمانية نزّلت دموعي.

    — Aram Shakeeb (@AramShakeeb) April 23, 2020

    المجرم #أنور_رسلان من داخل قفص الإتهام في أول جلسة محاكمة وبحضور شخصيات قام باعتقالهم وتعذيبهم.

    {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}#العدالة_أولاً pic.twitter.com/SF4LENDvKZ

    — حارث الموسى | Hareth (@h001t) April 23, 2020

المدن

——————————–

المنشقون وأسرار الأسدية/ غسان المفلح

منذ انطلاق الثورة السورية آذار 2011 عشرات الالوف انشقوا عن نظام الاسد. ومن كل اجهزة “الدولة” المدنية والعسكرية والاستخباراتية والامنية بشكل عام. ضباط وصف ضباط من الجيش والشرطة، رؤساء أفرع امنية، حتى رئيس الوزراء رياض حجاب عندما انشق كان على راس عمله. بغض النظر عن مسار الثورة خلال هذه السنوات المنصرمة. هذا المسار الذي تحكمت به دولا كبرى وصغرى. ثم احتلت الثورة واحتل البلد بأكمله. كل هذه الاحتلالات اتت لتحتل الثورة والبلد باستدعاء مباشر او غير مباشر من الاسد. عبر اتفاقيات مباشرة إيران وروسيا، واتفاقيات غير مباشرة تركيا. اما التحالف الدولي بقيادة امريكا فأتى دون تنسيق مع الاسد، على حد تصريح وليد المعلم وزير خارجية الاسد. من هذا التحالف بقيت امريكا المتحكمة بالجزيرة السورية. التي تمتد على مساحة تشكل ثلث سورية تقريبا. حيث النفط والغاز والقمح والقطن. هذا المسار نفسه يحتاج الى مجلدات للكتابة عن تفاصيله ووقائعه.

في هذه المساحة الصغيرة اردت مناقشة قضية” الكشف عن اسرار النظام”. التي ترفعها بعض النخب السورية، من ناشطين حقوقيين وكتاب وحتى جمهور الثورة بعضه يشارك في رفعها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. آخر هذه القضايا التي استوجبت رفع هذا الشعار مجددا هي قضية محاكمة المنشق انور رسلان في المانيا. في سياق الخلاف بين السوريين حول هذه المحاكمة وملابساتها. رفع الشعار” انه لم يكشف عن اسرار النظام”. ككل منشق تحاربه بعض النخب السورية، ترفع في وجهه هذه اليافطة.

في الواقع نتيجة للمقتلة السورية التي قام بها الاسد ومن دعمه اقليميا ودوليا، انسداد الافق امام ملايين السوريين في المخيمات وبلاد اللجوء. جعل السوريين في حالة تشظي مخيفة. لا بوصلة سياسية لدينا. هذا التشظي سببه الاساسي والرئيسي هو موقف الدول من المقتلة. لهذا نجدنا نتعلق بقشور ونجعل منها قضايا. في موضوعنا. لماذا انور رسلان لم يكشف اسرار النظام الاسدي؟ وقبله قيلت عن رياض حجاب ايضا وعن غيره من المنشقين.

حافظ الاسد منذ تسلمه السلطة بانقلابه التصحيحي 1970لم يكن لديه اسرار الا سرا واحدا فقط. وهو ملف تل ابيب. هذا الملف لا يعرفه الا الاسد الاب شخصيا وانتقل الى يد الاسد الابن بالتوريث. هذا الملف مرتبط كشفه ورفع السماكة العبثية عنه، بإسرائيل وامريكا بشكل اساسي.

لا يوجد مسؤول سوري في نظام الاسد منذ تأسيسه يعرف دهاليز هذا الملف. غالبية ما نكتبه عن هذا الملف هو في إطار التحليلات المبنية على وقائع مستمدة من حدث هنا وحدث هناك، من تصريح اسرائيلي هنا وتصريح آخر هناك. من تسريبات غربية احيانا. او من تسريبات بعض السلطات العربية في حال نشوب خلاف لهم مع الاسد. كما اسفلت الكشف عن هذا الملف وتفاصيله مرتبط بإسرائيل وامريكا.

ما تبقى في سورية الاسد لا اسرار. منذ عام 1970 مثال: ميزانية النفط وكل عائداته بتصرف الاسد الاب. لم تدخل الى الميزانية العامة للدولة الا عام 1998. رغم مطالبات خالد بكداش الامين العام للحزب الشيوعي السوري!! الاسد هو المتصرف الوحيد والحر في هذه الاموال. الشعب السوري كله يعرف ذلك. الرشوة الفساد ونهب المال العام من قبل شخوص النظام. كانت ولاتزال قائمة على قدم وساق وكل سوري يعرف بها وبالأسماء. واهمها في عهد الاسد الابن استيلائه على ملف الاتصالات و”سيريا تل”. التي كانت موضوعة باسم ابن خاله رامي مخلوف. على إثره تم اعتقال النائبين في مجلس الشعب آنذاك مأمون الحمصي ورياض سيف، لانهما قاما بتقديم وثائق تثبت خسارة الدولة السورية لمليارات جراء اعطاء المناقصة لرامي مخلوف، والجميع يعرف انها ليست لرامي بل لبشار وماهر.

هذا على المستوى الاقتصادي.

على مستوى جرائم الاسدية بحق الشعب السوري وملفات المعتقلين والمجازر التي قامت بها. موثق ولا يوجد فيه اسرار. ايضا لا يوجد سوري لا يعرفه. موال ام معارض ام من جماعة” الله يطفيها بنوره”. هذه الوثائق السمعية والبصرية والمكتوبة موثقة لدى كل المنظمات الدولية، ولدى كل الدول كبرى وصغرى. اين يمكن ان تكون هنالك اسرار أخرى أكثر مما هو موجود من مذبحة؟ المجازر والكيماوي كله موثق وبالأسماء. العلاقة مع إيران وروسيا وغيرها من الدول لا يوجد فيها اسرار. الا ما تفرضه احيانا تفاصيل ربما تحرص روسيا وإيران على عدم ذكرها. وهي لا تتعلق بان نظام الاسد لديه اسرار من قتل مليون سوري وهجر 12 مليون ودمر مدنهم وقراهم مئات الوف المعتقلين والمفقودين موثقين بالأسماء في أرشيف المنظمات الدولية الحقوقية. امام مرأى العالم وكاميراته، حتى سرقة مساعدات الامم المتحدة!!. عن اية اسرار يمكننا ان نتحدث؟ اعطونا حقلا فيه اسرار لا يعرفها المواطن السوري؟

هذا الشعار القضية” انه لم يكشف اسرار النظام” هو نفسه يعبر عن سر المقتلة. التي يقع فيها السوريين مرارا وتكرارا.

لا اسرار عند الاسدية سوى تل ابيب.

ايلاف

————————————–

ألمانيا: بدء مقاضاة ضابطين سوريين بجرائم ضد الإنسانية/ فراس حاج يحي

كما كانت محاكمات نورمبرغ لمحاسبة مسؤولي فظائع النازية بوابة لتطور مسار العدالة الدولية، يأمل السوريون بأن تكون محاكمة كوبلنز بوابة لمحاسبة نظام الأسد على ما ارتكبه من فظائع بحقهم.

الخميس 23 نيسان/ أبريل 2020 يشكل يوماً تاريخياً لسير قطار العدالة وإنصاف آلاف الضحايا السوريين، من الناجين ومن قضوا تحت التعذيب في معتقلات نظام الأسد والذين يقدر عددهم بالآلاف، إذ انطلقت في المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز، محاكمة ضابط سابق في المخابرات ومساعد له غرب ألمانيا، متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية تمثلت بتعذيب معتقلين سوريين أثناء الثورة السورية، في الفترة التي كانا فيها على رأس عملهما.

إياد الغريب خلال جلسة المحاكمة

من هما أنور رسلان وإياد الغريب؟

المتهمان في هذه القضية هما كل من الضابط أنور رسلان وضابط الصف إياد الغريب المنشقان عن نظام الأسد، واللذان تم اعتقالهما في ألمانيا في شهر شباط/ فبراير عام 2019. المتهم الأول رسلان كان رئيساً للتحقيق في الفرع 251 المسمى “فرع الخطيب” في دمشق، والغريب كان قائداً لمجموعة مداهمات من ثلاثين عنصراً تابعين للفرع ذاته. وقد غادر المتهمان سوريا عام 2012 وطلبا اللجوء في ألمانيا عام 2014، وحصل رسلان على صفة لاجئ وأقام في شمال شرقي برلين، وقبل ذلك تبوأ رسلان مناصب عدة في المعارضة السورية، أبرزها عضوية وفد المعارضة في مباحثات جنيف 2 للسلام عام 2014 برعاية الأمم المتحدة.

ووفقاً لما ذكره رئيس “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” المحامي أنور البني، فإن المدعي العام الألماني بدأ تحضير ملف رسلان منذ عام 2018 وقد استمع لشهادة عدد من ضحايا التعذيب وجمع الأدلة والوثائق ومن ثم أصدر قرار الاتهام بحق رسلان والغريب وقام بتوقيفهما.

ومن الناحية القانونية، تجرى محاكمة رسلان والغريب في ألمانيا بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية، الذي يسمح للمدعين العامين بالتحقيق في الجرائم الدولية التي يرتكبها مواطنون أجانب على أرض أجنبية ومحاكمتهم بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، إذ تعتبر هذه الجريمة جريمة ضد الإنسانية. وسيواجه المتهمان ناجين من التعذيب في معتقلات نظام الأسد تعرّضوا للتعذيب على يدهما. وبحسب لائحة الاتهام الصادرة عن المدعي العام الألماني، أنه بين نيسان 2011 وأيلول/ سبتمبر 2012، وبينما كان رسلان مسؤولاً عن الفرع 251، تعرض ما لا يقل عن 4000 شخص للتعذيب هناك، وتوفي 59 شخصاً نتيجة لذلك، واغتصب شخص واحد على الأقل واعتدي عليه جنسياً، بينما الغريب سيُحاكم بتهمة المساعدة والتحريض على جريمة ضد الإنسانية في سوريا عام 2011.

ويمثل محامي المركز الأوروبي لحقوق الإنسان باتريك كروكر 6 مدعين إضافة إلى 52 شاهداً، وفقاً للمركز الأوروبي.

باب العدالة يُفتح!

يعتقد البعض أن القانون الدولي والعدالة مجرد وهم، ولكن كما كانت محاكمات نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية لمحاسبة مسؤولي فظائع النازية بوابة لتطور مسار العدالة الدولية وصولاً إلى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، يأمل السوريون بأن تكون محاكمة كوبلنز بوابة لمحاسبة نظام الأسد على ما ارتكبه من فظائع بحقهم.

هذا الأمل لخصه أحد المدعين على رسلان وشريكه عامر مطر وهو معتقل سوري سابق في الفرع الأمني الذي كان يعمل فيه رسلان، وهو يقيم حالياً في العاصمة الألمانية برلين.

وقد كتب قبل يوم المحاكمة على “فايسبوك” منشوراً كتب فيه: “تبدأ أول محاكمة جنائية في ألمانيا لعناصر مخابرات نظام الأسد، في قضية عن التعذيب في سجون النظام السوري وسيحاكم ضابطا المخابرات السابقان، أنور رسلان وإياد الغريب، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. تم اعتقالي من منزلي في دمشق نهاية آذار/ مارس عام 2011، وأخذت إلى فرع المخابرات (أمن الدولة- فرع الخطيب) أو ما يسمى بالإدارة العامة 285، وكان أنور رسلان رئيس الفرع حينها، وقام بالتحقيق معي وتعذيبي. اليوم هو سجين وأنا أدّعي ضده أمام القضاء الألماني. تم تعذيبي والتحقيق معي بسبب عملي الصحافي وتغطية الأيام الأولى للثورة السورية. رموني في منفردات قذرة عرفت فيها أنواعاً مختلفة للتعذيب، لأن العمل الصحافي في سوريا الأسد بمثابة أبشع الجرائم. كان محقق فرع أمن الدولة يقرأ مقالاتي ويشتمني. لم تنقطع أصوات حفلات التعذيب أثناء وجودي في فرع الخطيب، تعذيب الأطفال والمسنين حتى. كنت أتمنى أن نحاكم كل المجرمين والقتلة أمام القضاء السوري في سوريا الحرة، لكن مع استمرار الديكتاتورية يمنحني القدر فرصة محاكمة أحدهم في المنفى، بعدما فقدت أملي بتحقيق العدالة”.

ويحاكم المتهمان بجريمة التعذيب وفق اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب التي دخلت حيز التنفيذ عام 1994، وجاء تعريف التعذيب في تلك المعاهدة بإحداث ألم شديد أو معاناة، ويمكن أن يكون جسدياً أو معنوياً، وبموجب الاتّفاقية المناهضة للتعذيب، لا يمكن ادّعاء وجود أيّ ظروف استثنائيّة تسمح لك بالقيام بعمليّات التّعذيب. لذا يتوجّب على جميع الأطراف المشارِكة في الاتّفاقية المناهضة للتّعذيب أن تقوم بتسليم أي جلاّد موجود على أراضيها أو محاكمته. وذلك بموجب الولاية القضائية العالمية إن وصلت الجريمة إلى أعلى مستويات التّعذيب، فالمحاكمة واجب على كلّ دولة.

وعليه بوجود هؤلاء المدعين الشخصيين ضد رسلان وشريكه بات من واجب الحكومة الألمانية محاكمتهما وإنفاذ مبدأ سيادة القانون، في محاكمة لا يتوقع أن تكون قصيرة، وغالباً خلال مجريات المحاكمة ستُقدَّم دفوع وشهادات ستوصل بلا شك إلى تسلسل هرم المسؤولية عن هذه الجرائم، لتشمل متهمين جدداً في التسلسل الهرمي للنظام الأمني في سوريا، لتشملهم لائحة الاتهام كمشتركين في هذه الجرائم عبر الأوامر والقرارات التي أصدروها، والتي نتجت عنها هذه الجرائم. وربما توصل هذه السلسلة في نهايتها إلى رئيس النظام السوري بشار الأسد، وهذا ما نقصده بأن محكمة كوبلنز قد تكون البوابة التي ستفتح طريق العدالة لمئات آلاف القتلى، وضحايا التعذيب في سوريا، فهي تشكل حجر زاوية في عملية العدالة التي قد يبنى عليها مستقبلاً وهذه الجرائم لا تسقط بالتقادم.

جدال في أوساط السوريين

توقيف الضابط رسلان وشريكه وصولاً إلى محاكمتهما أطلقت الجدال في أوساط السوريين بين قسمين الأول هما: مؤيدون وداعمون لها إنصافاً للضحايا، ومحاكمة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري أياً كانوا، ولا يعني لأصحاب هذا الرأي أن ينشق عن النظام السوري مرتكبو هذه الجرائم أو أن ينضموا إلى صفوف المعارضة، فانضمامهم للمعارضة لا ينفي مسؤوليتهم القانونية والأخلاقية عن جرائهم السابقة ولا يمنحهم صك براءة تجاه الضحايا وذويهم. وعلى الأقل لا يمكن أن ينكر أحد على هؤلاء الضحايا المباشرين والذين نصبوا أنفسهم كمدعين شخصيين في هذه القضية حقهم في محاكمة جلاديهم. وربما قضية رسلان وضعت المعارضة السورية الرسمية في مأزق بقبوله بين صفوفها، على رغم علمها بسجله السابق ومنصبه الأمني المعروف في قيادة فرع أمني مسؤول عن ارتكاب جرائم بحق المعتقلين. وربما الكثير من القيادات تم توقيفهم في هذا الفرع من قبل، وهذا سؤال يتوجب على قيادة المعارضة السورية إجابة الشعب السوري عليه منذ الآن لتبرير قبول رسلان وإدخاله في وفدهم لمفاوضات السلام في جنيف عام 2014.

أما القسم الثاني فيعتقد بأن محاكمة هؤلاء المنشقين الموجودين في أوروبا سيساهم في إفلات المجرمين الحقيقيين في نظام الأسد من العقاب، وأن الاكتفاء بمحاكمة من انشق عنه يعتبر عقاباً على انشقاقه. وبالنسبة إليهم فإن ترك رسلان منصبه كفيل بإعفائه عما يكون قد اقترفه من جرائم. كما يعتقدون بأن هذه المحاكمة لن تشجع مستقبلاً أي مسؤول حالي في نظام الأسد على التفكير بالانشقاق عنه، فطالما أنه موجود في سوريا، فهو بأمان وبعيد من متناول العدالة الدولية، ويعزز أصحاب هذا الرأي حجتهم بأنه على رغم كل ما ارتكبه نظام الأسد من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لم يتم حتى الآن تحويل ملف هذه الجرائم إلى المحكمة الجنائية الدولية، بسبب معارضة كل من روسيا والصين في مجلس الأمن على إحالة ملف هذه الجرائم إلى لاهاي.

لا سلام بلا عدالة

لا يمكن تصور سلام في سوريا من دون عدالة وإن توقف أي شخص أو مسؤول عن ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، عما كان يرتكبه، وانتقاله إلى صفوف المعارضة لا يعفيه من المسؤولية القانونية على جرائمه السابقة. وإن كان هناك من نصيحة يمكن تقديمها للمتهمين فهي أن يعترفوا بجرائمهم أمام المحكمة وأمام ضحاياهم والشعب السوري، وأن يعتذروا لهم عن هذه الجرائم، ويتقبلوا ما ستصدره المحكمة من أحكام، ويتعاونوا معها عبر تزويدها بمعلومات ووثائق وأدلة، تفيد التحقيقات وتوصل إلى بقية التسلسل الهرمي المسؤول عن إصدار هذه الأوامر لارتكاب هذه الجرائم، ليصار الى توثيق أسمائهم وجرائمهم وإضافتهم للائحة الاتهام بناء على مسؤولياتهم، فربما إن قاموا بذلك سيثبتون للضحايا وذويهم ندمهم على ما ارتكبوه من جرائم سابقة بحقهم. وختاماً لا بد أن تكون العدالة وإنصاف الضحايا وعدم إفلات المجرمين من العقاب، بوابة لسلام مستدام وسوريا جديدة.

درج

————————————–

أول محاكمة في جرائم الحرب بسوريا.. ألمانيا تتهم ضابطين من “مخابرات الأسد” بالقتل والتعذيب والاغتصاب

وجهت محكمة ألمانية، الخميس 23 أبريل/نيسان 2020، اتهامات بالتعذيب والاعتداء الجنسي إلى شخصين يشتبه في أنهما من أفراد أجهزة أمن رئيس النظام السوري بشار الأسد، وهي أول محاكمة في جرائم حرب ارتكبها ضباط سوريون، وفق ما أكده محامون ألمان.

يتعلق الأمر بكل من أنور.ر، وهو ضابط سابق في المخابرات السورية، طلب اللجوء إلى ألمانيا قبل ست سنوات بعد أن غادر سوريا؛ وإياد. أ، الذي يُعتقد أنه كان رئيس وحدة التحقيقات بالإدارة 251 المسؤولة عن دمشق، ووصل إلى ألمانيا في أبريل/نيسان 2018.

لائحة التهم: يواجه أنور.ر 58 اتهاماً بالقتل في سجن بدمشق، يقول مدعون إن أربعة آلاف ناشط معارض، على الأقل، عُذبوا به في عامي 2011 و2012.

المتهم الأول، وهو شاب أشيب ذو شارب ويرتدي نظارة وسترة سوداء، بدا هادئاً خلف حاجز زجاجي أُقيم ضمن قواعد الوقاية المرتبطة بأزمة تفشي جائحة فيروس كورونا، كما شملت الاتهامات التي تُليت عليه اتهاماً واحداً على الأقل بالاغتصاب، وعدة اتهامات بالاعتداء الجنسي.

أما المتهم الثاني، إياد.أ (43 عاماً)، فيواجه اتهامات بتسهيل تعذيب 30 ناشطاً معارضاً، على الأقل، اعتُقلوا بعد احتجاجات مناهضة للأسد في عام 2011.

ظهر هو الآخر وهو يغطي وجهه بغطاء رأس سترته الرمادية في أثناء جلوسه بقاعة المحكمة.

مترجمون فوريون أعادوا التهم باللغة العربية على المتهمين اللذين عُرفا باسميهما الأوَّلين فقط وفقاً لقوانين الخصوصية الألمانية.

تحقيق العدالة لآلاف السوريين: أثنى المؤيدون للمحاكمة على تلك الإجراءات القضائية بوصفها أول خطوة نحو تحقيق العدالة لآلاف السوريين الذين يقولون إنهم تعرضوا للتعذيب في منشآت حكومية، وذلك بعد فشل المحاولات التي استهدفت إقامة محكمة دولية بشأن سوريا.

أما حكومة الأسد، فتنفي بشكل تامٍ أنها عذَّبت السجناء.

بيترا زيمرمان، المتحدثة باسم المحكمة في كوبلنز، تقول إن الرجلين “متهمان بالانتماء لإدارة المخابرات العامة السورية”.

تضيف زيمرمان أيضاً: “أنور.ر يُعتقد أنه كان رئيسَ وحدة التحقيقات بالإدارة 251 المسؤولة عن دمشق، ويُعتقد أن التعذيب الممنهج للسجناء وقع في هذا السجن، وأنه كان على علم بذلك”.

من جانبهم، يقول ممثلو الادعاء الألمان، إن “أنور.ر” أشرفَ على استجوابات قبل أن يغادر سوريا في 2012، وقبل أن يصل إلى ألمانيا في 2014.

الأولى من نوعها: يعتقد محامون دوليون أن الأمر يتعلق بأول دعوى قضائية من نوعها في أي مكان بالعالم ضد مسؤولين في حكومة الأسد بشأن مثل هذه الجرائم.

ممثلو الادعاء الألمان لجأوا إلى قوانين الولاية القضائية العالمية التي تتيح لهم إقامة محاكمات عن أي جرائم ارتُكبت ضد الإنسانية في أي مكان بالعالم.

يشار إلى أن روسيا والصين قد أحبطتا المحاولات التي قامت بها قوى غربية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لتنظيم محاكمة دولية بشأن سوريا، إذ إن الأخيرة ليست من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

أولى الخطوات: خارج قاعة المحكمة، حمل أكثر من عشرة لاجئين سوريين ومدافعين عن حقوق الإنسان لافتات كُتب عليها “سوريا الأسد دولة تعذيب” و”الأسد إلى لاهاي”.

المؤيدون للمحاكمة وضحايا التعذيب يأملون أن تفتح المحاكمة الباب أمام إجراءات قضائية مماثلة في دول أوروبية أخرى مثل النرويج، التي لها قوانين الولاية القضائية العالمية نفسها، ويُعتقد أن أعضاء سابقين بأجهزة الأمن السورية يعيشون على أراضيها.

من جهته، قال المحامي باتريك كروكر، رئيس المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، الذي يدعم 16 سوريّاً في المحاكمة: “كان تحدياً كبيراً لموكلينا أن يخرجوا إلى النور ويتحدثوا عن هذه الجرائم لأول مرة على الإطلاق”.

كما أوضح أيضاً: “نأمل أن يصل صوتهم إلى مختلف أرجاء العالم، وأن تكون هناك محاكمة أُولى، نأمل أن توجه إشارة لدمشق”.


—————————–

لأول مرة محاكمة ضابطين سوريين في ألمانيا بعد اتهامهما بارتكاب جرائم حرب/ حسام محمد

مبادرة هامة وتحذيرات من الآمال الزائفة

يشتهر النظام السوري بمنظومته الأمنية البوليسية، وبها يُعرف دوليا ومحليا، ويمكن وسم هذا الكيان، بـ “العقل المدبر” لكل ممارسات وأفعال نظام الحكم في سوريا من الأب إلى الولد، في حين أن هذه الشبكة الأمنية المعقدة والمحاطة بالسرية، تعتبر أحد أبرز التشكيلات التي لم تصب بهزائم كبرى ضمن صفوفها في البلاد، رغم الحرب التي استعرت ولا تزال منذ قرابة عقد من الزمن.

وقد أجمع عدد من الخبراء وصناع القرار، على أن مؤسسة دمشق الاستخباراتية، هي الرئة التي أبقت نظام الأسدين على قيد الحياة رغم التدمير الهائل الذي طال بقية مؤسساته المدنية والعسكرية، وصولا للحزبية والخدمية. فهذه الشبكة هي من أوغلت في دماء السوريين وقادت الحرب الهستيرية في البلاد، ولعبت دورا هاما في إيجاد حلقات الاتصال مع العديد من الدول الإقليمية وحتى الدولية، بما فيها تلك التي أعلنت عداوتها لبشار الأسد ونظامه، ودعمت معارضيه جهرا وفي الخفاء لإسقاط نظامه.

ففي أول محاكمة لجرائم الحرب الطويلة وغير المنتهية في سوريا، وفي حدث هو الأول عالميا، مثل ضابطان سابقان من النظام السوري في 23 أبريل/نيسان الماضي، وهما العقيد السابق في جهاز أمن الدولة أنور رسلان 57 عاما، وإياد الغريب 43 عاما، أمام المحكمة العليا في مدينة كوبلنتس الألمانية في مبادرة هي الأولى حول العالم، بعد توجيه تهم مباشرة لهما بارتكاب جرائم حرب خلال تواجدهما على رأس وظائفهما الأمنية والعسكرية ضمن قوام النظام السوري.

ووفق ما نقلته وسائل إعلام عن القضاء الألماني، فإن العقيد رسلان، متهم بالوقوف وراء مقتل 58 سوريا، وكذلك متورط في تعذيب ما لا يقل عن أربعة آلاف معتقل، وذلك خلال الفترة التي ترأس فيها قسم التحقيقات في الفرع 251 التابع للمخابرات السورية وهو ما يعرف بـ “فرع الخطيب” وذلك بين عامي 2011 حتى أيلول/سبتمبر من عام 2012.

في حين، أن وزارة الخارجية الألمانية، شهدت بأداء العقيد السابق أنور رسلان “دورا نشطا واضحا” في المعارضة السورية، جراء التحاقه ضمن صفوفها عقب خروجه من دمشق ومنظومته الأمنية، كما لم يخش الضابط المنشق قط من أن يتعرض للمضايقة أو الاعتقال بسبب أنشطته الماضية خلال تواجده في الأراضي الألمانية، وفق ما أفادت به مصادر إعلامية مختلفة.

إلا أن رياح رسلان لم تمض كما اشتهى، حيث أوقف في شباط/فبراير 2019 مع عنصر مخابرات سابق آخر، هو إياد الغريب، لتتم مقاضاتهما وفتح السجلات القديمة لجرائم الحرب التي اتهما بتنفيذها في سوريا خلال تواجدهما ضمن قيادات النظام السوري.

أما إياد الغريب، فقد وجهت له تهما بالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية، ومشاركته في توقيف متظاهرين، ليتم اقتياده فيما بعد إلى فرع السجن الذي يتولى التحقيق فيه أنور رسلان، وذلك في الفترة الممتدة من أيلول/سبتمبر2011 حتى 32 تشرين الأول/أكتوبر من العام ذاته.

في حين تقول بعض المصادر، أن الغريب أوقف 30 شخصا، وكان يعمل تحت إمرة حافظ مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد ويعتبر من ضمن دائرته الضيّقة.

وانشق الضابطان الموقوفان قيد الحبس الاحترازي منذ اعتقالهما في 12 شباط/فبراير 2019 من سوريا ووصلا إلى ألمانيا حيث طلبا اللجوء على غرار مئات آلاف السوريين منذ تسع سنوات، فيما يقول أنور رسلان إنه انشق في أواخر 2012 وتفيد عدة وسائل إعلام أنه انضم إلى صفوف المعارضة في المنفى قبل أن يصل إلى ألمانيا في 26 تموز/يوليو 2014 وهو يواجه عقوبة السجن المؤبد، حسب ما نقلته وكالة “أ. ف. ب”.

مبادرة هامة

قال ناشطون قانونيون في “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية والإنسانية” إنّ هذا الإجراء القانوني هو الأول من نوعه في العالم الذي يتعلق بعمليات تعذيب تمّت برعاية الدولة السورية.

وقال فولفغانغ كاليك الأمين العام لـ”المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” وهي ألمانية منظمة غير حكومية، لوكالة فرانس برس: “المحاكمة المحاطة بتدابير أمنية مشددة والتي ستستمر حتى منتصف آب/أيلول على أقرب تقدير أمام محكمة كوبلنس تشكل خطوة مهمة وبداية النظر في جرائم (النظام السوري) أمام محكمة عليا ألمانية”.

وقدم كاليك الدعم لـ16 من الضحايا السابقين بعضهم أطراف مدنيون في الدعوى. وبين المدعين المحامي السوري والناشط البارز في مجال حقوق الإنسان أنور البني المقيم في ألمانيا كلاجئ منذ خمس سنوات ونصف السنة.

أما المتحدثة باسم المحكمة في كوبلنز، بيترا زيمرمان، فقالت وفق “رويترز”: “متهمان بالانتماء لإدارة المخابرات العامة السورية” وأنور رسلان يُعتقد أنه كان رئيسَ وحدة التحقيقات في الإدارة 251 المسؤولة عن دمشق، ويُعتقد أن التعذيب الممنهج للسجناء وقع في هذا السجن، وأنه كان على علم بذلك.

مع فتح قضية العدالة ومحاكمة المتورطين ضمن النظام السوري بارتكاب جرائم حرب خلال السنوات الماضية، لا بد من الإشارة إلى أن روسيا والصين أحبطتا محاولات عدة قامت بها قوى غربية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لتنظيم محاكمة دولية بشأن سوريا، إذ إن الأخيرة ليست من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

وعلى الرّغم من ان المتّهمين هما مواطنان سوريان، الا إنهما، وفق “فرانس 24” سيحاكمان بموجب مبدأ العدالة الدولية الذي يسمح لدولة أجنبية بمقاضاة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية.

وتأتي هذه المحاكمة في ألمانيا في أعقاب سلسلة من الشكاوى المقدمة في العديد من الدول الأوروبية من قبل ضحايا التعذيب بدعم من محامين تابعين لـ”المركز الأوروبي للحقوق الدستورية والانسانية”.

ليست العدالة المنشودة

الشبكة السورية لحقوق الإنسان وهي منظمة سورية غير حكومية، ساهمت في قضية محاكمة الضابطين في النظام السوري ضمن المحكمة الألمانية، وقال مديرها فضل عبد الغني لـ “القدس العربي”: “بعض الأطراف والأشخاص بالغوا في حجم هذه القضية، حتى راح بعضهم يعتبرها نقطة فاصلة في التاريخ السوري المعاصر، وفي مسار العدالة”.

وأضاف: “أولا يجب وضع القضية ضمن سياقها ومسارها الصحيح، فهي ليست مسار عدالة انتقالية، وهي ضمن الأمر المتاح في يد الجهات الحقوقية حاليا، وذلك ضمن المتوفر من حيث القدرة على المحاسبة القانونية عبر المحاكم ذات الاختصاص، وهي عادة تكون قضايا محدودة، لا تحاسب أعدادا كبيرة، وهي تحاسب من تستطيع الوصول إليه ضمن الأطر القانونية، لذلك يتوجب عدم إعطاء أمل زائف للضحايا من أبناء الشعب السوري.

هذا الضابط، متورط في انتهاكات، وكان في ألمانيا منذ عام 2014. لم يقدم وثائق وأدلة عما سبق، ولا يكفي إعلان انشقاقه، كذلك تعرف عليه بعض ضحاياه، ورفعوا دعوى قضائية بحقه، وهذا سياق القضية وليست بحجم أوسع، وهي ليست العدالة المنشودة، ولا هي العدالة الانتقالية، وهي مجرد جزء بسيط من مسار طويل من العدالة الانتقالية، ومتابعة حقوق الضحايا السوريين”.

وأشار كذلك إلى امتلاكهم ملفات منذ عام 2011 لضحايا التعذيب في فرع الخطيب التابع للنظام السوري خلال الفترة التي كان فيها الضابط الأمني السابق أنور رسلان مسؤولا في الفرع، وبعد ذلك كان التنسيق مع المركز الدستوري وهو القائم على القضية ورافعها، ومن معهم، ليتبين أن ما يجري في فرع الخطيب من جرائم بحق المعتقلين السوريين، يتم وفق نهج مخطط من قبل استخبارات الأسد وكذلك ما يخص المختفين قسرا ضمن هذا المركز الأمني.

تعذيب وحشي

النيابة العامة الألمانية أشارت إلى أن المعتقلين في سجن الخطيب ممن شاركوا في التظاهرات المطالبة بالحرية والديمقراطية في سوريا، تعرضوا “للكم والضرب بالعصي والأسلاك والجلد” كما خضعوا لـ”الصعق بالكهرباء”.

كما تضيف، أنه تم تعليق البعض بمعصميهم “بحيث لا يلامسون الأرض إلا برؤوس أقدامهم” و”استمرّ ضربهم في هذه الوضعية” مشيرة كذلك إلى “حرمانهم من النوم لعدة أيام” كما جاء في بيان الاتهام أن “وسائل التعذيب الجسدية والنفسية الوحشية” كانت تهدف إلى انتزاع “اعترافات ومعلومات حول المعارضة”.

المحاكمة والمعارضة السورية

مدير وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري محمد نذير سالم، اعتبر أن محاكمة الضابطين المتهمين بارتكاب جرائم حرب في سوريا، ستعود بدعم غير مباشر للمعارضة السورية، وقال لـ “القدس العربي”: “نعم، تقدم هذه الخطوة دعماً غير مباشر للمعارضة، حيث تدعم سرديتها ومطالباتها بالعدالة الانتقالية والمحاسبة، وذلك على الرغم من أن هذه المحاكمة لا تعتبر نموذجية من حيث الشخص المستهدف كونه ابتعد مبكراً نسبياً عن النظام.

إضافة إلى عدم وجود إجماع في صفوف المعارضة على دعم مثل هذه الخطوة باعتبار ترتيب أولويات المحاكمات التي يجب أن تطال الرؤوس الأكثر إجراماً، إضافة إلى التخوف من امتداد مثل تلك المحاكمات إلى شخصيات في فصائل المعارضة المسلحة، والتي وان ارتكبت مخالفات بدورها، لكن لا يمكن مقارنتها أبداً بإجرام النظام السوري، بالتالي، هناك تخوفات من التركيز على محاسبتها من دون محاسبة رؤوس الإجرام في النظام، الأمر الذي يزيد الشك في صفوف المعارضة، والموضوع بالتالي متعلق بالخطوات اللاحقة، لكن على العموم، الخطوة تفتح الباب لتجريم النظام ومنع عودة شرعيته السياسية من البوابة الحقوقية، وتنسجم مع قانون قيصر والعقوبات المتصلة به”.

مفاعيل سياسية

سالم، لا يرى في الدعوى حدثا روتينيا، فهي من وجهة نظره، لا تستهدف مجرماً جنائياً عادياً في بلده، بل تطال ضابطاً في استخبارات النظام السوري يوم كان على رأس عمله.

بالتالي، المحاكمة لها مفاعيل سياسية، ويمكن أن تفتح الباب لمزيد من تجريم النظام السوري وأركانه بالانسجام مع قانون قيصر، إن لم يحصل انحراف في تلك المحاكمات في اتجاهات أخرى.

محاسبة القيادات الدموية

“يمكن أن تفتح الباب لتجريم النظام السوري وقياداته ولو بشكل غيابي” الأمر الذي يسهم، وفق مدير وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري محمد نذير سالم، في منع عودة شرعيته في الظروف الراهنة، حيث تسعى بعض الدول العربية وروسيا لإعادة الشرعية للنظام، لكنها لم تنجح في مساعيها.

الأمر الذي يمكن أن يدفعها الى إعادة التفكير في حلول أخرى توافقية مع المجتمع الدولي، قد يكون من بينها التخلي عن بشار الأسد والدائرة الضيقة حوله. تبقى آثار تلك المحاكمات مرهونة بالتطورات السياسية التي يمكن أن تتغير بدورها، على سبيل المثال، إذا تم حل ملف الاتفاق النووي الإيراني مرة أخرى بعودة الولايات المتحدة له (وهو أمر لا يبدو مرجحاً حتى الآن). فقد ينعكس ذلك على تلك المحاكمات وأثرها السياسي في عزل النظام السوري. حالياً، تبدو الأمور متجهة لمزيد من فرض العزلة والحصار على النظام السوري وداعميه الإيرانيين بشكل خاص.

التجربة الأولى

تتسم محاكمة الضابطين السوريين في ألمانيا في كونها الأولى، بعد تسعة أعوام على إنطلاق الحراك السوري المطالب بالحرية والديمقراطية.

وقال الناشط السياسي السوري المعارض درويش خليفة لـ “القدس العربي”: “ألمانيا تتمتع بمبدأ الولاية القضائية العالمية، ولوجود شهود عدة على الضابطين، سهل من مهمة سوقهما للمحاكمة جراء انتهاكهما لحقوق الإنسان قبل خروجهما من سوريا عبر اعتقال وتعذيب الناشطين السلميين.

ولكونها التجربة الأولى في جر مرتكبي جرائم ضد الإنسانية في الحالة السورية لمحاكم دولية، نرجو ألا يخيب آمال السوريين في تحقيق العدالة والقصاص ممن ساهم بالنيل من كرامتهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم المدنية”.

ويرى الناشط السياسي، هذه المحاكم فرصة للأسرة الدولية في الضغط وفرض القرارات الدولية وإلزام النظام بتطبيق ما نتج عن مؤتمر جنيف1 وقرارات مجلس الأمن الدولي 2254. 2118.

كذلك، معاقبة المسؤولين عن قصف الغوطة الشرقية في ريف دمشق، في شهر آب/أغسطس من عام 2013 وخان شيخون في ريف إدلب شمالي سوريا في عام 2017 بغاز السارين المحرم دوليا وفي مناطق أخرى من البلاد.

السوريون المناهضون لآلة القتل والإجرام يتطلعون، وفق درويش، إلى أن تستفيد ألمانيا كما فرنسا أيضا من مبدأ “الولاية القضائية العالمية” التي يحظون بها ومحاسبة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية، وإعادة ما تم نهبه من أموال من قبل رفعت الأسد عم الرئيس السوري، وتحويل الأموال لمساعدة مصابي الحرب والمهجرين السوريين في المخيمات ودول اللجوء.

ويعتقد المصدر، أن القضاء الأوروبي وليس الألماني فحسب، على المحك في تطبيقه للعدالة كونها قيمة في الدول الديمقراطية وتلك التي تراعي حقوق وكرامة الإنسان، وهم يملكون كل مقومات محاسبة أذرع النظام السوري اللاجئين في دول الاتحاد الأوروبي.

القدس العربي

——————————

محاكمة رسلان.. رعب يطارد المجرمين/ عبد السلام حاج بكري

لم يسبق أن اتفق فريقا السوريين من الموالين والمعارضين على أمر، لكنهم فعلوها هذه المرّة مع قضية محاكمة ضابط الأمن السابق أنور رسلان، هلّل الطرفان لمحاسبة المجرم المسؤول عن القتل والتعذيب والاغتصاب خلال السنتين الأولى والثانية من عمر الثورة في فرع أمن الخطيب بدمشق.

طبيعي أن يهلل الفريق المعارض لمحاكمته، لكن الغرابة تكمن في تهليل الفريق الموالي، لكن مع معرفة النيّة الجرمية لهذا التهليل، ينتفي سبب الاستغراب، لقد قالها الموالون صراحة، هذا مجرم مثلكم ومنكم، استناداً إلى أنه مسلم من الطائفية السنيّة، يتفاخرون بأنهم لا شركاء له من طائفة النظام الحاكم، لكنهم لا يعلمون أو يتجاهلون حقيقة أن المجرمين، كل المجرمين، سيساقون عاجلاً أم آجلاً إلى محاكم يسهر على استدعائهم إليها سوريون أحرار لا ينظرون إلى طائفة المجرم وديانته وإثنيته، بل إلى سجلّه الإجرامي بحقّ السوريين من طرفيهم.

كما لم يُبدِ النظام حنقا على محاكمة رسلان، بل التزم الصمت رسميا، رغم تصريحات من بعض أزلامه تحمل شماتة بالمجرم، باعتباره شخصاً مهماً في المعارضة السورية، وهو سبق له أن مثّل أحد تشكيلاتها، ويبدو أن النظام يعمل على استغلال المحاكمة بما يخدم كياناته الأمنية، فقد تسربت أنباء عن قيامه بنقل ملفات الجرائم التي ارتكبتها الفروع الأمنية الأخرى بحقّ المعتقلين خلال العامين الأولين من الثورة إلى فرع الخطيب لتدخل في سجلات رسلان، ويخلّص منها مجرمين آخرين لا يزالون على رأس عملهم.

حلقة تأييد المحاكمة خرج عنها ثلّة من السوريين، تحت ذرائع متعددة منها، أن العميد رسلان انشقّ عن النظام، وهذا يصفح له جرائمه التي ارتكبها عندما كان يخدمه أسوة بكثيرين غيره، ويسوّغون له أنه كان “عبداً مأموراً”، وهناك من يقول إن محاكمته تدين المعارضة باعتباره جزءاً منها، والبعض يرى أن محاكمته “وهو المنشق” ترف زائد، يريدون محاكمة القائمين على إجرامهم حتى اليوم.

تفنيد ادعاءات هؤلاء المعترضين على المحاكمة بسيط للغاية، لكن نظرة متفحّصة على أشخاصهم وماضيهم تُظهِر أن غاياتهم من الاعتراض لا تكمن في المبررات التي ساقوها، بل في سبب آخر، وهو بيت القصيد، إنهم مجرمون سابقون، قاموا بمثل ما قام به رسلان، وربما أكثر، إنهم ببساطة يخشون يوماً يساقون فيه إلى المحاكم مثله تماماً.

كثير من هؤلاء هربوا من سورية عبر البحر إلى أوروبا ظنّاً منهم أنها الخلاص المنشود وأنهم بذلك يطوون صفحاتهم السوداء، سواء تابوا عنها أم لا يزالون على قناعة بما خطّت أيديهم فيها، لكن عيون السوريين المنكوبين على أيديهم ترصدهم، وتجمع بالتعاون مع منظمات حقوقية ومختصين معلومات وأدلة، تجعل من مخاوفهم حقيقة تلاحقهم حتى القفص.

شارك في الاعتراض عدد غير قليل من ضباط منشقين عن النظام لا يملكون سجلات إجرامية في كنفه، بل ارتكبوا جرائم في المناطق التي لجأوا إليها وتخضع لسيطرة المعارضة من خلال تشكيلات عسكرية عملوا فيها، هؤلاء شاركوا في معارك ضد النظام، وأسهموا في تحرير مناطق من سيطرته، لكن أفعالهم هذه لن تغفر لهم تجاوزاتهم الإنسانية في مواقع أخرى ضد المدنيين من طرفي الصراع.

هذه محاكمة واحدة في ألمانية، وهناك محاكمات أخرى يتمّ تحضيرها لمجرمين في دول أوروبية أخرى، وستتزايد أعدادها مع التوجّه الدولي المتصاعد لمحاسبة المجرمين في طرفي النزاع السوري، وذلك مع تصاعد المؤشرات على اقتراب موعد إزاحة بشار الأسد من الحكم.

العدالة الدولية، وتعمّق وعي السوريين اللاجئين لحقوقهم القانونية، واجتهاد المنظمات الحقوقية، رعب يطارد كل منتهك لحرمة السوريين، ليس هذا وحسب بل إن العدالة الانتقالية التي تعقب إزاحة بشار الأسد لا بد ستلاحق المجرمين ممن لا يزالون في كنف النظام، لأنه لا يمكن تأسيس السلام في المجتمع السوري ما لم تقتصّ العدالة للمظلومين من المجرمين.

تجاوزات إنسانية وجرائم ارتكبها قادة وأفراد في مناطق سيطرة المعارضة، وفي مناطق سيطرة الفصائل الكردية، لن ينعم مرتكبوها بالسلام والأمن، لأن يوم المحاسبة القانونية آت، وسيشهده إرهابيو التنظيمات الإسلامية المتشددة الذين عاثوا إجراما قد يماثل ما فعله نظام الأسد، وسيجد المظلومون من السوريين فرصة للاقتصاص فقدوها سنوات.

لن تنفع اعتراضات المجرمين على محاكمة رسلان في وقفها وما يلحقها، وقد تكون إصبعا يؤشر عليهم كمقدمة لتجميع ما يمكن إدانتهم به من جرائم ارتكبوها، هؤلاء يؤكدون المثل القائل “يكاد المجرم يقول خذوني”، ولهم نقول، انتظروا غضبة حقّ السوريين.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي بروكار

بروكار برس

—————————–


اتركوا محاكمة رسلان وغريب تسير بمنحاها القانوني السليم/ رياض علي
كثر الأخذ والردّ حول المحاكمة التي تتم أمام المحكمة الألمانية في كوبلنز بمواجهة كل من أنور رسلان وإياد غريب، المتّهمين بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانيّة عندما كانا يعملان في استخبارات النظام السوري، بين مؤيدٍ لهذه المحاكمة ومعارضٍ لها.
فالمؤيد يرى بأن مثل هذه المحاكمات تعتبر إنصافاً لكلّ من يدّعي بأنّه كان ضحيّة للتعذيب والحرمان من الحريّة بدون وجه حق والانتهاكات الجنسيّة وغيرها من الانتهاكات لحقوق الإنسان المدّعى بارتكابها من قبل المذكورَين. وإنّ انشقاق المتهَمَين هو موقف إنساني يُحترم لكن هذا لا يعني أن نلزم الضحايا بالتنازل عن حقوقهم التي يدّعون بها ولا سيما أنّ تلك الحقوق تبنى على أساس الانتهاكات المروّعة لحقوق الإنسان والتي يمكن أن تصنّف كجرائم ضدّ الإنسانيّة، والمعارض لمثل هذه المحاكمات يرى بأنّ الوقت لم يحن بعد لمثل هذه المحاكمات، بحجّة أنّها ستعزّز من موقف النظام السوري وسيظهر أمام مؤيديه بأنّه كان على حقّ وبأنّه قادر على حماية من وقفوا معه واستمروا في الانتهاكات بحق الشعب السوري المنكوب الذي “أجرم” حينما طالب بالحرية والكرامة، وبأنّ كل من خرج من حظيرة الطاعة والذلّ سيكون عرضة للملاحقة والتشفّي من قبل إخوتهم “الثوار”.
والحقيقة أنّ لكل طرف حججه ومبرراته، وكل منهم يحاول شدّ اللحاف لطرفه ولو كان ذلك على حساب المنطق السليم، وكان من الممكن تجاوز كل هذا السجال والجدال لو سارت الأمور بمنحاها الطبيعي دون تهويل من هذا الطرف أو ذاك، ونقصد بمنحاها الطبيعي هو أنّه كان من المفترض أن يُنظر للأمر على أنّه عبارة عن محاكمة لأشخاص كانوا بموقع المسؤوليّة في فترة ما من عمر الثورة، ولا يهمّ من الناحية الجزائيّة طول المدة أو قصرها، متّهمين من قبل بعض السوريين بأنّهم قد ارتكبوا الانتهاكات بحقّهم خلال فترة اعتقالهم، وبناء عليه قامت النيابة العامة في المحكمة الألمانيّة بتحريك الدعوى العامة بحقّهم، وعلى طرفي الدعوى، المدّعين والمتهمين، تقديم أدلتهم ودفوعهم، ومن ثم ستنظر فيها المحكمة وتصدر قرارها وفقاً لتلك الأدلّة والدفوع ووفقاً لدرجة اقتناعها بها.
فمن غير المعقول أن نجاري الفريق المعارض لهذه المحاكمة بالقول بأنّ انشقاق المتهَمَين في فترة مبكرة من عمر الثورة يعفيهم من المساءلة القانونيّة، سيما وأنّ الجرائم المسندة إليهما، قد تصنّف في خانة الجرائم ضدّ الإنسانيّة، وهي جرائم تتحدّى الحصانة وفقاً لنظام روما للمحكمة الجنائيّة الدوليّة لعام 1998، بمعنى أنّه لا يمكن لأيّ شخص كان، ومهما كان موقعه الوظيفي أن يتملّص من المحاسبة والعقاب إن توفرت الأدلة الكافية بحقّه أمام المحكمة الناظرة في الدعوى، وبالتالي فإنّ ترك هؤلاء المتهَمَين للنظام السوري وتخليهما عن وظائفهما ومكاسبهما التي كانا يتمتعان بها لا يمكن أن يعفيهما من المسؤوليّة بخصوص الادّعاءات التي وجهت إليهما. في حال صحّة الادّعاء وإثباته.
ثم إنّ المثول أمام المحكمة ليس عاراً أو فضيحة كما يتخيّله البعض، فلكلّ شخص الحق بالادعاء على خصمه أمام المحكمة، ويقع عبء الإثبات على الطرف المدّعي ومن حقّ الطرف المتّهم إنكار تلك الادعاءات ودحضها، وفي حال عدم ثبوت الادعاء ستحكم المحكمة قطعاً ببراءته من الجرم المسند إليه، إذ ليس كل من قُدِّمَ للمحاكمة هو مجرم، وفقاً للقاعدة القانونية المعروفة التي تقول بأنّ كل متهم بريء ما لم تثبت إدانته بحكم بات مكتسب الدرجة القطعية.
كما إنّ القول بأنّ هذه المحاكمة ستعزّز موقف النظام السوري أمام مؤيديه كما ذكرنا سابقاً، فهو برأينا يجانب الصواب، بل على العكس من ذلك تماماً، إذ إنّه إذا ثبت أمام المحكمة بأنّ أعمال التعذيب والقتل والإساءات الجنسيّة قد وقعت في فرع الخطيب وهو أحد أشهر الأفرع الأمنيّة للنظام، ويقع في قلب العاصمة دمشق، وذلك بغضّ النظر إذا كانت قد ارتكبت من قبل المتهمين أنفسهم أو من قبل غيرهم، أي بغض النظر عن الحكم ببراءة المتهمين أو إدانتهم.
إنّ ذلك سيشكل صفعة قويّة في وجه النظام، إذ إنّ الأخير لا يزال يتبجّح كعادته بعدم صحة الإدعاءات بارتكاب مثل هذا النوع من الانتهاكات من قبل أفرعه الأمنية والعسكرية والميليشيات الموالية له، بحجة أنّها عبارة عن تقارير تصدر عن منظمات حقوقية أو جهات إعلاميّة مسيَّسة ومدعومة من الخارج، لكن لو تمّ إثبات ذلك بموجب حكم محكمة محايدة ومستقلّة، كالمحكمة الألمانية فسيصبح موقف النظام أضعف بكثير مما كان عليه سابقاً، مع قناعتنا بأنّه لن يتوقف عن سوق الحجج الواهية والأعذار القبيحة التي لن تقنع أحداً.
كما أنّ الطرف الآخر (المؤيد للمحاكمة) قد ذهب بعيداً في تهويل الأمر وكأنّ هذه المحاكمة ستأتي بالزير من البير، إذ ليس دقيقاً بأن هذا الإجراء يعتبر جزءاً من مسار العدالة الانتقالية الذي يرغب كل توّاق للعدالة والحرية في سوريا بالوصول إليها في يوم ما، فالعدالة الانتقاليّة وكما هو واضح من التسمية بأنّها مجموعة الإجراءات التي يفترض تطبيقها في المرحلة الانتقالية، أي مرحلة الانتقال أو التحوّل من فترة نزاع مسلح إلى مرحلة السلم والاستقرار أو الانتقال من نظام قمعي استبدادي إلى نظام ديمقراطي تعددي، ونستشهد هنا بتعريف منظّمة الأمم المتّحدة لمفهوم العدالة الانتقالية حيث عرفتها بأنّها “كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة”.
ونحن في سوريا لم نصل بعد إلى تلك المرحلة التي يمكن فيها وصف تلك الانتهاكات بأنّها أصبحت جزءاً من الماضي، حيث لا يزال حمام الدم جارياً في سوريا، وبالتالي لا يمكننا أن نصف أي إجراء يتم في الوقت الحالي بأنّه جزء من العدالة الانتقالية، مع أنّه من الممكن أن يكون عاملاً مساعداً في تطبيق العدالة الانتقالية مستقبلاً، وقد يوفر على القائمين تطبيق هذا البرنامج شيئاً من الجهد والوقت.
ناهيك عن أنّ العدالة الانتقاليّة لا تقتصر فقط على الآليات القضائية، بل تشمل أيضاً عدّة آليات أخرى كما أشار ذلك التعريف المذكور أعلاه، ومنها مثلاً آليات الإصلاح المؤسساتي لبعض المؤسسات التي كانت مسؤولة عن تلك التجاوزات والانتهاكات، وإن كانت درجة المسؤولية تختلف من مؤسسة لأخرى، وذلك لتفادي تكرار حدوث تلك التجاوزات مستقبلاً، كمؤسسات الجيش والأمن والشرطة والقضاء، وآليات جبر الضرر أي التعويض عن الضرر المادي والمعنوي الذي لحق بالضحايا، مما يعني أنّ هذا المسار طويل وشائك ولا يمكن اختزاله بإجراء يتمّ هنا أو هناك، بل قد تستدعي الظروف التي ترافق هذه العملية الاستغناء عن تطبيق بعض الإجراءات أو تأجيلها أحياناً، وتجارب الدول كثيرة في هذا المجال وليست متشابهة بل الظروف المحيطة بكل تجربة هي التي كانت ترسم المسار في أكثر الأحيان.
قصارى القول، لايمكن لأحد أن يصادر حقّ الضحايا في مقاضاة من يعتقدون بأنّ لهم يد في الانتهاكات التي ارتكبت بحقهم، والقول بأنّ انشقاق هؤلاء وتركهم للنظام في فترة مبكرة يمكن أن يكون شفيعاً لهم بعيد عن المنطق، إذا ثبت ارتكابهم لأفعال تنتهك حقوق الإنسان، فمائة ألف بيان انشقاق قد لا تُنسي الضحايا لحظات التعذيب والأسى المكدَّسة في مخيلتهم، وبالمقابل لا يمكن أن نوهم الضحايا بأنّ مسار العدالة الانتقالية قد بدأ في سوريا، كون هذا المسار يتطلّب الكثير من الشروط التي لم تتحقق بعد للأسف.
ليفانت – رياض علي


—————————————

محاكمة رسلان والغريب: انقلاب على الضباط السوريين المنشقين أم تحقيق للعدالة؟/ عمار ياسر حمو

سنوات من العمل الحقوقي وتوثيق جرائم الحرب في سوريا، أثمرت أخيراً بدء أول محاكمة علنية للضابط أنور رسلان، رئيس قسم التحقيق في “فرع الخطيب” التابع لأمن الدولة في مدينة دمشق، وزميله إياد الغريب. وقد مثلت المحاكمة التي بدأت في 23 و24 نيسان/أبريل الماضي، بمدينة كوبلنز الألمانية، تحولاً في الملف السوري “من تحقيقات نظرية إلى خطوات عملياتية. [عدا عن أنها] قد تشجع باقي دول الاتحاد الأوروبي على اتخاذ خطوات إيجابية في هذا السياق”، كما قال لـ “سوريا على طول” المحامي في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، المعتصم الكيلاني الذي كان حاضراً في المحكمة.

حتى وقت ليس ببعيد، كان مشهد المحاكمة أقرب إلى الحلم الصعب التحقق؛ إذ تحوّل المحقق إلى متهم موقوف، والضحية إلى شاهد أمام القضاء. لكنه حلم يتحقق ليس من دون صعوبة ومعاناة للضحايا الشهود داخل قاعة المحكمة الإقليمية في كوبلنز، خصوصاً “عند دخول المتهمين، وقراءة لوائح الاتهامات المتضمنة تفاصيل الاعتقال والتعذيب التي تعرضوا لها” كما توضح لـ”سوريا على طول” الحقوقية جمانة سيف، والتي حضرت المحاكمة ضمن فريق المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR)، ومقره برلين. وهو الفريق الذي قدم الادعاء، كما يقدم الدعم القانوني لـ17 ناج وناجية من الاعتقال في فرع الخطيب.

أبعد من رسلان

بعد مرور أكثر من تسع سنوات على اندلاع الثورة السورية، قتل خلالها حتى آذار/مارس الماضي، بحسب أرقام صادرة عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، نحو 14,391 شخصاً تحت التعذيب على يد أطراف النزاع المختلفين، منهم 14,221 على يد النظام، فيما بلغ عدد المعتقلين والمختفين قسرياً نحو 146,825 شخصاً، 129,989 منهم على يد النظام، كانت هناك شكوك حول إمكانية تحقيق العدالة في سوريا.

لكن محاكمة رسلان “رفعت الروح المعنوية لكل المعتقلين الناجين الذين تعرضوا لانتهاكات عديدة خلال فترة اعتقالهم لدى النظام. كما إنها رسالة للمتورطين بأنه لم يعد هناك إمكانية للإفلات من العقاب”، كما قالت لـ”سوريا على طول” المعتقلة السابقة في سجون النظام نور الخطيب، والمسؤولة حالياً عن قسم المعتقلين والمختفين قسرياً في الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

الأمر ذاته عبّرت عنه إحدى الضحايا التي خضعت للتحقيق في فرع الخطيب ثلاث مرات في العامين 2011 و2012. إذ إن “شعور الخوف الذي كان يراودني من كل العاملين في الفروع الأمنية”، كما وصفت لـ”سوريا على طول” طالبة عدم الكشف عن اسمها لدواع أمنية، “تحول إلى شعور أمل وارتياح مع بدء محاسبة المجرمين”.

وبرأي سيف، فإن شعور المعتقلات والمعتقلين “بتحقيق العدالة والاعتراف العلني بما ارتُكب بحقهم من جرائم وانتهاكات قد يساعدهم ويساعد الكثير منهم/ن على التعافي من آثار ذكريات هذه المحنة الفظيعة”. مضيفة أنها أبعد من كونها محاكمة للضابط رسلان، إذ هي “بالدرجة الأولى محاكمة للنظام السوري وأجهزته الأمنية على جرائم قتل وتعذيب اتبعها لقمع الشعب السوري منذ عقود”.

وكان محمد العبد الله، مدير المركز السوري للعدالة والمساءلة، قد تناول في جلسة حوارية بثّها المركز، في 8 أيار/مايو الحالي، حول محاكمة رسلان، أسباب تأخر محاكمة مجرمي الحرب في سوريا، والعقبات التي واجهت المنظمات الحقوقية والناشطين في هذا المجال، إلى أن أجريت أولى جلسات المحاكمة في نيسان/أبريل الماضي. وكما أوضح، فإنه “في حال وجود جرائم ضد الإنسانية أو جرائم إبادة جماعية، [نكون] أمام عدة خيارات، هي: الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية التي تنظر في الجرائم ضد الإنسانية أو الإبادة. لكن المحكمة الجنائية الدولية تحتاج إما موافقة الدولة الطرف، أو أن تكون الدولة الطرف عضواً في المحكمة، أو وجود قرار إحالة من مجلس الأمن”. وأضاف العبد الله أنه كانت هناك محاولة في أيار/مايو 2015 لإحالة ملف سوريا إلى المحكمة الدولية “لكنها اصطدمت بفيتو روسي-صيني”.

الخيار الثاني، كما قال العبد الله، هو إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة شبيهة بالمحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا أو رواندا. وهو ما “يتطلب قراراً من مجلس الأمن وموافقته”، وفي حالة سوريا سيكون “الفيتو الروسي والصيني حاضراً”. أما الخيار الثالث فيتمثل في إنشاء محكمة من دون قرار مجلس الأمن. لكن هذا “يتطلب موافقة الدولة الطرف، أو أن تجبر الدولة الطرف على الموافقة بقرار مجلس الأمن، وفي سوريا لن توافق الحكومة على إنشاء محكمة”.

لذلك، كان البديل أمام المنظمات الحقوقية السورية استخدام ما يعرف بـ”مبدأ الاختصاص القضائي العالمي”، والذي تم بموجبه محاكمة رسلان وزميله الغريب. والاختصاص القضائي العالمي هو إجراء استثنائي للعدالة الجنائية، يمنح الدول سلطة محاكمة مرتكبي جرائم خطرة معينة، حتى لو لم يكن للدول أي صلة بالمتهمين أو الأفعال التي ارتكبوها. ومعظم الدول الأوروبية، بمن في ذلك ألمانيا، تتبنى العمل بهذا المبدأ.

جدل الانتقائية

على الرغم من ذلك، أثارت محاكمة رسلان والغريب، جدلاً في أوساط السوريين، كونهما انشقا عن النظام في العام 2012، إضافة إلى مشاركة رسلان ايضاً في وفد المعارضة السورية إلى مؤتمر “جنيف 2” الذي عقد في كانون الثاني/يناير 2014. وقد ذهب البعض إلى اتهام محاكمة الضابطين السابقين بالانتقائية، كونها لا تشمل جميع المنشقين العسكريين والأمنيين عن النظام.

رداً على ذلك، شددت الناشطة الحقوقية مريم الحلاق، العضو في رابطة عائلات قيصر، التي تأسست في برلين العام 2018 من ذوي ضحايا قتلوا تحت التعذيب في سجون النظام، على أن “الانشقاق لا يجبّ ما قبله، ولن يغسل الدماء التي تلوثت بها أيدي مرتكبي الجرائم”. لافتة في حديثها إلى “سوريا على طول” أن دعواها -وقد كانت من أوائل من رفع دعاوى قضائية ضد رؤساء الفروع الأمنية في سوريا- أسهمت في “إصدار مذكرة توقيف بحق [رئيس إدارة المخابرات الجوية السابق] جميل الحسن”.

في السياق ذاته، قالت سيف إن “المحكمة تنظر في ارتكاب الجرائم كوقائع وأفعال يجرمها القانون ويعاقب عليها، كما تنظر في دور المتهم ومدى مشاركته بارتكابها أو امتناعه عن القيام بفعل لمنع وقوعها”. مبينة أن “الانشقاق موقف سياسي لا ينفي ارتكاب الجرائم أو الاشتراك بها قبل ذلك”. مع ذلك فإن هيئة المحكمة، كما أضافت، “ستنظر في كل الظروف والملابسات، وتأخذ بعين الاعتبار ما يقدمه محامو الدفاع، ومن الوارد أن تنظر إلى الانشقاق كسبب مخفف [للعقوبة]”.

كذلك، يتمتع رسلان، بحسب سيف، بالكثير من الحقوق منذ اعتقاله على يد السلطات الألمانية في شباط/فبراير 2019، من خلال قضاء نزيه “يوفر كل شروط المحاكمة العادلة”. في المقابل، فقد قضى الشاب أيهم غزول، كما أكدت والدته الناشطة الحقوقية مريم الحلاق، تحت التعذيب. مضيفة أنه “عُرض على محكمة القضاء العسكري التي كانت أشبه بمسرحية، وكنا ندرك أن الأحكام ستكون جاهزة “.

الطريق الطويلة

مع أهمية محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب، باعتبارها أول محاكمة علنية لضابطين متهمين بانتهاكات خطرة لحقوق الإنسان في سوريا، تدرك مصادر حقوقية وضحايا تعذيب في سوريا، تحدثوا إلى “سوريا على طول” أن “مشوار محاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا ما يزال طويلاً”.

وتعوّل المنظمات والضحايا على أن هكذا جرائم “لا تسقط بالتقادم ولا بتغيّر الحال”، ويتطلعون إلى خطوات مماثلة للخطوة الألمانية من الأجهزة القضائية الأوروبية الأخرى، كما قال الكيلاني. لافتاً إلى أن المركز السوري للإعلام وحرية التعبير “يعمل على تقديم المعلومات والوثائق التي تدعم ملفات الضحايا ضد المشتبه بهم، إضافة إلى حملات المناصرة لدعم المحاكمات والوقوف إلى جانب الضحايا”. ومتوقعاً مزيداً من “المحاكمات العلنية ضد مرتكبي جرائم ضد الإنسانية في سوريا هذا العام”.

وفي الوقت الذي تؤكد فيه إحدى الضحايا التي تحدثت إلى “سوريا على طول” على إيمانها بأن “الوصول إلى العدالة وتعرية النظام هو حق لجميع السوريين والسوريات، بما في ذلك محاسبة المجرمين”، فإنها تحذر من أن “بعدم تطبيق آليات العدالة الانتقالية في سوريا، وما لم يتم معالجة ملفات المعتقلين والمعتقلات لا يمكن تحقيق العيش المشترك للسوريين”.

——————————-

————————–

استماع للشهود في قضية رسلان..ودحض لمزاعمه بعدم وجود التعذيب

شهدت اليوم مدينة كوبلينز الألمانية انعقاد جلسة استماع جديدة للشهود، في إطار محاكمة العقيد المنشق عن النظام السوري أنور رسلان والمتهم بارتكاب جرائم حرب، قبل مغادرته لعمله كرئيس لمكتب التحقيق، في الفرع 251، والمعروف باسم فرع الخطيب سيئ السمعة.

مراسلة ليفانت نيوز لونا وطفة،  كانت حاضرة في قاعة المحاكمة، ووافتنا بتفاصيل الجلسة، والتي جرى فيها الاستماع إلى اثنين من الشهود، هما سيدتان اطلعتا على مجريات القضية، ويعرفن المدّعى عليه معرفة شخصية.

الشاهدة الأولى هي الشرطية التي حرّرت الضبط، الذي أدلى بموجبه أنو رسلان بمعلومات للشرطة الألمانية حول شكوكه بأنّه مراقب من قبل مخابرات النظام السوري.

ويقع الضبط الذي حرّره رسلان في ثلاثة صفحات، تحدّث فيها عن مواقف تعرّض لها، جعلته يشعر بأنه مراقب من قبل أشخاص سوريين، وسلّم الشرطة صورة للوحة سيارة كانت لديه شكوك بخصوصها.

وأفادت الشرطية بأنها كانت مطلعة على تفاصيل قضية رسلان من خلال المحضر، الذي حرّره لدى الشرطة الألمانية.

الشاهدة الأخرى، بيترا فيكا، كانت تعمل في السفارة السورية لفترة طويلة، وهي تجيد اللغة العربية واللهجة السورية تحديداً بشكل جيد، كما أنّ لديها معرفة بمعظم السوريين في برلين، وهي تعرف المحامي أنور البني معرفة شخصية.

استعان أنور رسلان بالشاهدة عدّة مرات، كانت إحداها عندما ذهب إلى الشرطة لتحرير الضبط المذكور آنفاً، كما أنّها عملت في منظمة سياسية معروفة، وكانت مهمتها هي توثيق الوضع في سوريا وتحليله، ولهذا فهي على دراية كبيرة بالأوضاع في سوريا.

وقالت الشاهدة بأنّها كانت تعلم أنّ رسلان كان يعمل كموظف لدى النظام السوري، وأنّه أطلعها على تفاصيل كثيرة عن حياته السابقة، سواء في سوريا أو في برلين، ولكنها لم تكن تعلم شيئاً عن طبيعة عمله كضابط تحقيق، كما أشارت إلى أنّها تعرف تماماً ما كان يجري في أقبية المخابرات والانتهاكات التي تمارسها هذه الأجهزة، ولكنها لم تكن على معرفة بعمله السابق كضابطٍ للمخابرات لدى النظام السوري.

كما أشارت إلى أنّ رسلان حدّثها عن الضغوطات التي تعرّض لها في عمله، بعد مجزرة الحولة، كون بلدة الحولة هي مسقط رأسه، وأنّه كان ثمة شكوك لدى النظام باحتمال انشقاقه، سيما وأنّ النظام كان بأسوأ حالاته في تلك الآونة، وفق ما أدلت به الشاهدة.

إلى ذلك، قالت الشاهدة أنّها لا تستطيع تأكيد معلوماته أو نفيها، ولكن رسلان طلب منها عدة خدمات، من بينها مساعدته بإحضار ابنته من تركيا، وحين شرحت له أن الموضوع مستحيل، نظراً لتجاوز ابنته سن 18 عاماً، عرضت زوجة رسلان عليها الرّشوة مقابل إتمام الأمر، وهو ما أثار استياءها، بالإضافة إلى إلحاحه المتواصل على هذا المطلب.

انتهى عمل الشاهدة في هذه المؤسسة عام 2016، وأسست بعدها منظمة معروفة من قبل كل السوريين، بسبب علاقاتها المتينة معهم.

أعقب جلسة الاستماع للشهود، أسئلة المحامين وأسئلة الادّعاء، ولدى سؤالها عن دور المخابرات في سوريا، فأكّدت على الدور الكبير للمخابرات، وعلى وجود أساليب التعذيب في سوريا قبل عام 2011، وتحدّثت عن بعض الأساليب كالضرب حتى الموت والكرسي الألماني.

كذلك وجّه سؤال للشاهدة من قبل محامي المتّهم حول التواجد السني والعلوي في سوريا، في محاولة لتبرئته، واعتباره ضحية للاضطهاد كغيره من أبناء الطائفة السنية، وأنّ أتباع الطائفة العلوية هم أصحاب القرار، ولكنها أجابت بأنّه لدى تأسيس النظام من قبل الأسد الأب كان دور أبناء الطائفة العلوية كبيراً بالتأكيد، ولكنّها نفت أن تكون هناك فروقات شاسعة، واعتبرت أنه على الرغم من كون أتباع الطائفة السنية مراقبون بشكل أكبر غير أنّ هذه الفروقات لم تكن عامل ضغط عليهم، في السابق.

وكانت قد عقدت جلسة سابقة يوم أمس نفى خلالها أنور رسلان قيامه بالتعذيب للمعتقلين، بل إنّه نفى أن يكون هناك تعذيب أساساً في الفرع 251، وادّعى بعدم معرفته بوجود أساليب تعذيب كشبح للمعتقلين، واعتبر إلى أنّ السبب يعود لكون سقف مبنى الفرع عالياً، حسب قوله.

كما قال أنه لم تكن توجد لديهم سلاسل ولا أدوات لتعذيب المعتقلين، وكل ما يذكر حول أن المعتقلين تعرضوا للتعذيب بالفرع هو كذب وافتراء، وأفاد كذلك بأن الفرع 251 قبل 2011 كان كمدرسة جميلة للتثقيف لا يمارس فيه أي تعذيب أو ضغط أو ترهيب.

واعتبر المحامي أنور البني أنّ رسلان بإفادته هذه، لا يدافع عن نفسه وإنما يدافع ويبيّض صفحة النظام كله، وينفي أن يكون هناك أي تعذيب يقوم به النظام، وأنّ القائمين على هذا النظام أشخاص جيدون لا يعذبون المواطنين ولا المعتقلين، ورمى بالمسؤولية عن أي عملية تعذيب إن حصلت على محمد ديب زيتونة مدير إدارة أمن الدولة بعام 2012،  وعلى مملوك، وحمّل المسؤولية كذلك لحافظ مخلوف رئيس القسم 40، وتوفيق يونس رئيس الفرع 251، ولعبد المنعم نعسان نائب رئيس الفرع 251.

فيما قال المحامي ميشيل شمّاس: “لقد شاهدت بأم عيني ومنذ أذار 2011 أثار التعذيب على معتقلين خرجوا من فرع الخطيب. فمن عذّب هؤلاء المعتقلين ياترى؟ ألم يكونوا محتجزين في فرع الخطيب؟ أم أن رسلان يرى ان المعتقلين قد عذبوا بعضهم ليلصقوا التهمة بالأمن زوراً وبتهتاناً!

فكما لا يمكن للغربال ان يحجب الشمس، فلا تصريحات بشار الأسد، ولا إنكار المتهم أنور رسلان أن يغطي على عمليات التعذيب والقتل تحت التعذيب في كل فروع الأمن بما فيها فرع الخطيب”.

وتجدر الإشارة إلى أن المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا “جيمس جيفري”، كان قد قال في وقت سابق أنّ “الإدارة الأميركية ستبدأ في حزيران/ يونيو المقبل، باستخدام قانون قيصر الذي يخوّلها ملاحقة عدد كبير من المجرمين يقدمون المساعدة للنظام السوري لقمع شعبه” وقال “نعتزم استخدام هذا القانون بقوة ضد الحكومة السورية وضد أولئك الذين يدعمونها”.

—————————

————————————-

محاكمة أنور رسلان:ادعاء القداسة لا يلغي جرائم التعذيب

لعل الحادثة الأكثر طرافة لكنها الأكثر دلالة على ركاكة وضعف حجة دفاع العقيد السوري المنشق أنور رسلان، الذي يحاكم في ألمانيا بتهم قتل وتعذيب معتقلين ومعارضين، قوله لدى سؤاله عن أساليب التعذيب التي مورست في فرع “الخطيب” الأمني في دمشق، وتحديداً أسلوب الشبح، وهو تعليق المعارضين من أيديهم بجنازير معلقة بالسقف دون أن تطأ أقدامهم الأرض، إن السقف في الفرع كان عالياً بحيث لا تصل الجنازير إليه.

أنور رسلان الذي كان رئيس فرع تحقيق، وفرّ من سوريا عام 2012، قدم في رده على التهم الموجهة إليه أمام المحكمة الإقليمية العليا-مدينة كوبلنتس، في ألمانيا، ادعاءات غير قابلة للتصديق. لم يحاول تبرير التعذيب الذي حصل، ولم يدعي أنه كان مجبراً على سبيل المثال، كما لم ينكر فقط أنه مارس التعذيب، بل أنكر حصول التعذيب من أساسه في فرع “الخطيب”.

وقال رسلان في إفادته التي قرأها محاميه على مدى ساعتين، إنه “لم يتصرف يوماً بلا إنسانية”، ولم يعذب سجناء بل “ساعد في تحرير معتقلين كثر” كانوا قد أوقفوا خلال مشاركتهم في المظاهرات ضد النظام السوري في 2011، علماً أن المحكمة تتهمه بالإشراف على قتل 58 معتقلاً وتعذيب أربعة آلاف آخرين في فرع “الخطيب” سيء الصيت.

لا يمكن التصديق أن عقيداً في المخابرات يرأس فرع تحقيق لم يمارس التعذيب. ويصف محمد العبد الله رئيس المركز السوري للمساءلة والعدالة، الذي يراقب مجريات المحاكمة، ادعاءات رسلان بأنها “غير مقنعة وغير مقبول ولا يقدم معلومات حقيقية عما كان يحصل”.

وأضاف في حديث ل”المدن”، أن “أنور رسلان رئيس فرع تحقيق وجميع فروع الأمن السوري على الإطلاق يُمارس فيها التعذيب بطريقة منهجية، وهذه الممارسة هي جزء متأصل من زيارة أي معتقل لفروع الأمن”. وتابع أن “قوله أنه لم يعطِ أوامر بالتعذيب، فهذا الأمر ليس بحاجة إلى أوامر حرفية من رئيس الفرع، بمجرد أن يعتقل شخص يتم التحقيق معه حيث يتعرض للتعذيب والقسوة”.

وقال: “العكس يحصل. عندما لا يريدون تعذيب أحد يعطون أوامر بمعاملة معتقل معين بشكل جيد. أما الممارسة المتعارف عليها فهي التعرض لمستويات مختلفة من العنف والتعذيب، طبعاً بعد 2011 أصبحت أكثر قسوة بما لا يقاس”.

ادعاء القداسة سرعان ما ناقضه رسلان عندما تحدثّ عن أن أوامر التعذيب كانت تمر عبر ضباط أعلى رتبة. وحمّل المسؤولية الجنائية الكاملة لمدير إدارة أمن الدولة في دمشق عام 2012، محمد ديب زيتون، عن عمليات التعذيب داخل فرع “الخطيب”، وكذلك للواء علي مملوك، وهو نائب رئيس النظام السوري للشؤون الأمنية.

كما حمّل مسؤولية التعذيب لرئيس القسم الأمني “رقم 40″، حافظ مخلوف، ابن خال رئيس النظام بشار الأسد، ورئيس فرع “الخطيب”، توفيق يونس، ولنائب رئيس الفرع، عبد المنعم نعسان.

وقال رسلان في إفادته إنه شارك مع المعارضة السورية في مؤتمر جنيف الذي كان ضد النظام السوري، وقدم مساعدة تقنية لها عبر المعلومات التي يمتلكها. وأضاف أنه يريد سوريا “ديموقراطية متنوعة خالية من الدكتاتورية والطائفية”.

ويرى العبد الله أن محاكمة أنور رسلان ممكن أن تفتح الطريق، في حال إدانته وإدانة الضباط الذين أورد أسماءهم، لإصدار لوائح اتهامية بحق هؤلاء الضباط قد تتحول في ما بعد إلى مذكرات شبيهة بمذكرات اعتقال علي المملوك وجميل الحسن”.

واعتبر أن للمحاكمة “مفاعيل ايجابية أنها تفضح أكثر الممارسات المنهجية داخل سجون الأسد، وتسبب ضغطاً أكبر على النظام، لكن من الصعب أن يتم المطالبة بتسليم الضباط، حتى لو جرى تعميم المذكرات على الإنتربول، كما حصل عندما كان جميل الحسن يُعالج في لبنان وطالبت ألمانيا بتسليم، ولم يحصل”.

المدن

————————————

———————————

إنكار التعذيب هو دفاع عن نظام الأسد/ ميشال شماس

الدفاع الذي قدّمه “أنور رسلان” المتهم بجرائم تعذيب وقتل تحت التعذيب وعنف جنسيًا أمام المحكمة الألمانية الإقليمية في مدينة “كوبلنز” في جلسة المحاكمة التي جرت الاثنين الماضي 18/5/2020، بدا وكأنه دفاعًا عن المنظومة الأمنية للنظام السوري أكثر مما هو دفاعاً عنه، فمجرد إنكاره ممارسة التعذيب في فرع الخطيب كان كافياً ليفهم المتلقي أنه لم ينشق عن نظام الأسد.

لقد كان متوقعاً ومفهوماً أن ينفي المتهم “رسلان” التهم الموجهة له، كنت شخصياً أتوقع أن يحاول في دفاعه تبرير التعذيب الذي حصل، وأن يدعي مثل “أنني كنت انفذ الأوامر”، إلا أن توقعاتي لم تكن صائبة، وفوجئت أن تصل الأمور به – وهو يرتدي عباءة المعارضة- إلى حد نفي أي وجود للتعذيب باعتبارهاً في فرع الخطيب، بذريعة أنه لم يعلم بحدوثه ولم تصله صرخات المعتقلين في زنازين الفرع تحت الأرض، وأنكر يحدث اية عمليات تشبيح للمعتقلين وتعليقهم في سقف غرف التحقيق بذريعة أن سقوف الفرع عالية، مضيفاً أنها عدم وجود أية أدوات لتعذيب المعتقلين كالسلاسل والجنازير في الفرع “، متهم ً الضحايا بالكذب والافتراء مؤكدة أنهم لم يتعرضوا لأي تعذيب، وحاول في الدفاع عن رمي تهمة تعذيب المعتقلين على فروع أمنية أخرى وعلى ضباط آخرين كمحمد ديب زيتونة المدير السابق لإدارة أمن وتوفيق يونس رئيس الفرع 251 ولنائبه عبد المنعم نعسان ولحافظ مخلوف الذي كان رئيساً لفرع الأربعين في الطلياني.

واختتم المتهم “أنور رسلان” دفاعه المؤلف من حوالي خمسة وأربعين صفحة بالتأكيد على أنه حاول المساعدة في إطلاق سراح أكبر عدد ممكن من المعتقلين في فرع الخطيب، كما أنه ساعد الكثير من المعتقلين أثناء فترة اعتقالهم من بينهم شخصيات في المعارضة، وأنه قِدمَ إلى ألمانيا كشاهد وليس كمتهم. وتمنى في نهاية دفاعه “الحرية لجميع السوريين من الديكتاتور الذي يحكمهم”.

ما أن تسرّب دفاع المتهم “أنور رسلان” خارج المحكمة، حتى أن التعليقات الساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي، المعارض عدنان الدبس الذي كان له صولات وجولات من الاعتراض في فروع الأمن كتب على صفحته: “تعزيزاً لشهادة أنور رسلان معتقلي الفرع ٢٥١ كانوا يموتوا من الضحك أثناء التحقيق “.

بينما كتبت إحدى الناشطات: “أي الضحك تسبب في توقف عمل مضخة القلب وسبب شلل في الحوض والأطراف الأربعة.

وكتب آخر: “بتذكر علقوني بفرع الامن العسكري بحلب قبل ما يجيبو العشا من كتر ما اضحكت، صحيت تاني يوم ع الفطور مرمي على الارض وراسي مشقوق”.

المحامي أدوار حشوة علّق بالقول: لا يوجد فرع ولا سجن. إلا وفيه تعذيب، وأنا اقتادوني إلى سجن البولوني في حمص عام ١٩٦٣ وأودعوني الزنزانة، وقبل أي تحقيق استدعيت لحفلة تعذيب أودعت بعدها الزنزانة ولم يتم سؤالي عن أي شيء”.

المحامي أنور البني أحد الشهود في هذه القضية علق بدوره قائلاً: “أنّ رسلان بإفادته هذه، لا يدافع عن نفسه أنه يدافع ويبيّض صفحة النظام كله، وينفي أن يكون هناك أي تعذيب يقوم به النظام، وأنّ القائمين على هذا النظام أشخاص جيدون لا يعذبون المواطنين ولا المعتقلين.. وفرع الخطيب كان كمدرسة جميلة للتثقيف لا يمارس فيه أي تعذيب أو ضغط أو ترهيب!!”.

محامي الضحايا “باتريك كروكر” استهجن دفاع المتهم “رسلان” ووصفه بأنه: “كان إنكاراً شاملاً لكل ما جاء بلائحة الاتهام على الرغم من أنها كانت مفصّلة.

لقد أعاد الشهادة لديك مراراً وتكراراً دون أي تغيير ، ووصف الاعتقال الذي يمارسه المخابرات السورية وكأنه يحق رسمي “أي يتم بطريقة قانونية بمذكرة استدعاء وشهود وتحقيق قانوني” لكن شهادته مقابل الصورة المعروفة والمدعومة بشهادة خبراء تؤدي إلى الاستنتاج بأنه لم يقدم توضيحاً كافياً على الإطلاق “.

قصص يومية عن التعذيب عايشتها بنفسي من خلال دفاعي عن آلاف المعتقلين على مدى خمس سنوات، فقد شاهدت بأم عيني وكان أذار 2011 آثار التعذيب على معتقلين خرجوا من فرع الخطيب. فمن عذّب هؤلاء المعتقلين يا ترى؟ ألم يكونوا محتجزين في فرع الخطيب؟ أم أن رسلان يرى أن المعتقلين قد عذبوا بعضهم ليلصقوا التهمة بالأمن زوراً وبهتاناً، ولا زلت أذكر أن محامياً تلك في العام 2012 من قبل عناصر من فرع الخطيب أفرج عنه بعد 26 يوماً. وأنت أول شخص يزوره في نظارة القصر العدلي بدمشق، وقد كان من البكاء عندما رآني أمامه، لم أسأله عن أي شيء، بل طمأنته أنه سيخرج بعد قليل، عندما زرته بعد أسبوع في منزله كان لا يزال تحت تأثير الاعتقال، لقد أبكاني من هول ما سمعت منه عن حالات موت من التعذيب لأكثر من 28 معتقلاً عايشها في الزنزانة التي كان محتجزاً على مدى ستة وعشرين يوماً من الاعتقال.

فالتعذيب في أقبية أجهزة الأمن السوري يعرفه القاضي والداني، حيث كان يُمارس بطريقة منهجية، ما الذي يدخل المعتقل إلى الفرع حتى تبدأ حفلة استقبال بالتعذيب دون الحاجة إلى أوامر، لأن هذا السلوك بات متأصلاً ويمارس تلقائيًا وأصبح قاعدة متعارف عليها في فروع الأمن، وعلى العكس من ذلك فإن عدم ممارسة التعذيب يحتاج إلى أوامر مسبقة من رئيس فرع التحقيق أو رئيس الفرع لمن لا يريدون تعذيبه عزيزة. ومن هنا يمكننا أن نفهم قول رسلان أنه لم يعط أوامر بالتعذيب، لكنه في المقابل لم يقل أنه أعطى أوامر بعدم التعذيب.

ظن المتهم “أنور رسلان” أنه بارتدائه عباءة المعارضة، ستحميه من الملاحقة مستقبلاً، ولم يدرك أن هذه العباءة لا تختلف عن الغربال، فهي مليئة بالثقوب لم ولن تستطع حجب الأدلة الكثيرة التي أصبحت بحوزة المحكمة، أدلة لا يمكن تكذيبها وفي مقدمها شهادات عدد كبير من الضحايا ممن يحتجزوا وعذبوا خلال الفترة التي كان فيها المتهم “رسلان” مسؤولاً عن قسم التحقيق في فرع الخطيب، وكذلك صور الملفات قيصر وكذلك وثائق مقدمة من الشبكة السورية لحقوق الإنسان والمركز الدولي للمؤسسات والعدالة، جميعها تشير بشكل واضح إلى تورطه في تعذيب المعتقلين وقتلهم تحت التعذيب.

لقد فوّت ” المتهم “أنور رسلان” فرصة كانت سانحة أمامه عندما تقدم بدفاعه أمام المحكمة ألا يكتفي بإعلان انشقاقه لفظياً عن المنظومة الأمنية لنظام الأسد، بل أن يقرنه بالفعل بأن يقدم للمحكمة كل ما لديه من معلومات خلال عمله كرئيس لفرع التحقيق في فرع الخطيب وأن يوضح للمحكمة الطرق والأساليب المتبعة في تعذيب المعتقلين وحجم التعذيب وأعداد القتلى، وأن يقدم اعتذاراً علنياً للضحايا عم لحقهم من أذى جسدي ومعنوي من جراء التعذيب الذي تعرضوا في فرع الخطيب.

وبدل أن يسعى “رسلان” لنيل عفو الضحايا عنه، اختار السير في الاتجاه المعاكس، وأصرّ على إنكار ممارسة التعذيب والقتل تحت التعذيب في فرع الخطيب، وبهذا يكون قد قدّم دليلاً واضحاً على عدم انشقاقه عن المنظومة الأمنية لنظام الأسد.

بروكار برس

———————————–

=======================

======================

تحديث 24 أيار 2020

—————————-

نحن وسوريا كلها.. والعدالة الألمانية/ يوسف بزي

إذا نشأ شاب في بيئة عشائرية، ضعيف التعليم، فإنه سيرى في عادات “الثأر”، مثلاً، أمراً بديهياً من طبيعة الحياة ونواميسها، ولا فكاك منها. إن قيل له أن هذا الفعل جريمة تستوجب العقاب، فستجتاحه صدمة مباغتة وسيرفض هكذا قول جملة وتفصيلاً، لا لتبرئة نفسه وحسب بل لحماية تاريخ أجداده كلهم ودفاعاً عن “هويته” ومنظومته الأخلاقية برمتها.

ثمة أجيال عاشت تحت سلطان استبدادي مديد، متناسل أصلاً من تاريخ عريض لنمط من السلطة الاستئثارية، رسخت في أذهان الجماعات المحكومة تصوراً عن “السياسة” والحكم يجعل السلطة الغاشمة والمخيفة والقامعة والمتجبرة أمراً متعالياً وقدراً محتوماً، وطبيعة ثابتة هي من بديهيات الحياة التي لا تتبدل. ثمة دوماً “أمر” يقابله الطاعة. هذه هي سنّة الحياة ومصائرها. وعلى هذه القناعة الموروثة، عاشت شعوب وفق أخلاقيات ونواميس الخضوع والتسليم والطاعة. فإن قيل لها إن ذلك ظلم وحال غير طبيعي، فستصيبها صدمة تشبه تلك التي أشرنا إليها في مثال ابن العشيرة.

قبل زمن غير بعيد، كان يؤخذ “التعذيب” في المعتقلات وكأنه رد فعل “طبيعي” تقوم به السلطة تجاه متمردين خطيرين. كان العنف اليومي، اللفظي والجسدي بين الناس وفي داخل المنازل نفسها وفي المدارس أو المخافر أو أي مكان عمومي.. يؤخذ بوصفه من بديهيات السلوك البشري بل والمبرر أخلاقياً!

إن نفوري من المسلسلات التلفزيونية العربية (أو حتى المدبلجة) وعدم قدرتي طوال حياتي على مشاهدتها، يعود في جزء منه، إلى فائض العنف اللفظي فيها، إلى احتفائها بالقسوة وإلى تصويرها الحياة اليومية والقصص مفعمة بالكآبة والمآسي والشراسة والفظاظة والتعاسة، بوصفها كلها أمراً بديهياً وطبيعياً.. وهي التي تنظم علاقة البشر في كل دقيقة.

في اللحظات التي ألمحها بين الحين والآخر في تلك المسلسلات، يستوقفني خصوصاً كيف يُنتهك المجال الطبيعي، أو المسافة اللائقة بين شخصين يتقابلان وأنفاهما على وشك التلامس. أو الألفاظ التحقيرية المتبادلة أو الصفعات التي تتلقاها النسوة.. والأسوأ أن علاقات الناس كلها هي عبارة عن مكائد متتالية. الحياة برمتها في تلك المسلسلات عبارة عن كابوس مريع بلا نهاية. أما الأخلاق التي تنظم معظم السيناريوات فهي تقريباً مشابهة لأخلاقيات ونواميس الخضوع والتسليم والطاعة، في نظرة الناس إلى معنى السلطة والتراتبية الاجتماعية والسياسية.

ما يستوجب القول هنا، أن مساكنة الشر، أكان العيش على نمط الثارات، أو تحت نير السلطة الغاشمة، أو القبول بالعنف والتعذيب قانوناً وشريعة بين الحاكم والمحكوم، بين كل قوي وضعيف، أو الاحتفاء بكابوسية العيش في “الفن” التلفزيوني العمومي.. هي مساكنة مديدة وراسخة في “ثقافة” الجماعات والأفراد عندنا، على نحو استعصى فيها توطين أخلاق مغايرة، أو تعميم معنى مختلف لمفهوم العدالة.

يمكن اختصار كل ذلك بهيمنة “القسوة” كمرجعية أولى في أخلاق الشر المهيمنة على مجتمعاتنا. هي مرجعية في السياسة (وفي تعريف السلطة)، وفي علاقات البشر بين بعضهم البعض.

تقدم لنا المحاكمة الألمانية  للعقيد السوري في المخابرات، “المنشق” أنور رسلان، فرصة نادرة لنفهم ما أسميته “الصدمة” الأخلاقية. إن مرافعته للدفاع عن نفسه، أظهرت دهشته وحيرته إلى حد إنكاره وجود تعذيب أصلاً في مقر المخابرات السورية. إنه يشعر بنوع جديد غير مألوف عنده من “الشعور بالذنب” تجاه ممارسته التعذيب والقتل، كان يعتبرهما حين كان في سوريا وعاملاً في جهاز المخابرات جزءاً من “وظيفته” اليومية!

حساسية المحكمة هذه أنها “ألمانية”، لما تحمله من صدى في أعماق الوجدان الألماني، يسترجع كما يستأنف مسار الوعي الألماني وأخلاقيته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي محاكمة الشر السياسي، وأيديولوجيا القسوة التي قادت بها النازية ألمانيا نحو اقتراف ما سيُكرس في القانون الدولي بوصفه “جرائم ضد الإنسانية”: قتل المدنيين عمداً، التعذيب الممنهج، السخرة، التمييز العنصري، وصولاً إلى الإبادة المنظمة والواسعة النطاق.

من محاكمات نورمبرغ (1945- 1946)، ابتدأت ألمانيا مسار التكفير عن الذنب القومي، مسار التطهر من العار النازي، وتحويل ذلك إلى ضمير دائم، وسياسة مستمرة وواجباً أخلاقياً. ولذا، فمحاكمة رسلان هي “حاجة” ألمانية بقدر ما هي مطلب الضحايا السوريين أنفسهم.

و”الصدمة” التي أصابت رسلان، والكثيرين من السوريين المعارضين ناهيك عن الموالين، ذاك الظن الذي لديهم أن “الانشقاق” يطوي ما قبله ويمحوه، ويمنحه الغفران والمسامحة والبراءة. واستنكار محاكمته “بعد توبته”، إنما مرجعه الظن أن المحاكمة ثأر أو مجرد قصاص. في حين أنها أولاً “البحث عن الحقيقة” وتدوينها، وبقدر اهتمامها بالمتهم تهتم أكثر بالضحايا، لمنحهم “الخاتمة” والإنصاف، ولمنح الناس أجمعين ذاك الحس بالعدالة.

ليست هي محاكمة لشخص رسلان وحسب، إنما هي لآلاف الضباط والعسكريين والقادة الذين كانوا على منواله، “موظفين” يؤدون عملهم اليومي ويتدبرون أخلاقهم وضمائرهم بذريعة وحيدة في التعذيب كما في القتل وفي كل شر وقسوة مارسوها: “إنما أنا أنفذ الأوامر”. ذريعة للتحلي بالبراءة!

إن جزءاً مهماً في أسباب انحطاط أحوال مجتمعاتنا ودولنا، واستعصاء “الطمأنينة” بل وشعورنا اليومي بالظلم واليأس، مرده إلى عجزنا عن إقامة هكذا محكمة ألمانية عندنا. لقد فاتت على الشعوب العربية فرص تاريخية للمراجعة والمحاسبة ولتدوين الحقيقة وإنجاز أي إنصاف. المهزلة التي أحاطت بمحاكمة صدام حسين، وقد تحولت إلى عملية ثأرية مفعمة بالانتقام الطائفي، حرمت العراقيين من مثال حقوقي وسياسي وأخلاقي كان يمكن البناء عليه لعراق مختلف. لكن “حفلة الإعدام” التي طغت عليها الغرائز، كانت أشبه بتكرار لواحدة من جرائم نظام صدام حسين نفسه. غرائز سرعان ما باتت هي نفسها متحكمة بحال العراق حتى اليوم، وبدلاً من صدام حسين واحد.. سنرى آلاف الصداميين يتحكمون بالعراق. والأمر نفسه تكرر مع الديكتاتور السادي معمر القذافي. واستمر القتل في ليبيا على منوال سلوك القذافي وأخلاقه.

المهزلة التي أحاطت محاكمات حسني مبارك، هي التي أتاحت لنظامه أن يتجدد وليقترف مهزلة أفدح وأقسى مع محاكمة محمد مرسي. ضاعت الثورة المصرية في لحظة حرمانها من محاكمة النظام، ومحاكمة تاريخ السلطة.. لقد تمت مصادرة الحقيقة وطمسها.

حتى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي أنشأتها الأمم المتحدة “كي ينتهي زمن الإفلات من العقاب”، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، اضطرت أن تتنازل في نهاية المطاف عن طموحها في الحقيقة والعدالة، وتحصر مهمتها بمحاكمة أفراد على المعنى الجنائي.. فقط تحاشياً لـ”حرب أهلية”!

محاكمة رسلان وأمثاله، إنما هي محاكمة لأنفسنا، لـ”ذنبنا القومي” ولعارنا السياسي المديد ولشرور نظامنا الأخلاقي. هي تعويض رمزي أو علامة لمستقبل مأمول، في تنصيب محكمة “نورمبرغ” جديدة في سوريا نفسها.

تلفزيون سوريا

—————————

أنفي كل التهم الموجّهة إلي”… آخر مستجدات محاكمة العقيد السوري السابق أنور رسلان في ألمانيا/ نورا المقداد بورجار

نفى العقيد المنشق عن الجيش السوري، أنور رسلان، الاثنين، 18 أيار/ مايو الجاري، كل التهم الموجهة إليه، في بيان ألقاه أمام المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز الألمانية، وحاول فيه التقليل من دوره بالادعاء أنه أطاع الأوامر فقط، وأن القسم 40، بقيادة حافظ مخلوف، هو مَن مارس السلطة الفعلية في سجن فرع الخطيب. هذه الدفوع شائعة في مثل هذه المحاكمات بحسب وولفغانغ كاليك، الأمين العام للمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR.

وقد بدأت محاكمة أنور رسلان في 23 نيسان/ أبريل الماضي في ألمانيا، وتتهمه المحكمة بـ58 جريمة قتل، بالإضافة الى تعذيب أربعة آلاف شخص في قسم 251 المعروف بـ”فرع الخطيب”، وهي أول محاكمة بشأن عمليات تعذيب في العالم لعناصر من النظام السوري.

ولم يكتف أنور رسلان فقط بنفي كل التهم الموجهة إليه، من تعذيب وقتل مئات الأشخاص في فرع الخطيب، المسؤول عن أمن مدينة دمشق والمناطق المحيطة بها، وإلقاء اللوم كله على رؤسائه، بل ادعى فوق ذلك أنه كان يقوم بمساعدة المعتقلين مخاطراً بنفسه وموقعه، حتى تمت تنحيته عن مسؤولياته كرئيس لفرع التحقيق في القسم 251، قبل فراره من سوريا عام 2012.

ادعى أنور رسلان البراءة في بيان من 30 صفحة، ردّ فيه على التهم الموجهة إليه، وتلاه محامياه بالتناوب أمام المحكمة في كوبلنز، وسط دهشة وتململ الحضور، من ضحايا ومدعين وشهود ومحامين وصحافيين، إذ قام رسلان في بيانه بسرد سيرته الذاتية بشكل مفصّل، ونفى مسؤوليته عما كان يحدث في قسم 251، وقرأ المحامون البيان لمدة خمسين دقيقة بدون ذكر كلمة “تعذيب” ولو لمرة واحدة.

قام رسلان برفع كل مسؤولية عن نفسه، متحججاً برؤسائه، وبأنهم جرّّدوه من صلاحياته، مدعياً عدم ثقتهم به لأنه من منطقة الحولة، إذ يقول في بيانه: “في بداية شهر نيسان/ أبريل 2011 استدعاني العميد توفيق يونس إلى مكتبه، وأخبرني بأن أهل منطقتي الحولة تظاهروا يوم الجمعة، وبلغ عدد المتظاهرين الآلاف ووصفهم بالخونة. فهمت من هذا الكلام على أنه تهديد لي ودليل مباشر على التشكيك في ولائي”، وتابع: “منذ هذه اللحظة أصبحت مقتنعاً بأنه يتوجب عليّ الانشقاق”.

إضافة إلى ذلك، ادعى أنور رسلان أنه كان حريصاً على عدم اعتقال أي شخص بشكل تعسفي، وكان يقوم بمساعدة المعتقلين في فرع 251، إذ يقول: “بناء على الاعتقالات التعسفية الكبيرة التي قامت بها قوات الحرس الجمهوري، كنت أبحث دائماً ما إذا كان الموقوفون قد اعتقلوا بناءً على مذكرة اعتقال. بما يتعلق بالأشخاص الذين لم يكن لديهم اسم على لائحة المطلوبين، كنت أبدأ بإصدار ورقة إخلاء سبيل لهم لكي يتمكنوا من الخروج من السجن”.

ويؤكد أنه مُنع من مزاولة مهامه بسبب إطلاقه سراح عدد كبير من السجناء، بعد أن اشتَكَى قادة الحرس الجمهوري، المتمثلون باللواء بديع علي وضباطه، مثل العقيد محمد علي، والعمداء محمد نيوف وطلال مخلوف وعصام زهر الدين ومحمد خضور، في بدايات شهر حزيران/ يونيو 2011، أي بعد شهر ونصف من مشاركتهم في قمع التظاهرات، لرئيس الفرع العميد توفيق يونس، حول موضوع إخلائه سبيل أعداد كبيرة من الموقوفين، “ولأنني من منطقة الحولة وهذا يعد إثباتاً على التشكيك بولائي”، يضيف.

بناء عليه، يدّعي رسلان أن العميد توفيق يونس سحب منه كل الصلاحيات في بدايات شهر حزيران/ يونيو 2011 بشكل مباشر، وأَوكَلَهَا إلى أشخاص آخرين للقيام بمهامه.

ونفى رسلان أن يكون قد عامل أي شخص بدون إنسانية، ولكنه سرعان ما ناقض نفسه، عندما ادعى أن أوامر التعذيب كانت تمر عبر ضباط أعلى رتبة منه.

ويذكر في البيان: “في الوقت الذي كنت أعمل به في مكتبي في الفرع كنت أسمع أيضاً أصواتَ صراخٍ، وعلى الفور أتصل بالسجن لأسأل ماذا يحدث، ويتم إخباري بأن المقدم عبد المنعم النعسان يقوم باستجواب عناصر مسلحة، ويستخدم القوة بذلك وبحضور ضباط من القسم 40. إن ضباط القسم، أي المقدم محمد عبد الله والمقدم خالد الخطيب والنقيب عبد المجيد نبوذة والمقدم يوسف ابراهيم (قُتِلَ لاحقاً في دوما) هم تابعين للعقيد حافظ مخلوف، وكانت لديهم كافة الصلاحيات للقيام باستجواب الموقوفين المعتقلين”.

وقد حمّل المسؤولية الجنائية كاملة عن عمليات التعذيب لمدير إدارة أمن الدولة في دمشق عام 2012، محمد ديب زيتون، وكذلك للواء علي مملوك، وهو نائب الرئيس السوري للشؤون الأمنية، ولرئيس القسم الأمني “رقم 40″، حافظ مخلوف، ورئيس فرع “الخطيب”، توفيق يونس، ولنائب رئيس الفرع، عبد المنعم نعسان. وتعتبر هذه الخطوة، بحسب مراقبين، أسلوب دفاع متوقع في حالات مشابهة، كما جرى في محاكمة المسؤولين عن معسكر الاعتقال “أوشفيتز” في ألمانيا تحت حكم النازية: التنصّل من المسؤولية كاملة ورميها على الرؤساء.

مثال على ذلك، يضيف رسلان في حديثه: “وبما يتعلق بسوء الرعاية الصحية ونقص الغذاء وهي كارثية فهذه مسؤولية رئيس الفرع 251، إضافة إلى الأعداد الهائلة من المعتقلين، وقد اشتكيت له ثلاث مرات من الوضع كاملاً في السجن فطلب مني عدم فتح هذا الموضوع أبداً”.

ويزيد في بيانه: “في سياق الاستجواب لم أقم أبداً بأية إجراءات لها علاقة بالضرب أو التعذيب. وظيفتي كقانوني كانت دائماً تتعلق بواجبي أن أخدم دولة القانون السوري، وضمن هذا الإطار العملي قمت بإجراء استجوابات وبناءً عليها اتخذت قرارات مثل إخلاء السبيل. لم أتصرف أبداً بطريقة غير إنسانية لا قبل آذار/ مارس 2011 ولا بعده. لقد ورد في لائحة الاتهام أنه لم تثبت التحقيقات إقدامي شخصياً على تعذيب أحد ما”.

لكن مشكلة رسلان، بحسب المحامي الذي يمثل الضحايا، أندرياس شولز، هي أنه لا يجب أن يقوم شخص ما بالتعذيب بيده لكي تتم إدانته، فوفق مبدأ الولاية القضائية العالمية على الجرائم ضد الإنسانية والذي تتم المحاكمة بموجبه، يكفي إصدار الأوامر بالتعذيب، أو أن تتم من قبل أشخاص يعملون تحت إمرته من أجل إدانة المتهم.

دعم رسلان للمعارضة السورية في الخارج

يدعي رسلان أنه لطالما تعاطف مع المعارضة في سوريا، ولم يتفق مع ممارسات النظام ولذلك قام بالانشقاق.

وقال في إفادته أمام المحكمة، إنه شارك مع المعارضة السورية في مؤتمر جنيف، وقدم مساعدة تقنية عبر المعلومات التي يمتلكها، وأضاف أنه يريد سوريا “ديموقراطية متنوعة خالية من الدكتاتورية والطائفية”، وأضاف أنه “عندما كنت في تركيا عملت لصالح الائتلاف السوري لمدة تبلغ 4 إلى 5 أشهر، يستطيع جميع الشهود أن يشهدوا كيف كنت أساعدهم وما هو موقفي الحقيقي من الثورة”.

في ختام حديثه، قال رسلان: “بعد أن نفيت الاتهامات الموجهة ضدي أود أن أقول للمحكمة وللشهود المتضررين وعائلاتهم أنني متأسف للوضع في سوريا، كما هو الحال في باقي الدول العربية المجاورة، وأنني أتمنى على أن تنجح المساعي بطرق سلمية للوصول إلى الديمقراطية من دون دكتاتورية أو إرهاب متطرف، وأعبّر عن تعاطفي وأسفي مع جميع المتضررين وعائلاتهم”.

في حديث مع رصيف22، يؤكد المحامي خُبيب علي محمد، أن الأهم في المحاكمة حالياً هو إثبات الجرم على المتهم، فموكلوه من الضحايا يريدون أن يسمع العالم بأهوال ما قاسوه في القسم 251، وأن يعرف المرتكبون بأنهم سيدفعون الثمن ولو بعد أمد طويل. من المهم جداً أيضاً، على حد تعبير خبيب، أن يعرف العالم أن ألمانيا ليست واحة أمان لمجرمي الحرب.

أما عن طريقة إثبات الجرم على المتهم، فيقول المحامي الذي يمثل عدداً من الضحايا، بأن المحكمة ستستند إلى عدد هائل من شهادات الضحايا، بالإضافة الى تقارير مختصين من الاستخبارات.

التعويضات للضحايا

قد يكون من الصعب تصديق أن النظام السوري سيوافق على دفع التعويضات للضحايا في حال ثبوت التهم على أنور رسلان، إذ يمكن مقاضاة النظام فقط في دمشق، لكن المحامي أندرياس شولز، والذي يطالب بتعويضات مالية للضحايا، يقول لرصيف22 إن هناك سبلاً أخرى غير المحاكم المدنية في دمشق، فالتعويضات قد تدفع خارج إطار القضاء، فـ”الدول المارقة” على حد تعبيره، قد ترى في ذلك مصلحة سياسية لها، إذ تقوم بدفع تعويضات للضحايا بشكل هبات وبدون الاعتراف بأي مسؤولية قانونية، وبهذه الطريقة تظهر بمظهر الإنسانية وتحسّن صورتها الدولية.

يعطي شولز مثالاً على ذلك نظام القذافي في ليبيا، والذي دفع مليارات الدولارات من التعويضات لضحايا الهجوم على الديسكوتيك في برلين لا بيل La Belle، قضية لوكربي والهجوم على الطائرة الفرنسية (UTA 772).

فما الذي قد يدفع بالنظام السوري للقبول بصفقة كهذه؟ بكل بساطة يرى شولز أن دفع التعويضات أقل كلفة من تجاوز العقوبات المالية التي قد تفرض على النظام السوري. يعطي شولز مثلاً نظام القذافي الذي دفع 3 مليارات دولار لضحايا الهجمات الإرهابية، في حين كان تجاوز العقوبات سيكلف نظامه 20 ملياراً، بالتأكيد كان التعويض على الضحايا بشكل هبات استثماراً مربحاً للقذافي برأي شولز.

عميل للنظام أو منشق حقيقي؟

يقول المحامي شولز إن هناك عاملاً إضافياً في قضية رسلان “قد يقلب الطاولة والقضية كلها رأساً على عقب”، إذ ظهرت الأسبوع الماضي السيدة بيترا ب. كشاهدة أمام المحكمة، وهي تعمل كخبيرة في الشؤون السورية في مركز الأبحاث السياسية SWP، وأوكلت إليها مهمة الاهتمام برسلان من قبل الـSWP، وقد تكون أيضاً الاستخبارات الألمانية، لأنه شخص يحمل كنزاً من المعلومات المهمة بالنسبة لهم.

لدى سؤالها أمام المحكمة إن كانت تعتقد أن رسلان هو عميل للنظام ويتظاهر بالانشقاق من أجل اختراق صفوف المعارضة السورية، تركت بيترا السؤال مفتوحاً.

لذا، بحسب شولز، يشكك الآن المشاركون بالمحاكمة بصحة ادعاء رسلان أنه منشق عن نظام الأسد، والآن على رسلان أن يثبت أنه مؤيد فعلي للثورة حتى يحصل على أي أسباب قد تكون تخفيفية في الحكم عليه.

أي فرضية سيتم إثباتها بالأدلة؟ سوف نرى في جلسات المحاكمة اللاحقة والتي من المتوقع أن تمتد لسنوات.

رصيف 22

========================

=========================

تحديث 28 أيار 2020

————————–

في كوبلانس… إنكارات سوريّ يُحاكَم بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية/ توماس فيدر

ترجمة بدر الدين عرودكي

عند ملتقى نهري الراين وموزيل، تبدو مدينة كوبلانس القديمة كما لو أنها بطاقة بريدية. حتى السوّاح كانوا، يوم الإثنين 18 أيار/ مايو، يعودون للاستفادة من إعادة فتح المقاهي على الأرصفة أو للنزهة وهم يتناولون البوظة في هذه المدينة البورجوازية الواقعة في غرب ألمانيا. من الصعوبة بمكان أن نتصوَّرَ تباينًا أكثر إدهاشًا بين هذه اللامبالاة وهذا الذي كان يدور في اللحظة ذاتها وراء النوافذ الزجاجية الكبيرة للمحكمة الإقليمية، حيث يمثل فيها ضابط سابق في دوائر المخابرات السورية، متهمًا بجرائم ضد الإنسانية، ويتكلم للمرة الأولى.

حتى ذلك الوقت، لم يكن أنور رسلان إلا مجرَّد وجه. وجهُ رجلٍ جسور في السابعة والخمسين من عمره  بشاربٍ أسود وأبيض وحواجب كثيفة، بقي صامتًا منذ بداية محاكمته، في 23 نيسان/ أبريل، ضمن مقصورته من الزجاج الشبكي بسبب جائحة فيروس الكورونا، كوفيد ـ 19. محاكمة تاريخية، بالمعنى الكامل للكلمة، نظرًا لأن ضابط أمن الدولة السابق هذا هو أول مسؤول سوري رفيع يمثل أمام العدالة بسبب الانتهاكات التي ارتكبها نظام بشار الأسد منذ 2011، السنة التي شهدت بداية الحرب التي اجتاحت البلد.

التعذيب والصدمات الكهربائية

كانت جلسة الإثنين، وهي الجلسة الخامسة منذ افتتاح القضية، موضع ترقب شديد. إذ أن أنور رسلان رفض الكلام خلال الجلسة الأولى التي قرئت خلالها لائحة الاتهام. في ذلك اليوم، رسم النائب العام صورة تقشعر لها الأبدان للمتهم الذي وصل إلى ألمانيا بوصفه طالب لجوء، في أيلول/ سبتمبر 2014، واعتقل في شباط/ فبراير 2019، بفضل أحد ضحاياه الذي تعرف عليه في أحد منازل لاجئين ثم في متجر كبير ببرلين. 

ما الذي سيجيب به أنور رسلان بعد أن استمع إلى النائب العام يتهمه بأنه مسؤول عن موت ثمانية وخمسين شخصًا وعن ضروب التعذيب التي مارسها بحق أربعة آلاف شخص آخر في مركز الخطيب بدمشق، الذي كان مسؤولًا عنه بين نيسان/ أبريل 2011  وأيلول/ سبتمبر 2012؟ ما الذي سيقوله عن ضروب الإساءات التي بلغت حدّ استخدام الصدمات الكهربائية التي كان يحمل مساعديه على استخدامها  من أجل “الحصول على الاعترافات وعلى المعلومات حول المعارضة” للنظام؟ أية كلمات سيجدها كي يبرر شروط الاعتقال “غير الإنسانية” التي كانت تسود “داخل زنزانات مساحة كل منها خمسين مترًا مربعًا يوضع فيها مائة وأربعون سجينًا في جو خانق من شدّة الحرارة“، دون أية إمكانية للجلوس أو التمدد، كما ذكَّرَ بذلك النائب العام؟

“إنكار كامل”

يوم الإثنين، جاء الجواب إذن حين ردّ المتهم: “لم أرتكب الجرائم التي اتهمتُ بها“، بصوت محامييْه الإثنيْن اللذين تناوبا على قراءة إفادة من أربعين صفحة كان قد أعدّها. كما أكد: “لم أتصرَّف أبدًا بطريقة غير إنسانية“، مُقسمًا أنه، على العكس، “ساعد على الإفراج” عن العديد من المعتقلين المتهمين بالمشاركة في الانتفاضة عام 2011، قبل أن يُحرَمَ من سلطة القيام بذلك، مؤكدًا أن ذلك جرى ضد إرادته.

ولأنه أيضًا كان سيختلف مع توجه النظام إنما قرر أنور رسلان الهرب من سورية، في نهاية عام 2012، كي يصل إلى أوربا. “لقد صرتُ لاجئًا لأنني  لم أؤيِّد ولم أكن أريد أن أؤيِّد” الانتهاكات المرتكبة من قبل النظام، كما فسَّرَ، قبل أن يُعبّر عن “أسفه وتعاطفه” مع ضحايا هذه الحرب.

من وجهة نظر الجمعيات التي تطالب منذ سنوات بتحقيق العدالة بالنسبة لهذه الجرائم، لم تقنع هذه الكلمات أحدًا. “لا نعتقد على الإطلاق أن دوره كان دورًا ثانويًا“، كما علق فولغانغ كاليك، الأمين العام للمركز الأوربي للحقوق الدستورية والإنسانية، وهو منظمة غير حكومية تدعم الناجين من المعتقلات السورية في متابعة الإجراءات القانونية التي يقومون بها، ومنهم السبعة الذين رفعوا الدعوى.

“إنه إنكار كامل للمسؤولية، مسؤولية رجلٍ كان في السلطة لكنه يزعم أنه لم يكن يملك أية سلطة“، كما صرح من ناحيته المعتصم الكيلاني، من المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وهو منظمة غير حكومية أخرى. ولكن الجوهري ليس هنا، عند هذه المرحلة. “ما نسجله من بداية هذه المحاكمة، هو أنها خلقت سابقة قضائية، وأن إجراء المحاكمة نفسها يمكن أن يسمح بتمهيد الطريق لمحاكمات أخرى في أوربا“، كما يرى السيد الكيلاني، الذي يتوقع الكثير من الجلسات المقررة في الأسابيع القادمة، حيث سيكون من الممكن الاستماع إلى حوالي عشرين شاهدًا.

الولاية القضائية العالمية

كانت القضية المرفوعة ضد  أنور رسلان، الذي يقف إلى جانبه أحد مرؤوسيه السابقين، إياد الغريب، وهو في الثالثة والأربعين من عمره، متهم بالمشاركة في التعذيب ضد ما لا يقل عن ثلاثين متظاهرًا اعتقلوا في دوما، قربَ دمشق، في خريف 2011، ممكنةً لأن ألمانيا قررت اللجوء إلى مبدأ “الولاية القضائية العالمية”، الذي يجيز لدولة ما أن تلاحق مرتكبي الجرائم الخطيرة خصوصًا، أيًّا كانت جنسيتهم وأيًّا كان المكان الذي ارتكبت فيه الوقائع. وهو مبدأ لجأت إليه فرنسا أيضًا، مما سمح في شباط/ فبراير 2019  بتوقيف مساعدٍ آخر لأنور رسلان، في إطار تحقيق أوَّلي افتتحه النائب العام بباريس حول “أفعال تعذيب، وجرائم ضد الإنسانية وتواطؤ في هذه الجرائم”، المرتكبة في سورية بين 2011 و 2013.

حتى الآن، كانت الجهود التي تستهدف محاكمة مرتكبي الجرائم وشركائهم التي ارتكبها نظام بشار الأسد تواجه عقبتيْن. الأولى، هي أن سورية لم توقع على نظام روما، أي النص المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية، مما يحول دون هذه الأخيرة  وأن تقرر القيام بالملاحقة بمبادرة منها. والثانية، هي المتمثلة في الفيتو الروسي في مجلس الأمن التابع  لمنظمة الأمم المتحدة، الذي يمنع أية محاولة لإحالة الملاحقة إلى محكمة العقوبات الدولية، بما أنها هيئة تنفيذية من هيئات منظمة الأمم المتحدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عنوان المادة: A Coblence, les dénégations d’un Syrien jugé pour crimes contre l’humanité

اسم الكاتب: Thomas Wieder

المصدر وتاريخ النشر: صحيفة اللوموند، 19 أيار/مايو 2020

رابط المادة: https://www.lemonde.fr/international/article/2020/05/19/a-coblence-les-denegations-d-un-syrien-juge-pour-crimes-contre-l-humanite_6040070_3210.html

المترجم: بدرالدين عرودكي

—————————-

أنور رسلان… سيرة مناقبيّة شبه ذاتية لضابط أمن منشق/ عمار المأمون

حصل رصيف22 على نسخة من نص الدفاع الذي قدّمه أنور رسلان، أمام المحكمة الإقليميّة العليا في ولاية كوبلنز. رسلان، الضابط السوري المنشق، ورئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب- أمن الدولة، انشقّ عن النظام السوري عام 2012، ودخل ألمانيا عام 2014، وعام 2019 اعتقل من قبل السلطات الألمانية للاشتباه بضلوعه في جرائم ضد الإنسانية، وقدم رسلان في جلسة المحاكمة دفاعاً ذاتياً يتألف من 40 صفحة، “ردّاً على القضية الجنائيّة الموجهة ضده… وذلك فيما يتعلق بوضعه الشخصيّ والتهم المنسوبة إليه “.

اخترنا في العنوان كلمة “سيرة شبه ذاتية”، في محاولة لفهم الأسلوب الذي يقدّم فيه رسلان نفسه ويصوغ حججه، لا من وجهة نظر قانونية، بل ثقافية، فالنص أمامنا بـ”صوت” رسلان، أي هو “المؤلف” المفترض للاعتراف أو الشهادة، ويخاطب في هذا النص القضاء، ونصوص أخرى بعضها موجود، والآخر بانتظار أن يدوّن، يأتي استخدام لفظ “سيرة” أيضاً من منطق أن رسلان يتحدث مدّعياً “الحقيقة” التي شهدها واختبرها، هذا الادّعاء يأتي على مستويين، الأول بصوته ويرتبط بمعرفته الذاتية وخبرته الحسية ليوضح مكانه ضمن بنية النظام السوري وفرع أمن الخطيب، ثم كيفية انشقاقه وعلاقاته مع الآخرين، والمستوى الثاني هو محاولة خلق حكاية “متماسكة”، والتشكيك بحكايات “الشهود” الآخرين، واستحضار آخرين ذوي شهادات منصفة.

دفاع رسلان ينطلق من أنه “شاهد” لا “فاعل”، يقدّم نفسه بوصفه لم يمتلك “قراراً” أو “يداً” في التعذيب، أو أي واحدة من التهم الموجهة إليه، وكأن حكايته/ دفاعه تسعى لتصحيح حكاية “خاطئة” أو “منقوصة”، جهد سرديّ تتعارك ضمنه حكايات في سبيل بناء “الحقيقة”، خصوصاً أنه كان، حسب ادّعائه، فاعلاً علنياً وسرياً في نشاط المعارضة السورية، وداعماً للمظاهرات السلمية، بل وقام بمساعدة الكثيرين للخروج من المعتقلات.

قراءتنا للصفحات الأربعين تقوم على مزيج من العناصر السردية وأشكال التمثيل وتكنيكات الخطاب، هذا بالطبع لا يعني ادّعاء الحياد، أو محاولة تبييض صورة رسلان أو التشكيك بحقيقة الاتهامات الموجهة ضدّه، بل تلبيّة لفضول منحرف، عن الأسلوب الذي يمكن أن يدافع فيه متهم بجرائم حرب عن نفسه في الحالة السورية.

بيروقراطيّة “الفرع”

يقسّم رسلان الكتلة البشرية الأمنية الفاعلة في فرع الخطيب إلى عدة فئات تابعة لعدة جهات وقيادات، و يشير إلى أن وظيفتها الأهم، وهي التعذيب، كانت ترتكب من قبل “الحرس الجمهوري”، ويحاول عبر تحديد وظيفته بدقة، رسم الحدود بين الممارسات القانونية التي اتبعها هو، أي السؤال عن مذكرات اعتقال بحق المساقين للقسم من قبل الحرس الجمهوري، وما هو لا قانوني الذي لم يمارسه ولم يكن جزءاً منه، والذي يتمثل بالاعتقال التعسفي والتعذيب، ويشير أنه بعد مظاهرات الحولة، شمالي سوريا، تم تهديده، خصوصاً أنه انتقد ممارسات الحرس الجمهوري، وأخلى سبيل المعتقلين دون مذكرة، ونتج عن التهديد سحب الكثير من الصلاحيات منه.

يوظف رسلان على طوال النص هرميّة النظام الداخلية والتسلسل القيادي، مشيراً إلى العناصر الفاعلة في عمليات الاعتقال و التعذيب، وتلك التي تكتفي بالمهام البيروقراطية، ويشير إلى أن مهمّته تغيرت بعد حزيران 2011، خصوصاً أن الفرع أصبح عبارة عن ثلاثة أفرع، وهنا يكشف أن مهمته هي “أن يكتب ملخصاً خطياً أو مذكرة عن كل الاستجوابات التي يقوم بها المحققون… وإضافة بعض التوصيات”، هنا نحن أمام جهد سرديّ، التلخيص الذي يقوم به رسلان قائم على الاقتباس والتقييم وتحديد درجة الخطر التي يشكلها الفرد، إذ كان يقدم “محضراً واحداً عن كل التحقيقات”، ويوصي بإخلاء سبيل “المتظاهرين السلميين أو من لم يتظاهروا”.

نحن أمام سلسلة بيروقراطية وأوراق ومعايير يتم على أساسها التصنيف، هذا الملخص يعني أيضاً أنه كلما ارتفعنا في هرمية السلطة، تحول الأفراد إلى كتل بشريّة، واختزلت حيواتهم ونشاطاتهم إلى عبارات وصفيّة قليلة، نحن أمام “كتابة” ذات شرعية داخل أفرع الأمن، وذات معنى متفق عليه داخلياً، لا ندري مدى “قانونية” هذه النصوص، أي الاتهامات، ونتائج التحقيقات، لكن يبدو أن لها معنى خفياً متفقاً عليه، خصوصاً أن رسلان يقول: “بالنسبة للتوصيات في المذكرات الكتابيّة لم يكتب فيها تاريخياً طلب تعذيب”.

في الحالتين السابقتين، هناك مهارات “تأليف” لدى العاملين في أفرع الأمن ترتبط بتسرب هذه الوثائق، وضمان غياب أدلة رسمية على العنف الممنهج، لكنها مفهومة لفئة محددة ضمن هرمية النظام، وكأن كل “وثيقة” تملك معنيين، واحد لغوي تتطابق فيه الكلمات مع معانيها، وآخر خفيّ، يدركه المضطلعون بأسلوب عمل هذه الهرمية، ليظهر التعذيب بوصفه أوامر شفهيّة، لا يمكن تتبعها، إذ لا وثائق عنه، أوامر لفظية فقط، وهنا نفهم لم وضع شكل التقرير الطبي الرسمي في الشهادة، في تهديد لمصداقيّة الورقي والمكتوب على حساب الشفهي والمسموع، في ذات الوقت عدم تحديد مسؤولية من قام بذلك بدقة، بل تحميلها للـ”فرع”، وكما عُرف سابقاً، أسباب الموت دائماً هي ” توقف القلب والتنفس”، وهنا يظهر التعذيب بوصفه فضاء صوتياً داخل فضاء الفرع، لا علامات كتابيّة من “الداخل” توضح هرميّة الأوامر .

“منطقيّة النظام” ضد “لا يقين” الشهادة

يرد رسلان التهم عنه موظفاً معرفته بهيكلية النظام وتوزيع الأدوار ضمن الفرع وعلاقات القوة ضمنه، يجعل من الاتهامات الموجهة إليه “عاطفية” أو “غير متماسكة”، بمواجهة الدقة التي يدّعيها، هذه الدقة ناتجة عن توظيف تواريخ وأسماء تجعل شهادة المتهمين لا تتطابق مع سير الأحداث “الحقيقي” حسب ادّعائه، موظفاً شهوداً آخرين منشقين أو معارضين في محاولة لتدعيم حكاياته، هو يوظف “عقلانيّة” النظام وبيروقراطيته بوصفها “صحيحة” ومتماسكة ويمكن استدعاء من يؤكّد عليها.

يستحضر رسلان أيضاً مفاهيم “خيانة الشاهد”، كي يجعل نفسه غافلاً أو غير متورط، أي يشكك بشهادة العيان المقدمة ضده أو ضد الفرع، بوصفها منقوصة العناصر أو غير منطقية، كونها لا تتطابق مع معرفته المسبقة بآلية عمل الفرع وهيكليته، وكأن شهادات “الآخرين” عاطفية وغير دقيقة، بالمقارنة مع الإحكام الذي يدعيه ذاك القائم على التواريخ والأسماء، إذ “يصوّب” الشهادات ضده لينفي صحّتها، أو ببساطة “عدم معرفته” سواء بالشخص الشاهد ضده أو ما جرى له.

يوظف رسلان معرفته بـ”آليات عمل النظام” و توزيع القوى ضمنه لنفي حقيقة الاتهامات ضده أو التشكيك بمصداقيتها، أي يشكك بـ”الشاهد” نفسه، الذي لم يرى، بل تخيّل أو تهيّأ له، وكأنهم شهود بحكايات منقوصة لا تكفيّ لإدانته، لسبب جوهري هو عدم رؤيتهم لما يدّعي أنه رآه ويعرفه.

يراهن رسلان في دفاعه أيضاً على “اللامنطق”، خصوصاً فيما يتعلق بالتعذيب، أي ينفي حصول بعض اتهامات التعذيب في الفرع لأنها ببساطة غير منطقية، أو لا يمكن تنفيذها ضمن فضاء الاعتقال، كأن يُغتصب أحدهم واقفاً، أو يتم “شبح” أحدهم وضربه، لأن ببساطة لا يوجد سلاسل في الزنازين!، لكن أحدهم أحضرها من الخارج، ينسحب هذا اللامنطق الذي يدّعيه على بعض التهم التي تلصق بالمعتقلين، كاستجلاب شخص والتحقيق معه بسبب منشورات على فيسبوك.

“كنزة لونها خمري وبنطال جينز”

نتلمس في شهادة رسلان ووصفه لبعض الأحداث التي لا تتجاوز الفقرة ما يسمّى “تأثير الواقع-l’effet de réel” وهي تفاصيل صغيرة تبدو للوهلة الأولى غير مهمّة، ولا تدخل في جوهر الحدث، هي تفاصيل وصفيّة بحتة، لكن وجودها يكسب كلامه صفة “الواقعيّة”، فحين حديثه عن مراجعة أحد المعارضات له في الفرع، يقول إنها كانت ترتدي “كنزة لونها خمريّ وبنطال جينز” تفصيل يبدو مجانياً، لكنه يستخدم في محاولة لنفي “واقعية” شهادات الآخرين ضده، وتقديم النسخة “الواقعيّة” مما حدث، عبر علامات صغيرة من الصعب التيقن من صحتها، لكنها تفيد في خلق أثر الواقع، ذاك الذي وظفته بعض الشاهدات ضده، لكنها حسب ادّعائه قدمت صورة غير “حقيقة”، فمثلاً مكتبه صغير “طوله 3 أمتار وعرضه 3 أمتار، ولا يوجد فيه غرفة للضيوف”، بعكس ما قالت الشاهدة السابقة التي زارته في مكتبه عام 2011، حسب ادّعائه، لا عام 2012 كما ادّعت، والأهمّ أن مكتبه ليس كما وصفته بأنه “غرفة كبيرة جداً و كان يوجد نطاق للضيوف مجهّز بأرائك ومقاعد مريحة”، تظهر هذه “التناقضات” ذاتها حين الحديث عن أحجام الزنازين وعدد من فيها وكيفية توزعها، هو يقدم “واقعاً” مختلفاً عن ذاك الذي يصفه الشهود ضدّه.

من رأى “وجه” أنور رسلان؟

هناك تفصيل مثير للاهتمام في أسلوب نفي رسلان لشهادات المدّعين عليه، يرتبط بوجهه، و هي تقنيّة متبعة من قبل أغلب العاملين في مؤسسات النظام السوريّ الأمنية، وهي عدم اليقين من “هويّة” الفاعلين في النظام عبر إخفاء وجوههم، أو عدم وجود صور علنيّة لهم، وهنا يشير إلى أن الكثيرين ممن ادّعوا رؤيته، لم يروه، أو التبس عليهم الأمر، فلا وجه لرسلان إلا في شهادات تقتصر على من زاره في الفرع، ومن ساهم بمساعدتهم من معتقلين، أما من قالوا إنهم رأوه “خارجاً” أو في “الميدان” فقد “شُبّه لهم”، فوجه رسلان حاضر فقط في “الداخل”، حيث هو بلا صلاحيات لممارسة العنف ومشلول القوى وممنوع من القيام بأي مهمّات، فعاليته في “الداخل” تقتصر على المراقبة و المهام الإداريّة ومحاولة إطلاق سراح المعتقلين، أشبه بمراقب حسن النيّة يبذل ما يستطيع.

سيرة مناقبيّة

يطلب رسلان من المحكمة الاستماع إلى مناقبه، تلك التي “شهد” عليها الكثيرون، مقسّماً أنصار الثورة في سوريا إلى من قدّروا جهوده وأشادوا به، وآخرين يرون فيه مجرماً وجلاداً، مراهناً في ذلك على حاجة الجميع على مساعدة المعتقلين من جهة، والرغبة لدى الجهات المختلفة بمعرفة آلية عمل النظام وأفرعه، “مناقب” رسلان هي محاولة لتكوين سيرة موازية عن تلك التي “ألّفها” هو، تُنطق على ألسنة الآخرين، خصوصاً أنه يتحرك ضمن عالمين متوازيين يحويهما فضاء الفرع، هذان العالمان بهرميتين مختلفتين، في الأول هو موظف بيروقراطي، وفي الآخر هرمية مختلفة، مسؤولة عن القتل والتعذيب هو مراقب ضمنها فحسب.

رصيف22

——————————–

نورنبيرغ الأسد” بألمانيا.. سوريون في مواجهة “جلاد الفرع 251″/ ناصر السهلي

في سياق الاهتمام بملاحقة أركان وأمنيي النظام السوري الفارين إلى أوروبا، ركزت صحيفة “إنفارماسيون” الدنماركية على انطلاق محاكمة أحد أمنيي نظام بشار الأسد في ألمانيا، من خلال استعراض شهادة اللاجئ السوري في الدنمارك ومخرج الأفلام الوثائقية فراس فياض.

وتناولت الصحيفة الدنماركية، في عدد نهاية الأسبوع، ما سمته “القضية الأولى عن جرائم الحرب في سورية بدأت هذه الأسابيع في المدينة الألمانية كوبلنز”.

ووصفت “إنفارماسيون” انطلاق محاكمة “عقيد سابق متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وتعذيبه ما لا يقل عن أربعة آلاف سجين”، بـ”التاريخية”.

وتناولت “إنفارماسيون”، التي تهتم عادة بالقضايا العربية والسورية، اسم “الفرع 251 في دمشق، والمعروف بوحشيته، وفيه كان فراس فياض يجثو على ركبتيه أمام المتهم (عقيد الاستخبارات السورية أنور. ر)، أما الآن فهو في مواجهة أنور وجها لوجه، وينظر في عينيه مباشرة، كما حصل في قاعة المحكمة 128 في أواخر إبريل/نيسان الماضي”.

من محاكمة ضابطين للنظام السوري في ألمانيا (توماس لوهنس/فرانس برس)

وضابط الاستخبارات السوري “العقيد أنور”، الذي اعتقل في فبراير/ شباط 2019، أُجلس خلف ساتر زجاجي، حيث يحاكم مع رجل أمن آخر يدعى “إياد”، ضمن حملة ملاحقات قضائية لرجال الأجهزة الأمنية للنظام السوري في أوروبا، والتي انطلقت في أوائل 2019، وتناولها “العربي الجديد” في حينه، في تقرير عن تجهيز شبان وحقوقيين سوريين لحملة كشف وتقديم الجلادين الذين حضروا إلى الغرب لاجئين.

وتشير التقارير المرافقة لمداولات المحاكمات التي انطلقت أواخر إبريل/ نيسان، وشهادة فياض، إلى مسؤولية هذا الفرع الأمني عن اعتقال وتعذيب آلاف الشباب في دمشق بين 2011 و2012. وأضافت الصحيفة أن “العقيد أنور، الذي كان رئيس الفرع في ذلك الوقت، يواجه اليوم تهما بالمسؤولية عن التعذيب والتحقيق مع المعتقلين، ومن بينهم فياض”.

جرائم ضد الإنسانية

ووفقا للوائح الاتهامات الموجهة إلى رجال أمن الأسد، فإن الأمر يتعلق بـ”جرائم ضد الإنسانية والتعذيب باستخدام الكهرباء والاعتداءات الجنسية بحق أربعة آلاف معتقل على الأقل”.

ووصفت “إنفارماسيون” هذه المحاكمات بـ”التاريخية”، فهي بحسب خبراء “معلمٌ بارز في الكفاح ضد الإفلات من العقاب، وتعتبرها أمنستي (منظمة العفو الدولية) “نورنبيرغ الأسد”، في إشارة إلى محاكمات رجالات النازية ومقربي هتلر بعد سقوط برلين في 1945”.

ولفتت “إنفارماسيون” إلى أن المجتمع الدولي “ظل لسنوات يرغب برفع قضية جرائم الحرب الواسعة المرتكبة في سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية (آي سي سي)، وهو ما أُفشل  بسبب “الفيتو” الروسي في مجلس الأمن الدولي. لكن “انطلاق هذه القضايا في ألمانيا أمر بالغ الأهمية والرمزية بالنسبة للشعب السوري والقانون الدولي، بحسب المتحدثة باسم لجنة العدالة والمساءلة الدولية (CIJA)، نيرما جيلاسيك”.

ودائما ما اعتبرت لجنة العدالة والمساءلة أن مثل هذه المحاكمات مهمة للغاية، لأنها “ستساهم في تقديم الأدلة على جرائم الحرب الممنهجة أمام الرأي العام، وبعض الجرائم المرتكبة من جنود سوريين لقمع الاحتجاجات للإبقاء على الأسد في السلطة، هي جزء من نظام متكامل”.

وترى لجنة العدالة والمساءلة أن انطلاق القضية في كوبلنز الألمانية “ما هو إلا بداية في الطريق لمواجهة قانونية ينتظرها اللاجئون السوريون والمجتمع الدولي، وهو جزء من مواجهة قضائية أُعد لها منذ سنوات”.

مخابرات لاجئون

يذكر أنه في الفترة التي شهدت فيها أوروبا بين 2014 و2015 موجة لجوء كبيرة، انضم إلى صفوف اللاجئين بعض من عمل في الأجهزة الأمنية للنظام السوري.

وقد أثار “العربي الجديد”، في سبتمبر/أيلول 2015، في تقرير من بودابست قضية بعضهم، ممن أبدوا ندما لخروجهم من سورية، مفضلا “العيش في ظل الأسد وبراميله على العيش في أوروبا”.

وبعض الذين تجري ملاحقتهم قضائيا اليوم وصل في تلك الفترة عبر مسار البلقان كبقية آلاف اللاجئين، كما في حالتي “العقيد أنور” و”زميله” في المخابرات السورية “إياد”، ليجدا نفسيهما في معسكر لجوء “مارينفيلدا” بضواحي العاصمة الألمانية برلين.

ولم يغير العقيد أنور اسمه، وتعرف على وجهه كثير من لاجئي برلين السوريين والفلسطينيين السوريين.

ومن أهم من تعرف على وجه العقيد أنور، المحامي والحقوقي أنور البني، الذي كان أيضا معتقلا في سجون الأسد لدفاعه عن حقوق الإنسان والحريات في بلده. لكن البني في المرة الأولى صعب عليه التدقيق في سجانه من عام 2006 في دمشق جيدا، وبعد أسابيع عاد ليتعرف عليه بشكل أفضل في متجر متخصص بأدوات البناء في منطقة هيرمان بلاتز، حيث كان “العقيد أنور” يشتري بعض الأدوات.

ومنذ سنوات قليلة، بدأ مجموعة من الشباب والحقوقيين السوريين نشاطهم لجلب أركان النظام وأمنييه الذين هربوا إلى أوروبا لاجئين.

تجميع الأدلة

ومنذ يناير/كانون الثاني 2019 بدأ هؤلاء عمليا، بعد تجميع الأدلة والتعرف على المشتبه فيهم، التوجه للمحاكم الوطنية في الدول التي يقيمون فيها لتقديم الجلادين أمام العدالة الأوروبية.

وقد أشار إلى ذلك لاجئون ونشطاء سوريون تحدثوا إلى “العربي الجديد” من عدد من الدول في بداية العام الماضي 2019 تحت عنوان “ملاحقة النظام السوري أمام المحاكم الأوروبية: سعي لعدالة غائبة”.

ويتعاون الحقوقيون، بينهم أنور البني، وعدد من النشطاء، مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، في حين ظلت الجهود منصبة منذ 2012 على تجميع الأدلة ضد السجانين، ومن تلك الأدلة ما يقدم اليوم بوجه هذا العقيد في مواجهة العدالة في ألمانيا، التي هرب إليها لاجئا سياسيا.

إلى ذلك، تذكر لجنة العدالة والمساءلة القانونية أنها جمعت حوالي 800 ألف وثيقة صادرة عن النظام السوري، وآلاف الصور التي هربها “قيصر”، مشيرة إلى أنه ورغم “الأدلة الكثيرة التي قدمتها (نحو 25 ألف صورة لضحايا النظام)، فإن روسيا ظلت تستخدم حق النقض في مجلس الأمن الدولي ضد أي قرار لإحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية”.

وأبرز مدير التحقيق في اللجنة، وليام ويلي، أن “أدلة جرائم الحرب في سورية هي الأقوى منذ محاكمات نورنبيرغ”.

ورغم أن السوريين في أوروبا لم يكونوا قادرين على رفع القضايا أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، إلا أنهم تمكنوا أخيرا من استخدام الصلاحية القضائية للمحاكم الوطنية لرفع القضية أمام المدعي العام في كارلسروه جنوبي ألمانيا، لتبدأ أولى المحاكمات التي شهد فيها مخرج الوثائقيات السوري فراس فياض المقيم اليوم لاجئاً في الدنمارك.​

العربي الجديد

———————————–

“الدكاكين القريبة من السجن كانت تسمع صراخ المعتقلين“… محاكمة أنور رسلان مستمرة في ألمانيا
نورا المقداد بورجار
بدأت الأربعاء في 3 حزيران/ يونيو 2020 الجلسة العاشرة من محاكمة العقيد السابق في المخابرات السورية، أنور رسلان، المعروفة بقضية الخطيب، أو الفرع 251.
الجلسة التي استمرت لثلاثة أيام، ظهر فيها المحامي السوري أنور البني، كشاهد خبير أمام المحكمة، بالإضافة للمخرج السوري فراس فياض، كأول ضحايا التعذيب الذين يشهدون أمام المحكمة، والذي يتخذ صفة الادعاء الشخصي في القضية.
شهادة المخرج فياض خُصص لها يوما الثالث ومنتصف اليوم الرابع من شهر حزيران/ يونيو، واستمر اليوم الرابع وكامل اليوم الخامس من الشهر نفسه مع شهادة المحامي أنور البني، الذي تم استدعاؤه كشاهد خبير، بحكم طبيعة عمله الحقوقية في مجال حقوق الإنسان سابقاً في سوريا، والآن في ألمانيا كرئيس للمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية.
أهمية هذه الشهادات تكمن بأن المحكمة سوف تعتمد على شهادات الشهود كدليل لإدانة المتهم، بالإضافة الى تقارير من المختصين والاستخبارات، كما وأنه لأول مرة يمثل أمام المحكمة، ليس من يقدم التقارير والقصص عن التعذيب في سوريا فقط، بل أحد الناجين من التعذيب في فرع الخطيب بنفسه، واحد من الأربعة آلاف الذين اتهم رسلان بتعذيبهم.
هذا ويطالب محامو الضحايا، أندرياس شولز وخُبيب علي محمد، بتعويضات لموكليهم من الرئيس السوري بشار الأسد، على العذابات التي عانوها في سجون النظام، بحسب مقابلة معهما في مجلة فوكس Fokus الألمانية.
في حديث لرصيف22، يؤكد المحامي علي محمد أنه سيكون لدى المحكمة أدلة كافية من الشهود لإدانة المتهم رسلان وسجنه، وقال لنا بأن موكله فراس فياض شرح أمام المحكمة ظروف احتجازه وتعذيبه، والإصابات والأضرار الجسدية والنفسية المستمرة التي ما زال يعاني منها الى اليوم نتيجة لذلك.
أعلن المخرج السوري فراس فياض في اليوم الأول من شهادته أمام المحكمة، أنه كان سيسامح رسلان لو أقر بذنبه ومسؤوليته واعترف بجرائمه في فرع الخطيب، ولكنه لم يفعل.
وشرح فياض لرصيف22 موقفه قائلاً إنه لا يسعى للانتقام أو ليحقق ذاته بهذا الموضوع، ويضيف:” لكنت تنازلت عن كل حقوقي الشخصية وسامحت، لكن نفيه لحدوث التعذيب، وقوله بأنه حتى لو كان هناك تعذيب فهو لا يعرف به، هذه أكبر إشكالية. الدكاكين القريبة من السجن كانت تسمع صراخ المعتقلين، فكيف بشخص مكتبه في الداخل قريب جداً من المعتقلات وكان ينزل للسجن”.
مشيراً إلى: “لم أتصور أبداً أنه يوماً ما سأجلس أمام المحكمة وسأرى رسلان مقابلاً لي في قفص الاتهام”.
“تأسيس طريق لثقتنا كسوريين بالعدالة التي لم نختبرها من قبل”
بدأ فياض شهادته بالكلام عن حياته في سوريا كطالب ومخرج، وعن اللحظة التي غيرت كل شيء: بدء الاحتجاجات في سوريا ضد نظام بشار الأسد في 15 آذار/ مارس 2011، حيث قام فياض بتصوير وتوثيق المظاهرات، الاعتقالات والشرطة وهي تطلق النار على المتظاهرين، كما علّم آخرين كيفية التصوير والتوثيق الى أن اعتقل بسبب ذلك.
ولعل أهم نقطة في الشهادة أمام المحكمة في 3 حزيران/ يونيو هي تعرّف المخرج فراس فياض على أنور رسلان الذي قام بالتحقيق معه، من خلف القناع الموضوع على وجهه، بسبب العلامة الفارقة (يقال بالدارجة الوحمة) البارزة في وجه من كان يحقق معه في فرع الخطيب، فقد كانت ملفتة للنظر، ويستطيع فياض التأكيد بأن رسلان هو المحقق الذي حقق معه في فرع الخطيب بنسبة 60% أو 70%، وأن المساجين الآخرين قالوا بأنه رئيس السجن.
وأكد فراس فياض في شهادته أمام المحكمة بأنه يستطيع التعرف على أنور رسلان من صوته، والتأكيد بشكل قاطع بأنه هو المحقق الذي حقق معه في فرع الخطيب، ولكن أنور رسلان رفض إعطاء عينة صوتية للمحكمة.
بدوره أكد المحامي أنور البني لرصيف22 بأن لا علم له بأي مقابلات أجراها رسلان بعد انشقاقه، مرئية أو مسموعة، يمكن استخدامها للتعرف على صوته أمام المحكمة. فرسلان لم يتحدث مع الإعلام مطلقاً منذ انشقاقه، وهذا يعزز، بحسب البني، فرضية أن رسلان هو جاسوس للنظام مزروع لاختراق صفوف المعارضة السورية وليس منشقاً حقيقياً، إضافة الى ذلك، أعلن البني: “لطالما قلت إن أنور رسلان غير مكان عمله فقط ولم يغير طبيعة عمله”.
وقد جلس فراس فياض على مقعد الشهود في الصالة رقم 128 في محكمة كوبلنز الإقليمية العليا في ألمانيا، وصرح بأنه كان في سجن الخطيب لمدة شهرين أو ثلاثة، حيث عُذّب يومياً، أو يوماً بعد يوم على الأكثر، حيث كانوا يستجوبونه حول الأفلام التي يصورها، لمن هي، مع من يعمل، وإن كان جاسوساً للأمريكان أو الفرنسيين؟
فراس فياض الذي رُشح فيلمه “الكهف” للأوسكار عام 2020 عن فئة الأفلام الوثائقية، والحائز على جائزة السلام للفيلم الألماني بحسب جريدة تاز Taz الألمانية، يؤكد لرصيف22 أن أهمية شهادته أمام المحكمة تكمن في “أنها تأسيس طريق لثقتنا كسوريين بالعدالة التي لم نختبرها من قبل، إذ عشنا في بلد لا عدالة فيه ولا قانون. وهذا أساس لنرى أن هناك طريقاً قانونياً، طريقاً محقاً، من الممكن أن يقاضى فيه الناس الذين ارتكبوا جرائم أو تورطوا بخرابات البلد. هذا هو الطريق الصحيح”.
ويضيف فياض أنه فيما لو تمت إدانة أنور رسلان وسجنه، أن المحاكمة بحد ذاتها هي رسالة للنظام وإثبات تورط الكثير من أسمائه، ويتابع: “لأن رسلان بشهادته أقرّ وأشار لعدد من الأسماء المتورطة بارتكاب انتهاكات، وهذا مهم جداً، لأن هذه الأسماء ما كانت لتُذكر أبداً لو لم يتم جلب رسلان الى هذه المحكمة. إضافة إلى أنه لم يكن لنعرف كيف يعمل فرع 251، وآلية عمل هذه الأجهزة، ومن هم المسؤولون المباشرون وغير المباشرين عن الأفعال، فرسلان ذكر في بيانه كل هذه الطرق”.
وبالتالي، وعلى حد تعبير فياض: “رسلان كان بوابة مهمة جداً لذكر كل هذه الأسماء ولكي توضع قيد التحقيق والملاحقة. وقد أكد بشهادته أن هذه الأسماء هي من قامت بالتاريخ كذا واليوم كذا وأنا كنت شاهداً على كذا، وكذلك الأمر بالنسبة لإياد الغريب، أيضاً قد ذكر عدداً من الأسماء، ولولا هذه المحاكمة المستمرة لما عُرفت الأسماء الأخرى، حيث لن يقوموا من ذاتهم بالتبرع بذكر هذه المعلومات”.
يعتقد فراس فياض أن النظام في سوريا يتابع هذه المحاكمة بدقة لأن المتهم أنور رسلان كان قريباً من دائرة الحكم، ويعرف كل هذه الأسماء وعمل معها، وهذه المحاكمة بالتأكيد أشعرتهم بنوع من التهديد والقلق والخوف، ولذلك هم نفسهم سيبدؤون بالتفكير بالماضي وبالقادم، ومنهم قد يفكر بالتوقف عن أعمال التعذيب، حسب تعبيره.
ويضيف فياض: “المحاكمة مهمة جداً لسوريا وللعالم العربي، فهي أولاً رسالة لكل الفاسدين ومجرمي الحرب والذين ينوون أن يكونوا جزءاً من أي نظام فاسد. بالإضافة الى ذلك، هذه المحاكمة مهمة للناس ليعرفوا أن هناك دائماً طريقاً ليأخذوا حقهم، مهما كان المرتكب كبيراً أو مدعوماً أو متجذراً، لأن العالم تغير وصار أصحاب الحق بإمكانهم ملاحقة المجرمين في أماكن لم تكن لتخطر على بال أحد”.
ويضيف: “يجب ألا يسكت أحد في العالم العربي عن حقه ويجب ألا يترك أي رجل بالسلطة ليستخدم القانون والدستور لمصالحه الشخصية. المسألة ذاتية، إن لم يحارب المواطن العربي من أجل نفسه فليحارب من أجل أولاده والأجيال القادمة، لأن هذا صراع من أجل الأرض ومن أجل الحق”.
“تجربتي كمعتقل في هذه الفروع الأمنية ومعرفتي بما يحصل فيها”
في شهادته أمام المحكمة بعد ظهر يوم 4 حزيران/ يونيو، قال المحامي أنور البني بأن أنور رسلان هو جزء من ماكينة النظام التي تقوم بالتعذيب بشكل ممنهج.
وفي حديث لرصيف22، أكد المحامي أنور البني، الذي يظهر أمام المحكمة كشاهد خبير، أنه سبق أن قدم شهادته أمام المدعي العام الألماني ثلاث مرات بصفة مدعي ضد أفرع الأمن في سوريا، بما فيهم ماهر وبشار الأسد، وتابع: “لكن هذه المرة تكمن أهمية ظهوري كشاهد خبير، حيث معرفتي الدقيقة بالهيكلية الأمنية والهيكلية القانونية التي تحمي عناصر الشرطة والأمن والجيش من الملاحقة في سوريا”.
ويضيف: “بالإضافة لخبرتي كمدافع عن المعتقلين، كيف كان وضع المعتقلات وكيف كانت الظروف التي يعاني منها المعتقلون وأسباب الاعتقال، والمدة التي يبقونها بدون محامين أو بدون لقاء أهلهم، أو يختفون نهائياً. بالإضافة إلى تجربتي السابقة كمعتقل في هذه الفروع الأمنية ومعرفتي بما يحصل فيها، وهذا شبيه بما حصل مع ضحايا سجن الخطيب الذين دافعنا عنهم بعد العام 2011”.
ورداً على البيان الذي قدمه المتهم أنور رسلان مدافعاً به عن نفسه أمام المحكمة، في الثامن عشر من أيار/ مايو 2020، ونافياً التهم الموجهة إليه، يؤكد المحامي أنور البني أن قسماً كبيراً مما ورد في بيان رسلان مغلوط وغير صحيح، حتى فيما يتعلق بتفصيلات السجن من الداخل والتي له دراية بهان كونه كان مسجوناً به في العام 1978، حسب تعبيرها، وويضيف: “عندما أطلع على شهادة أنور رسلان كاملة، سوف أوضح أمام المحكمة الكثير من القضايا المغلوطة”.
في التبعات المحتملة، لو تم إثبات الجرم على أنور رسلان وسجنه، يرى البني أن النظام في سوريا ومن يمارسون التعذيب الآن، ومنذ بدء المحاكمة الآن وقبل صدور الحكم بدأوا بالقلق، ويتابع: “منذ بدأنا بجمع الملفات لم يكن لديهم يقين بجدية الموضوع، واعتقدوا أن كل شيء ممكن أن يحل لاحقاً بتسوية سياسية، لكنهم الآن أيقنوا أن المسألة أكثر من جدية، وأنه ليس هناك مجال ليختبئوا في أي مكان بالعالم، لذا فالمسألة مهمة جداً بالنسبة لهم”.
لا يستطيع البني الجزم إن كانت المحاكمة قد ساهمت بتوقف بعض أعمال التعذيب في سوريا، ولكن قد تساهم بتخفيف بعض المعاناة، ولكن لا يمكننا التأكد، لأنه منذ سنتين لم يخرج أحد من المعتقلات ليخبر ماذا يحصل فيها مباشرة، حسب تعبيره.
ويضيف البني: “لا شك بأن النظام في سوريا يتابع المحاكمة بشكل دقيق، وهم يحاولون تزويد المتهمين بأشياء بإمكانهم أن يدافعوا بها عن أنفسهم، ولكن في سوريا لا يتم تداول المحاكمة في الإعلام الرسمي وحتى على صفحات فيسبوك للموالين، لا يأخذون أي موقف من الموضوع، خاصة الشبيحة الذين وصلوا الى أوروبا، إذ تتم ملاحقتهم في أوروبا، كالطبيب السوري الذي تم اعتقاله في ألمانيا، هذه الملاحقات ترعبهم، فحتى شبيحة النظام الذين قبضوا على ناس وسلموهم للأمن ليسوا بمأمن من الملاحقة القانونية”.
ورداً على الرأي القائل بأن من شأن هذه المحاكمات أن تحث عناصر النظام على عدم الانشقاق، يقول البني لرصيف22: “اللي بدو ينشق هلق ما بدنا ياه”، ويضيف: “وحتى لو انشق هو مجرم. هل أذهب للحجّ مثلاً وأكفر عن كل ذنوبي السابقة بالانشقاق؟!”.
“الفرع 251 كان طليق اليد لفعل ما يراه مناسباً”
وتضمنت شهادة أنور البني أمام المحكمة نقاطاً عدة، نذكر منها أن سوريا كانت دائماً محكومة من قبل المخابرات، وأحد أدوات هذا القمع هو الفرع 251 بشكل خاص، وهو القسم الداخلي من المخابرات السورية الذي تحكم بكل شيء.
ولدى سؤاله إن كان هناك فرق في ممارسات المخابرات قبل وبعد العام 2011؟ أجاب البني بأن المخابرات دائماً عملت بأسلوب الضغط والقمع، ولكن بعد 2011 جاءت لحظة الانتقام وفعلوا كل شيء لقمع المعارضة.، حسب تعبيره، وأضاف: “الفرع 251 كان طليق اليد لفعل ما يراه مناسباً، والأوامر جاءت من فوق، وهذا كان قبل 2011. في 2011 أصبحت كل الأجهزة طليقة اليد لفعل ما تراه مناسباً لقمع المعارضة بأي وسيلة”.
وشرح البني عن خلية الأزمة التي تنسق بين أجهزة المخابرات كلها والحكومة السورية على أعلى المستويات، ومن بعدها توزع الأوامر على الأجهزة كلها، ومنها على الأفرع والأقسام. وبعدها تحدث البني بشكل وافر عن العنف الجنسي في سجون المخابرات السورية، حيث أكد أن النساء يتعرضن له أكثر بكثير من الرجال، ولكن لا يتم الإفصاح عنه كثيرا بسبب التابو الاجتماعي.
وقد اعتبر أنور البني أن بيان الدفاع الذي أدلى به المتهم رسلان أمام المحكمة هو فقط ادعاءات للتنصل من المسؤولية وأن رسلان قد يكون انشق في العام 2012 لأنه كان يعتقد بأن بشار الأسد سيذهب، وهو لم يرد أن يكون مع الجهة الخاسرة.
وقال المحامي أندرياس شولز في حديثه لرصيف22، إنه سأل الشاهد أنور البني في المحكمة، إن كان يعتقد بأن رسلان كان لديه دوافع أخرى للانشقاق كالتجسس على المعارضة، أجابه البني بأن النظام قد يفعل ذلك لمعرفة ماذا يحصل في الخارج من نشاطات ضد النظام السوري، وأن رأيه الشخصي أن رسلان قد يكون فعل ذلك، ولكن ليس لديه أي دليل على ذلك.
ويزيد شولز أنه عندما سأل البني أيضاً إن كانت المخابرات السورية فاعلة في الخارج، حتى في أوقات الأزمة، وإن كانت تقوم بملاحقة المعارضين في الخارج أو بتهديدهم أو إيذائهم أو حتى قتلهم، أجابه البني بنعم، وهناك فرق خاصة لذلك، وعندما سأله شولز إن كان يعتقد بأن رسلان ينتمي الى إحدى هذه الفرق، أجابه أنور البني: “أعتقد ذلك، ولكن ليس لدي دليل”.


—————————————-

المخرج فراس فياض يواجه أنور رسلان:هذ الرجل أَمَر باغتصابي

لم تغب مشاهد التعذيب القاسي الذي تعرض له، عن باله أبداً، بل سرد تفاصيل أيامه الصعبة وواجه جلاده داخل المحكمة. الحديث هنا عن المخرج السوري المرشح لجائزة “أوسكار” فراس فياض، الذي قدم شهادته أمام المحكمة الولائية العليا في مدينة كوبلنز الألمانية، حيث انعقدت جلسة لمحاكمة مُتهمين إثنين بالتعذيب في سوريا.

وكان فياض (35 عاماً)، أول ضحية تبلغ في ألمانيا عن فصول رعب تفوق الخيال، وقد روى ما حصل معه في العام 2011 عندما كان معتقلاً. وعلى بُعد أمتار قليلة منه في قاعة المحكمة، جلس المُتهم، وهو ضابط المخابرات السوري السابق أنور رسلان (57 عاماً)، الذي يواجه اتهامات بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، حينما كان مسؤولاً رفيعاً برتبة عقيد، ترأس القسم 251 من المخابرات السورية، وكان مسؤولاً عن أمن العاصمة دمشق، وهو المتهم الرئيسي في هذه القضية، وتشمل الاتهامات جرائم ضد الإنسانية، والقتل (58 مرة)، والتعذيب في 4000 حالة على الأقل، إضافة إلى تهم الاغتصاب والاعتداء الجنسي.

ومن المتوقع أن يشهد أكثر من 24 من ضحايا التعذيب السوريين في المحاكمة غير المسبوقة التي بدأت في نيسان/أبريل الماضي ، وتبحث دعاوى بشأن التعذيب الممنهج الذي ترعاه الدولة الأسدية، علماً ان رسلان هو مسؤول الإستجواب في سجن الخطيب سيئ السمعة بدمشق حيث اعتقل فياض، قبل انشقاقه عن النظام العام 2013 ولجوئه في وقت لاحق إلى ألمانيا، وهناك لاحقته يد العدالة باعتقاله العام 2019، واتهامه بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية.

وقال فياض في تصريحات لـNPR، وهي إذاعة أميركية، أنّ “قضيته تتعلق بالعنف الجنسي”، والأمر صعب بالنسبة له، خصوصاً أنه لم يتحدث عنه علناً أبداً. حتى أنه لم يخبر عائلته به. وكان روايته العلنية الأولى لما جرى، في قاعة المحكمة في كوبلنز، عندما جلس الرجل المتهم بأمر تعذيبه على بعد أمتار قليلة منه.

وخلال المحاكمة، طلب منه القضاة إعادة سرد الإعتداء الجنسي الذي تعرض له، وهو اغتصاب بواسطة عصا خشبيّة، كما أكد أنه اضطر لإجراء عمل جراحي جراء الإصابات التي تعرض لها بعدما أطلق سراحه في النهاية. وأكمل: “كنت أحمل هذا الألم لفترة طويلة، لكن عليّ أن أبدأ بالتحدث بصراحة”. موضحاً أنه “فضّل الصمت بسبب الاغتصاب الذي تعرض له، وهو ما يُعتبر وصمة عار في المجتمع السوري”، علماً أن معظم الناجين السوريين من العنف الجنسي لا يتحدثون عنه أبداً ويعيشون معه في حالة إنكار لسنوات، بحسب تقرير للأمم المتحدة العام 2018 يوثق الاستخدام المنهجي للعنف الجنسي في سوريا باعتباره “أداة لغرس الخوف والإذلال والمعاقبة”.

وعلق فياض: “نحتاج إلى معرفة من يرتكب هذه الجرائم ، إنها رسالة كبيرة. جئت باسمي. لا يجب أن أبقى صامتاً. لقد اغتصب النظام بلادنا لفترة طويلة”، موضحاً انه يرغب برؤية المزيد من الضحايا يتحدثون علناً.

وفي العام 2011، عندما بدأت الاحتجاجات في سوريا ضد النظام، أمسك فياض بكاميرته ونزل إلى الشوارع لتوثيق المظاهرات السلمية المبكرة، والاعتقالات، وردّ فعل قوات النظام العنيفة وإطلاق النار على المتظاهرين في محاولة لقمعهم. وبعدها، جرى اعتقاله، واحتجازه، واتهامه بالتجسس ودعم الأنشطة المناهضة للنظام. كان فياض مقتنعاً أنه سيموت في السجن، حتى أن بقية المعتقلين معه قالوا أنه لن يبقى على قيد الحياة.

يسترجع فياض فصول التعذيب التي تعرّض لها، حيث كان يتعرض للضرب والركل بشريط حديدي والعصي، كما جرى تعليقه من السقف لتلامس أطراف أصابع قدميه الأرض فقط، إلى جانب وضعه في زنزانة صغيرة جداً. وأكمل أنه “يتذكر الإستجوابات بينما كان معصوب العينين وجاثياً على ركبتيه”، وكان الرجل الذي يحقق معه هو أنور رسلان الموجود في المحكمة. وأضاف: “كنت نحيلاً وبلا شعر، جسدي ينزف. كنت أشعر بالخوف من النظر في المرآة لفترة طويلة”.

وبعد مرور شهرين ونصف على الإعتقال، جرى إطلاق سراح فياض من دون أي تفسير، وبعدها حثته عائلته على مغادرة البلاد لاقتناعها بأنه لن ينجو من اعتقال آخر. وبعد فترة وجيزة، هرب من سوريا. وعزا نجاته إلى القدر وتساءل: “لماذا أنا؟ ساعدتني الكارما على الخروج لأني لدي مهمة أقوم بها في هذه الحياة”، في إشارة إلى عمله في صناعة الأفلام الوثائقية.

وبعد هروبه من سوريا، دخل فياض إلى تركيا، ثم عاد وتسلل عبر الحدود السورية إلى مدينة حلب لتوثيق حياة المدنيين السوريين تحت القصف. وفي العام 2018، حصل فياض على إذن للدخول إلى الولايات المتحدة بعدما جرى ترشيح فيلمه “آخر الرجال في حلب” لجائزة “أوسكار” عن فئة أفضل فيلم وثائقي. وفي شباط/فبراير من هذا العام، جرى ترشيح فيلمه “الكهف” لجائزة أوسكار، عن فئة أفضل فيلم وثائقي، وهو يسرد قصة فريق طبي تقوده النساء في مستشفى تحت الأرض يسمى “الكهف”، جرى من خلاله اسعاف وعلاج أهل الغوطة الشرقية أثناء القصف المتواصل الذي تعرضت له المدينة من قوات النظام السوري.

وقال فياض أنه حتى مع التكريم الذي ناله على عمله، لم يتمكن من الاحتفال. وسرد ذكرياته: “سألني فريقي: لماذا لست سعيداً؟ عليك أن تشعر بالسعادة. لكني لم أعرف كيف أعبّر عن سعادتي. كنت غاضباً جداً. بداخلي، كان هناك الكثير مما لم أستطع مشاركته بسبب وصمة العار والخجل”. مضيفاً أن ذلك الوهم عاد إليه في الأيام التي تلت شهادته أمام المحكمة الألمانية: “أشعر أن جسدي مكسور، وبدأت أفقد القدرة على ترتيب الكلمات”.

ورغم ذلك، يرى فياض أن محاكمة مجرمي الحرب هي الخطوة الأولى في طريق شفائه الطويل، وأكمل: “عندما ذهبت إلى المحكمة، بدأت أشعر أن شيئاً ما تغير تماماً بعد ذلك. بالطبع، هناك ألم جسدي، لكني بدأت أعتقد أن العدالة شيء حقيقي. إنها ليست كذبة”.

وخلال وقوفه داخل قاعة المحكمة، أذهل فياض القضاة عندما أخبرهم أنه يمكن أن يغفر للمدعى عليه رسلان. وأضاف في المقابلة: “إذا اعترف بحدوث هذه الأشياء، فعندئذ يجب أن أغفر له. أشعر أن التسامح هو الطريقة الوحيدة التي يمكن أن أعيش بها بسلام”. غير أن رسلان نفى كل التهم الموجهة إليه، منكراً مسؤوليته عن أي فعلٍ حصل، وتحديداً حالة الاغتصاب التي تعرض لها فياض.

وحالياً، فإن المخرج يعمل على فيلم وثائقي جديد يوثق تفاصيل اعتقاله وتعذيبه، وعن المحاكمة في ألمانيا. وقال: “أحاول أن أجعل ذلك رسالة لعائلتي لأني لم أخبرهم من قبل بما مررت به”. وختم: “أخطط أيضاً لإخبار عائلتي لماذا قررت الإدلاء بشهادتي، وذلك من أجل التاريخ وإرسال رسالة إلى أولئك الذين مازالوا مسجونين في سوريا، بأنهم غير منسيين”.

————————————

========================

============================

تحديث 11 تموز 2020

———————————-

ملجأ أخير للعدالة”… محاكمات مرتكبي جرائم ضد الإنسانية في سوريا مستمرة في ألمانيا/ نورا المقداد بورجار

قام المدعي العام الألماني، يوم الاثنين 22 حزيران/يونيو المنصرم، بتوقيف الطبيب السوري علاء موسى، في منزله في ألمانيا، وذلك لأنه متهم بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” وتعذيب سجناء في معتقلات النظام السوري، بحسب موقع “هيسين شاو” الألماني.

و”طبيب التعذيب” تم توقيفه بحسب الموقع، في ولاية هيسن وسط ألمانيا، كما أوضح بيان المدعي العام الاتحادي في كارلسروه Karlsruhe، مضيفاً أن المشتبه به كان يعمل كطبيب في سجن تابع للمخابرات العسكرية في حمص، وساهم على الأقل مرتين في عمليات تعذيب أحد المعتقلين داخل السجن العسكري التابع لنظام الأسد.

كما أن نتائج التحقيقات أظهرت وفق البيان، أنه في عام 2011 قام المتهم بضرب معتقل ثان، كان يعاني من نوبة صرع جراء تعرضه للتعذيب، ولقي الضحية، الذي اعتقل لمشاركته في مظاهرات سلمية مناهضة للنظام السوري، مصرعه. وأكد بيان المدعي العام الألماني أن سبب الوفاة بقيت مجهولة، وغادر الطبيب سوريا منتصف عام 2015 لاجئاً إلى ألمانيا حيث يزاول مهنة الطب، كما تؤكد صحيفة Welt الألمانية.

يتحدث البعض الآن عن بداية حقبة جديدة أو ظاهرة في ألمانيا، حيث بدأت محاكمة العديد من مرتكبي جرائم التعذيب وجرائم الحرب في سوريا.

أول هذه المحاكمات كانت ما يُعرف بقضية فرع الخطيب، والتي بدأت في 23 نيسان/ أبريل 2020، وهي أول قضية من نوعها في العالم وتشكل سابقة قانونية. أما آخر هذه المحاكمات فقد بدأت في 25 حزيران/ يونيو الماضي، وهي محاكمة الطبيب السوري علاء موسى، الذي قام بتعذيب السجناء في الفترة الممتدة من أيلول/ سبتمبر 2011 الى عام 2012.

ويقوم المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR، بمراقبة هذه المحاكمات ودعم الناجين والناجيات من أجل رفع الدعاوى أمام المحاكم الألمانية، وحالياً يقوم ECCHR بدعم 17 ناجياً من التعذيب، ممن قدموا شهاداتهم أمام الشرطة الجنائية الاتحادية الألمانية، وبين هؤلاء سبعة مدعين أمام المحاكم ويمثلهم محامون من شركاء المركز.

بالإضافة إلى ذلك، قامت مجموعة من سبعة ناجين وناجيات بتقديم شكوى أمام المحكمة في كارلسروه، في حزيران/ يونيو 2020 في ألمانيا، بسبب العنف ذي الطابع الجنسي والعنف الذي يستهدف الجندر في مراكز الاعتقال السورية. وتجاهد منظمات عديدة، على رأسها ECCHR، من أجل اعتبار العنف الجنسي والعنف ذي الطابع الجندري في السجون جرائم ضد الإنسانية. المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR قام برفع مسودة الدعوى للمحكمة بالترافق مع دعم مؤسسات شريكة مثل شبكة المرأة السورية وUrnammu.

ومحاكمة الخطيب هي جزء من سلسلة من الدعاوى الجنائية التي قدمها مركز ECCHR مع ما يقارب 100 سوري في ألمانيا والنمسا والسويد والنرويج.

“يجب أن يحصل بتنسيق على المستوى الأوروبي”

كان لرصيف22 لقاء مع المحامي الألماني فولفغانغ كاليك، رئيس المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR، وهو يرى أنه لا يمكننا الحديث عن بداية حقبة جديدة من المحاكمات في ألمانيا، فألمانيا، من وجهة نظره، كانت دائماً متأخرة عن اللحاق بركب تطور القانون الجنائي الدولي، وهذا بسبب الرفض الألماني للمحاكمات في نورنبيرغ من قبل عدد كبير من القانونيين الألمان، خوفاً من أنه كلما كانت هناك قضايا دولية أكثر، فعلى الدولة الألمانية أن تدفع تعويضات أكثر عن الانتهاكات في عهد النازية.

ويضيف كاليك بأن الوضع هذا تغير في التسعينيات من القرن الماضي، ومع بداية الألفينيات، حيث تمت محاكمات عديدة عمل عليها كاليك، عن جرائم حصلت في الأرجنتين وضد جناة يوغوسلافيين، كجزء من المحكمة الدولية ليوغوسلافيا، ولكن يقول كاليك: “لم تكن هناك حالة بنوشيه Pinochet في ألمانيا”.

ولأن قضية بنوشيه نجحت (محاكمة الجنرال أوغوستو بنوشيه على جرائم ضد الإنسانية، والذي حكم تشيلي لمدة 17 عاماً بعد انقلاب قاده على حكومة الرئيس الاشتراكي سلفادور الليندي في العام 1973)، تبعت ذلك محاكمات في بلجيكا وفرنسا، ولكن ألمانيا تأخرت برأي المحامي الألماني، وهو يرى أن ذلك تغير في السنوات العشر الأخيرة، أولاً بسبب تغير القوانين في ألمانيا واعتماد مبدأ الولاية القضائية العالمية، وثانياً لأنه منذ عشر سنوات تم افتتاح قسم خاص لدى المدعي العام للتحقيق بهذا النوع من الجرائم، وخصصت له موارد مهمة، وحينما تتوفر الموارد تتحرك التحقيقات وتتم المحاكمات.

لذلك، مع دخول موجة اللجوء السوري الكبيرة الى ألمانيا في صيف 2015، كان هناك ضحايا وشهود كثر بينهم، ولذلك تحرك المدعي العام الألماني.

ويأسف فولفغانغ كاليك لأن إسبانيا وبلجيكا كانتا قد بدأتا دعاوى مماثلة لكنهما عادتا وانكفأتا، والآن ألمانيا ابتدأت بالمحاكمات، ولكن ذلك يجب أن يحصل بتنسيق على المستوى الأوروبي بنظره.

ويرى كاليك أن المحاكمة والتحقيقات، وحتى التحقّق من صحة صور قيصر، قد استهلكت الكثير من الموارد، ومحاكمة كوبلنز (المعروفة بقضية الخطيب) هي جزء من الصورة الكبرى للجرائم المرتكبة، ويأمل كاليك في حديثه مع رصيف22 أن تحذو دول أوروبية عديدة حذو ألمانيا في محاكمة المرتكبين، ولكنه يؤكد أن قانون الولاية القضائية العالمي هو الملجأ الأخير لتحقيق العدالة.

ويتابع: “فالحلّ الأول، يجب أن يكون هناك دولة قانون تعمل في سوريا وتحاسب المرتكبين ومن يقومون بالتعذيب، جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وبما أن هذا غير متوفر، فربما يتم إيجاد آلية إقليمية من دول المنطقة نفسها في العالم العربي، والحل الأخير يجب أن يكون قانون الولاية العالمية”.

 المحاكمات والحل سياسي في سوريا

عند سؤاله إذا كان يتوقع أن تنتهي المحاكمات لمجرمي الحرب في ألمانيا، فيما لو تم التوصل الى حل سياسي ينهي الحرب في سوريا، يقول كاليك: “هذا الانقسام بين الثنائي: العدالة أو السلام يجب أن ينتهي. فهل كل المحاكمات تنتهي بحل سياسي؟ بالطبع لا. ليس من الضروري أن يكون السلام أو العدالة متضادين أو متعارضين أو يلغي أحدهما الآخر، لكن بالنهاية ليس هناك سلام دائم من دون عدالة… هذا واضح.”

ويضيف كاليك: “جرائم بحجم جرائم نظام الأسد والتعذيب الممنهج من قبل النظام، لا يمكن أن يتم التغاضي عنها بموجب القانون الدولي. لن يتم العفو عنهم، نقطة”.

يؤكد كاليك أن هذه الجرائم والانتهاكات لحقوق الإنسان مريعة، وفي حالات مشابهة لحكام آخرين لم يتم العفو عنهم، ويرى أنه بالطبع يجب إيجاد حل مع عناصر من النظام السوري من أجل تحقيق السلام، وطبعاً يجب أن تكون هناك مساحة للتفاوض معهم من أجل إيجاد حل سياسي، لكن يجب ألا نضع العدالة أو السلام مقابل بعضهما. لا يجب أن ننفي إمكانية السلام بدون العدالة، ولكن ربما العدالة ليست بسرعة السلام.

فيما يخص الحكم الذي يتوقعه فولفغانغ كاليك على أنور رسلان، وفيما لو سيتم تخفيف حكمه لاعتبارات سياسية، يقول كاليك: ” من يعلم؟ أحياناً تكون المفاجأة إيجابية وأحسن من المتوقع، علينا أن نراقب، هناك حالات عديدة كان هناك توقع معين ولكن النتيجة كانت أفضل من المتوقع، لكن من المهم أن تكون هناك بداية جيدة في ألمانيا، من المستحسن ألا نبالغ في تقييمها ولكن ألا نبخس من قيمتها أيضاً”.

من وجهة نظر كاليك، إذا انتهت محاكمة كوبلنز بحكم على المتهمين، ولكن على رسلان بشكل أساسي، فهذه إشارة إيجابية وستليها أحكام أخرى، لكن المتهمين في ألمانيا وأوروبا ليسوا من “الأسماك الكبيرة”، ويتابع: “نأمل أن تتم محاكمة أشخاص كجميل حسن ونراهم أمام المحكمة”.

ويزيد كاليك: “في السنة الماضية، تم إصدار مذكرة توقيف دولية بحق جميل حسن، فعلى المستويين يجب أن يحصل شيء”.

ويضيف كاليك قائلاً: “عندما تبدأ المحاكمة لا يمكن التوقف. ألمانيا لا تستطيع التوقف، بإمكانها أن تستخدم المحاكمات للضغط سياسياً في مفاوضات السلام. لكننا نتوقع حتماً حُكماً في قضية رسلان، فالمحاكم الألمانية استثمرت موارد ووقتاً كبيراً في هذه التحقيقات. لكن هل سيستمرون باستثمارات كهذه فيما لو تم التوصل إلى اتفاق سياسي في المستقبل؟ لا نعرف. لكن الآن لا يستطيعون إيقاف محاكمة قد بدأت. في قضية أنور رسلان، حتى لو كان هناك اتفاق سياسي في المستقبل، فات الأوان بالنسبة له”.

ويؤكد كاليك أنهم في ECCHR مهتمون بصدور حكم وليس بمدة الحكم، فليست القضية الأساسية إن تم حكمه 10 أو 15 سنة أو مؤبد، إنما المهم في القضية أن يُحكم ويتم تثبيت الحكم ضده بجريمة ضد الإنسانية، وتشكيل سابقة قانونية يبنى عليها لاحقاً.

الفن والعمل القانوني

في الأول من تموز/يوليو، وقبيل ابتداء جلسة المحاكمة والاستماع لأحد الناجين من سجن فرع الخطيب، تم عرض العمل الفني “صامت” أو “Mute” على جانبي مدخل المحكمة للفنان السوري خالد بركة، وهو ناشط ثقافي ومختص بالفن المفاهيمي.

العمل الفنّي Mute لفنان السوري خالد بركة | المصدر: الحملة السورية

وقد تم جمع خمسين تمثالاً ألبسها الفنان ملابس لسوريين/ات مقيمين/ات في المنفى، فبدت التماثيل كأنها تشارك بمظاهرة صامتة سلمية. هذا العرض الفني هو صدى للخوف والغضب من الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري الذي يحدث في سوريا، حيث رفعت قبضات التماثيل احتجاجاً على هذه الجرائم، وهي نفس الجرائم التي يُحاكم المتهمون داخل المحكمة على ارتكابها.

ويتم دعم هذا العمل الفني من قبل منظمات “تبني ثورة”، “عائلات من أجل الحرية”، “الحملة السورية” وأيضاً من قبل المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان.

في هذا الإطار، يقول أندرياس شولير، مدير القسم الخاص بالجرائم الدولية والمسؤولية القانونية في المركز: “إن الفن والعمل القانوني يكملان بعضهما البعض. فالهدف المشترك هو عملية مجتمعية تعالج التعذيب وجرائم أخرى بشكل شامل”.

في السادس من تموز/ يوليو جرت آخر جلسة استماع للشهود في قضية الخطيب في مدينة كوبلنز الألمانية، هذا وسوف تستأنف جلسات المحكمة بعد فترة انقطاع، في 29 تموز/يوليو 2020.

رصيف 22

—————————————

أنا مسيحي وهم جهاديون/ عمر قدور

قبل أسبوع اعتُقل الطبيب علاء موسى في ولاية هيسن في ألمانيا، على خلفية الاتهامات الموجهة له بتعذيب المعتقلين الذين كانوا يُجلبون إلى المستشفى العسكري في حمص حيث كان يعمل قبل مغادرته سوريا منتصف عام 2015. بحسب المعلومات، مغادرة الطبيب سوريا لا تعكس تغيراً في موقفه السياسي، فهو في بلد اللجوء بقي محافظاً على موالاته للأسد، وإذا كان لنا أن نتكهن حول سبب مغادرته سوريا آنذاك فربما هو الضعف الذي وصل إليه الأسد ودفعه إلى التصريح به علناً مستجلباً التدخل الروسي اللاحق. حينئذ كان من السهل على علاء وأمثاله الحصول على اللجوء في دول أوروبية بزعم الهروب من خطر المتطرفين المحدق، وهناك الآلاف من أمثاله الذين حصلوا على حماية مؤقتة أو دائمة تحت هذا الزعم محافظين على ولائهم العميق للأسد، أو على الشعرة التي تربطهم به وتتيح لهم العودة لاحقاً.

أول وأهم ما تسرب من إفادة علاء موسى أمام القضاء الألماني قوله: أنا مسيحي وهم جهاديون. ما يضمر اعترافاً بالأفعال المنسوبة إليه، ومنها سكب كحول على الأعضاء التناسلية لمعتقل وإضرام النار فيها، وضرب معتقل آخر بالعصا على رأسه والتسبب بموته. صدور تلك الأفعال عن طبيب لا جلاد ينبغي ألا يثير حساسيتنا لأن المفارقة آتية من مسبقاتنا الثقافية لا غير، فالسفّاح السوري الأكبر طبيب أيضاً، وتراث النازية مليء بأطباء كانوا جزءاً فاعلاً من ماكينة الإعدام والمحارق واستخدام المعتقلين كفئران تجارب على الأسلحة الكيماوية والبيولوجية. التجربة الأسدية بدورها لا تخلو من سوابق مشابهة للنازية، أي من أطباء كانوا يشرفون على عمليات تعذيب أو قتل يشاركون فيها قبل الثورة، لكن التركيز على الجلادين “الرسميين” ساهم في إبعادهم عن دائرة الضوء.

أنا مسيحي وهم جهاديون. ينبغي ألا يخدعنا ضمير المتكلم في العبارة، فهو يضمر القول: نحن مسيحيون وهم جهاديون. الأنا هنا تنطق كممثل للجماعة لا باسم فرد واحد، وصاحبها موقن من انتمائه إلى جماعة مماثلة له إلى حد التطابق، مثلما الجماعة الأخرى تضم متماثلين ومتطابقين ممن يصفهم بالجهاديين. قتل أولئك “الجهاديين” وبأبشع الطرق يصبح شأناً ثانوياً بناء على هذه المقدمة، فالاختلاف بين الجماعتين يكفي لتبرير الفظائع، حتى من دون إظهار ماهية الاختلاف، فهو وفق هذه الجملة التقريرية لا يحتاج كشفاً وتبريراً. إنه قائم كبديهية، مثلما العنف المترتب عليه بديهي، أو وظيفي لا يدخل في حقل الإجرام.

أمثال علاء موسى ليس لديهم إحساس بالذنب، وقد يكونون أزواجاً وآباء جيدين، قد تستهويهم الموسيقا والطبيعة وبعض أنواع الكتب. يا للهول! هم بشر مثلنا، وليسوا وحوشاً آدمية كما يطيب لبعض منا تخيلهم. هم أيضاً لم يرتكبوا الفظائع مُكرَهين، أي لا يجوز وصفهم بأنهم جزء صغير من آلة الإجرام العملاقة، ويؤدون دورهم بالمعنى التقني فحسب، إذ قد ينطوي هذا الفهم على تغييب مداركهم وعلى إحساس دفين بالذنب قد يتخللهم.

بالنسبة للطبيب علاء، هو لم يعذّب ويقتل بشراً، لقد فعل ذلك بالجهاديين. مناقشة أفعاله بالتدليل على أنهم لم يكونوا جهاديين فيها تسخيف للأمر برمته، وهذا نقاش خاضه بعض أنصار الثورة مطولاً للتمييز بين متظاهرين سلميين ديموقراطيين وجهاديين لهم مشروعهم الخاص. القناعة الأساسية لدى علاء وما يمثله أن هؤلاء الضحايا ليسوا بشراً، الأوصاف التي تُطلق عليهم هي لتعزيز القناعة بذلك، وعطفاً عليها لا ينطبق عليهم مفهوم الجريمة، فنحن لا نجرّم مثلاً من يذبح خروفاً أو يلتهمه. ربما علينا تدارك استخدام مثال الخروف، إذ من المستهجن عموماً تعذيب الحيوانات الأليفة، والأقرب إلى الواقع أن نفي صفة البشرية عن الضحايا ملازم للانتقاص التام من شبهة التعاطف، ما يستلزم النظر إليهم بوصفهم وحوشاً.

ربما تشجعَ علاء على النطق بقناعته ظناً منه أنه يقولها في غرب مسيحي يشاطره فيها، وهو بذلك ينطق عن قناعة بأنه امتداد لعشيرة الغرب المتحضر وسط أولئك الهمج. لكن ألمانيا تحديداً بلد مثقل بماضيه النازي، الماضي الذي أشبع دراسة من أجل عدم النكوص إليه، وهنا يجدر بمحاكمته في ألمانيا استغلال ذلك الإرث الثقافي وعدم الاقتصار على الجانب القانوني. التبرير الذي يقدّمه علاء لجرائمه هو في حد ذاته جريمة أخرى ينبغي عدم إغفالها، وهي جريمة وثيقة القرابة بما دأب عليه هتلر الذي كان يصف المُراد إبادتهم بـ”ما دون البشر”. بمعنى أن العنف الرمزي لا يؤسس فقط للعنف المادي، هو بالأحرى يُفقد مرتكبه مجرد الإحساس بأنه يمارس العنف، والتأسيس للعنف الرمزي هو الجريمة “الناعمة” الأولى التي يهون بعدها ارتكاب الفظائع.

من المؤسف أن الكثير من التحليلات كان قاصراً عن فهم الدعاية الأسدية منذ مستهل الثورة، الدعاية التي ركزت على وصف الثائرين بالإرهابيين أو الجهاديين، ونُظر إليها كمحاولة للتقرب من الغرب أو تخويف “الأقليات”. من دون استبعاد تلك المكاسب المحتملة، كان أهم ما في الدعاية الأسدية هو التأسيس للعنف المعمم، مع بدء استخدامه من قبل قوات الأسد وشبيحته. وظيفة الدعاية الأساسية كانت نفي أية حقوق لأولئك الثائرين، بل نفي صفة البشر عنهم، بوصفهم “كائنات” إرهابية أو جهادية من المباح التخلص منها بأية طريقة كانت. خطاب الإبادة والاستباحة المعمم لم يكن لينجح إلا على أرضية من الانقطاع عن الآخر ككائن بشري، والفظائع التي تلت لم تكن لتمر بسهولة لولا تلك القناعة المعممة لدى الموالين بأن أولئك الضحايا هم “ما دون البشر” بتعبير هتلر.

المسألة لم تكن منذ ذلك الوقت صراع سرديتين، سردية النظام وسردية الثورة، كانت على نحو أدق استخدام النظام العنف الرمزي مع تمهيد الأرض له كي يُمارس فعلياً، وكما رأينا سيجد ذاك الخطاب تتويجه بحديث بشار الأسد عن كسب مجتمع متجانس بعد القضاء على “الإرهابيين”. لا غرابة في أن سورياً اسمه محمد أحمد عبدالوهاب خاطب بشار الأسد في مستهل الثورة قائلاً: أنا إنسان ماني حيوان، وهالناس كلها متلي. فالرجل ببساطة وعفوية كان يستبطن جوهر الماكينة الأسدية.

واحد من العوامل المساعدة على انتشار خطاب العنف عدم الانتباه والاتفاق عليه بين من ينسبون أنفسهم إلى المعارضة، ثمة فئة مثلاً كانت “حريصة” على تجاهله بزعم أن الخوض فيه وفي الانقسامات الأهلية سيعزز الأخيرة، بل هناك فئة أنكرت ذلك الخطاب الخبيث مقابل تصويبها على خطاب أكثر فجاجة وأقل مكراً راح يظهر في أوساط الناقمين على الأسد. هكذا لم يأخذ تشريح الاستثمار الأسدي في الحرب الأهلية مكانته، فاُنكر وجودها من قبل كثر، ونُظر إليها من قبل آخرين كقدر لا فكاك منه من دون التمييز بين الاختلافات المذهبية أو الإثنية وخطابات العنف التي قد ترافقها أحياناً، بشرط عدم إقامة التلازم بين الاختلاف والعنف.

في أرض الإفلات المادي من العقاب، سيكون من السهل انفلات العنف الرمزي على أقصى مدى. “أنا مسيحي وهم جهاديون” واحدة من العبارات التي وجدت طريقها إلى الممارسة الفعلية بإحراق أعضاء تناسلية والضرب حتى الموت، وصف “الإرهابيين” الذي أطلق على كل من آمن بالثورة أودى بنصف السوريين إبادة وتدميراً وتهجيراً. لكننا لا نعدم أوصافاً أخرى من الأرومة التي تنطوي على التحقير ونفي البشرية عن الآخر ولو مواربة، وصف العرب بشاربي بول البعير، أو وصف الأكراد بالبويجية، وحتى عدم التمييز بين أن يكون الأسد طائفياً وأن يستثمر في الطائفية ووصفه تالياً بالنظام النصيري؛ من المرجح أن يكون أصحاب هذه القناعات قد أتموا استعدادهم لفعل ما فعله علاء موسى، أو التصفيق له على الأقل، في حين لا يكفّ مثقفون عن ممارسة عنف رمزي آخر بمحاولة إفهامنا أن الإسلام هو المنبع الحصري للعنف لذا نحن محكومون به. في بيئة لا تجرم العنف الرمزي، لا شيء يمنع قاتلاً من التصريح بإيمان حقيقي: أنا أحب الملوخية وهو لا يحبها لذا تخلصت منه، هو بالتأكيد ليس إنساناً، فكما تعلمون لا وجود لإنسان لا يحب الملوخية.  

المدن

====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى