الناس

في ألمانيا أفكر: كيف أثر النشوء في سوريا على فهمي للحب والشراكة؟/ ميس الحموي

أكتب طوال الوقت في عقلي، أحكي عن قصصي وآمل أن أشاركها مع جمهور عريض، لكني أفشل غالباً في نقلها إلى الورق، لأن أفكاري حادة وسريعة، لا تمهلني أو تترك لي الوقت لأوثّقها.

اليوم قررت أن أكتب عن الحب والعناكب السامة. بسبب الحجر الصحي والوقت الطويل القاتل تدور ذاكرتي كشريط أمامي، وتمر على كل ما سميته حباً في حياتي، أتذكر ويصير السؤال الأشد إلحاحاً: هل سأجده يوماً؟

لا شك أن تجربة الانتقال من سوريا إلى ألمانيا تترك أثراً عظيماً على شخصيتي، من الصعب شرحه، خصوصاً لمن لا يتشاطرون التجربة نفسها، والحب نال نصيبه الأكبر من هذا التغيير.

أواجه هنا في ألمانيا الكثير من التخبط والاختلاط والغرابة في كل ما يخص العلاقات، تخمة من الحرية وعقلية استهلاكية حتى في الحب، تجعل القادم من الشرق التعيس محبطاً إلى حد كبير.

أعيش هنا بكل حواسي، محاطة بأصدقاء أحبهم وأسمعهم ولدي فرصة عبر عملي للاستماع إلى الكثير من القصص والتواصل مع الناس، وتمر عليّ عبارات وكلمات أعتقد أني لم أكن سأسمعها بالمطلق لو لم أنتقل إلى هنا: “أبحث عن الفراشات في بطني”، “لا أعتقد أني أعرف شعور الحب”، “الحب شيء لا يمكن الإحاطة به”، “لا أفتقد أحداً”.

أتذكر قصة صديقة سورية مقربة، كيف انتظرت بفارغ الصبر عبارة “اشتقت لك” من حبيبها يوهان، وحصلت أخيراً عليها بعد سنة من المواعدة، كلمة أحبك بدورها احتاجت وقتاً أكثر مصحوباً بالكثير من الجهد، لكنها حصلت عليها بعد سنتين ونصف، وبعدها بفترة قصيرة انتهت العلاقة بالانفصال، لأسباب تبدو لصديقتي لحد الآن غير واضحة.

كبرنا مع أحباء يكتبون لنا قصائد ويجلبون الورود، يحبون ويشعرون لأقصى حد، جملة مثل “اشتقت لك” تعتبر شيئاً مفروغاً منه، وكل هذا الانفصال عن العاطفة الذي نشهده هنا غير معروف لنا. لا أعرف ببساطة ما الذي يعنيه أحدهم حين يقول: “بعد سنة من الانفصال استنتجت أنني كنت أحبها”، كيف تحتاج معرفة عاطفة بهذه الأهمية كل هذا الوقت؟ وكيف يمكن للأحباء أن يعيشوا معاً مع قلق الانفصال الحاضر في كل لحظة؟

ولدت في عائلة أبعد ما تكون عن الهناء، لكن مع والدين تزوجا بعد قصة حب عاصفة، حيث قضيا خمس سنوات من الانتظار، تواصلا خلالها بالرسائل، والدي في روسيا وأمي في بري، الضيعة الهانئة في ريف سلمية. حفظا رسائلهما لاحقاً بصندوق كان لغز طفولتنا، أنا وإخوتي، ولم نتمكن أبداً من فتحه، قصة حب بدأت بالمدرسة واستمرت رغم رفض الأهل والظروف الصعبة، لكنها قصة ليست غريبة ولا استثنائية في مجتمع تقليدي، يقوم بشكل أساسي على تقديس العائلة، بكل ما يحمله ذلك من آثار كارثية أيضاً. يحضرني كل هذا وأنا أشاهد فيلماً وثائقياً ألمانياً، وثّقت به المخرجة حياة جديها الزوجية وعلاقتهما التي دامت سنوات طوال، قاعة مليئة بالمشاهدين المشدوهين وتصفيق حاد ودهشة ونقاش عما إذا كان ذلك ممكناً في وقتنا الحالي.

كيف أثر النشوء في بلد مثل سوريا على فهمي للحب والشراكة؟!

ما أعنيه، أننا من جهة نكبر عارفين ومتيقنين أن الحياة ساحة معركة كبيرة والعلاقات الحميمة ليست استثناء، فندخلها بعقلية أن المعارك على حدتها مع الحبيب ليست أبداً سبباً كافياً لترك ساحة الحب المضطربة، ومن جهة أخرى نختبر الحب بوصفه كاملاً لا يتجزأ، أعني أنه من الاعتيادي أن نحب وأن نكون محبوبين من قبل الكثيرين القريبين والغريبين عنا، اللطف المجاني والتقديم بدون أي مقابل أشياء اعتيادية إلى حد كبير في سوريا ومجتمعات الشرق، وحب الشريك امتداد طبيعي لشعور نعرفه جيداً، لم أشهد في سوريا أبداً اختلاطاً فيما يخص المشاعر، بينما النشوء في بلد مترف كألمانيا، يترك شعوراً بأن الصعوبة خطأ أو مشكلة، حيث لا مجال للحروب ولا حتى لجدال عابر، والاضطراب فيما يخص الحب شائع جداً، والاعتقاد بأن حب الشريك هو الإجابة الشافية على كل المشاكل الوجودية والمخلص من كل الآلام، كما أن الإغراق بالأفكار الرومانسية تجعل من السهل ترك أي علاقة عند أول مطب يخرجها من كمالية شهر العسل ويحيلها إلى واقعيتها، أما المشجب الذي تعلق عليه كل المشاكل: لم يكن حباً. أتساءل كيف هو الحب إذن؟

كيف كان بالنسبة لي وكيف صار، وماذا عن حب الذات، هذا المصطلح الفضفاض الذي نصادفه الآن في كل مكان، يصلح أيضاً لأن يكون مشجباً لكل الآلام، المصطلح الذي يعني أنك وحيد في هذا العالم ولن يحك جلدك إلا ظفرك، ابن المجتمع الحديث السائل، كما يصفه عالم الاجتماع زيغموند باومان. أحب نفسك لأنك ببساطة لا تستطيع الثقة بأي أحد، أو ليس عليك الثقة بأي آخر، وأنت مسؤولية نفسك في كل شيء. في سوريا قد تتلقى الحب حتى من بائع الخبز في الحارة، وتكون مسألة حب الذات ليست تحت المهجر من دون الإغراق في التفكير أو التحليل.

أسئلتي لا جواب شافياً لها حتى الآن، كان لي نصيب من التفكير العقلاني المفرط ومن التجارب الفاشلة بكل فخر. أعرف جيداً الدوامات التي نقع فيها حين نتساءل عن ضرورة التخلي عن توقعاتنا المسبقة لشكل الحياة مع الشريك وصفاته؟ إلى أي درجة يا ترى علينا التحلي بالتواضع أمام الحب؟ ماذا عن الإناث مثلي في ألمانيا، واللواتي ينطبق عليهن تشبيه المعلقات في الهواء، لا ينسجمن مع بعض الشباب السوريين التقليديين، حماة العرض بأنواتهم الهشّة، القابلة للانكسار عند أي تساؤل، ولا مع الشباب الألماني اليساري المترف المضطرب، الذي يبحث عن الفراشات في بطنه أو السلاحف… أو لا أدري.

كيف نمضي هكذا؟

أعود إلى نقطة البداية وأتساءل ماهي الشراكة يا ترى؟ هل يمكن لي أن أجد شريكاً أبني معه الحب مع الوقت بكثير من التواضع والصبر؟

أفكر في ابنة أختي الصغيرة التي عندما سألتها: “لماذا تحبين طوني؟”، أجابت: “لأنه يعرف كل أنواع العناكب السامة”… متى صار الحب بهذه الصعوبة؟

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى