أبحاث

طائفية ضد الطائفية… وسياسة بلا انتماءات سياسية/ حسام الدين درويش

في إطار المبادرات العديدة التي يطلقها سوريون كثيرون، ثمة مبادرة أطلق أصحابها عليها اسمًا غير معتاد، وهي تتضمن أشياء أو أفكارًا غير مألوفة عمومًا. المبادرة المعنية هي “مجلس المدونة السورية” الذي أصدر أعضاؤه ما أسموه “مدونة سلوك اجتماعي لعيش سوري مشترك”[1]. وسأركز فيما يلي على مناقشة بعض أهم ما جاء، أو غاب، في “مدونتهم” وفي “البيان التأسيسي لمجلس المدونة السورية”، مع الاستناد، أحيانًا، إلى ما جاء في تصريحات بعض أعضائه.

تبدو هذه المبادرة مفكَّكةً، بالمعنى الدريدي، أو في تناقض ذاتيّ صارخ، أو في حيرة من أمرها، في نقاط كثيرة، على الرغم من محاولتها أن تكون واضحةً وحاسمةً ومتسقةً ذاتيًّا، في خصوص تلك النقاط. فهي، من ناحية أولى، تؤكد، بعصابية شديدة، أنها مبادرة مجتمعية أو اجتماعية، لا-سياسية، ثم تراها غارقةً في السياسة بكليتها، تقريبًا، من “مفرق اجتماعها الأول إلى أخمص بيانها الأخير”، وعبر معظم تصريحات ممثليها، والتقارير الإخبارية عنها. وهي، من ناحية ثانية، تشدد، بهوس شديد، على أنها لا-طائفية، ولا علاقة لها بالطائفية، وليس فيها أي بعد طائفيّ، ثم تجد حضور الطيف أو الشبح الطائفي واضحًا أو كامنًا في كل مساماتها، أو هو أشبه بالظل المرافق أو الملازم لها، الذي يظهر، بوضوح (أكبر)، مع أي تسليط مناسب للضوء عليها. وسأركِّز، فيما يلي، على هاتين النقطتين.

1- سياسة بلا انتماءات سياسية، وبدون مواجهة المواضيع السياسية الخلافية

يظهر التبرؤ من السياسة، أو التشديد على أن المبادرة اجتماعية لا سياسية، في كثير من تصريحات أعضاء هذه المبادرة، ونصوصها، حتى في نصيها المؤسسين: “المدونة”، و”البيان التأسيسي لمجلس المدونة السورية”[2]. ﻓ “المدونة” تعرِّف ذاتها بأنها “مدونة سلوك اجتماعي …، هي وثيقة اجتماعية، …، تهدف إلى التأسيس لعقد اجتماعي”. ويخلو نص “المدونة” من أي ذكر لكلمة “سياسة”، أو للكلمات المرتبطة بها اشتقاقيًّا، باستثناء ثلاث حالات. الحالة الأولى تشير إلى أن هدف المدونة هو الوصول إلى “ناظم اجتماعي وسياسي للدولة السورية القادمة”. والحالة الثانية موجودة في البند الثامن من المدونة الذي ينص على أنه “لا يجوز لأي فئة احتكار الحياة السياسية …”. أما الحالة الثالثة والأخيرة فهي موجودة، في البند التاسع الذي يتحدث عن “عدم تسييس الانتماء، عدم تسييس المجتمع السوري …”. ويمكن تفسير الحالتين الأوليين بأن المدونة تهدف إلى أمر سياسيّ، لكنها ليست سياسيةً، أما الحالة الثالثة فتتضمن نفي التسييس، بوضوح. والوضع ذاته نجده في “البيان”، حيث يقترن ذكر السياسة إما بالنفي (“بعيدًا عن الاصطفافات السياسية”، “بغض النظر عن توجهاتهم السياسية”، “إن مجلس المدونة ليس تجمُّعًا أو مبادرةً أو كيانًا أو حزبًا سياسيًّا”، “إنه كيان مجتمعيّ”)، أو بكونها عملًا أو نشاطًا يقوم به آخرون “المفاوضات السياسية”.

على الرغم من كل هذا الإصرار على نفي السمة السياسية عن المدوَّنة والمجلس، فإن معظم، وربّما كل، المواضيع التي يتناولها، ويطرحها، تنتمي إلى صميم الميدان السياسي، ويمكن القول بإمكانية وضع كلمة/ سمة “سياسي” إلى جانب كلمة/ سمة اجتماعي، أو إحلال الأولى محل الثانية، في كل مرة جرى استخدامها فيها، بدون تغيير في المعنى الفعلي للكلام. وينطبق ذلك على مفاهيم “العقد الاجتماعي” (الذي هو عقد سياسيّ، بامتياز) و”المبادئ قبل أو فوق الدستورية”، و”المواطنة والمساواة في الحقوق”، و”وحدة الأراضي السورية”، و”عدم تسييس الانتماء”، و”دعم الحل السياسي للحالة السورية”، … إلخ، كما ينطبق على تعهّد الموقعين على المدونة “بالعمل وفق مبادئها، ونشر هذه المبادئ في محيطهم والعمل على توسيع دائرة قبولها ليشمل كل السوريين”. فإن لم يكن كل ما سبق ذكره سياسةً أو سياسيًّا، فما هو “السياسي”، من وجهة نظر المسؤولين عن المدونة وأعضائها؟

السياسة، بالنسبة إلى هذه المبادرة، تتركز في ثلاثة أمور جرى الاتفاق على إبعادها من النقاش في المدونة، وفقًا لناصيف نعيم، وهي: «النظام والمعارضة، الرئيس بشار الأسد، ثورة أم مؤامرة»[3]. فهذه أمور سياسية خلافية ينبغي تجنب الحديث عنها، من وجهة نظر “المدونة” و”مجلسها”. لكن إذا تجنب السوريون الحديث في الأمور الخلافية الأساسية في أزمتهم، فعمّا ينبغي لهم التحدث؟ وما غاية الاتفاق على مسائل تبدو بديهيةً أو هامشيةً نسبيًّا؟ هنا، يظهر الموضوع الطائفي، بوصفه الأساس في كل أفكار المدونة وتصريحات المعبرين عنها، على الرغم من التأكيد المفرط، في تكراره وشدته، بعدم وجود أي بعد طائفيّ في المدونة.

2- من إقصاء الانتماءات السياسية إلى الطائفية

التهميش المزعوم أو الظاهري، للسياسي، يحصل لمصلحة التركيز الصريح أو الضمني على الطائفي، مع محاولة ممارسة التقية السياسية في هذا الخصوص، ومع جهل أو تجاهل لمسألة أن الطائفي يتأسس على السياسي، لا العكس، وأن حلّ أي مشكل طائفيّ، أو سعي للوصول إلى هذا الحل، هو أمرٌ سياسيّ، بامتياز. ولا يبدو أن ذلك واضحًا، مطلقًا، لدى القائمين على “المدونة”. والبعد الطائفي القوي، في منظور هذه “المدونة” و”مجلسها”، واضح في كل الجوانب المؤسسة لفكر هذه المدونة. فهناك إصرار، في المدونة و”البيان”، على ضرورة غض النظر عن كل الانتماءات والاصطفافات والتوجهات السياسية للمشاركين؛ والتركيز على الانتماءات أو المكونات الدينية والطائفية والإثنية … إلخ. وهذا هو، بالفعل، أحد الأسس أو المعايير التي تحدد هوية المشاركين في هذه المدونة، فبغض النظر عن مسألة تمثيل أو عدم تمثيل أعضاء هذه المدونة ﻟ “مكونات المجتمع السوري”[4]، فهناك تشديد على أن أعضاء هذه المدونة هم من كل هذه “المكونات”[5]. والمقصود بهذه المكونات هو الانتماءات القائمة على النسب اللاإرادي، أي الطائفية والدينية والإثنية والعشائرية/ القبلية تحديدًا. وهكذا، هناك حديث دائم عن وجود علويين وسنة ومسيحيين وكرد ودروز.. إلخ. و”كالعادة”، في مثل هذه السياقات، يتغلب الانتماء الطائفي أو القبلي/ العشائري على الديني والإثني، عند الحديث عن “المسلمين” و”العرب”، بحيث لا يُؤخذ، في الحسبان، ما يجمع بينهم من “إسلام و/ أو عروبة” مطلقًا؛ كما يتغلب الديني على الإثني، عند الحديث عن المسيحيين وغير المسلمين عمومًا، حيث لا يُشار إلى العروبة الإثنية أو الثقافية التي تجمع بينهم؛ في حين يتغلب الإثني على الديني والطائفي، عند الحديث عن الكرد والتركمان، حيث تُهمَل الروابط الدينية أو الطائفية التي تجمعهم مع غيرهم من المسلمين، بطوائفهم المختلفة. وهكذا، يرفض القائمون على هذه المبادرة النقاش، انطلاقًا من الانتماءات السياسية المؤيدة للنظام أو لبشار الأسد أو المعارضة لهما و/ أو الثورة عليهما. وبدلًا من ذلك، يفضلون أن يكون النقاش بين منتمين إلى المكونات الطائفية والدينية والإثنية السورية “رغبةً في تجاوز المعضلات الموروثة والمعاصرة بين أطيافهم”. وتحيل المعضلات والأطياف، هنا، على ما هو ديني وطائفي وإثني وقبلي/ عشائري. فهذه المعضلات تفاقمت بعد انطلاق “الثورة/ الحرب بين السوريين”. ووفقًا ﻟ “البيان”، “المدونة” “تعتبر الطائفية، والفكر الطائفي مرضًا يجب اجتثاثه من خلال التوافق على عقد اجتماعي”. وبالفعل، يبدو الهاجس الأكبر، في المدونة، هو هذا المرض، بوصفه أحد أهم “العقبات التي تحول دون تماسك السوريين كمجتمع …”. ويمكن فهم معظم بنود “المدونة”، على الأقل، من هذا المنظور (الطائفي).

وقبل عرض بعض مضامين هذه البنود، وتوضيح معناها، وفقًا لذلك المنظور، من المهم الإشارة إلى أن هذا المنظور حاضر بوضوح، في نصوص المدونة وفي معظم تصريحات أعضائها، بدرجة أو بأخرى، على الرغم من النفي المتكرر في نصي “المدونة” و”البيان”، وفي تصريحات معظم أعضاء المدونة، لأهمية الصفة الطائفية للمشاركين، أو لحضور البعد الطائفي في المدونة ومجلسها. وسأركز فيما يلي على نصّ كتبه الدكتور ناصيف نعيم، لكونه الشخصية الأبرز، في هذا الإطار. ففي هذا النص[6]، يتناول نعيم الوضع السوري “من وجهة نظر التركيبة الطائفية لسوريا، كبلد متعدد الأديان والطوائف والمذاهب والأعراق”. وأبرز ما جاء فيه أن المعارضة المسلحة “يطغى عليها الطابع الإسلامي السني المحافظ”، وأنها تعتقد أن “الأغلبية السنية هي صاحبة الحق في حكم سورية”. أما المسلمون العلويون، فهم “يسيطرون على كامل جهاز الدولة السورية منذ تأسيسها تحت الانتداب الفرنسي …” و”الوحدات والميليشيات الموالية للنظام تتألف من العلويين بشكل أساسي”، كما أن “النهج العنيف للنظام […] لم يدع للعلويين أي خيار سوى التكاتف والتعاضد مع بعضهم البعض، في مواجهة كل أشكال المعارضة …”. و”لا ينبغي الاستهانة بالبُعد التاريخي والديني للصراع بين الشيعة والسنة”. فالشيعة “لن يسمحوا للسُّنّة بإلحاق الهزيمة بهم للمرة الثانية في التاريخ، أي لن يسمحوا لهم بذبحهم من جديد”. أما الأقليات الدينية، وخاصت المسيحية، فقد “استفادت من نهج النظام شبه العلماني في حكم الدولة”، “ما أدى إلى شعور المسيحيين بالأمان في الحياة اليومية من جهة، وإلى ابتعادهم بعض الشيء عن المُعتَرك السياسي وعدم اكتراثهم بالقمع السائد من جهة أخرى”. “ولكن، منذ بداية الانتفاضة، لم يتبقَّ أي شعور بالأمان لدى المسيحيين السوريين، حيث ثارت مخاوفهم بشكل خاص مع تزايد دور الجماعات الإسلامية المسلحة ذات الرايات السوداء”. وفي تقديم النص، نجد “أن الخاسرين هم أبناء الأقليات في البلاد، كالمسيحيين”.

في ضوء “وجهة نظر التركيبة الطائفية لسورية” وللثورة أو الانتفاضة التي تحولت إلى حرب أهلية، وفقًا لنعيم، يمكننا فهم مضامين “المدونة” و”البيان”، ومعظم نصوص المبادرة، ومعظم تصريحات أعضائها، فهمًا جزئيًّا، على الأقل، لكنه أساسيّ، بالتأكيد. فبنود “المدونة” تتضمن الحديث عن ضرورة “إزالة أسباب الخوف بين أطياف الشعب السوري”، وعن أنه لا يوجد لا غالب ولا مغلوب من الأطياف المذكورة، وعن أنه لا “أحد بريء من الذنب”، وأنه “لا يمكن تحميل الفرد مسؤولية عمل الجماعة، كما لا تتحمل الجماعة مسؤولية عمل الفرد”، وعن “التنوع القومي والديني والمذهبي والإثني والقبلي للمجتمع السوري، وعن عدم جواز “احتكار أي فئة أي جانب من جوانب الحياة في سورية”، وعن حق الفرد في الانتماء إلى قومية أو دين أو مذهب أو قبيلة، لكن من دون تسييس هذه الانتماءات.

3- طائفية ضد الطائفية

الطريف في بنود المدونة أنه على الرغم من أن معظمها يحوم حول موضوع الطائفية وما يرتبط بها أو يشابهها، إلا أنه يتم تجنب ذكر الكلمة، تجنبًا كاملًا، ويجري الحديث عن الانتماءات الدينية والقومية والإثنية والمذهبية والقبلية… إلخ، بدون أي ذكر لكلمة “الطائفية”. ونجد الأمر ذاته في “البيان”. والمرة الوحيدة التي تُذكر فيها كلمة “الطائفية” هي في النقطة الأولى من النقاط التي يشدد عليها مجلس المدونة في “بيانه التأسيسي”، حيث يقول: “إن مجلس المدونة […] ليس اجتماعًا لشخصيات بصفتهم المذهبية أو المذهبية أو الإثنية. إنه كيان تلتقي فيه شخصيات تنتمي أولًا وأخيرًا لوطنها سورية، وتعتبر الطائفية والفكر الطائفي مرضًا يجب اجتثاثه…”. فالطائفية مذكورة لتُدان، وللقول إنها مرض. لكن لا يوجد ذكر لها، حتى على طريقة ذكر السوريين لمرض السرطان (القول عنه “هداك المرض”). فالطائفية، بوصفها مرضًا، هي إحدى أهم “المعضلات الموروثة والمعاصرة بين أطياف السوريين” وفقًا للمدونة. والرغبة في تجاوز هذه الطائفية هي المحدد ﻟ “ماهية المدونة”، وفقًا للعنوان الأول من العناوين الفرعية ﻟ “المدونة”. وهكذا، تغيب الطائفية، بسبب الحمولة المعيارية أو التقييمية السلبية المرتبطة بها، ويحضر شبحها خلال التوصيف، لكن بدون الجرأة على ذكر اسمها. وعلى طريقة العقل السحري، الذي يحاول القضاء على عدوه، من خلال رسمه بطريقة ما، وعلى طريقة التكاذب المفروض من السلطة الأسدية، الذي حوَّل كلمة وموضوع “الطائفية” إلى “تابو” لا ينبغي الاقتراب منه، تقوم المدونة باجتثاث الطائفية، بدايةً، من خلال عدم ذكرها. فالمشكلة أو الإشكالية الأبرز، هنا، تكمن في تشديد “المدونة” على ضرورة تجاوز الطائفية، من خلال خطاب طائفيّ، في عمقه ومعناه، على الرغم من أنه ينفي أو ينكر الطائفية، في سطحه ومبناه.

الحديث عن طائفية خطاب المدونة ليس إدانةً (مطلقةً) لهذا الخطاب، كما أنه، بالتأكيد، ليس إشادةً به. هو توصيف يستخدم الكلمة التي لا يجتثها الخطاب إلا لفظًا، ليركِّز عليها، بوصفها موضوعًا ومرضًا ومعضلةً؟ ويعني هذا التوصيف أن المدونة لا تتحدث عن السوريين إلا من خلال نسبهم اللا-إرادي، ومن خلال كونهم أفراد طوائف أو فرق أو جماعات عضوية مختلفة. وفي الواقع، لم يكن أمام خطاب المدونة، و”بيان مجلسها التأسيسي”، إلا تبني هذا النوع من الخطابات، نتيجةً للإصرار على غض النظر، وإقصاء أي حديث عن الانتماءات والمواقف السياسية. فما الذي يتبقى لنا حين يتم تجريدنا من انتماءاتنا السياسية الإرادية، غير نسبنا اللاإرادي، أي نسبنا الطائفي او الإثني أو الديني أو القبلي؟ ربما هناك خيار آخر، في البيان، وهو خيار الهروب إلى الامام، من خلال الحديث عن “الانتماء إلى سوريا، بوصفها وطنًا”. وبالفعل نجد، في المدونة والبيان، حديثًا عن ذلك الانتماء إلى سوريا – الوطن، وعن “الشعب السوري”. لكن إذا أخذنا، في الحسبان وبجدية، رغبة المدونة وبيان مجلسها التأسيسي في ضرورة الابتعاد عن الاصطفافات والمواقف والانتماءات السياسية، يبدو هذا القول زلة فكر، أو نشازًا غير متناغم مع الرغبة المذكورة. فالانتماء المذكور هو انتماء سياسيّ بامتياز، وكذلك هو حال مفهومي “سوريا الوطن” و”الشعب السوري”. وعند تناول مثل هذه المفاهيم، يمكننا تناولها من الزاوية السياسية، أي من زاوية الانتماء إلى إحدى التوجهات السياسية المؤيدة، على سبيل المثال، للديمقراطية أو الاستبداد أو المعارضة لهما؛ أو يمكننا الذهاب إلى ما قبل أو ما تحت المستوى السياسي، ورؤية الأمور من الزاوية المجتمعية، أي من زاوية انتماءاتنا قبل السياسية. ونتيجةً لذلك، لا تقتصر نصوص “المدونة” و”البيان التأسيسي” لمجلسها على الابتعاد عن مفاهيم و/ أو مصطلحات أو مواضيع “النظام والمعارضة، الرئيس بشار الأسد، ثورة أم مؤامرة”، فحسب، بل تهمل، أيضًا، إهمالًا كليًّا، مفاهيم أو مواضيع أخرى، مثل الديمقراطية والاستبداد، حيث لا يرد أي ذكر لهذين اللفظين/ المفهومين، في “المدونة و”البيان”.

ويتقاطع خطاب “المدونة” و”البيان”، مع خطاب النظام الأسدي، تقاطعًا مثيرًا للانتباه والتفكير. فكلا الخطابين لا يذكر الطائفية إلا لإعلان رفضها، وليس للبحث في الأسباب السياسية المؤسسة لها، أو في التوظيف السياسي لها، ولا يتناولانها، بوصفها ظاهرة سياسية، بل بوصفها ظاهرة مجتمعية. ومثلما فعل النظام الأسدي، في بداية الثورة السورية، حينما واجه الهتافات المناوئة له، والمطالبة بالحرية والديمقراطية، ﺑ شعار “لا للطائفية”، الذي ملأ، حينها، شوارع دمشق وعددًا من المدن السورية، يتبنى “جماعة المدونة” خطابًا شعاراتيًّا مماثلًا، ويرفضون بحث مسائل الاستبداد والديمقراطية والثورة على الاستبداد ومعارضته… إلخ، ويركِّزون على “الطائفية”، ليعلنوا رفضهم لها، بوصفها مرضًا ومعضلةً مزمنةً ومعاصرةً. وانطلاقًا من ذلك، يمكن أن نفهم سبب سماح النظام السوري لسوريين مقيمين في سورية، بالسفر إلى “الخارج”، للمشاركة في النشاطات المتعلقة ﺑ “المدونة”، والعودة إلى سورية. وهو يفعل ذلك، بدون أن يكون معرضًا لأي ضغط أو إكراه، بل بطيب خاطر، على الأرجح، بسبب علمه بمضامين هذه المدونة، وليس على الرغم من علمه بهذه المضامين. ومعروف أن الحرمان من السفر يشمل كلَّ “المعارضين” في سورية تقريبًا. لكن لماذا يحرم هذا النظام مثل هؤلاء الأشخاص من السفر، إذا كان خطابهم يرى أنه في الطائفية، وليس في الاستبداد، يكمن المرض والمعضلة المزمنة؟

إن حالة الإنكار المستمرة التي يتضمنها خطاب المدونة ومجلسها، في خصوص البعد الطائفي للمدونة، لم تفلح في منع تشديد كثير من ردّات الفعل، على “المدونة”، على وجود هذا البعد، وعلى إبراز حضوره، بوصفه أساسًا من أسس المدوَّنة، بل الأساس الأكبر والأهم لها. في المقابل، رفض معظم أعضاء المدونة توصيفهم بانتماءاتهم الطائفية، وقراءة مدونتهم بلغة الطائفية أو الانتماء إلى الطوائف، لكنهم لم يُظهروا أي تفهم أو حتى فهم للأسباب الموضوعية المسوِّغة لمثل هذه القراءة.

لا يتضمن القول ﺑ “طائفية” هذه المدونة أي حكم على النيّات المعلنة أو غير المعلنة للقائمين عليها، ولا على مشاعرهم وقيمهم المتبناة، في هذا الخصوص. كما لا يتأسس هذا القول على انتماء بعض أو معظم مؤسسيها وأعضائها إلى هذه الأقلية الدينية/ الطائفية أو تلك. فهذا القول يحيل إلى الخطاب، بالدرجة الأولى. وطائفية الخطاب لا تعني أن أصحابه طائفيون، بالضرورة. فكما أن العقل يمكن أن ينتج خطابًا لا-عقلانيًّا، يمكن لغير الطائفي أن ينتج خطابًا طائفيًّا. وهذا الخطاب طائفيّ، لأنه يرى “الطائفية” مسألةً مجتمعيةً، لا سياسيةً، ولأنه يجهل أو يتجاهل أن السياسي هو الذي ينتج الطائفي/ المجتمعي، غالبًا على الأقل، أكثر مما يمكن للمجتمعي أن ينتج للسياسي؛ ولأنه يهتم بالانتماءات غير السياسية أو اللا-سياسية، ومنها الانتماءات الطائفية، ويقصي الانتماءات السياسية. وإقصاء السياسة عن تناول المسألة الطائفية (السياسية)، يتضمن إقصاءً للسياسة عن السياسة، ووقوعًا في الطائفية لا محالة.

إن تجاوز الطائفية يقتضي عدم الاقتصار على تناولها معياريًّا، والاكتفاء برفضها أو تبنيها. فالطائفية ليست مجرد تهمة ينبغي التبرؤ منها، أو قيمة معيارية سلبية يمكن تجنبها بعدم ذكرها أو بحذفها في مستوى الخطاب. ومعالجة الطائفية، بوصفها مرضًا، تقتضي، بدايةً، تشخصيها بموضوعية، وعدم المبالغة في إبراز وجودها وسلبية هذا الوجود، أو إنكار هذا الوجود، والتقليل من تأثيره. وانطلاقًا من البند الثاني من بنود المدونة (مبدأ المكاشفة والاعتراف)، ينبغي الإقرار بأن أي تناول للأزمة السورية، أو لأي من الأمراض والمعضلات التي يعاني منها السوريون حاليًّا، من منظور مجتمعيّ لا-سياسيّ، ويتهرب من مواجهة مسائل الاستبداد الأسدي وأحقية الثورة عليه، وضرورة الانتقال إلى نظام سياسيّ يحصل فيه الخلاف بين النظام والمعارضة، داخل الديمقراطية وضمن مجالها، وليس عليها وخارجها، سيكون تناولًا قاصرًا، ومتسمًا بالثقافوية والطائفية، وبمشتقاتها أو بما يماثلها. وبدون مثل هذا الإقرار، والانطلاق منه، ستكون هذه المدونة، وما يماثلها، جزءًا من المشكلة، ونتيجةً لها، أو عَرَضًا من أعراضها، أكثر من كونها تشخيصًا للمشكلة، وعاملًا مساعدًا على حلّها، أو خطوةً مناسبةً في الطريق الذي يمكن أن يفضي إلى هذا الحل.

4- خاتمة: تساؤلات أخيرة

إذا كان الغرض من هذه المبادرة هو إنشاء هذه المدونة، بدون ممارسة أي نشاط سياسيّ، ألا يعني ذلك أن ولادة المدونة تعني، في الوقت نفسه، نهاية وجود أي مسوِّغ معقول لاستمرار وجود المبادرة والمجلس المنبثق عنها؟ وإذا كان هناك سعي لنشر مضامين هذه المدونة، وتوجه للعمل من أجل تضمينها، بوصفها مبادئ قبل دستورية، في الدستور السوري المنشود، وبناء ما يسميه الدكتور نعيم “التيار الاجتماعي السياسي الجامع”[7]، ألا يعني ذلك أنه ينبغي التخلي عن الموقف الطهراني من السياسة، وتبني موقف صريح وواضح من النظام السياسي (الاستبدادي) القائم، ومن مبدأ معارضته، و/ أو الثورة عليه، ومن النظام السياسي (الديمقراطي) المنشود؟ وإذا كان القائمون على “المدونة” راغبين، فعلًا، في كسب ثقة السوريين بها، وإزالة أسباب التشكيك والارتياب فيها، أفلا ينبغي لهم التحلي بشفافية أكبر، في خصوص الكثير من المسائل والأسئلة: على سبيل المثال، ما هي الجهات الأجنبية المتابعة لعمل المدونة والممولة لها؟ ولماذا يتم التركيز على انتماءات قبلية أو عشائرية وطائفية محددة، في اختيار الأعضاء، لدرجة يبدو، معها، أن الحوار بين أعضاء المدونة أقرب إلى الحوار بين عشائر علوية مع عشائر سنية، بإدارة مسيحية؟ أخيرًا، يبدو دور الدكتور ناصيف نعيم بالغ الغرابة، ومثيرًا لكثير من التساؤلات: فهو من جهة أولى “الكل في الكل”، في هذه المدونة، فهو مدير جلسات الحوار، والخبير الذي أشرف على جوانب الحوار، ومدير المركز الذي يحتضن المدونة، وهو صلة الوصل بين المدونة والجهات الداعمة والمانحة… إلخ، لكنه، من جهة ثانية، ليس عضوًا في المدونة، كما يُشدِّد في أكثر من موضع[8]! فكيف يمكن الجمع بين هذين الأمرين؟ وإلى أي حدّ، وبأي طريقة، يمكن القول باستقلال المدونة عن الدكتور نعيم، وعن مركزه والسلطات الألمانية المتابعة للمدونة والداعمة لها؟ ألا يبدو أن “المدونة”، ومجلسها، محكومان بشخصية/ سلطة لا تنتمي إليهما، وبجهات داعمة ومانحة مجهولة؟

[1] يمكن قراءة نص المدونة في الموقع المروِّج لها: “مدونة سلوك لعيش سوري مشترك“.

[2] على الرغم من وجود البيان في عدد من صفحات (فيسبوك)، فإن البيان غير موجود في موقع “سوريا 11″، ويمكن الاطلاع على نص البيان، في موقع سيريانيوز.

[3] هذا ما نقله إبراهيم حميدي عن ناصيف نعيم، في تقرير نشره عن الإعلان عن “المدونة”، في صحيفة الشرق الأوسط، تحت عنوان “الحوار السني ـ العلوي السوري يشكل مجلساً لتنفيذ «وثيقة العيش المشترك»“، بتاريخ 19 مارس/ آذار 2019.

 [4] على الرغم من تشديد بعض أعضاء المدونة على أنهم لا يمثلون أي مكوِّن، فإن أعضاء آخرين يتحدثون عن كونهم يمثِّلون كل “المكونات السورية”، بل يذهب أحدهم، على الأقل، إلى التجرؤ على القول: “نحن نمثل الثمانين بالمئة من الشعب السوري الذي لا يريد حرباً”. وقد كان هذا القول، المنسوب إلى عضو علويّ قيل إنه لا يستطيع الكشف عن اسمه، عنوان  تقرير عن المدونة، باللغة الألمانية، في صحيفة فيلت الألمانية، منشور بتاريخ 18 يناير/ كانون الثاني 2018. ومن المرجح أن الشخص نفسه، أو شخصًا “علويًّا” آخر، (وفقًا لتوصيف المجلة له)، قال: “نحن نتكلم عن الأغلبية التي طفح كيلها”، في حديث لمجلة فرانكفورتر الغيماينه، الألمانية، نُشر بتاريخ 17 يناير/ كانون الثاني 2018.

[5] هذا ما يشدد عليه إبراهيم شاهين في حوار أجراه معه طالب إبراهيم ونُشر في موقع حزب سوريا المستقبل، تحت عنوان “المدونة السورية… خارج السياسة وداخل المجتمع!“، بتاريخ 31 أغسطس/ آب 2019.

 [6] ناصيف نعيم، “الأوروبيون فقط هم الأكثر ملاءمة حالياً للقيام بدور الوساطة في سوريا“، موقع قنطرة، ترجمة علي المخلافي، تحرير لؤي المدهون، 2012.

[7] ناصيف نعيم، “مدونة السلوك لعيش سوري مشترك ومجلسها“، موقع سوريا 11: مدونة سلوك لعيش سوريّ مشترك، 20 فبراير/ شباط 2020.

[8] هذا ما قاله، على سبيل المثال، في بداية حوار أجراه معه موقع سوريا 11: مدونة سلوك لعيش سوريّ مشترك، نُشِر في 26 مارس/ آذار 2019، تحت عنوان “لقاء وحوار سوري في برلين“.

البيان التأسيسي 1

مدونة السلوك 1

البيان التأسيسي 2

مدونة السلوك 2

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى