أبحاث

إخوة السلاح/ محسن المصطفى

سلطتُ الضوء في دراسة حديثة صادرة عن مركز عمران للدراسات على أن أهم أربعين منصباً قيادياً في الجيش السوري يقودها ضباط من الطائفة العلوية حصراً التي ينتمي لها رأس النظام السوري بشار الأسد. كما أظهرت الدراسة التوزع المناطقي الضيق لهؤلاء الضباط على المحافظات والمناطق الإدارية في سورية.

بطبيعة الحال لا يمكن القول بأن الجيش السوري بتشكيلاته كافة قائم على طائفة معينة، ولكن هذا لا ينفي أيضاً وصول الجيش لحالة غير مسبوقة من التطييف بسبب تنامي “العلونة” في سلك الضباط على مر عقود من الزمن. وثمة أسباب تاريخية أوصلت الجيش لهذه الحالة من الاعتماد على طائفة بعينها دون غيرها من بقية الطوائف، فأين تكمن المشكلة وما هي الطرق الممكنة للإصلاح؟

بشكل أساسي يمكن القول بأن المشكلة تقسم إلى قسمين أساسيين: الأول، آلية القبول في الكليات والمعاهد والمدارس العسكرية بمختلف اختصاصاتها، والثاني، آليات الترقية والتعيين في الرتب العليا. وإن حلّ هذه المشكلة برمتها يحتاج إلى عملية إصلاح جوهرية تشمل الجوانب التنظيمية والقانونية المتعلقة بالقسمين المذكورين أعلاه.

تُعد آلية القبول في الكليات والمعاهد العسكرية أصل المشكلة، حيث تشغل هذه الكليات حجر الأساس في تخريج الطلاب الضباط في الجيش السوري، إلا أن هذه الآلية غير متوازنة لا مناطقياً ولا طائفياً ويوجد تفضيل أساسي– غير قائم على مستند قانوني – يحكمه العُرف والشبكات غير الرسمية في قبول العلويين. وزاد هذا التفضيل خلال السنوات الماضية بشكل أكبر بكثير مقارنة بما قبل العام 2011، بعد نجاح النظام في عسكرة الطائفة العلوية بمواجهة الانتفاضة الشعبية في سورية.

ظاهرياً لا توجد محاصصة طائفية في سورية لأي منصب فضلاً عن وجودها في قبول الطلاب الضباط، و دستورياً النظام السوري يجرّم الطائفية، لا وبل يمنع مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب أو تجمعات سياسية على أساس ديني أو طائفي. إلا أنه في الواقع يمارسها بفعالية وبالأخص على مستوى المؤسسة العسكرية والأمنية، حيث يحتكر العلويون كافة المناصب القيادية في الجيش والأمن دون غيرهم من الطوائف في سورية، وعلى ذات النهج يحتكرون القبول في الكليات والمعاهد العسكرية، منذ الانقلاب الذي قاده حزب البعث في العام 1963، وفي أعقاب ” الحركة التصحيحية ” التي أطلقها الرئيس الراحل حافظ الأسد في عام 1970.

يضاف لتأثير تلك الآلية، تأثير الشبكات غير الرسمية “العلوية” في الجيش ، والتي تؤثر بمجموعها على تكافؤ الفرص أمام كافة المتقدمين من مختلف الطوائف والمناطق، وهو ما يكرس في نهاية الأمر عملية تطييف واسعة في الكليات العسكرية ولاحقاً في الجيش.

تلعب شعبة الاستخبارات العسكرية دوراً أساسياً في عملية القبول عبر دراسات أمنية ميدانية تجريها عن جميع المتقدمين، ولا يمكن لأي منهم أن يُقبل دون أن تثبت نتيجة الدراسة بأنه موال للنظام سواء على الصعيد الشخصي أو العائلي أو حتى المناطقي. كما يتم استبعاد أولئك الذين يتحدّرون من بيئات معينة أو من عائلات تربطها صلات قربى مع أشخاص ذوي تاريخ سياسي معارض.

قد يكمن الحل الأمثل في وضع آلية ثابتة ومتوازنة للقبول في الكليات العسكرية يكون أساسها التوزع المناطقي بحسب عدد سكان كل محافظة على أن يتم اعتماد الأصول في هذه العملية مع التشديد على منع الإجراءات البيروقراطية في دوائر الدولة المدنية التي تخوّل المتقدمين تجاوز هذه الآلية، مع التأكيد على جانب المواطنة من دون أي اعتبارات أخرى. ولكن هذه الآلية تفقد النظام قدرته على “علونة” سلك الضباط بعد عدد معين من السنوات، وهذا بالتأكيد ما لا يريده النظام السوري.

بشكل مماثل لآلية القبول المتبعة في الكليات العسكرية، انسحبت هذه الآلية على عمليات الترقية/التعيين في المناصب الكبرى، كما أظهرت بأنها انتقائية، وغير مهنية، وحتى طائفية، وتقبع بشكل تام تحت سطوة شعبة الاستخبارات العسكرية ولجنة الضباط التي يرأسها رئيس الجمهورية بصفته القائد العام للجيش والقوات المسلحة، وتضم رئيس هيئة الأركان مع عدد من الضباط الآخرين.

تنظيمياً، تُحدّد إدارة القوى البشرية من هم الضباط المؤهلون للترقية/ التعيين، مع مراعاة الإطار القانوني لعملية الترقية من حيث عدد سنوات الخدمة وتوافر الشاغر، إلا أن الكلمة الفصل في الترقية تعود لشعبة الاستخبارات العسكرية عبر فرع شؤون الضباط الذي يرمز له بالفرع 293. وتاريخياً منذ العام 1973، لم يتولَّ منصب رئاسة شعبة الاستخبارات العسكرية أو رئاسة فرع شؤون الضباط سوى ضباط من الطائفة العلوية حصراً، وهذا يمثّل أيضاً تحدياً آخر في عملية الإصلاح.

أما قانونياً، فيحدّد قانون الخدمة العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي الرقم 18 لعام 2003 وتعديلاته، أصول الترقية وكيفية تنظيم ملفات العسكريين العاملين، حيث يفرض القانون وجود ملفين لكل عسكري، أحدهما يدعى ملف الخدمة وتوضع فيه الأوراق والبيانات المتعلقة بخدمته، أما الثاني فهو ملف سري توضع فيه التقارير وسائر المعلومات التي لها صفة السرية. أما كيفية تنظيم هذين الملفين فتصدر بتعليمات عن رئيس هيئة الأركان وعن القائد العام والذي هو في الوقت ذاته رئيس الجمهورية.

ويتحكم الفرع 293 بالملف السري بالكامل عبر ضباط الأمن المنتشرين في الوحدات العسكرية، ويقوم بلعب دور محوري في عمليات الترقية عبر تسلسل هيكل القيادة، حيث يقدم الفرع تقاريره لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الذي يقوم بعرضها في اجتماعات لجنة الضباط المذكورة آنفاً.

وخلال هذه الآلية، تكون شبكات العلاقات غير الرسمية قد أتت أُكلها وأفضت لترقية / تعيين الضباط على أسس الولاء وطبيعة العلاقات الموجودة في الشبكات الحاكمة داخل المؤسسة العسكرية، من دون الالتفات لمستوى المهنية أو الحرفية، لدرجة أن بعض عمليات الترقية والتعيين تصل لأن يتم تهيئة الشاغر المناسب لشخص معين لديه الحظوة داخل تلك الشبكات. مرّة أخرى هذا لا يعني عدم ترفيع ضباط من بقية مكونات الشعب السوري.

يُذكر أنه في أيلول/سبتمبر من العام 2019 أصدر الرئيس بشار الأسد قراراً يقضي بمنح شهادة القيادة والأركان للضباط من رتبة عقيد وما فوق حتى وإن لم يكونوا قد اتبعوا دورة ركن، وذلك للضباط الذين منعهم انشغالهم في قيادة العمليات العسكرية. ويأتي هذا القرار استناداً إلى الفقرة “ب” من المادة 39 من قانون الخدمة العسكرية. بالطبع إن هذا القرار يمنح الضباط درجة “ركن” تؤهلهم لاحقاً للترقية لرتبة أعلى، إلا أنه لن يستطيع أن يمنحهم التأهيل العلمي العسكري المناسب لقيادة وحدات عسكرية أكبر.

بطبيعة الحال لا يمكن اعتبار عمليات عسكرية ضد جماعات مسلحة (العمليات الدائرة في سورية منذ 2011) مشابهة لما يمكن أن يكون عليه الحال في عمليات عسكرية ضد جيوش منظمة.

ضمن حلقة مكررة قوامها عسكريون فقط تتم عمليات الترقية والتعيين والإقالة من دون وجود أدنى مستويات الرقابة أو المحاسبة من مؤسسات الدولة المدنية بالطبع مع الافتقار للشفافية اللازمة، لتبقى هذه العمليات حبيسة رغبة القيادة السياسية وما تقتضيه مصالحها بالدرجة الأولى في البقاء بسدة الحكم، حتى وصل الحال لما هو عليه الآن، بتعيين كافة المناصب القيادية في الجيش السوري من طائفة واحدة فقط.

بشكل عام، هناك ثلاث قواعد يقوم عليها النظام الحاكم في سورية هي: البعث؛ والجيش؛ والطائفة العلوية، وفعلاً هذه القواعد ساهمت بشكل أساسي في منع سقوط النظام. فما زال حزب البعث على الرغم من تراجع مكانته بموجب دستور 2012، يمارس دور “قائد الدولة والمجتمع”، كما يخترق صفوف المؤسسة العسكرية بالكامل ويشغل عدد من الضباط مناصب قيادية سواء في القيادة المركزية أو في اللجنة المركزية للحزب.

أما الجيش فقد تحوّل إلى مؤسسة يقودها ضباط علويون بالكامل، وارتبط الجيش بشكل أساسي مع القاعدة الثالثة وهي الطائفة والتي أصبحت مُعسكرة بشكل شبه كامل في صف النظام السوري. وعلى ضوء هذه التوليفة ضمن القواعد الثلاث السابقة، تبدو أي عملية إصلاح في مستويات الانتساب والترقية والتعيين محكومة بالفشل إن استمر النظام بهذه العقلية، أي العقلية الطائفية في التعامل مع السياسة العسكرية. وينذر ذلك بمزيد من الانقسام في المجتمع السوري مثلما شهدنا منذ العام 2011. وبالتالي ستكون عقلية النظام حجر عثرة أمام إنشاء جيش وطني مهني محترف ذي هيكلية مستقلة بعيداً عن الاعتبارات السياسية السورية التي تغلب حتى على الإصلاحات العسكرية التي تسعى روسيا، حليفة سورية الأساسية، إلى إجرائها في البلاد .

مركو كارينغي للشرق الأوسط

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى