مقالات

هل هناك صناعة كِتاب في العالم العربي؟

(3)

عماد الدين موسى

حجم الخط

الكِتاب قد يكون أداة لإنتاج معرفةٍ زائفةٍ للتسلُّط على العقل، وطريقة تفكيره، فيؤسِّس لغياب حضاري، وقد يكون ضرباً من الحفر المعرفي يؤسِّس لثقافة النقد والاستيعاب. هذه أحياناً يتم خلطها عند أصحاب دور النشر، هذه الدور التي تحولت إلى مؤسَّسات أغلبها غايتها الربح، طالما أنَّ للكتاب سوقا، مُنتَجا ومُستهلكا. فمن كتب تروِّج للسحر والشعوذة والجن، إلى كتب تروِّج للجنس والحظ، إلى كتب تحتفي بالعلوم الإنسانية من رياضيات وفلسفة وطب وأدب وموسيقى وقانون. إلا أنها جميعاً مُنتَجٌ القصدُ والغايةُ منه الربح عندَ صُنَّاعه، هذا عدا عن السطو على طباعة كتب ذات حظوة علمية أو أدبية.

وبموازاة ذلك نرى العديد من المعارض المحلية والعربية والدولية للكتاب وما يرافقها من نشاطات ثقافية وحفل تواقيع وبيع الكتب من مؤلفيها.

في هذا الملف الخاص نستقصي آراء كتاب ومثقفين، جنباً إلى جنب مع آراء أصحاب دور النشر، حول صناعة الكتاب، بوصفهم صنّاعه ورُسل ثقافة ومعرفة، يؤسِّسون وينشرون المعارف والعلوم، ما يُشكِّل خيالنا الثقافي والاجتماعي ويبلوره. هنا الجزء الثالث:

سمير درويش (كاتب وشاعر مصري): ذهنيّة التاجر

من واقع تجربتي في التعامل مع دار نشر إنكليزية عريقة طبعت لي أربعة دواوين في مجلدين حتى الآن، وتعاملاتي مع دور النشر المصرية الحكومية والخاصة لأكثر من ثلاثين عاماً، يمكنني القول إننا متخلفون كثيراً فيما يخص صناعة الكتاب، فالمبدع أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول أن يدفع بكتابه إلى دار نشر حكومية تطبع في حدود 1000 نسخة وتدفع مقابلاً هزيلاً، مقابل أن ينتظر مدة تصل لثلاث سنوات، وأن يكون كتابه مليئاً بالأخطاء وله غلاف و(تفنيش) رديء ولا يُعتنى بتوزيعه. والثاني أن يدفعه لناشر خاص، يطبع ربع هذه الكمية، ويبيع بسعر مبالغ فيه ويحصل على أموال من المبدع قد تفوق تكلفة الطباعة!

لكن المشترك بين القطاعين هو عدم الاعتناء بالكتاب أو بصاحبه، ففي النظام الحكومي هناك تعامل آلي وظيفي بيروقراطي يهتم بالعدد فقط، وعند الناشر الخاص اهتمام بالمردود المادي الذي يجب أن يحصل عليه في أقل وقت ممكن، من دون عمل دعاية للكتاب أو ترويجه، وحتى من دون الاهتمام بمراجعته لغويّاً!

لكن الأهم من كل ذلك أن الدول عندنا تكره الكُتب والكُتَّاب على السواء، لأن كل كتاب جديد – من وجهة نظرها- ينطوي على احتمال جديد لقلقلة ووجع دماغ هي في غنى عنه!

الكاتب لدى الدول القمعية هو (كاتب العمود الصحافي) الذي يمجد الحكومات ويمدح المسؤولين عمَّال على بطَّال، هو المعادل للشاعر المدَّاح التراثي الذي يصل إلى ما قاله المتنبي – الذي نعده أشعر شعراء العرب- في كافور الإخشيدي، العبد الذي حكم مصر، تلك المعادلة التي لا يقبل الحكام الديكتاتوريون غيرها، لذلك يسارعون إلى (تنظيف) المكتبات الحكومية من أي كتب تقول غير ما يقولون، ويمنعون عرض الكتب التي يتصورون أنها ستسبب مشكلات في معارض الكتب، في البداية كانوا يمنعون منعاً صريحاً، وعندما علا صوت الجمعيات التي تنادي بحرية الرأي حول العالم، أصبحوا يتركون المهمة للجمارك ولغيرها من مؤسسات تبدو حيادية!

على العموم أنت لا تستطيع أن تفصل مسألة “صناعة الكتاب” في أي بلد عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي يمر بها، ومنذ قال جوبلز، وزير دعاية هتلر النازي: حين أسمع كلمة ثقافة ومثقف أتحسس مسدسي، أخذ جميع وزراء الدعاية والثقافة والإعلام والداخلية والدفاع في كل الدول الديكتاتورية يتحسسون مسدساتهم حين يسمعون كلمات أقل أهمية، خاصة أن المثقف هو الطرف الأضعف في أي معادلة اجتماعية، والثقافة هي الضحية الجاهزة في كل تبديل وزاري أو في أي خطة تقشف.

حتى دور النشر الكبيرة والعريقة – في مصر على سبيل المثال- لم تسلم من أمراض صناعة الكتاب، فالناشر يتصرف ويعمل بذهنية المطبعجي التاجر، يبحث عن الرائج فقط وينشره ويعيد طباعته عشرات المرات، بينما يهمل الكتابة الجادة التي لا تبيع كميات كبيرة، ولا تعطي المردود المنتظر، والنتيجة أن الغالبية العظمى من دور النشر توقفت عن قبول الشعر، لأنه الأقل مبيعاً، فيكون على الشاعر والحال كذلك أن يكتب وينسق ويبحث عمن يراجع كتابته مجاناً، وعلى من يصمم له الغلاف مجاملة، ويدفع تكاليف الطباعة، ثم يوزع كتابة على أصدقائه مجاناً أيضاً، في دائرة مرهقة للنفس والروح معاً.

صلاح حسن (شاعر عراقي): خالية من الابتكا

ر

دعيت مرة للمشاركة في صناعة كتاب هولندي عن فكرة جواز السفر، كتبت مقالة وقصيدة عن الجواز العراقي الذي أصبح من أسوأ الجوازات في العالم وبات المواطن العراقي من أكثر المواطنين المنبوذين على الحدود. حينما خرج الكتاب من المطبعة أصبت بحيرة من قدرة الإنسان الهولندي على الابتكار.. فقد كان الكتاب بسبعة أغلفة وكل غلاف من خامة مختلفة ولون خاص. صناعة الكتاب في العالم العربي خالية من الابتكار وتقليدية هذه الأيام ولو عدنا إلى المخطوطات التي كان ينتجها مجلدو الكتب في بغداد ودمشق وفاس لوجدنا المتانة والجمال والحرفة. صناعة الكتب عندنا حالياً تجارة فقط .

من خلال خبرتي أعرف أن المؤلف العربي ليس له حقوق بل ينبغي عليه أن يدفع للناشر كي تظهر كتبه للنور وقلة من الكتاب والشعراء يأخذون حقوقا عن مؤلفاتهم. المترجم أيضا يحتاج إلى دعم لكي ينشر مخطوطاته فدور النشر لا تفكر إلا بالمال ولا تطلب من المترجم إلا بعض العناوين لكتاب مشهورين يعرفون أن كتبهم تباع ومطلوبة. إننا نحتاج إلى ثورة حقيقية في صناعة الكتاب وإلى ناشرين يفكرون بصناعة الكتاب المميز قبل أن يفكروا بالربح.

سامي داوود (كاتب كُردي): التسلية اليوم هي ثقافة الجمهور

تتعلق صناعة الكتاب بالقراءة كطبعٍ مجتمعي، فعادات القراءة هي مجال تداوله. وبناء عليها يشتغل هذا النظام السيامي للكتاب ـ القراءة.

لذلك لم تصبح وفرة الكتب مؤشرا إلى تحولات سلوكية في عادات القراءة، وإنما كانت تورية لتبييض الفساد المالي داخل بعض المؤسسات الثقافية التي تطبع ما لا يجب طباعته، وتراكم الكتب لتتعفن في مخازنها.

لا يمكن مقارنة العالم الغربي بمجتمعاتنا الشرقية إطلاقا. مثلا في نيويورك، إن لم يتم بيع ما مقداره 15 إلى 20 ألف نسخة من الكتاب في سنته الأولى، لا يعاد طبعه. بينما طبعت رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ في عموم العالم العربي بـ40 ألف نسخة فقط. وفي فرنسا ما زال الكتاب هو الهدية الأكثر تداولا في الأعياد، والقراءة جزء من التربية، يقابلها حضور مديني للمكتبات في كل مكان، سواء في الحافلات العامة أو حتى في المؤسسات العسكرية. بينما أظهرت بينات القراءة في العالم العربي ضمن تقرير للتنمية البشرية سنة 2010، أن أعلى مستويات القراءة ظهرت لدى المجتمعات الأقل دخلا، أي سورية ومصر. وبيروت كمدينة مصنعة للكتاب، ظهر أنها لا تقرأ ما تصنعه.

في ظاهرة أخرى، حدثت مع الفورات الاقتصادية التي ضربت بعض المجتمعات الاستهلاكية، دخل الكتاب في البيوت كعنصر تزييني لديكور البيوت لدى فئة حديثي النعمة. وتصدرت أعلى مبيعات الكتب في المعارض التي جرت داخل مجتمعات لا تقرأ.

رافق ذلك ظهور كُتّاب يكتبون ولا يقرأون، رشّحهم وضعهم المالي لأن يتحولوا من قراء إلى كُتّاب ينشرون كتبهم الرديئة.

ولقد اختلطت المطبعة كعمل تجاري بدور النشر كمؤسسات ثقافية.

يواجه الكتاب منافسة غير متكافئة. إنه عصر الصورة، والبث الحي، والابتسار اللغوي. تستحوذ السينما على اهتمام إعلامي ضخم، وميزانيات خرافية، وكرنفال استعراضي يستلب الجمهور، رغم أن أكثر من 90% من الأفلام في العالم تُنتج للتسلية.

فالتسلية اليوم هي ثقافة الجمهور. والمشكلة تكمن في عدم قدرة دور النشر على الموازنة بين ما يجب ضخه في الحياة العامة وبين ما يطلبه الجمهور.

الإصرار على جعل الكتاب دائراً وفقاً لشروط التبادل السلعي، يحول الكتاب إلى بضاعة. لذلك لا يمكننا أن نحرر الكتاب من ما هو ليس بكتاب إلا من حيث هو ورق وحسب.

لا يمكن للمعرفة ولا للمخيلة أن تتحول إلى شأن سوقي. لقد هيمنت المؤسسات المالية على سوق الفن التشكيلي، ففقد هذا الأخير قدرته ومكانته في المجال الثقافي. ما زالت الصحافة تعمل كشأن غير ثقافي، مجرد وسيط خبري، ثم باتت الفنون البصرية تلحق بها وتعامل بازدراء في الأوساط الثقافية، وينظر اليوم في أوساط ثقافية كثيرة إلى الفنانين التشكيلين كأنهم عارضوا أزياء. ويبدو أن الكتاب هو الوحيد العصي على هذه الإزاحة، رغم وجود سلطة سياسية ودينية تعمل باستمرار على ضرب المعرفة، وعلى إغراق المكتبات بالكتب الرديئة، كجزء من استراتيجية هذه السلطات في مشروعهما المشترك، أي تجهيل البشر.

يحاول منتقدو التنوير والحداثة كشف هذه الصلة بين الثقافة الاستهلاكية المنتظمة في كتب تروجها مؤسسات شبه ثقافية، وتخدم توجها أيديولوجيا محددا، وبين المعرفة التي علينا الاستثمار فيها من أجل تقريظ مفاهيم أساسية كالهوية والحقوق والوجود. وصناعة الكتاب تتجاذب بين هذين القطبين المتعارضين.

في الحرب العالمية الثانية، وحسب ما يذكره ليوبولد نيومان، ظهرت في لندن جريدة لأولئك الذين لا يفهمون ما يقرأونه. وأعتقد أن صناعة الكتاب في العالم العربي أثمرت هذه الحالة. حتى عندما تكتب نصا عميقا ومختلفا، تتلقى الكثير من اللوم على تعقيدك للمادة. ورغم رداءة الكثير من الكتب النقدية والأدبية التي تنشر في العالم الغربي، إلا أن دور النشر تتعامل مع المادة المترجمة في المجال النقدي بمرونة أكبر من تعاملها مع المادة النقدية التي يكتبها ناقد شرقي.

لذلك نلاحظ تعويما للحجة التي تكررها دور النشر في القول: “الجمهور عاوز كِده”.

محمد مقصيدي (ناشر مغربي): واقع مرير ومستقبل مظلم

الكتاب غاضبون، القراء يشتكون، والناشرون الذين لم يفلسوا بعد يندبون حظهم العاثر. هذا هو المشهد البانورامي العام لواقع صناعة الكتاب في العالم العربي. ليس هنا الوقت المناسب لتفكيك أسباب واقع الحال. وسأحاول هنا أن أدلو بدلوي بصفتي ناشرا مديرا لدار نشر الموجة الثقافية، وبصفتي كاتبا وشاعرا، وبصفتي قارئا أيضا.

القارئ الذي يسكنني لا ينفك يشتكي، ولا يتوقف عن السخط، إذ يقول: ما هذه الأثمان الغالية والخرافية أحيانا، تلك التي على ظهر الكتاب؟ الأمر الذي يدفعني مؤخرا إلى قراءة الكتب الإلكترونية وإن كنت ناشرا للكتاب الورقي الذي لا يمكن تعويضه أبدا بالمسخ الإلكتروني. ليس وحده الثمن الغالي جدا أحيانا ما يجعلني أرثي واقع الكتاب في العالم العربي، وأعض على أصابعي، بل أيضا تنضاف أزمة توفره في المكتبات، إذ يكون من الضروري التنقل لمكتبات بعينها في مدن بعينها من أجل اقتنائه، بل في غالب الأمر، يكون من الضروري الانتظار إلى المعرض الدولي للحصول على العديد من نسخ الكتاب غير المقيمين في نفس البلد؛ ناهيك عن توقفي المطلق عن المغامرة في شراء مؤلف لكاتب عربي لا أعرفه، ويحدث كثيرا في أوروبا أن أقتني مؤلفا بالصدفة لم أسمع به أو بكاتبه من قبل، وتكون نسبة نجاحي واستفادتي من الكتاب تفوق الخمسين بالمئة. لكن النسبة المرتفعة للكتب الرديئة التي تطبعها دور النشر العربية تغطي على حجم الكتب الجيدة، وهكذا تكون المغامرة بشراء كتاب لكاتب مجهول أو حديث نوعاً من المقامرة الخطيرة. وهذا أمر تتحمل دور النشر فيه نصيب الأسد. طبعا، هناك العديد من المشاكل، لكنني أوجزتها في ثلاث مشاكل كبرى هنا بصفتي قارئا.

أما بصفتي كاتبا، فيمكنني تصحيف مجلدات ويلزمني مداداً كثيراً وأسابيع، ورغم ذلك لن أتمكن من أن أشفي غليلي من الحيف الذي يتعرض له الكتاب. أغلب الكتاب يعانون قبل كل شيء من رفض أغلب دور النشر طباعة أعمالهم بالمجان (الكتب الأدبية والشعرية خاصة) مشترطين دفع قسط من المال، تنضاف إلى ذلك مشكلة الوقت الطويل الذي ينتظره العمل للخروج إلى النور. والصدمة الكبرى أنه حتى بعد خروج العمل بعد أن يكون بلغ من الزمن عتيا تعترضه عقبات كثيرة أولها ضعف التوزيع وغياب المتابعة والإشهار، فالكتاب لما يصدر في الغرب يكون حدثا ثقافيا توليه دار النشر العناية كما تولي الأم وليدها وتحتفل به احتفالا كبيرا، لكنه في العالم العربي بمجرد أن تصدر الدار الكتاب حتى تلفظه لفظا وتنساه كأنه فضيحة وكأنه لقيط أنجبته من حرام.  أما التعويض المادي للكاتب عن تعبه وعرق جبينه ويديه، فذلك آخر ما يمكن أن تتحدث عنه، وهو أمر معروف جدا، والكتاب الذين تصلهم أرباح مالية عن كتبهم معدودون على رؤوس أصابع اليد الواحدة.

ثم بصفتي ناشرا أقول: هناك نوعان من مؤسسات النشر، من جهة هناك المؤسسات الكبيرة العملاقة التي لا تقتصر فقط على الكتاب في نشاطها التجاري أو المدعومة من دول أو جهات ثقافية نافذة، ومن جهة أخرى: مؤسسات النشر المتوسطة والصغيرة الأخرى، وسأتحدث عن هذه الأخيرة في هذا الباب، لأن المؤسسات الأولى كما هو شائع محسوبة على رؤوس الأصابع وتعد استثناء.

لا يمكن لأي دار نشر أن تعيش وتؤدي مصاريفها ومصاريف عامليها فقط ببيع الكتاب الأدبي في السوق (الشعر، الرواية، القصة…) وإلا ستفلس مباشرة. لذلك فدور النشر التي تنجح في التعامل مع الكتب الأكاديمية والمقررات الدراسية مثلا تنجح في الاستمرار وبإمكانها المغامرة في طبع كتب أدبية بدون مشكلة، لأنه يكون نشاط جانبي فقط لنشاطات كبيرة أخرى. دور النشر أيضا التي تستطيع استقطاب أسماء معروفة تجاريا ومطلوبة عند القراء، حتى في الجانب الأدبي، تستمر أيضا في الحياة. لكن المؤسسات التي لا تتعامل مع الكتب المدرسية ولا تتعامل مع أسماء معروفة، والتي لا تتلقى دعما ماليا معقولا للاستمرار يكون عليها أن تطلب المقابل المادي من الكاتب وليس العكس، ولكن أغلب هذه الدور تتوقف مباشرة، لأن عدد الكتاب الذين يدفعون مقابلا ماليا لنشر أعمالهم قليل جدا بالمقارنة مع مصاريف المؤسسة شهريا.

هناك قنطارات من المشاكل في صناعة الكتاب تعترض مؤسسات النشر، مثلا مشكلة عدم التوازن بين التكلفة العالية للمصاريف (الورق، الضرائب…) وبين المداخيل، وهذا ما يجعلها ترفع ثمن الكتاب، والذي يؤدي بدوره أيضا إلى انخفاض نسبة المبيعات، ومشكلة التكلفة العالية للتوزيع التي تصل أحيانا إلى 40 بالمئة من ثمن الكتاب، ومشكلة القدرة الشرائية للقارئ، وعدم التكافؤ في تحصيل الدعم العمومي، حيث تبتلع دور النشر- الحيتان أغلب الدعم العمومي والخاص لصناعة الكتاب، وعدم اعتماد سياسات عمومية للرفع من مستوى مجال رواج الكتاب (الإعلام، الثقافة، التعليم…)، من دون أن نغفل محاربة العصابات الثقافية والمؤسسات الأخطبوطات لمؤسسات النشر المتوسطة أو الصغيرة لأسباب سياسية أو أيديولوجية أو شخصية…

حمدان طاهر المالكي (كاتب عراقي): تجارة خاسرة

صناعة الكتاب في العالم العربي قياسا ببقية الدول ضعيفة وخجولة والأمر يشبه تجارة خاسرة، وقد كنت أظن أن هذا الشأن يخص الشعر لكن الموضوع أكبر من ذلك بكثير وهو أمر عام وشامل يخص كل ما يتعلق بالكتاب.

صناعة الكتاب حلقة ورسالة تبدأ من المؤلف لإيصالها إلى دار النشر وصولاً إلى القارئ ولها من التحديات والعقبات ما يجعل الكثير من الأدباء يحجمون أو يؤجلون النشر، ولعل أبرز هذه العقبات التي تقف أمام الكتاب هي المبالغ الباهظة التي تطلبها دور النشر ممن يريد طباعة ونشر كتابه، والكثير من هذه الدور أيضا تتخلى عن واجبها المهني فليس لديها توزيع أو ترويج للكتاب، وينتهي عمل هذه الدور بتسليم الكاتب نسخ كتابه ليوزعها هو بين الأصدقاء والأحباب بشكل مجاني، وهو أمر محزن فبعد أن دفعت المبلغ بالتي هي أحسن تأتي وتوزع مجاناً.

هل هناك استثناءات؟ نعم هناك دور نشر محترمة ومعروفة لا يدفع فيها الكاتب أي مبلغ وهي التي تسوق لكتابه ولكنها أيضاً محكومة بالعلاقات والأخوانيات وتظهر فيها بعض الكتب غير الجديرة بالنشر، أما قضية الحقوق للمؤلف والمترجم فهي في الغالب ليس لها وجود واقعي إلا في حالات قليلة، شخصيا لم أحصل على أي شيء من هذه الحقوق، ويبدو أن العقد حجة على الكاتب وليس على الناشر، صحيح أنك توقع العقد ولكنه كما يقال حبر على ورق، وهناك كلمة دائما أرددها من باب المزاح لأخوتي الأدباء: الناشر دائما على حق وسيبقى كذلك ما دامت العلاقات والشللية والأسماء الراسخة هم من يتحكمون في المشهد. تبقى قضية منع الكتب في المعارض قضية شائكة وتابعة لكل بلد وسياسته وهي قطعا ليست في مصلحة الدولة التي تفعل ذلك فكل ممنوع مرغوب وما تمنعه من الباب سيدخل من النافذة، ولا أغالي إذا قلت لك إن بعض الكتاب يروج بأن كتابه منع في هذا المعرض ليحصل على مكاسب الشهرة وهي على أية حال شهرة زائفة لا تدوم. ويبقى أملنا كبيراً بأن تتبنى مؤسسات ثقافية حقيقية صناعة وطباعة الكتاب بعيدا عن تجار الكتب وأتباعهم.

 (4/5)

هاتف جنابي (كاتب وشاعر ومترجم عراقي): هناك حركة طباعة ونشر لكنها لا ترقى لوضعها في إطار “صناعة منهجية

ترتبط صناعة الكتاب عموماً بالوعي بأهمية الكتابة والتأليف والثقافة والشعور بأن نشر الكتاب وترويجه يقع في صميم الترويج للغة الكتاب وسمعة الناطقين بها. لو نظرنا إلى البدايات الأولى لنشأة المطابع في البلدان العربية للاحظنا أنها بدأت في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي، إما في حلب أو قرية الخناشرة اللبنانية على يد عبد الله زاخر وشقيقه. وهذا يعني أن دخول الطباعة إلى فضاء اللغة العربية قد تأخر على نظيره الأوروبي بالحروف اللاتينية بأربعمئة سنة تقريبا. نعم، لقد تقلّص الفارق بين الطرفين تقنيةً وترويجاً لكن صناعة الكتاب في الغرب ما زالتْ متفوقة بنصف قرن على الأقل، رغم دخول الطباعة ثلاثية الأبعاد إلى بعض البلدان الناطقة بالعربية. ولا يمكننا حساب بعض العناوين المطبوعة باللغة العربية في غرناطة سنتي 1486 و1505 باعتبارها البداية لحركة الطباعة والنشر باللغة العربية لأنها ليستْ كذلك.

المطبعة هي الجامعة التي يتخرج منها المطبوع والمؤلف. منذ ذلك التاريخ وحتى اللحظة الراهنة مرّت حركة الطباعة والنشر في البلدان العربية بتقلبات نظراً لأن الطابع يرغب في الكسب من وراء الكتاب، والمطابع الحكومية لها سياستها وعناوينها التي لا تتناسب دائما مع الذوق العام ولا مع تنوع الأفكار والأساليب والقيم التي ينتهجها قسم من المؤلفين. وعليه فنظرا للأمية المتفشية في العالم العربي (بشقيها: التقليدي المعروف، أو تلك التي في أوساط قسم من المثقفين)، وشدة الرقابة على المطبوعات، وضعف الإقبال على شراء الكتاب، ناهيكم عن المستوى المتخلف لما يكتب، كل ذلك جعل عملية ترويج وتسويق الكتاب في البلدان العربية معقدة وغير مربحة. هناك تدنٍّ في الوعي بأهمية الكتاب.

ينبغي التنويه إلى أن عملية ترويج الكتاب هي بحد ذاتها ذات أبعاد ثلاثة: تجارية- نفعية، تقنية، وحضارية. هذه الأسس لا تجتمع دائماً في مشروع الطباعة لدى أغلب الناشرين وأصحاب المطابع مقابل سيادة جانب الكسب المادي. حتى أن أحد الناشرين المعتبرين قال لي في جلسة أثناء أحد معارض الكتاب: لا فائدة تذكر من نشر الشعر. فقلت له: لا توجد دار نشر في العالم ذات طبيعة إنسانية وأدبية دون نشر الشعر. ثم ذكّرته بما كانت تنشره من شعر دور نشر عربية في بيروت والقاهرة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. كل دار نشر تحترم نفسها لا بد وأن توازن في نشرها وقد تضطر لتغطية نشر وترويج هذا العنوان وذاك من منطق حضاري من جهة وكاستثمار في سمعة الدار من جهة أخرى. إذاً لا بد من وجود توجه يستند على أساس عدم تجزئة حقول الإبداع والمعرفة بناء على الكسب المادي وحسب.

ثمة مشاكل حساسة تواجه الكتاب وترويجه في البلدان العربية، يعرفها أصحاب دور النشر والطباعة أكثر منا. ولعل من بين أهمها نذكر المعاناة مع الرقيب الحكومي، والديني، والسياسي، ثم منع مشاركة بعض دور النشر والعناوين في بعض المعارض العربية. إن صناعة الكتاب المعتمدة على التقنية الحديثة وسياسة الترويج للكتب لا ترتبط فقط كما هو شائع بالرقابة فحسب، إنما لها بعد رأسمالي- تجاري. ما زال المتمكنون مادياً من رجال الأعمال في المنطقة العربية يخشون دخول سوق الكتاب خوفاً من ضياع أموالهم. هؤلاء يحتاجون إلى تشجيع وإقناع، لكن أغلبهم لا علاقة له بالثقافة. لا يمكننا القول اليوم بوجود صناعة متطورة تقنيا وفنيا ومستوى في البلدان العربية. نعم، هناك حركة طباعة ونشر، لكنها لا ترقى لوضعها في إطار “صناعة منهجية للكتاب والنشر في البلدان العربية”.

فايز علام (ناشر سوري، مدير دار سرد): كارثة كبرى

قد يبدو الحديث عن الصعوبات والتحديات التي يواجهها ناشر أمراً بسيطاً وهيّناً، غير أني وأنا أحاول تذكّر كل ما أعانيه، شعرت بحرقةٍ ووجعٍ كبيرين. فما أكثر ما يعانيه ناشرٌ يحاول أن يكون جاداً في عمله، ووفياً له.

حاولت تجميع الأفكار وضمّها تحت ثلاثة خطوط عريضة، أُبرِزُها هنا. 

1-    شحن الكتاب:

– كيف يمكن لي أن أرسل نسخ المؤلف من كتاب أصدرته ومؤلّفه يعيش في بلاد تدور فيها الحرب وتقطعت إليها سبل البريد؟

–  كيف يمكن لي أن أرسل كتبي للمشاركة في كل الجوائز العربية، إذا ما كان شحنها بالبريد العادي يحتاج إذناً من الرقابة أو من مؤسسات شبيهة (لا أستطيع دوماً الحصول عليه لأسباب مختلفة)، وإذا ما كان شحنها بالشركات الخاصة ذا تكاليف تفوق طاقتي حين يتعلق الأمر بأكثر من كتاب وأكثر من جائزة في العام الواحد؟

– كيف يمكن لي تحمّل التكاليف العالية للشحن وللتخليص الجمركي التي أدفعها على الكتب الذاهبة إلى المعارض؟

– كيف لي ألا أتحسر على حالنا حين تخبرني صديقة تعيش في قرية بعيدة في سويسرا، أنها حين تريد كتاباً ما تذهب إلى المكتبة الصغيرة في قريتها تلك وتطلب منها الكتاب. وبهاتف صغير أو إيميل بسيط تطلب هذه المكتبة الكتاب من ناشره أو موزعه، فيضعه هذا الأخير في القطار الذاهب إلى قرية صديقتي، ويصلها بعد يوم أو يومين! كيف لي ألا أتحسر وأنا أعرف أن كتابي قد يستغرق أسابيع ليصل إلى طالبه، هذا إن وصل!

2-    توزيع الكتاب (كارثة كبرى):

– هل سيبقى حلماً صعب التحقق أن أكون ناشراً تنتهي مهمته بإصدار الكتاب وتسليمه للموزعين، كما يحصل في الدول المتقدمة، فأتخلص من الخضوع لآليات غامضة في التوزيع أحاول جاهداً فهمها ومن ثم قبولها؟

– هل سيظل مطلبي في إعطاء الكتب جميعها (لا البيست سيلر وحده) فرصة متساوية من قبل المكتبات مطلباً لا يُلتفت له؟

– هل ستبقى أمنيةٌ بعيدة أن يصبح كل أصحاب المكتبات والعاملين فيها من القراء، فنرتاح من نصف المشكلة؟

– هل أكون مثبطَ طموحٍ وقاتل عزيمة إن رغبت بأن تبقى المكتبات مكتباتٍ، لأن أكثر ما نعاني منه اليوم عدم وجود منافذ كافية لعرض كتبنا؟

– هل تنظيم أوقات المعارض العربية فلا تتعارض أوقاتها مع بعضها بعضاً مهمة صعبة؟ وهل مطالبتي بتخفيض أجور الاشتراك المرتفعة فيها ضربٌ من العبث؟ وهل تنظيمها وتنظيم منح التأشيرات في وقت مناسب (وبخاصة لناشر غير مرغوب فيه لأنه قادم من بلاد فيها حرب) أمرٌ مستحيل؟

3-    صناعة الكتاب والمتلقي:

– كيف لي ألّا أحزن حين أكتشف اكتشافات مذهلة في الأدب العالمي، وأصواتاً متفردة تكتب القصة والمسرح والشعر، وأتحمس لترجمتها ونشرها، فتصبح حبيسة مخازن رطبة ورفوف مغبرّة، لأن القارئ العربي لا يحب أن يقرأ هذه الأنواع الأدبية؟

– كي لي ألّا أحزن على كتب نشرتها وأنا أعتبرها جواهر حقيقية وتحفاً أدبية، لكنها متروكة للنسيان، لأن القارئ يحب المألوف والشهير وذائع الصيت؟ وكيف لي ألّا أحزن حين يبيع كتابٌ نشرته أنا وأعرف ثغراته جيداً أكثر من كتاب نشرته أنا أيضاً وهو بلا ثغرة واحدة؟

– كيف لي ألّا أحزن حين أقرأ مقالاً عن كتابٍ أصدرته، وكاتب هذا المقال لم يكلّف نفسه عناء قراءة الكتاب، أو لم يكمله؟ وكيف يمكن ألا يزداد حزني حين يشوّه كاتب المقال مشهداً مؤثراً بكتابة خاطئة (ولا أقصد هنا أنه أساء التأويل بل إنه غيّر ما حدث في الكتاب إلى ما لم يحدث)؟

– كيف لي ألّا أحزن وألّا أغضب حين أصدر كتاباً أمضى مؤلفه أو مترجمه شهوراً من عمره ليكتبه أو ليترجمه، ثم راجعه مرات ومرات، وعملنا عليه مرات ومرات لتجويده، وبذلنا كل ما نعتقد أننا نملكه ليصدر الكتاب كما يليق به، ثم أتى شخصٌ فزوّره ورقياً ولم يكتف ببيعه في بلاده بل صار يصدّره، وأتى شخصٌ آخر فقرصنه إلكترونياً، ثم بدأ يهاجمني إذا ما اشتكيت، لأن “المعرفة لا يجب أن تكون حكراً على من معه المال”، متناسياً ومتجاهلاً أن هذه المعرفة لم يدفع الناشر مقابلها مالاً في الحقوق والترجمة والطباعة فحسب، بل دفع – هو وكل صنّاع الكتاب- ما هو أهم وأغلى: جزءاً من حياتهم وروحهم وحرقة دمهم وتعب أعصابهم؟

أحمد الويزي (باحث مغربي): حقوق المؤلّف رافعة لصناعة الكِتاب

إذا كانت الصّناعة في مفهومها العام هي مجموعة من العمليّات الفنيّة المتخصّصة، التي تروم تحويل الموادّ الخام الى مُنْتجات قابلة للاستهلاك، استنادا بالطّبع الى ثلّة من الخبرات الفنّية والمعرفيّة التي تكون دائما قبْلية؛ فإنّ صناعة الكِتاب هي جزءٌ لا يتجزّأ من تلك العمليّات الإنتاجيّة السّاعية الى تحويل الموادّ الرّمزية والذّهنية، الى سلع مدرّة للرّبح المادّي والمعنوي. ومن ثمّ، تحتاج صناعة الكِتاب، الى جانب توفير الرّأسمال المادّي ورديفه البشريّ، الى ثلّة من الشّروط والضّمانات التي من شأنها جعل هذه الصناعة فعّاليةَ إنتاجٍ مربحةً على الصّعيدين المادّي والرّمزي، ومؤثرة بشكل كبير في محيطها السّوسيو ـ اقتصادي، ومناخها الثقافي والسّياسي.

وحتى تتسنّى لي المساهمة المثمرة في مناقشة معضلة صناعة الكِتاب عربيّا، اخترت من منطلق تجربتي المتواضعة، مدخلَ حقوق المؤلّف كأفق لمقاربة علاقة الكُتّاب بهذه الصّناعة. فما هي حقوق المؤلّف الكفيلة برفد صناعة حقّة للكِتاب، في مجتمع هجين لم يحقق بعد أيّ تراكم في تجربته الرّأسمالية؟

لا جدال في أن الكِتاب صناعة مادّية ورمزية، تساهم بحظ وافر في تزويد السّوق بمنتجات فكرية وخياليّة مفيدة وممتعة. إلا أنّ صناعة الكِتاب لا يمكنها أن تحقق التراكم الكمّي والكيفي المنشودين عندنا، إلا بتوفير حزمة من الحقوق، أهمّها:

أ- الحقّ في الحرية: إذا كانت الحرية أوكسجين الكتابة والقراءة ورئتهما أيضاً، فإنّ أيّ إبداع لن ينشأ سليما، معافى وخاليا من النواقص والعلل، ما لم تتوفر له أجواء الحرية الكاملة، سواء لحظة ولادته وتخلّقه، أو عند انتشاره وامتداده. والحال أنّ التأليف الإبداعي في الوطن العربي، الذي ما زال محكوما بأنظمة تقليدانيّة على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي، لا يفتأ يعاني من حالات تشوّه قيصرية جمّة، وكلّ ولادة “طبيعية” تتحقّق له في ظلّ هذا المناخ القروسطي، لا تعدو أن تكون مجرد مغامرة، عادة ما تحفّ بها مخاطر كثيرة، قد تكلّف الكاتب حريته وحياته، كما يمكنها أن تكلّف الناشر ماله وممتلكاته. فكلّما ضاق حيّز الحرية، نقص حجم التأليف، واختلّ لذلك وضع صناعة الفكر الرّصين والإبداع الحرّ.

ب- الحقّ في الرّواج والتّداول: إلى جانب الحرية، يحتاج المؤلِّف الى مساحة واسعة من التلقّي والانتشار، لأنّه لا يكتب لنفسه أو لنخبة محدودة، وإنّما لجمهور عريض من القرّاء. وإذا كانت القراءة ما تزال تعاني عندنا من وضعها المختلّ حضاريّا، فإنّ هامش التلقّي الذي كان “شبه مضمون” في عهد مجرّة غوتينبرغ، أخذ يضيق اليوم مع مجرّة ماركوني، التي طغت فيها سطوة الفرجة، وازدحمت القنوات والشّاشات. ومن ثمّ، صارت القراءة مغامرة أخرى (تنضاف الى مغامرة الكتابة!)، تحتاج الى رواد نهضة جديدة ينتصرون لحقّ الكاتب في أن تُقرأ كتبه، وتُتداول بكيفية أوسع، وأن يدعّم مشروع صناعة الكتاب دعما حقيقيا، لا يتوقف عند حدود الطبع والنشر المحتشمة وحسب، وإنما يطال التوزيع والترويج داخل الوطن وخارجه، إضافة إلى الدّعاية للكِتاب وصُنّاعه عن طريق توفير مساحات إعلامية للتفاعل مع الجمهور، وحثّه على اقتناء الكتب وقراءتها، لا الاكتفاء فقط بتشجيع الفرجة، وتدعيم ثقافة التسطيح والتفاهة التي تعمل الميدوقراطية على إشاعتها، في كل وقت.

ولا يمكن للكِتاب أن يُتداول بحق، إذا توقّف تلقّيه على القارئ العربي. وبذلك، لنا الحقّ في أن نحلم ـ نحن الكُتّاب العرب ـ بتولّي وزارات الثقافة، مسؤولية ترجمة إبداعنا الى اللغات الأجنبيّة، وضمان حقّ تداوله في الأسواق العالمية.

ج- الحقّ في المعرفة: لا تقوم الكتابة إلا على خلفية البحث والقراءة. ومن ثمّ، يتعيّن على المسؤولين دعمَ الرّسمال المعرفي لدى الكُتّاب والقرّاء، بتيسير الحق في الولوج الى المعرفة الإنسانيّة بلا قيد وشرط، سواء في المكتبات العموميّة والخاصّة، أو الخزانات الحكوميّة، أو غيرها من المجالات المعتمدة كوسيط للكتاب. فتنميّة المعرفة لدى المواطن لن تتم إلا بإتاحة الوسائط والمجالات الكفيلة برواج الكِتاب، سواء بالمدينة أو القرية والرّيف. ومن ثمّ، فإنّ توفير المؤسّسات المعرفية القمينة بالإغراء بالقراءة، والتحفيز على التحصيل المعرفي الإنساني، من شأنهما تقوية ملكات الإبداع، والمساهمة في صناعة الكتابة المأمولة، التي يحلم بالوصول إليها عدد كبير من كُتّاب وكاتبات هذا الوطن.

عبد الكريم بدرخان (شاعر ومترجم سوري): الرقابة شديدة ومتأصّلة

دعني أبدأ من مسألة الرقابة. في الحقيقة أنّ الرقابة على الكتاب في العالم العربي شديدة ومتأصّلة ومتراكمة ومركّبة، فهي تبدأ من الكاتب نفسه الذي يحذف من كتابه عشرات الكلمات والطروحات والأفكار خوفاً من الاصطدام مع الناشر ثم مع القارئ. ثم يأتي دورُ الناشِر وتحفظّاته وخوفه من مصادرة الكتاب أو منع الدار من التوزيع في إحدى الدول، وما يتبع ذلك من خسائرَ مادية. ثم تأتي رقابة المؤسسات الحكومية المعنيّة بمراقبة المطبوعات في كل بلد عربي، وكذلك رقابة اللجان المسؤولة عن معارض بيع الكتب. وبعد هذه الرقابات كلها تأتي رقابة القارئ الذي قد يغضب مما جاء في الكتاب، وقد توافقه على غضبه مؤسساتٌ دينية أو حزبية، فتبدأ حملةٌ منظمة من أجل مصادرة الكتاب ومنعه. وسأقولها بكل صراحة ووضوح، في ظلّ هذه الرقابة الشديدة على الكلمة المنطوقة والمكتوبة، وتحديداً الرقابة السياسية والدينية والاجتماعية، لا يمكن للكاتب في العالم العربي أنْ يُنتج عملاً إبداعياً أو فكرياً ذا قيمةً وأهميّة حقيقيّتين، لا يمكن ذلك أبداً.

في مسألة الترجمة، في الواقع تعاني هذه المهنة الشاقة من الفوضى الذي يعاني منه العالم العربي بالعموم، وغياب المؤسسات، وتخبُّط المعايير، وتراجُع سوق المنتجات الثقافية. فمن حيث المؤسسات الحكومية التي يُفترض منها أنْ تأخذ على عاتقها مشاريع الترجمة الكبرى من حيث النوع والكمّ، تلك المشاريع التي يُفترض منها أن تغيّر وجه الثقافة، نجد أنها قد تحولّتْ في أغلب البلدان إلى مؤسسات بيروقراطية جامدة، تعمل بعقلية العصر العثماني، وتُسيطر عليها حلقةٌ ضيقة من المنتفعين. أما دور النشر الخاصة فهي في الغالب لا تمتلك القدرات المادية لكي تعمل كمؤسّسات حقيقية، ولذلك فهي ما زالت تعمل بعقلية “الدكاكين”. بعضها يتلقّى تمويلاً من جهةٍ ما، فيحقّق بذلك نجاحاً سريعاً وحضوراً لافتاً، لكنها تبقى مع ذلك “دكاكين” بعيدةً عن المأْسَسَة ومعايير العمل الواضحة والشفافية المالية.

بالنسبة إلى المترجم فإنّ أصعب ما يواجهه في مهنته هو كيفية تحصيل حقوقه من الناشر، حقوقه المادية والمعنوية، في ظلّ عدم وجود جهة ثالثة مهمّتها الرقابة على دور النشر وحلّ النزاعات بين المترجم والناشر. المفروض أن تكون هناك نقابة للمترجمين في كل بلد عربي، ينتسبُ إليها المترجم ويدفع اشتراكاً سنوياً، في مقابل أن تقوم النقابة بتحصيل حقوقه من الناشر عند حدوث خلاف بينهما، إما عن طريق التراضي أو التقاضي.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى