مقالات

محنة السجع/ فرج بيرقدار

مثل مصري: مكتوب على ورق الجرجير.. يلطّم بينا الصغير والكبير

ولو كان الأمر يقتضي لفظة برّا من مثل “لا تبقى جوّا ولا تبقى برّا” لكان الجزء الأول من المثل “مكتوب على ورق القرّة”، وليس الجرجير.

سطوة السجع قديمة في التاريخ العربي، وقد لا يكون أقدمه سجع الكهان الذي استلب عقول كثيرين ممن للسجع عليهم سطوة.

ظاهريًا يبدو السجع والقافية متطابقين، ولكن الفارق الجوهري يكمن في أن القافية تشترط الوزن، في حين أن السجع لا يشترط أكثر من كلمتين أو جملتين تنتهي كل منهما بتطابق حرف أو أكثر، ولهذا كان السجع مركبًا سهلًا حتى لمن لا يتعدى قاموسهم اللفظي مستوى اللغة اليومية الدارجة، في حين أن القوافي تقتضي شعراء يمتلكون ثقافة وموهبة وقاموسًا لفظيًا واسعًا يخفّف عليهم وطأة اختيار القافية الملائمة للمعنى.

بالطبع كلما كان قاموس المرء محدودًا كلما كان سجعه فقيرًا وأحيانًا غير منطقي وربما متناقضًا. هنا تصبح المشكلة أكبر، وتتضح محنة السجع وصاحبه الذي يضطره فقره اللغوي إلى اختيار أول أو أقرب لفظة تخطر له ليقيم سجعه.

ولكي تغدو فكرتي أكثر وضوحًا سأتناول المثل القائل: “الطاقة اللي بتجيك منها الريح سدها واستريح”.

لكن لو قلنا: “الطاقة اللي بتجيك منها الرياح”، فإن السجع يقتضي أن نقول “سدها وارتاح”، وفي هذه الحالة يتوافق المعنى في القولين رغم تبدل السجع وفقًا لكلمتي ريح ورياح.

لكن ماذا لو قلنا: الطاقة اللي بتجيك منها العواصف سدها وخليك واقف.

كما هو واضح فإن السجع متسق، غير أن المعنى صار على النقيض ما بين “خلّيك واقف” وبين “استريح أو ارتاح”.

لكن بقليل من التحايل في التركيب أو تقليب قاموسنا يمكن أن نجد لفظة يتسق بها السجع ويبقى المُراد متفقًا في الصيَغ الثلاث، كما في القول: “الطاقة اللي بتجيك منها العواصف سدها ولا تضلّ واقف” أو “سدها ولا تضل خايف” أو “سدها ومدّ المناسف” إلخ.

*   *   *

اختبرتُ في شبابي سطوة أن يقول المرء كلامًا مسجوعًا بلسان الأوائل والأولياء والمشاهير، وألَّفتُ أمثالًا عديدة هزَّ كثيرون رؤوسهم على وقع سجعها رغم إشكاليات منطقها.

أعرف جيدًا نمطية تسجيع الأمثال، وكان من السهل عليَّ تبكيل الأمر، وتكبيل من يخلب لبَّهم السجع.

ضمن هذه السياقات ورَّطتُ أمي في أحد “مقالبي”. كنت حينها في الصف التاسع، أشتغل معها، خلال العطلة الصيفية، في حقول الآخرين.

حافظة أمي من الأمثال لا تنضب، وقد أرهقتني بكثرة ما رشقتني به من أمثال لم أرَ فيها معنى مهمًا أو فكرةً تستحق التأمّل. لم تكن حصيلة أمثالها سوى كلام مسجوع ركيك في غالبه وينطوي على معاني لا تلقى صدى في نفسي. فكَّرتُ أن أضع حدًّا لتدفّق أمثالها، فقلتُ كمن يحدِّث نفسه ولكن بصوت مسموع: العمى على هذا الشهر الخانق، فعلًا صدق أهل المثل حين قالوا تموز.. شهر البرد والنمّوز.

قالت أمي كما تقتضي العادة وبداهة المتعارَف عليه: اي والله يا ابني. الله يرحم أهل المثل، ما من شيء إلا قالوه.

تمالكت ابتسامتي وسألتُها إن كانت فهِمتْ معنى المَثل فتردَّدتْ. قلت لها: تعرفين أننا في شهر تموز، وقلتِ لي منذ ساعة مَثَلًا ملخصه أنه في شهر تموز يغلي الماء في الكوز (أي في إناء الفخار الذي يحمله معهم الفلاحون إلى الأرض ليرطّب جوفهم بماء بارد في الحر اللاهب)، ثم أضفتُ: كيف تقبلين أنَّ تموز في مَثَلك يجعل الماء يغلي في الكوز، وأنا قلت في مَثَلي إنه شهر البرد؟

انتبهت أمي إلى المفارقة وبدا عليها الإحراج، فقررتُ الإمعان في التبكيل والتكبيل: هو شهر حارٌّ إذًا، تحرق فيه الشمسُ ذنب العصفور كما تقولين، وليس شهر البرد كما ادّعيتُ أنا في مَثَلي، ثم بربك هل تعرفين ما معنى النمّوز؟

قالت إنها لم تسمع بلفظة النمّوز من قبل. قلت وأنا أيضًا لم أسمع بها، ولكني اخترعتها من أجل التسجيع مع لفظة تموز.

ثم حاولت أن أبسِّط لها قصة الصاحب بن عبّاد وزير أمير البويهيين الذي كتب رسالة إلى قاضي بلدة “قُم” فبدأها بالقول: أيها الوالي بقُم. وحين بحث عن عبارة تالية ذات سجع مناسب، فإن أوّل ما قفز إلى ذهنه كان فعل الأمر “قُم” فأكمل الرسالة بقوله: قد عزلناك فقم.

يومها قال القاضي: إنما أنا معزول السجع من غير جرم ولا سبب.

لو افترضنا أن رسالة الصاحب بن عبّاد كانت موجهة إلى قاض بنجد مثلًا، فأي مصير يمكن أن يرسمه السجع لذلك القاضي؟

أحد الاحتمالات وربما أقربها متناولًا أن يكتب ابن عبّاد:

أيها القاضي بنجد.. لك منّا كل مجد

ويمكننا أن نلهو بهذه اللعبة طويلًا ونحن نرسم مصائر ما كانت لتخطر على بال من قبيل:

أيها القاضي بمصر.. سوف نجزيك بقصر

أيها القاضي بجوبا.. أنت مخلوع وُجوبا

وهكذا إلى آخر ما تستطيع محنةُ السجع في جميع المقامات والمجالات.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى