مقالات

خليل النعيمي ..الكتابة سيرة وعي/ بشير البكر

حين يتحدث خليل النعيمي عن نفسه فإنه يسردها، كما لو أنه يقرأ في رواية قصاص أثر يبحث عن حياة هربت منه. سيرة تتشعب في “الرجل الذي يأكل نفسه” منذ الولادة في البادية، وتتشكل في رحيل بلا مستقر، يفتح العين على العالم والقلب على المسرات البعيدة كما وردت في حكاية “تفريغ الكائن”. ولن يتمكن من يتابع خط هذه السيرة التصاعدي أن يمسك بخيوط هذه الشخصية التي بقيت فالتة من عقال نفسها، وتأبى أن تستكين أو تستقر. لا تأنس إلى شيء، شبيهة كائنات الصحارى التي تحيا على خط الدفاع الذاتي في نظرية البقاء للأقوى. ذات برية لكنها غير متوحدة، تحيا في سياق خاص بها. لديها رؤية خاصة للكون والكائن الذي يتكون من جديد في المكان، لكنه لا يأخذ شكله أو مواصفاته الخاصة، بل يبقى جامحاً على خصام يصل حدود القطيعة.

في باريس، حين ترى هذا الرجل، وهو ينتصب بقامته المديدة على كونتوار مقهى “دانتون” في الحي اللاتيني، وشعره الطويل ينسدل على ظهره، تظنه قادماً للتو من هناك من مضارب الهنود الحمر البعيدة في الأطراف، ولن يخطر في بال أحد أنه مواطن من بادية الشام وصل إلى هنا في النصف الأول من السبعينات فقرر أن يربط الفرس، ويبدأ الرحيل في العالم. وحين أسير معه في أحد شوارع باريس، مثل سان جيرمان العريق والسياحي، فإن عيون المارة تقع بدهشة على هذا الكائن بأناقة أرماني وهيئة هندي أحمر. وقد يكون اختياره لهذا الكاراكتر الغريب بذرة من نزعة فوضوية كامنة في الموروثات الصحراوية القريبة. ولا غرابة في ذلك فالأجداد القريبون في الزمن من أهل الجزيرة السورية كانوا يطلقون شعورهم، بل ويجدلونها على شاكلة قبائل الهنود الحمر. ولا شك في أن خليل النعيمي وفيّ لتراث أولئك الأسلاف الذين يدين لهم بفطرة سَفَر لا ينتهي إلى مكان. وبعد زمن طويل في باريس، لا يريد هذا الرجل أن يتخلى عن تلك الصورة التي رافقته من الحسكة إلى دمشق، ومن دمشق إلى باريس. تلك رحلة طويلة لم تنته، ولم تكن باريس فيها سوى استراحة دائمة وطويلة من كوابيس شرق المتوسط، وحرية ومحطة سفر لكتابة جديدة ذهبت من الذات إلى العالم.

ونقرأ في كتاب الرواية والرحلة، لدى خليل النعيمي، هذا الربط الواعي بين تاريخه الشخصي، وبين الأمكنة التي يزورها لقصد التحول وليس التجول كما قال في أحد الأحاديث. هو يكتب وكأنه مأخوذ بتدوين سيرته الخاصة، ويقول ذلك صراحة “الرواية سيرة ذاتية للوجود”، وفي التفاتة تستحق التوقف عندها، “لو كنتُ في الحسكة لما كتبت تفريغ الكائن”. وتفريغ الكائن هي الرواية التي كتبها بعد “الرجل الذي يأكل نفسه”، “الشيء”، القطيعة”، وقبل “مديح الهرب”. والبداية كانت من عند الرجل الذي يأكل نفسه، وهي رواية السيرة في مبتدئها وتشكلاتها الأولى في مسقط الرأس البادية، ومن بعد ذلك بدايات الوعي بالأشياء في وسط بالغ الصعوبة كانت الناس تموت فيه من الجوع والحصبة والسل.

وفي البدء، يأتي الوالد حمد النعيمي. كان الأب شخصية على قدر كبير من المراس، مسلحاً بثقافة تدبير قهرت الجوع والمرض، وأخذت الصبي الثامن والأخير من أولاده إلى التعليم في زمن لم تكن العائلة مستقرة في الخلاء المفتوح ما بين الحسكة والقامشلي، وكانت تترحل قريباً من عامودا قبل أن تضطر القبيلة للجلاء عن حماها باتجاه الحسكة بعد التحالف ضدها بين شمر والأكراد. والأب حمد خبير الجغرافيات والرجال من نجد إلى الشامية، ومن عبد العزيز آل سعود إلى آل الجربا، كان مثل طائر الرخ الخرافي الذي يحمل هذه العائلة على ظهره، ويرحل بها كي لا تهلك من الجوع. وفي “الرجل الذي يأكل نفسه”، يفتح خليل هذا الدفتر العتيق غير المدون في مكان. الدفتر المسترسل في السرديات الشفوية للوالد الذي لا بد من أن يعيد له بعض حقه، حتى يتحرر قليلاً، وينهمك، لاحقاً، في كتابة وجوده الخاص الذي بناه من الصفر في باريس، من دون أن يقلب صفحة الماضي، حتى حين كتب “القطيعة”، ولكن بوعي “القطيعة حين يعيها الكائن تصبح ميزة”. وعي فلسفي ومادي مباشر يتحول إلى أسلوب حياة للرجل الذي ينتج نفسه على نحو فريد بين العمل كطبيب جراح في أهم المشافي الباريسية، وبين كتابة الرواية والترحال لكتابة الرحلة في طواف حول العالم يثير الدهشة والفضول.

وباتت خطة حياة النعيمي تقوم على العمل والسفر والكتابة. فهو يفرغ من العمل، وتصبح لديه الفرصة للرحيل، يركب الطائرة ويسافر بعيداً كي يعود بكتابة جيدة عن المكان الذي زاره. كتابة بعيدة من السياحة وذات عمق ثقافي قل نظيره. على ما يبدو، قرر النعيمي الذهاب نحو أبعد الأمكنة لرؤيتها بعين لا يملكها أحد غيره. حتى أهل المكان لا يرونه بالعين نفسها، ولا يحنون عليه بالألفة ذاتها. وهنا يفسر الرجل الأمر بقوله: “أسافر من أجل الترحال، لا من أجل التجوال”. هكذا هي سيرة البدو الرحل. صحيح أنهم يرحلون تبعاً لخط المطر والعشب والماء، لكنهم يغيرون المكان تبعاً لمواصفات الأرض والهواء والشمس والليل والنهار والفصول. وتبقى الأغاني والقصائد وحدها تستعيد تلك العناصر، وتحفظ ذكراها.

خليل النعيمي طبيب جراح يعمل في واحد من أكبر من مشافي العاصمة الفرنسية، وصيته ذائع بين زملاء المهنة الذين يعولون عليه للقيام بالعمليات الصعبة، والمعقدة، والتي تتطلب وقتاً طويلاً. بعض العمليات يستغرق عشر ساعات، كالتي يتم فيها استئصال عضو معطوب من الجسم والزراعة مكانه. وما جعله يرتقي على هذا الدرب هو تمتعه بشجاعة خاصة في مواجهة العمليات التي يأخذها بحنكة قائد الطائرة في الظروف المناخية الصعبة. ونظراً للنجاحات التي حققها، تداوى على يديه كثير من الكتّاب والصحافيين العرب الذين كانوا يأتون من مصر والمغرب وسوريا والعراق، كما أنه سافر إلى بلدان عربية عديدة من أجل إجراء جراحات خاصة، مثل اليمن..الخ.

في أوقات الفراغ يكتب النعيمي، وفي العطلات يسافر من أجل التجوال والترحال، ويعود بنص جاهز. لا ينتظر حتى يعود إلى باريس كي يكتب، بل يسجل مشاهداته ويكتب نصه خلال الرحلة، وفي غالب الأحيان يختار المقعد الثالث الذي يقع خلف السائق كي يقوم بتدوين كل تفصيل من تفاصيل الرحلة. وهذه الطريقة في الكتابة لها أكثر من فائدة، لكن أهم ما فيها أنها تنقل المكان طازجاً وحاراً في تصوير مباشر من دون تدخل لاحق من الوعي.

منجز خليل النعيمي في الرواية والرحلة حتى الآن، يضعه بين الكتاب الذي يتعاملون مع الكتابة كـ”سيرة وعي” حسب تعبيره. وما يميز هذا الكاتب هو المثابرة على الكتابة. ويمكن أن تغيب عنه أشهر، لا تراه فيها ولا تتواصل معه، وحين تلتقيه وتسأله عن أحواله فإنه يجيبك بشكل عفوي عن الكتاب الذي صدر له، أو النص الذي يشتغل عليه، أو فرغ منه، أو الرحلة التي يخطط لها ليكتب عنها. وفي بعض الأحيان تهتف له لتناول فنجان قهوة في مقهى “دانتون” عنوانه الدائم في الحي اللاتيني في باريس، فيأتيك صوته من بعيد، ويخبرك أنه الفجر هناك حيث يتجول عند سور الصين، او على قمة الهمالايا، أو في نيويورك، أو في بلاد الهنود الحمر في البيرو، أو في المكسيك. وهناك ميزة هامة في ما يتعلق بنتاج النعيمي الإبداعي، وهي أنه يفصل بين الكتابة الروائية والرحلة. ثمة وقت للرواية وآخر للرحلة. أي أنه منظم إلى حد كبير، يخطط أعماله، ولا يترك أمراً للمصادفة. وتسير الكتابتان في خطين متعاكسين، الرواية ترجع نحو الماضي، والرحلة نحو المستقبل. عودة نحو الجذور الأولى، وبحث عن حذور جديدة.

يتفاوت مستوى انتاج النعيمي الروائي، ورغم ان مساره تصاعدي منذ رواية “الرجل الذي يأكل نفسه”، فإنه حقق إضافة أساسية في نصوص الرحلة التي تعد افضل ما كتب في أدب الرحلة العربي الحديث على الإطلاق. لا يوجد في عالمنا العربي كاتب على مقاس خليل النعيمي، متفرغ في حدود وقته وإمكاناته للترحال والكتابة عن الأمكنة والبلدان. وما يضفي على هذه الكتابات قيمة اضافية هو تنوعها من جهة، ومن جهة ثانية بُعدها من النزعة الوصفية السياحية التي تطغى غالباً على كتابات الرحالة. وهنا ينطلق النعيمي كما لو انه حفيد ابن بطوطة، من استعادة ما تركه خلفه، ونشأ له في الجغرافيا والتاريخ والمجتمع والبلدان والحياة اليومية. وما يقرب هذا التوصيف الى الواقع كتابه “الطريق إلى قونية” الذي كتبه بعد زيارة الى مرقد مولانا جلال الدين الرومي في قونية لحضور الحفلة السنوية التي تقام في ذكرى رحيله. وبعد عودته إلى باريس، كان متأثراً جداً بما عاشه من تجربة وحضره من طقوس احتفالية دامت أياماً، وجاء للمشاركة فيها آلاف المريدين من شتى بقاع العالم. وفي ذهاب النعيمي الى هناك سر خاص باح به في حديث صحافي، كانت الرحلة لفك لغز الدعاء الذي كان الوالد يردده ويلهج فيه بذكر شيخ “المولوية”. وهناك ملاحظة تسري على كتابات الرحلة لدى النعيمي هي انها مكتوبة باحتفاء لا حدود له بالسفر، وكل ما يأتي به من جديد ودهشة ومفاجآت ومعارف. والحرارة التي ترفع من مرتبة “الطريق إلى قونية”، هي ذاتها التي تحفل بها نصوص “كتاب الهند” و”الصقر على الصبار”. إنها نوع من الكتابة باللحم الحي التي لا مجال فيها للمناورات البلاغية، أمام فصاحة المكان. إنها باختصار، وعي جديد بالمكان، باعتبار أن المكان كائن “لا يمكن استبداله بمكان آخر”، بل يمكن تحريره من قيود الأحادية والنظرة المسبقة.

حين يكتب النعيمي الرحلة يرمي عن ظهره كل الأثقال، ويبدو خفيفاً، كما لو أنه الطفل الذي كان يطارد الغزلان في الجزيرة السورية، في مرابع الأهل هناك. على أن الرواية تتمة لما انقطع من سيرة بقيت مفتوحة على “مديح الهرب”.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى