شهادات

ذاكرة مدينة/ وائل السوّاح

ستضاف كل حلقة من هذه الشهادة في نهاية هذا الملف

1.  الحارة الأولى

بخبث وحذر شديدين، يتسلّق شارع النادي الحمصي تلّة صغيرة، بادئا من دار الحكومة في الساحة الرئيسية وسط المدينة بحمص، قبل أن ينحدر سريعا باتجاه طريق الشام، على امتداد أقلّ من أربعمائة متر فقط. أخذ الشارع اسمه من “النادي الحمصي” الذي أسّسه حماصنة مغتربون في البرازيل. وكانت الجمعيات الحمصية الثقافية أول ما ظهرت في أمريكا اللاتينية، إذ إن الحماصنة كانوا يشكلون النسبة الكبرى من المهاجرين السوريين في أمريكا اللاتينيةـ بين عامي 1910 و1930.  من بين تلك الجمعيات كانت جمعية الشباب الحمصي الخيرية التي تأسست في سانتياغو، تشيلي، عام 1913 والنادي الحمصي في ساو باولو، البرازيل في عام 1920.

منذ أواخر القرن التاسع عشر، أرسلت المدينة الغافية على ضفاف العاصي نخبة من مثقفيها وشعرائها إلى العالم الجديد، فارقوها دون أن تفارقهم. بينهم كرجية حداد، المولودة في حمص عام 1890، وهاجرت مع عائلتها إلى البرازيل عام 1902 ضمن موجات الهجرة السورية الكبيرة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، غدت سيدة أعمال ثرية، فأهدت حمص مطلع الخمسينات أحد أجمل آثارها الحديثة: ساعة حمص، التي أمضى كل أطفال حمص سنوات وهم يلهون حولها، متسلقين أضلع قاعدتها الرباعية، على مدى عقود، قبل أن تشتهر أثناء انطلاق الثورة السورية، حين احتشد حولها عشرات ألوف الحماصنة، فأطلقت قوّات الأسد النار الحيّ عليهم، وقتلت العشرات، معلنة بدء  حمّام الدم الذي لا يزال يغسل البلاد حتى اللحظة.

وبينهم نخبة الشعراء الذين جعلوا اسم المدينة الصغيرة يتردّد على كلّ لسان، ندره حداد وميشال مغربي ونصر سمعان وحسني غراب، وقبلهم جميعا نسيب عريضة الذي تجعل كل قارئ لقصائده في حمص يتمنى لو كان حمصيا:

يا دهرُ قد طالَ البُعادُ عن الوطن       

هل عَودةٌ تُرجى وقد فات الظَعَن

عُد بي إلى حِمصٍ ولو حَشوَ الكَفَن

واهتِف أتيتُ بعاثِرٍ مَردودِ

واجعَل ضريحي من حِجارٍ سُودِ.

ولكن أهالي المدينة سينسون اسم الشارع الأساسي ويطلقون عليه ببساطة “شارع التلة” لاعتلائه الخبيث تلك الطَلعة اللطيفة، كما نسوا اسم شارع شكري القوتلي فأسموه شارع السرايا، واسم شارع المتنبي فأسموه شارع الدبلان.

إذا مشيت في ستينات القرن الفائت في شارع التلّة قادما من السرايا، فستمرّ جهة اليمين ببيتين عربيين، يليهما زقاق ضيق مسدود الآخر، في نهايته باب يؤدي إلى المدرسة الوليدية، التي لو دخلتها في الستينات أيضا لوجدت ولدا صغيرا ضئيل البنية قصير القامة يركض في الباحة مع رفاقه غانم الجمالي وموفق الجرايحي ومحمود الفاخوري وشاكر القاسمي وملاذ السباعي، وسيكون لهذا الولد شأن في حكايتنا بعد قليل. يلي ذلك الزقاق بناء قديم من طابقين، تأتيك منه دائما صيحات أولاد بمراييل سوداء، يلهَون في ساحة البناء، أو تراهم جالسين في صفوفهم على مقاعد دراسية خشبية عتيقة، وهم يردّدون وراء معلميهم نشيدا أو يتعلمون الحساب. إنه الميتم الإسلامي، الذي أسّسته الجمعية الخيرية الإسلامية في حمص، في العشرينات من القرن الماضي. يضمّ الميتم أولادا فقدوا آباءهم، يتعلّمون في الطابق الأرضي، ينامون في الطابق الأول.

ثم هنالك زقاق آخر يصل ما بين شارع التلّة وطريق الشام، فيه بيتان، أحدهما مسكون من قبل عائلة حمصية من أصل أفغاني وآخر مهجور، يسكنه شياطين لا أحد يعرف عددها. ولطالما خشي الصبي المرور في ذلك الزقاق، بسبب سمعةٍ ما غامضةٍ وحكايات تدور حوله، لم يفهمها ولم يحاول ذلك قط. يأتي من ثمّة جامع التلّة، بمئذنته البيضاء السامقة وجدرانه المصفرّة. ولو دخلت هذا الجامع في الستينات في صلاة الجمعة، لوجدت شيخا جليلا نحيلا، بلفّة بيضاء وجبّة رمادية نظيفة، وهو يلقي بخطبة الجمعة من على منبر الجامع، بصوت ضعيف متهدّج. إنه الشيخ طاهر الرئيس، الذي يحمل الحماصنة له نوعا من التقديس لطيبته وبساطته وتعمّقه في الدين وبكائه المستمرّ حين يتلو القرآن. أما في الصلوات الخمس، فسيسحرك شيخ جليل آخر، كان الصبي يتأمله بفتنة ورهبة، ويتخيل الله على شاكلته. إنه الشيخ عيون السود بوجهه الجميل ولحيته البيضاء وقامته القصيرة. أما إن دخلته عصر أحد الأيام في منتصف الستينات، فستجد الصبيَّ مصليا أو متحلّقا في حلقة لقراءة القرآن أو الذكر، بين مجموعة من الرجال يكبرونه بعقود، وتعصف بقلبه لذّة لن يعرف لها مثيلا إلا بعد بضع سنوات، حين ستختطفه لحظة سرية دافئة في الخامسة عشرة من عمره، وقتَ أذهله سائل تدفق بين ساقيه، أفقده صوابه.

يعلو الجامعة التلّة التي يتسلّقها الشارع، فإذا ما انحدرت بعد بضعة أمتار فستأتيك بنايتان توءمان متلاصقتان، بطابق أرضي وطابقين علويين، يفصل بينهما في الوسط منور كبير يطل على الطابق الأرض في بنايتنا. كان يسكن إبراهيم مع عائلته. إذا ما قورن بأولاد الحارة جميعا، كان إبراهيم يتمتّع بكل شيء. كان لديه درّاجة صغيرة بثلاث عجلات وسيارة صغيرة حمراء يقوده داخل شقته، ولديه الكثير من الشوكولاتة، ولكنه لم يكن ينزل الحارة ليلعب مع الأولاد مطلقا. كان الصبي يزوره أحيانا بناء على دعوة والدته، فيشاركه ركوب السيارة الحمراء ويأكل معه الشوكولاتة ويلعب بألعابه الأخرى.

في البناية الثانية، كان الصبي يسكن في الطابق الأول، مع أبويه واثنين من أخوته الكبار، سحبان وبشّار، وأخته التي كان يُفتن دائما بجمالها وطيبتها: مها. أخوه الأكبر فراس، كان قد غادر حمص إلى دمشق للدراسة في الجامعة، وسيزور حمص مرّات قليلة في السنة. يفصل بين الصبي وأصغر أخوته بشّار ست سنوات، ما جعل الولد يعيش وكأنه ولد وحيد، فما كان أخواه اللذان يمضيان الوقت في الشجار والقراءة يأبهان للعب معه. والدة الصبي كانت تعاني من اكتئاب مزمن وهوس النظافة، فكانت تبقي الصغير بجانبها معظم الوقت. وهي أساسا لم تكن ترغب في إنجابه، بل إنها حاولت إسقاطه عدّة مرّات، ولكنه تشبّث برحمها بقوة، وقد يكون أنفق معظم ما لديه من قوّة، لذلك، سيكون في سنواته الأولى ضعيفا، غير واثق من نفسه. وفي أحد تقارير العلامات الفصلية، سيكتب والده للمعلم ملاحظة، بقيت في ذاكرته حتى بعد أن دخل الكهولة: “شديد الخوف، ضعيف الشخصية، يرجى الاهتمام بذلك”!

أمضى الصبي السنوات الأولى من حياته في البيت، وحين غادره أول مرّة، كانت إلى المدرسة. أخذه أبوه إلى روضة أطفال تشرف عليها راهبات يسوعيات، تشرف عليها رئيسة راهبات صارمة، وتديرها كثكنة عسكرية. كان الأطفال يقفون في الطابور الصباحي كالجنود، وحين يدخلون الصف، يسيرون على أصابع أرجلهم. وقبل الدروس، كان الأولاد يضعون أيديهم على طاولات مقاعدهم، ليظهروا أن أظفارهم مقصوصة، وبجانب الأيدي الممدودة، منديل أبيض نظيف ومكوي بعناية. أي خلل سيؤدي إلى الضرب بالمسطرة على ظهور الأيدي.

كانت معلمة الصبي الأولى مدموزيل إيزابيل. سيدة شقراء نحيلة بعينين زرقاوين باهتتين وذقن مدبّب، تدلّت منه شعيرات ملفتة الطول. لم تحبّ إيزابيل الولد، ولم يحبّها أبدا. ولم تتأخر عن استخدام مسطرتها كلّما اعتقدت أن الصبي يحتاج إلى تذكير.

في الفرصة بين الدروس، كانت رئيسة الراهبات تسمح للأولاد باللعب والتأرجح على أرجوحتين منصوبتين في باحة المدرسة، أو التزحلق على الزحليقة الصفراء أو أرجوحة القبّان ذات الكفتين، تعلي ولدا وتخفض الآخر. ولم يشارك الصبي في أي منها، ولم يلعب مع أي من الأولاد، بل كان ينتحي دائما ركنا منعزلا من الباحة، يأكل شطيرته التي أعدتها له أمه، ويرقب الأولاد بشيء من الحسد والغيرة.

ولكنه سيثبت تفوّقا في دروسه، فترفّعه المديرة من صفّ إلى صفّ. وستحلّ محل مدموزيل إيزابيل الكئيبة المتجهّمة معلمة أخرى: مدموزيل دلال، سيدة حنطية بشعر أسود وعينين سوداوين وشفتين ممتلئتين، مفترّتين غالبا عن ابتسامة كانت تكشف عن أسنان طالما لفتت انتباه الصبي ببياضها وتناسقها. وعلى الضدّ من إيزابيل، كانت دلال لطيفة، ولم تعاقب أيا من الأطفال بمسطرتها التي كانت تستخدمها فقط للإشارة إلى السبورة السوداء. وقع الصبي في عشق المدموزيل، وبات يتابعها بعينيه وقلبه، وكانت تبدي نحوه اهتماما خاصّا. بعد تسع سنوات، سيشارك الصبي وهو في الصف التاسع في مسابقات “أوائل الطلبة”، التي كانت تقام بين المدارس الإعدادية في كلّ مدينة، وسيجيب على أكثر من نصف أسئلة الفريق، وسيفوز فريقه على فريق بنات مدرسة سكينة. وفي نهاية الحفل، ستقترب منه سيّدة حنطية اللون، بشعر أسود وعينين سوداوين وشفتين ممتلئتين، مفترّتين عن ابتسامة لطيفة كشفت عن أسنان لفت انتباه الفتى ببياضها وتناسقها. وقالت له:

“أحسنت. أحسنت. ما عرفتني؟”

“مدموزيل دلال!!” هتف الفتى باستحياء وفرح ووَله، وأردف:

“معقول ما أعرفك؟!”

ثمّ شدّ على يدها الممدودة له، فسرى من يدها ليده تيار من الدفء والمحبة والحنان.

——————————

2. المواجهة الأولى مع الملكين

أسفل بيت الصبي وقبالته دكاكين لحرفيين وبائعين سيلعبون في حياته دورا كبيرا. قبالة باب البناية مباشرة باب حديدي أسود، لم يرّه الصبي مفتوحا على الإطلاق، لأن البيت ذا الطابق الواحد كان له مدخل آخر في حارة فرعية تمتدّ من شارع التلة إلى الشارع الموازي له جهة الشرق: شارع الخندق. وذات صباح، حين نزل الصبي إلى الحارة في صيف إحدى سنوات الستينيات، فوجئ بذلك الباب مفتوحا لأول مرة، وأمامه في الشارع المرصوف بحجارة مربّعة فاتنة، سيقرر أحد البيروقراطيين بعد عام استبدالها بإسفلت كريه، وقف ثلة من الرجال والشباب، صامتين أو يتحدثون همسا. بجانبهم، امتدّت سقالة بأربع أرجل تمدّد فوقها تابوت خشبي غير مدهون. تسلل إلى جوف الصبي شعور مبهم امتزج فيه الخوف بالإثارة. كانت تلك أول مواجهة بينه وبين الموت. سابقا كان الموت بالنسبة له مجرّد كلمة. كان يعرف مثلا أن جدّيه لأمه وأبيه ميتان، وكذلك جدّته لأبيه، ولكنه لم يشهد وفاة أيّ منهم، فجميعهم ماتوا قبل ولادته. اقترب من الرجال الواقفين قبالة الباب، محاولا أن يسمع ما يهمسون به، بيد أنه لم يسمع سوى غمغمات. ثمّ عرف أخيرا من أحد أصدقائه، ظهيرة، أن جدّ العائلة، قد توفيّ ليلا، وسيشيعونه اليوم عند صلاة الظهر.

“بتيجي؟” سأله ظهيرة؟

“لوين؟” أجاب بسؤال آخر.

“ع التربة.” قال ظهيرة وبدا عليه أنه مصمّم على الذهاب هو نفسه.

لم يكن اسمه الحقيقي ظهيرة. كان عبد الظاهر الحسامي، يسكن وأسرته في البيت العربي الواقع أسفل شرفة الصبي، في الزقاق الثاني الواصل بين شارع التلة وطريق الشام. على عكس الزقاق الأول الذي طالما تحاشى الصبي المرور فيه، كان هذا الزقاق مليئا بالحياة والحركة، ففيه على اليمين بقالية ومحل حلاقة ودار كبيرة لأخوين كانا يحفران الخشب، ومكتب عقاري، وعلى اليسار بيتان: أحدهما بيت يسكنه عجوز مخيف يتدّلى أسفل بطنه فتق عجيب كبير، يحمله معه أينما ذهب. كنا نناديه “أبو قرّ” وعادة ما نفرّ منه كلّما أطل في الحارة، خوفا من سلاطة لسانه وفزعا من منظر الفتق الذي كان يبدو كبيرا جدا داخل بنطاله.

البيت الثاني كان بيت ظهيرة الحسامي، تسكنه أم رشيد مع تسعة من أولادها: سبعةِ صبيان وبنتين. كان الأب يعمل في السعودية، حين كان قلّة فقط من الحماصنة يعملون هناك، وكان يأتي مرّة واحدة في السنة، فيمضي بضعة أسابيع في الصيف، وحين يسافر، كانت بوادر حمل جديد تظهر على الأم الصبور. وكان باب بيت الحسامي مفتوحا دوما، وحين لا يجد الصبيّ “ظهيرة” أو أيا من أخوته في الحارة، كان يدلف إلى بيتهم دون أن يكلّف نفسه عناء استخدام الجرس أو مدقّة الباب. يؤدي الباب إلى ممر مظلم قصير يفضي إلى أرض الديار الصغيرة المعدّسة، بجانب الممر إلى اليمين مطبخ صغير، غالبا ما كنت ترى الأم فيه وهي تعدّ طعام الغداء، على موقد الكيروسين (البريموس) الذي كان يهدر بصوت جبّار بعد أن تحقنه الأمّ وتنكشه بنكاشة البابور، فيلتهب بنار عظيمة.  في أكثر البيوت الحمصية، بدأت الأسر باستبدال موقد الغاز بالبابور، واحتفظت بالأخير للغسيل فقط، وهو ما فعلته أمي مثلا، ولكن أم رشيد، كانت تصرّ على الطبخ على البابور لأن موقد الغاز مكلف أكثر وأضعف من أن يهيئ الطعام لعشرة أشخاص. هل قلتُ عشرة؟ في الحقيقة، كان الصبي غالبا ما يدعو نفسه إلى الغداء عندهم، ودائما ما كانت أم رشيد ترحّب به بابتسامة وكرم. على يمين البيت غرفتا نوم، وعلى يساره غرفة صغيرة للعائلة، مفروشة بحصيرة وبساط ووسائد على أرضية الغرفة، وغرفة أكبر للضيوف، كان الصبي يدخلها فقط حين يلعبون لعبة “الاستخباية” ليختبئ وراء مقعد أو صوفا، بينما يبحث عنه من عليه الدور.

لا يدري الصبي كيف تحول عبد القادر إلى ظهير ثمّ ظهيرة. ولكنه ليس الوحيد في العائلة، فباستثناء أخيه الأكبر رشيد – الذي كان يُرعب أخوته ويرعب كلّ أولاد الحارة، حين كان في غياب أبيه يلعب دور المربّي، مستخدما حزامه كأداة للتربية – كان لكلّ صبي في العائلة اسم تحبب. عبد الفتاح الذي يلي رشيد كان فاتح، ومنار نورا، وجمال جوجو، وعامر عمّورة. أما الأخ الذي يكبر ظهيرة مباشرة فتحول اسمه من محمد إلى “الحجة”، على الأغلب لأنه كان يهز جسمه إلى الأمام والوراء حين كان طفلا.

سيظلّ ظهيرة الصديق المقرّب إلى الصبي في الحارة، حتى يغادر المدينة للدراسة في الجامعة، حين سيبعد بينهما التنائي، وحين – بعد سنوات –سيعتقل الصبي (وقد غدا شابا) بسبب نشاطه السياسي لعشر سنوات، ثم يطلق سراحه مطلع التسعينيات، سيلتقي “الحجة” ويساله عن ظهيرة، وسيشرد “الحجة” بعينيه بعيدا، قبل أن يعود بعد لحظات ليقول له:

“لا نعرف عنه شيئا. راح من عشر سنين ولم يعد. كنت آمل أن تخبرني عنه أنت.”

“ما بعرف،” أجاب الصبي ظهيرة الذي كان ينتظر إجابته بتلهّف، “بيجوز ما تخليني أمي.”

“لا تقلْ لها. سنذهب ونعود قبل أن تشعر بغيابك.”

تناوبه شعوران، أولهما الخوف والرهبة من الموت والمقبرة، وثانيهما الاستطلاع واستكشاف المجهول. وبقي بدون قرار حتى خرجت الجنازة من البيت، فوجد نفسه يسير وراءها مع ظهيرة ونورا وآخرين بدون إرادة، يقرقع بحذائه على حجارة الطريق، مسوقا كالمسلوب، مخلّفا وراءه النساء وعويلهن على الميت، وقد تقدّم الجنازة الشيخ سميح، بهلول حمص الذي كان لا يترك جنازة دون أن يسير في مقدمتها حاملا غصنا كبيرا من النخيل، بذقنه الخفيفة وصوته العريض المريع.

كانت تلك أول مرّة يدخل الصبي فيها مقبرة، أي مقبرة، وتملكه شعور قوي بالخوف والرهبة، ترافق مع شعور آخر بالسكينة والراحة. وراقه أن يتغلّب شعور السكينة على الإحساس بالخوف. كان الصمت المحيط غريبا، يترك في الآذان صدىً غير مسموع. وبدأ الرجال يتمتمون بصوت عال سورة ياسين، ثمّ رأى الصبي الرجال وهم يُنزلون الجثمان بكفنه الأبيض، قبل أن يجلس رجل عند رأس الميت، ويذكّره بما يجب أن يقول للملَكَين حين يأتيانه بعد قليل.

سيظلّ منظر الملَكَين وهما يستجوبان الميت في خيال الصبي زمنا طويلا، حتى حين يغدو رجلا، ويجلس مكبّلا في غرف التحقيق، كان منظر الملكين لا يفارق خياله. وحين عاد إلى البيت بعد الجنازة، سألته أمه أين كان، فأجاب إنه كان يلعب مع أصحابه في الحارة، ثمّ سألها:

“عرفتِ أن جارنا مات؟”

“إي، الله يرحمه.”

وأراد أن يسألها شيئا، ولكنه أجّل السؤال لحين مجيئ أبيه عند الغداء. اختلى به، وسأله:

“بابا، لماذا يعذّب الملائكة الموتى قبل يوم الحساب؟”

مرّر الأب أصابع يده اليمنى في شعر الصبي وقال له:

” الله أرحم من ذلك بكثير. هذه خرافات العوام، يا بني. لا تأبه لذلك. “

ولكنه ظلّ يأبه لذلك، وأكثر ما بات يخشاه هو أن يموت أبوه، وكان دائما حين يصلّي يدعو الله أن يطيل عمر أبيه، ثمّ حين يخشى أن يستثقل الله دعاءه، كان يضيف:

“على الأقل حتى آخذ البكالوريا.”

وحين نزل إلى الحارة عند عصر ذاك اليوم، وجد ظهيرة وقد تحلّق حوله رهط من الأولاد، وهو يقصّ عليهم مغامرته في المقبرة. وسمعه يقول لهم:

“أنزلوه في القبر، ثم راحوا يرمون الحجارة فوقه بلا رحمة.”

ثم نظر إلى الصبي مستنجدا:

“أليس كذلك؟”

وهزّ الصبي رأسه مؤيدا. فالتفت إليه الصبية الآخرون، وسأله أحدهم:

“وأنت؟ ألم تخف أيضا؟”

تردّد زمنا قبل أن يجيب كاذبا:

“أنا، طبعا لم أخف. ما الذي يخيف في الأمر؟”

ثمّ تركهم مبتعدا، وجلس على كرسي صغير أمام دكان البقال أبو بدر.

————————————

3. ديك الجن وورد وأم كلثوم

ملاصقا للباب الأسود المصمَت الذي خرجتْ منه الجنازة، توجد ورشة “أبو كرمو” لبخ الديكور. اسمه عبد الكريم، ولكن الجميع كان يناديه أبو كرمو تحببا. نشأت بين الصغير وبينه صداقة خاصّة. كان أبو كرمو شابا في أواخر عشرينياته، وسيماً، وبخاصة حين يبدل ملابس الشغل مساء ويجلس على كرسي خيزران قبالة محله، يرقب العابرين في الزقاق. عندها، كان الصغير غالبا ما يقف بجواره، فيتبادل معه أحاديث شتى، عن المدرسة والحارة وعن أسرته. كان أبو كرمو يدخن، ولكن الصغير كان يريده أن يقلع، فإذا رآه مرة وهو يشعل سيجارة، خاصمه، وابتعد عنه، حتى يعتذر الرجل.

لم يكن والد الصغير سعيدا بهذه العلاقة بين صغيره والجار. وفي البدء، كان الصغير يحسب أن السبب هو ملابس أبو كرمو الملطخة بالصباغ، ولم يخطر بباله، إلا لاحقا، أن الشاب كان معجبا بأخته الوحيدة. ولا عرف الصبي ما إذا كانت أخته تبادله شعورا بشعور. ولكنه يعرف أنه في يوم من أوائل صيف عام 1961، سيزورهم في حمص عمّه الوحيد المقيم في حماة مع ثاني أكبر أبنائه. ودار بين والد الصبي وعمه حديث لم يفقه الصغير منه الكثير، ولكنه سيعرف لاحقا أن ابن عمّه الحموي قد خطب أخته. كان الصغير يحب ابن عمه هذا للطفه وتباسطه معه في الحديث. وكان الصغير الذي تعلّم بعض العبارات الفرنسية في روضة الراهبات اليسوعيات، يعد من واحد إلى عشرين بالفرنسية، ويستطيع أن يسأل ضيوف أهله: ” voulez-vous de l’eau?”، هل تريد ماء؟ فصار ابن عمّه يناديه “مستر لو”. وسيظل يستخدم هذا النداء المحبب حتى حين يغدو الصبي رجلا وسياسيا وكاتبا معروفا، نوعا ما. ولطالما أراد الصبي أن يصحّح له عبارته من “مستر لو” إلى “مسيو لو” لكي تتوحّد اللغة، ولكن الخجل كان يمنعه.

خطبة أخته كانت تعني أنها ستترك البيت والمدينة وتعيش في حماة. في الغربة كما كانت أمه وخالته تردّدان، لذلك، ذهب إلى أخته ورجاها أن ترفض. كانت أخته تعني له الكثير، مع فارق العمر قرابة الإحدى عشرة سنة، كانت تلعب دور أمّ وأخت وصديقة. وقد تركت له في جبينه ندبة لن تفارقه طوال حياته، وسيكون دوما سعيدا بها، حين كانت تركض وراءه ملاعبة وهو يهرب منها، ثمّ يهوي فجأة فيضرب جبينه بالطرف البارز لذراع إحدى الكنبات، وينفر الدم من بين عينه، فتصاب أخته بالهلع، وتحضنه وتبكي. وتأتي الأم، فتضع بعض القهوة على الجرح، وتنتهي القصة عند هذا الحد.

“ليش ما بدك ياني اتزوج؟” سألته مها

فبدأ ينشج بقهر ويردّد “ما بدي إياك تروحي.”

ولكنّ الأيام التالية حسّنت مزاجه، فحين توغل الصيف، نسي الصبي فظاعة الراهبات في المدرسة، وصار ابن عمّه يزورهم، فيصحب خطيبته في مشوار. ولأن الأم لم تكن تسمح للفتاة أن تذهب مع خطيبها وحيدة، كان على الثنائي أن يصحبا معهما الصبي، كرقيب. وغالبا ما كان ابن عمّه يأخذهما إلى كازينو ديك الجن، الذي كان قد افتتح قبل عامين، في منطقة الميماس الشهيرة على نهر العاصي، وكان وقتها تحفة المدينة ورئتها في أمسيات الصيف الحارّة. بُني كازينو ديك الجنّ قبالة المنتزه التاريخي المعروف باسم “عبّارة”. وفيما بدأ عبّارة يترهّل، كان ديك الجنّ يتألّق بأناقة ولطف العاملين فيه وابتسامة حسن الحسيني، صاحب المطعم، وهو يستقبلك عند الباب.  اختار الحسيني اسم منتزهه على اسم الشاعر ديك الجنّ الحمصي، الذي كان يقضي نهاراته ولياليه على ضفاف العاصي، يبكي حبيبته ورد، بعدما قتلها من فرط غيرته عليها.

ليس ينسى الإحساس الآسر الذي تملّكه أول مرّة حين رافق أخته وخطيبها، ونزلوا درجات السلّم الصغير، الحميمي واللطيف، الذي نزل بهم عن مستوى الشارع حتى حاذى مياه النهر. كان مزيجا من الفتنة والغبطة والسحر، وهو يسير فوق الممرّ الذي يتوسّط مساحات من المرج، متنقّلا بين عدد من الطاولات، حتى وصلوا حدّ السياج المحاذي للنهار، فجلسوا على طاولة، وراح الولد يتأمّل النهر بفرح غامر، وانتابه شعور أنه إن مدّ قدمه قليلا فستبتلّ بماء العاصي المقدّس.

لم يكن الصبي رقيبا جيدا، ولم يسمع ما كان يدور بين أخته وخطيبها، وحين لمحه يخطف قبلة سريعة منها، رشاه الشاب بقطعة شوكولاتة كانت في جيبه، ففشلتْ مهمّته كرقيب أخلاقي، وراح يتلذذّ بأكل الشوكولاتة ويحتسي عصير الليمونادة، بينما اقتسم ابن عمه وأخته زجاجة كبيرة من بيرة الشرق المبرّدة، صبّها النادل في كأسين. وراح الصبي يتأمل جريان المياه، بينما تتسلّل إلى أذنيه من مكبر للصوت أغنية أمّ كلثوم التي كانت رائجة تلك الأيام:

حبّ إيه اللي انت جاي تقول عليه

إنت عارف قبله معنى الحبّ إيه

عندما رجع إلى البيت، انتحت به أمه جانبا، وسألته بلباقة عن الوقت الذي أمضاه مع أخته وخطيبها، فحكى لها كلّ شيء، ما عدا تلك القبلة التي شعر أنها يجب أن تكون سرّا بينهم هم الثلاثة.

ولكن الأيام الجميلة تمضي مسرعة دوما (ألا تفعل؟). فبعد سنة ستنزل أخته من بيتها لآخر مرّة، لتركب في سيارة أجرة مع أمه، ومعه أيضا، فوجد نفسه محشورا بين المرأتين، بينما جلس أبوه في المقعد الأمامي صامتا. حين ركبوا السيّارة حانت منه نظرة إلى أبو كرمو الذي كان ممسكا بمضخة البخّ، يصوّبها إلى كرسي خشبي، بينما يسرق نظرات إلى الموكب الصغير الذي سينقل الفتاة إلى بيت آخر، وإلى الأبد.

إلى جانب مشاوير أخته التي كان يرافقها إلى الخياطة التي كانت تفصّل لها جهازها وإلى كازينو ديك الجن، وإلى جانب اللعب مع ظهيرة وأخوته وأولاد الحارة، أمضى الصبي أشهر الصيف في جدل مع أبيه حول المدرسة الابتدائية التي سيلتحق بها. لقد انتهت قبل أشهر مدرسة الروضة الرهيبة التي أمضى فيها أتعس شهور طفولته، لولا مدموزيل دلال التي كانت تلوّن وحشته بابتسامتها وسواد عينيها، وحان الوقت لينتقل إلى مدرسة ابتدائية رسمية.

كان الصبي يريد الالتحاق بمدرسة “سيّد قريش” القريبة من بيته، في قلب شارع باب هود المليء بالضجة وورشات العمل وباعة الفخّار والمنجّدين وباعة الخضار. يتعامد شارع باب هود مع شارع التلّة الذي يسكن فيه الصغير. وكان الشارع يفتن الصبي بالازدحام الكبير الذي يسببه الباعة والمشترون والمارّة وراكبو الدراجات الهوائية والفلاحون والبدو الذين انحدروا إلى المدينة حاملين معهم صوفهم ولبنهم وسمنهم العربي الأصيل في قُرَب جلدية، وهم يساومون باعة الدكاكين لبيعهم ما معهم، أو يبسطونها على الأرض ويعرضونها للمشترين الذين يأتون الشارع من كل أنحاء المدينة. يؤدّي الشارع غربا إلى السرايا ثمّ إلى شارع طرابلس، بينما يؤدّي شرقا إلى شارع أبو الهول الذي يأخذك شمالا إلى منطقة باب السوق الذي كان في يوم غابر سوق المدينة الرئيسي، وجنوبا إلى سوق الحشيش. فإن تجاوزت شارع أبو الهول وتابعت شرقا، فستصل إلى السوق المسقوف الذي كان الصبي يحب أن يسير فيه وقت العصر من أيام الصيف القائظ، حين يهجع معظم أهل المدينة في قيلولة طاغية، فيجد فيها رطوبة ساحرة وسلاما.

وسط شارع باب هود، ثمّة غرفة مهجورة، لها باب واحد موصد دائما بقفل معدني مهترئ، وشباك بإطار خشبي مكسور الزجاج. داخل الغرفة قبر صغير، عليه غطاء أخضر مهترئ، ويعتقد الحماصنة أن هذا المقام يضمّ رفات النبي هود، ومنه أخذ الشارع، والحي، اسميهما: باب هود. وفي الداخل كان الصغير يرى قطع نقود معدنية مرمية قرب الجدث للتبرك.

بجانب المقام، كانت مدرسة سيد قريش وهي المدرسة التي كان الصبي يجادل أباه ليدرجه فيها، والسبب أن فيها رفيقيه في الحارة غازي وفيصل مندو. كان فيصل في عمر الصبي تقريبا، بينما كان غازي يكبرهما بسنة ربما. وكان الولدان لا يختلطان كثيرا بأولاد الحارة، فنادرا ما يلعبان الكرة مع الأولاد وأكثر ندرة أن يشاركا في لعبة العسكر والحرامية. ولكنهما كانا شديدي التهذيب، يتحدثان بهدوء. كان الصغير يجالس الأخوين على عتبة باب بيتهما العربي، فيحكيان له قصصا تسرح بخياله إلى عالم خيالي من المتعة والخوف والغرابة، وهما يتحدثان عنه كأنه أمر واقع، متوار فقط وراء الباب. وكان الصبي يحس أنه لو ذهب معهما إلى المدرسة فلن يشعر بالرهبة وسيساعدانه في فهم العالم الجديد. 

ولكن الأب كان له رأي آخر.

——————————-

4. حين أطفأ الجدّ الحريق بعمامته

قبل أكثر من ثلاثين سنة ترك الأب مدينته، حماة، وتوجّه إلى حمص، ليستقرّ فيها، هاربا على الأرجح من سطوة أبيه، جدّ الصغير. لا يعرف الصغير جدّه، فقد مات قبل ولادته بزمن طويل، ولكنه رأى صورته في بيت عمه في حماة، شيخا معمّما مهيبا، بلحية بيضاء، لم تعطه السماحة والدعة كما أعطت الشيخين الحمصيين اللذين كان مغرما بهما – طاهر الرئيس وعبد العزيز عيون السود، اللذين عرفهما الصغير من جامع الحارة، وغابت عن وجهه الابتسامة التي كانت تظلّل دوما وجهيهما. كانت جدة الصغير لأبيه قد توفيت وللأب سنتان فقط، وتزوّج الجدّ من امرأة أخرى، أحسنت تربيته ولكنها كانت ضعيفة أمام الجد، فما بلغ الأب السابعة عشرة حتى ترك أسرته إلى حمص، ليدرس في المدرسة الثانوية فيها، ويؤسس لحياة طويلة ومثيرة.  ولم يسأل الصغير أباه أبدا كيف انتقل بين المدينتين، ولكنه بعد أن يفوت الأوان على السؤال سيفكّر طويلا في كيف انتقل الفتى في عام 1927 بين المدينتين. كانت السيارة قد دخلت البلاد قبل تسع سنوات، ولكن استخدامها كان ولا شك نادرا، فهل ركب الأب واحدة منها، أم أنه سافر في عربة يجرها حصان، أم ركب على ظهر دابة؟

لم يذكر الأب أسرته كثيرا، وتجنّب دائما الحديث عن أبيه، ولكنه حين مدّ الصغير مرّة ساقيه أمامه، ذكّره الأب أنه وأخوته كانوا يجلسون على ركبهم إذا كان الجدّ حاضرا. ومع ذلك فثمة حكاية رواها الأب أكثر من مرّة، وفي كلّ مرّة كانت نشوة بادية تسرح على وجهه.  كان الجدّ أديبا وشاعرا ورجل دين، درس في الأزهر في القاهرة، فتخرج على نخبة من علماء الأزهر حينها وكان مقرّبا من الشاعر حافظ إبراهيم، كما درس الفلك، واعتنى بدراسة الظواهر الطبيعية وحركة الشمس والكواكب، بعد تصدره للتعليم الديني في حماة. وفي يوم خطب بالناس من على منبره أن كسوفاً للشمس سيحدث في يوم معين، طالبا من الحمويين أداء صلاة الكسوف، فتطاول عليه بعض الجهلة واتهموه بالتنجيم والسحر، فنُقل بعدها من قبل السلطة العثمانية ليتسلم منصب الإفتاء في مدينة سلمية، التي كانت وقتها قرية كبيرة، فيها بضعة عائلات من السنّة، وغالبية إسماعيلية، ما عنى فعلا تكسيرا لمكانته العلمية. وعاش الجدّ في سلمية حتى وفاته، وبها دفن.  وفي عصر يوم صيفي قائظ، اندلع حريق في بيادر القمح في سلمية، وفشلت كلّ الجهود في إطفائه، فهرع أهالي البلد إلى الجدّ يطلبون العون. مشى الجدّ صوب الحريق، وخلع عمامته البيضاء وقرأ عليها آيات من القرآن، ثم رمى بها على النار، فخمدت خلال دقائق.

ولم يكن الصغير يصدّق تلك الحكاية، ولكن الأب كان يرويها بصيغة اليقين، ويقول إن “كْباريّة السلمية” من الأحياء يؤكدون تلك الحادثة. وسيروي الصغير الحكاية لاحقا لأصحابه على سبيل الدعابة، وإن كان يودّ في قرارة نفسه لو تكون القصة صحيحة.  وحين سيتسنّى له وقد كبر وغدا قاصّا، أن يزور سلمية أول مرّة سنة 1978، سيسأل أهل المدينة عن مفتٍ أطفأ الحريق بلفّته قبل عقود، ولكن أحدا لم يتذكر الحادثة.

وإذن جاء الأب، فتى في أول العمر إلى مدينة لم يكن يعرف فيها أحدا، ووجد تعزية له في صديق له، أحمد الجندي، الذي جاء من سلمية لدراسة البكالوريا في مدرسة التجهيز بحمص، فاستأجرا بيتا واحدا، ودرسا حتى نالا البكالوريا الأولى سنة 1919 والبكالوريا الثانية سنة 1920. سيسجل الأب بعدها في مدرسة الحقوق بالجامعة السورية، ويعمل معلّما في إحدى المدارس المدينة. وستلفت انتباهه حين يغدو رجلا في التاسعة والعشرين صبية نحيلة صبوحة الوجه بيضاء البشرة، بعينين واسعتين بنيتين، في الثالثة عشرة، كانت ترافق أخاها إلى المدرسة. وتقرّب الأب من الولد، الذي سيصبح لاحقا المؤرّخ والكاتب يوسف شلب الشام. وسيقع المعلّم الذي سيغدو بعد سنوات صحفيا لامعا ورئيسا لتحرير أهم صحيفة يومية في حمص، في هوى الطفلة، وسيطلبها للزواج، لتصبح فيما بعد أمّ الصغير.

*****

إذا سرتَ في شارع التلّة تاركا ورشة أبو كرمو على يمينك، متسلّقا الشارع، فستجد سمّان الحارة ومصدر خيرها وأمنها.  كان أبو بدر يزوّد الحارة تقريبا بكل المتطلبات اليومية، فهو يبيع السكر والشاي والأرز واللبن والجبن والمعلبات والكبريت وحبوب الأسبرو التي كانت – لسبب لا يفهمه الصغير – معلقة كحبل طويل أو كسبحة من الحبات المغلفة بالورق والمتصلة بعضها ببعض، وكان يبيع الدواء بالحبة، وطالما اشترى الصغير لأمه أو أبيه حبتين بفرنك واحد (خمسة قروش). ولكن أبا بدر كان يبيع أيضا المازوت وزيت الكاز، فمن برميلين متجاورين في زاوية دكانه، إلى جوار جوالات الطحين والسكر والأرز والبرغل وتنك السمن العربي، كان يغرف بكيلة من التنك المازوت للتدفئة أو زيت الكاز للبابور (البريوس). يأتي الصبي الصغير ومعه بدون (غالون) فارغ أو زجاجة عرق قديمة، فيملأها أبو بدر بالكاز، ثم يمسح يديه بخرقة قديمة ويستدير ليملأ لصبي آخر أوقية لبن عربي. في زبدية فارغة.

عندما لا يكون أبو بدر يزن اللبن أو يضع السكر في كيس الورق، كان يسمح للصغير بالجلوس إلى جانبه ويحكي له قصصا عن حمص قبل أن يولد الصبي، فيفتنه بحكاياته عن الأسر الحمصية العريقة. وكان الصبي يحب بشكل خاص سماع قصص خيرو الشهلة ونظير نشيواتي اللذين كانا يعتبران رمزين من رموز مناهضة الانتداب الفرنسي. وكان الصغير يطلب من أبو بدر أن يعيد عليه بشكل خاص قصة خيرو عندما اختبأ ببيت أحد الحماصنة واقتحم الفرنسيون البيت بحثا عنه، فخبأه صاحب البيت بين حريمه، وهو عمل يدلّ على الشهامة والتضحية الوطنية.

ولعلّ أبو بدر أقدم رجل في الحارة، فقد ولد في أول سنوات القرن الفائت، ولم يعرفه الصغير إلا عجوزا طاعنا، زاده هرما قصر قامته واللفة الصفراء التي كان يعتمرها، مع نفر من الكسّيبة وأصحاب المحلات الصغيرة، الذين لهم باع ولو قليل في الدين. وظلّ أبو بدر يخدم أهل الحارة حتى وفاته، بهمة وإخلاص، تشوبهما عصبية زائدة أحيانا. وحين كان أحد الأولاد يزعجه، كان يقول له بعصبية: “روح من هون أحسن ما إشلع لك أدانيك”، ثم يستغفر الله ويضيف “والله أبوك آدمي، لمين طالع انت؟”  ولا يحب أبو بدر أن يناقشه أحد في أسعاره، وهو يبيع بضاعته بسعر معقول، فإذا شارعته امرأة ليخفض لها في سعر السمنة، نظر إلى الأرض مغضبا لكي لا يتطلع في وجهها، وقال لها دون أن يضع عينيه في عينيه: “يا أختي الله يستر عليك، إذا ما عجبك، ليكِ السوق جنبك.”

كانت أسرة الصغير كجميع أهل الحارة تقريبا تشتري من دكانة أبو بدر على الحساب. وكان لكل عائلة دفتر صغير تحتفظ بها، بينما يحتفظ أبو بدر في دكانته بسجل المبيعات بالدين، ولكلّ عائلة صفحة. وكان الصغير حين يشتري أوقية لبن أو كيلو أرز، يحمل معه دفتره الصغير الذي لا يزيد كثيرا على حجم راحة يده الصغيرة، يعطيه لأبو بدر، فيسجل الأخير ما اشترى الصغير في دفتره، ثم يعيد التسجيل في سجله، ويجمع الأرقام، ويتأكد من مطابقة سجله مع الدفتر الصغير.  وعلى عكس دفاتر البقالين الآخرين، كان سجلّ أبو بدر مرتبا ومكتوبا بخطّ الرقعة الجميل، وإن ظهرت بعد البقع على بعض الصفحات أحيانا من يده التي كانت تصب الزيت أو اللبن في الوعاء.  وكان الصغير يستغل ثقة الأهل به أحيانا فيشتري لنفسه قطعة حلوى على الحساب، ويسجلها على الدفتر، دون أن ينتبه إلا لاحقا أن أمه كانت  تعرف ذلك وتسكت.

وفي ربيع إحدى سنوات منتصف الستينيات، جادت السماء بمطر لذيذ غزير. كان الصغير يجلس بجوار أبو بدر داخل الدكان يستدفئان بحطب يحترق في تنكة فارغة، التفت إليه أبو بدر مبتسما وقال: “سنة خير إن شاء الله.” ثم أردف: “السنة في آذارها إن كونَنَت.” مضيت إلى البيت أفكر في معنى عبارة العجوز، محاولا استيعابها. ولا أدري إن فعلت.

كان ابن أبي بدر الأصغر طه يساعده أحيانا، ثمّ بدأ يحمل العبء الأكبر من العمل. كان طه في نفس صف الصغير وإن كان يكبره بسنوات، وفي نهاية الستينيات كان قد غدا شابا قويا ومتعلما، فقرر أن يحدّث الدكان، فأراد أن يشتري ثلاجة لحفظ اللبن والجبن وماكينة لصنع البوشار. استشاط أبو بدر غضبا، إذ رأى في ذلك مضيعة للمال.  طه، الذي بات يمضي كل وقته بعد المدرسة في الدكان، أصر على رأيه. وزينت الثلاجة صدر الدكان، وأضيفت واجهة زجاجية برّاقة إلى مدخل المحل، ثم جثمت آلة صنع البوشار قرابة مدخل الدكان. 

وعرض الصغير، الذي راقب طه وأبو بدر أياما وهم يقلون البوشار، أن يساعد في العمل، وتطوع في كثير من الأحيان أن يتولّى صنع البوشار بنفسه وبيعه للمشترين، وكان أبو بدر إذاك، مشغولا ببيع أشياء أخرى لزبائن آخرين، ولكنّ عينيه ما كانت تفارقان الصبي، حين كان يستلم النقود من المشترين ليتأكد من أنه لا يضعها في جيبه بدل الصندوق الصغير داخل عربة البوشار.  وظلّ أبو بدر فترة طويلة يتذمّر من هذا الهمّ الجديد الذي جاء به ابنه طه، ولكنه في مسارّة خاصة مع الصبي بعد أشهر اعترف أن ابنه “فِتِح وأمامه مستقبل.”

————————————-

5. بين نبيل فوزي وأرسين لوبين

قبالة دكان أبو بدر مباشرة وأسفل البناية التي يسكنها إبراهيم الجندلي، بسيارته الحمراء التي كان الصبي يحسده عليها، دكان عتيقة مستطيلة الشكل، بباب خشبي حائل اللون، يتوسطّه زجاج تكاثف فوقه الغبار حتى بات لونه مزيجا من البني والرمادي، لا يشفّ عما في داخل الدكان. إنها مكتبة أبو محمود، وهي أوّل مكتبة عرفها الصغير وتعامل معها.  كان أبو محمود يكدّس كتبه العتيقة على رفوف واطئة وسط الدكان، بدون ترتيب ولا تنسيق. ويجلس هو في صدر الدكان على مرتبة واطئة على الأرض، كالحاكم بأمره، وفي يده دوما كتاب يقرأ فيه.

لا يشبه أبو محمود أبا بدر في شيء، سوى في الهرَم واللفة الصفراء التي كان يعتمرها، ومع ذلك كانا يبدوان للصغير وكأنهما أخوان توءمان نسيهما الموت فهرما حتى عمّرا دهرا. كان أبو بدر صغيرا، ضئيل القامة، رشيق الحلكة رغم سنّه، بينما كان أبو محمود أطول كثيرا وأميل إلى النحافة، حتى يتهيأ للصبي إذ يراه وهو ينهض من قعدته أنه قد ينقصف نصفين في أي لحظة.  ولم يكن الرجل ودودا كأبي بدر، ولا كان وجهه يعرف الابتسام، وكان رغم ولعه الكبير في الكتب يضيق بالزبائن ويرجو لو أنهم لا يطيلون البقاء في دكانته.

وكان الصغير يتعجّب من قدرة أبي محمود على معرفة أماكن وجود أي كتاب يطلبه زبون. فما إن يسأله سائل عن كتاب ما، حتى يمدّ يده إلى كدسة معينة من الكتب، فيمرر أصابعه عليها حتى تستقرّ على واحد بعينه، فينسله من بين الكتب بسرعة، دون أن يتأذى ترتيب الكتب الأخرى.

وكانت الكتب في معظمها كتبا مستعملة، قُرِئت عشرات المرّات وأعيدت إلى أبي محمود. وأغلبها في التفسير وبحوث القرآن والسيرة، غير أن أبا محمود كان يحتفظ أيضا بعالم من الفتنة، على هيئة مجلات مصوّرة. وكلّما توفّر للصغير بضعة قروش في أيام الصيف، حين تمتدّ ساعات الظهيرة إلى ما لا نهاية، ويكون الولد في عطلة من دروسه، كان ينسلّ إلى دكان أبي محمود، فيستأجر واحدة منها، ويعود إلى البيت، فيأخذ من الثلاجة خيارة أو اثنتين، ثمّ يذهب إلى سريره، يتابع الصور المسيطرة في المجلة ويقضم خيارته بمتعة.

بدأ غرامه في مجلات الأطفال مع مجلّة ميكي المصرية. وكان في البداية يجد صعوبة في فهم الكلام باللهجة المصرية، ولكنه عشق بشكل خاص بطوط وأولاد أخيه الثلاثة وعمه “دهب” الموغل في البخل.  ثم مرّ على مجلة “سمير”، لكنه لم يحب كثيرا دروسها الأخلاقية وحكاياتها المسلسلة، وبدا له سمير وصديقه “تُهْتُهْ” شخصيتين سمجتين قليلا وتميلان إلى الوعظ. أما “باسل الكشاف الشجاع” فكان ينقصه الوهج وخفّة الدم، ولكنّه أحب تنابلة الصبيان قليلا.  بالمقابل، كانت حكايات “ميكي” قصصا مصوّرة كاملة، لا تقطع بك السبل وأنت في منتصفها.  ثمّ تعرّف على مجلة “سندباد” التي كانت قد توقفت عن الصدور قبل تعلّمه القراءة، ولا يزال يتذكر بحيادية صورة سندباد الصغير، حاملاً عصاه وصُرّتَه ومنظاره الصغير وخلفه «نمرود» كلبه الذي يرافقه في رحلاته، باحثاً عن أبيه “شاه بندر” التاجر المفقود.

ثمّ حدث ذات يوم أن التقى الصغير برجل خلب لبّه وسلبه عقله، رجل يستطيع الطيران كالعصافير، ولكن بسرعة تفوق سرعة الضوء فينتقل بالزمان عودة إلى التاريخ القديم أو استطلاعا للمستقبل، فيمنع الجريمة ويحقّق العدل في مدينته – مور: إنه سوبرمان.  كانت المجلّة ملقاة بإهمال على أرض الدكان، ولفت انتباه الصبي على غلافها رجل طائر بزي غريب ووشاح أحمر طويل، فرفعها عن الأرض وقربها منه، وراح يتأمل في الصور، ثم سأل أبا محمود إن كان يستطيع استئجارها. ذلك أنه ما كان يستطيع شراء المجلات من مصروفه الشخصي، فآثر أن يستأجر المجلات: خمسة قروش سورية للمجلة الواحدة. ويبدو أن أبا محمود كان – لسبب لا يدريه الصغير – يكنّ احتقارا خاصا لسوبرمان، فاقترح على الصبي أن يبقِي المجلّة بالخمسة قروش التي دفعها. أخذ الصبي المجلّة ومضى بها إلى البيت، فنَتَشَ من الثلاجة خيارتين كبيرتين واستلقى على السرير، يقضم منهما، ويلتهم الصور والحوار بنهم شديد.  وبذلك ولج عالما من السحر لم يكن يألفه من قبل. وبقدر ما كانت بطولات سوبرمان تأسر خياله، كذلك كانت تفعل حياته السرية كنبيل فوزي (كلارك كنت) وسعيه الدؤوب لكيلا يكتشفه حتى أقرب المقرّبين إليه، بمن فيهم رندة، المرأة التي تعشقه كسوبرمان ولا تكاد تأبه لوجوده كنبيل فوزي، زميلها المحرّر في جريدة الكوكب، أو صديقه المقرّب نديم حلمي. وسيقف قلبه عن الخفقان كلّما تعرّض سوبرمان لخطر الكريبتونيت الأخضر. وسيحقد على وهيب، رئيس التحرير البخيل الذي كان يرهق الجميع بالعمل ويعطيهم أقل الأجور، وسيقف شعر رأسه فرقا كلما نُفي أحد إلى منطقة الأشباح.

وفي يوم، سينقله أبو محمود إلى عالم آخر. نظر إليه بوجهه العابس وخُلْقه الضيّق، وقال له:

“ليش ما بتقرا شي مفيد يا ابني. شو بدك من هاي المجلات؟”

أحس الصغير بنوع من الفخر وهو يرى هذا الرجل الذي نادرا ما كان يترك كتابه ليحدّث أحدا من زبائنه، يختاره هو ليحدّثه. ثم ازداد فخره وهو يرى العجوز الطويل يتحرك بقامته التي تكاد تنثني نصفين، ويمدّ يده لينشل من بين كدسة كتب عتيقة واحدا بغلاف بني وصورة بدون ألوان، ويقدّمه له.

وسيدخل الصغير لحظتها في عالم آخر من السحر، فيبدأ بالتعرف على سيرة عنترة والزير سالم وأبي زيد الهلالي. من بينها أحب عنترة وأحس بالتعاطف معه، خاصّة وأن بشرته هو تكاد تشابه بشرة العبد الذي بات فارسا.  وشعر بتعاطف مع الزير، ولكنه شعر بالحزن وهو يراه يبالغ كثيرا في الأخذ بالثأر. غير أن خياله ارتاح أكثر لشخص آخر: حمزة البهلوان. ولو سألتَه اليوم عن سبب ولعه بشخصية حمزة لما عرف الجواب، ولما تذكّر سوى لمحات غامضة كرؤيا بعيدة عن حلم كسرى بفارس يقبل عليه، مشهراً سيفه، فيختطف منه إوزّة كان يأكلها. وحين يسأل وزيره وقد نال منه القلق، يجيبه الأخير أن فارساً يظهر في أرض الحجاز سيدخل إيوانه وينتزع منه ملكه. ولعلّ رغبة حمزة في أن يقيم العدل يحقّق الخير لغيره هو ما أعطى هذا الفارس الأسبقية على عنترة والزير وأبي زيد.

وذات صباح، في يوم شتوي بارد، اختفى أبو محمود. جمع كتبه، وقرّر أنه قد آن له أن يرتاح في بيته. كان الصغير عائدا من مدرسته وقت الظهيرة لتناول الغداء، حين رأى عاملا أو اثنين يحملان الكتب في أكياس من الخيش ويضعونها في عربة كارو يقودها حصان صغير، أحس بشيء يفارق صدره. لم يكن الصغير يحب التغيير ولا الوداع ولا الرحيل. وحاول أن يكلم أبا محمود، ولكن الأخير كان مشغولا بالإشراف على تحميل الكتب ووداع “كبارية الحارة”.  فقط عندما ألقى نظرة أخيرة على دكانه التي باتت أرضا يبابا، ووثق من أنها باتت خالية من كلّ شيء سوى التراب والوحشة، وكان على وشك أن يركب العربة قرب العربجي، حانت منه التفاتة إلى الصبي الذي كان يحاول بقامته القصيرة أن يتطاول ليظهر له نفسه، فتوقف قليلا، ونادى الصغير، ومدّ يده إلى أحد الأكياس واستخرج كتابا صغيرا نحيلا، عليه صورة رجل وسيم وأنيق، يرتدي بدلة توكسيدو وقميصا أبيض بقبة عالية وربطة عنق فراشة بيضاء، وتحتها عنوان “أرسين لوبين: اللص الظريف.”، وقال العجوز للصبي:

“صار لازمك شي جديد” وأعطاه الكتاب دون أن ينتظر منه ثمنا أو مقابلا. ثمّ حدث شيء لم يكن الصبي يتخيله حتى في المنام: مدّ العجوز يده المعروقة إلى شعره فسرحها بين خصلاته برهة، وقال له:

“أنت ولد ذكي. دير بالك ع حالك.”

ثمّ مضى، وأوغل في الغياب والنسيان، وما عاد في الحارة من يتذكّره سوى الصغير وجاره أبو بدر الذي كان يقضي معه أحيانا بعض الأوقات.

بعد سنتين، مرّ الصغير على دكانة أبي بدر يشتري لبنا لأمّه، فبادره العجوز:

“بتعرف مين مات؟”

“لا. مين؟”

“أبو محمود.. عطاك عمره مبارح. الله يرحمه.”

وأحس الصغير بشيء ما ينْشَلِع من قلبه الصغير. لم يقلّ شيئا. حمل زبدية اللبن وعاد إلى البيت، فأعطى اللبن لأمه، دون أن ينبس بحرف، ثمّ بَحْبَش في دُرج كان له، فأخرج رواية أرسين لوبين وشرع يقرأها من جديد.

تلفزيون سوريا

————————-

6. حين اعتقل أبو شمسو عويّد

سيعيش الصغير سنوات طوالا مع أرسين لوبين، وسيلعب دور المغامر الفرنسي الظريف الذي شكّل بعضا من شخصيته، وسيسحره الرجل الأنيق، الوسيم، شديد الذكاء، والشجاع، فيغيب معه عمّا يحيط به ساعات بعد الظهيرة كلّها، ولا يفيق إلا حين تصل عيناه إلى كلمة “تمّت” التي كانت ترجمات روايات أرسين لوبين المصرية واللبنانية تنتهي بها.

وسيكتشف الصغير بين سوبرمان وأرسين لوبين سماتٍ مشتركة كثيرة، فباستثناء أن لوبين كان لصّا، كان كلا الرجلين يسعى إلى إحقاق العدل وإنصاف المظلوم ومساعدة الفقير. ولئن كان لسوبرمان قوة خارقة لا يمكن أن تأتي أحدا غيره، فإن لوبين كان أيضا قوي البنية ويستطيع أن يعوّض عن الطيران والسرعة بالذكاء وخفّة الحركة. وكلا الرجلين يستخدم أسماء أخرى، ويتنكر كي يخفي شخصيته، وينجو من المكائد في اللحظة الأخيرة.

غير أن علاقة الرجلين برجال إنفاذ القانون تتباين فيما بينهما، فبينما كانت الشرطة تحب سوبرمان وتحترمه وتناديه في الملمّات، كانت علاقة أرسين لوبين بالشرطة متناقضة ومعقّدة، فهم لا يكنّون له كبير مودّة وإن كانوا يخشونه ويحترمونه إلى حدّ ما. ويكره رجال الشرطة سخرية لوبين منهم، وقدرته على المراوغة والإفلات منهم في كلّ مرة يعتقدون أنهم أحكموا الطباق عليه.

وكلا المغامرين مسكون بالآخرين، ولكن سوبرمان مقبول من المجتمع، معترف به، بينما يظل أرسين لوبين منبوذا باعتباره لصا، رغم أن جزءا كبيرا مما يسرقه لوبين يذهب إلى الفقراء، ورغم أنه يختار ضحاياه ممن جمعوا ثرواتهم بطرق غير شريفة، وغالبا ما يعيد توزيع قسم من سرقاته على المحتاجين. سوبرمان، إذن، ممن يتباهى المرء بمحبته وصداقته، أما أرسين لوبين، فتحبّه وتعجب به بصمت، دون أن تبوح بذلك للمجتمع.

وكان الصبي يحبّ كثيرا المفتش تيل، كبير مفتشي سكوتلانديارد، الرجل اللطيف البدين الذي يضع في فمه دوما قطعة اللبان، وسينتظر الولد طويلا قبل أن يعرف أن اللبان ما هو سوى العلكة التي يشتريها من عند أبو بدر بخمسة قروش. وكان الصغير يعتقد أن المفتش تيل يكن في أعماقه محبة واحتراما للوبين، على عكس المفتش الفرنسي جانيمار، النحيل، الطويل، والقاسي، وأكبر أعداء لوبين والعميل المسؤول عن القبض عليه في المقام الأول. أما خصم لوبين في الولايات المتحدة المفتش سمرز، فلم يكن الصغير يمانع فيه، ولكنه كان دائما يسأل لمَ على لوبين أن يسافر إلى أمريكا ولا يبقى في فرنسا أو إنكلترا؟

ثمّ ستندلع في حمص أواسط الستينيات حكاية ستشغل بال الحماصنة سنة أو بعض السنة. ففي ذات ليلة سيسمع الصغير أخويه سحبان وبشار وهما يحدثان الأم عن أرسين لوبين حمص، فتتسع عيناه وتنتصب أذناه كأذني كلب أحس بالخطر. كان يعرف من خبرته أنه لو سأل أيًّا من أخويه فلن يجيبه وسوف يغيّر مجرى الحديث على الأرجح، فصمت وراح يستمع بهدوء، وخُيِّل إليه أن دقّات قلبه كانت مدوية فحاول تهدئة روعه ما أمكن. وأفاد الصغير أن الأم كانت تريد أن تعرف أكثر، فراح بشار يستعرض معلوماته وعضلاته ويروي ما يعرفه.

كان عْويِّد بدويا انحدر إلى حمص من القرى البدوية المحيطة في المدينة وامتهن السرقة.  وبنى الحماصنة حوله عالما سحريا، فهو خفيف كالقط، سريع كالفهد، قوي كالحصان، يضع في حذائه نوابض تساعده على القفز من سطح بناية إلى أخرى مجاورة.

كان ثمّة شبه بين عْويِّد وأرسين لوبين، قام الصغير بتضخيمه في خياله، فهو لا يسرق إلا الأغنياء ويعطي ما يسرق للفقراء. وحين سرق منزل تاجر كبير للخضرة، شعر الصغير بسرور باطني، بلغ حدّ الإثارة حين سمع جارة أمّه أم رينيه تقول لها إن عويّد جاء ليلا إلى بيت أسرة فقيرة تبعد عن بيتنا بضعة عشر مترا، ورمى من نافذة البيت مبلغا من المال الذي سرقه من بيت التاجر الكبير. ظهيرة اليوم التالي، وبينما كان الجميع في قيلولة الظهر المقدّسة في حمص، خرج هو يسعى إلى البيت كما حدّدته أم رينيه، كان بيتا عربيا من طابق واحد، وكانت له نافذة صغيرة على الشارع، وكانت النافذة مغلقة، تراكم على زجاجها غبار الشارع وغبار الأيام. وتخيّل عويد، وهو يرمي من هذه النافذة صرّة فيها النقود، كما كان يفعل جابر عثرات الكرام الذي أخبره عنه معلم الديانة. وشعر بنشوة تتصاعد من أحشائه إلى صدره، فابتسم، ومدّ يده الصغيرة يلمس النافذة الواطئة، ثمّ تلفّت حوله خشية أن يكون رآه أحد، ثم ولّى الأدبار.

إلى جانب عويّد، كان الصغير مهووسا أيضا بشخصية أخرى شغلت بال الحماصنة وألهبت خيالهم في الستينيات. إنه عبد الفتاح شيخ زين، رئيس قسم المباحث بشرطة حمص.  قلّة يتذكرون هذا الاسم، ولكن كثرة من الحماصنة يتذكرون اسم شهرته: أبو شمسو. وكما سمع الصغير من أهله ورفاقه في الحارة عن مغامرات عويّد، كان سمع أيضا عن مهارة أبو شمسو في الإيقاع باللصوص واعتقالهم. وحين كان الرجل يمرّ في شوارع المدينة، بجثّته الضخمة ووجهه الأبيض الجميل وطربوشه المائل، كان ينثر مزيجا من الرهبة والمحبة والانبهار. وسيدور في نفس الصبي صراع هائل حين يبدأ أبو شمسو بملاحقة عويّد.  كان أبو شمسو يخشى نجاح عويّد في سرقاته ولكنه كان يخشى أكثر نمو شعبيته بشكل صارخ في أوساط الحماصنة. بل إنه أحسّ بإهانة شخصية وهو يرى حماس أهل مدينته وهو يتنحّى عنه إلى لصّ بدوي أمّي، انحدر إلى المدينة وسرق ليس أموالها فحسب ولكن محبتها أيضا. وبدأت في حمص مطاردة بين عناصر المباحث بزعامة أبو شمسو ومغامر فرد راح يهزأ بهم كما كان أرسين لوبين يهزأ بالمفتش تيل. وراح الصبي يتابع أخبار المطاردة، ويضع يده على قلبه خشية أن ينجح رجال المباحث باصطياد بطله الحمصي.

ثمّ وقع المحذور. رجع أخوه سحبان ذات يوم إلى البيت مساء وفي جعبته أخبار.

“سمعتم الأخبار؟” سأل وانتظر أن يقرّ الآخرون بقصورهم.

” أي أخبار؟”

“أمسكوا بعويّد؟”

أحس الأخ الأصغر بشار بالغيرة لأن سحبان هو من جاء بالخبر، وقلّل من أهمية الخبر: “إي أكيد رح يكمشوه.”

ولكن الأم سألت عن التفاصيل، وراح سحبان يفصّل لها الكمين الذي نصبه أبو شمسو لعويّد، وكيف سار الأخير إليه مغمض العينين.

ولم يلتفت أحد إلى الصغير الذي كان يصغي للخبر بحرقة، وصعدت الدموع إلى عينيه، ولكنه لم يكن يحب أن يرى الآخرون هشاشته، فترك الغرفة ومضى إلى المطبخ ليغسل وجهه، وأحس أنه كان يكره أبو شمسو والمباحث والشرطة. كانت تلك لحظة فارقة في حياته، وسوف يستمر في كره الشرطة بكلّ أشكالها، السرية والعلنية وشرطة المرور، ولكن كراهيته ستنصبّ أكثر ما تفعل على نوع واحد من الشرطة: المخابرات، التي ستسرق من حياته في المستقبل سنواتٍ عشرا.

تلفزيون سوريا

—————————

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى