وجها لوجه

فرج بيرقدار: الأسد أوصل سورية إلى درك تهون معه جهنم

غسان ناصر

في حوار (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) مع الشاعر السوري فرج بيرقدار، المعتقل السياسي السابق في سجون الدكتاتور حافظ الأسد، نستكشف يوميات صموده وعذابات رحلة العمر وآلامها في مواجهة الاستبداد والطغيان الوطني، وأوجاع تغريبته الطويلة.

بيرقدار، الذي اختبر سجن الأسد الأب أول مرة عام 1977 بسبب إحيائه مجلة أدبية عُنيت بإنتاج الكتّاب السوريين الشبان. أُوقِف عام 1987 وسُجن وتعرّض للتعذيب طوال سبع سنوات، قبل أن يصدر حكمٌ قضائي بسجنه خمسة عشر عامًا إضافية، لانتمائه إلى منظمة غير شرعية (حزب العمل الشيوعي).

وعلى الرغم من إدراك صاحب «الخروج من الكهف… يوميات السجن والحرية»، أن صفحات حكم الأسدين (الأب والوريث)، ذلك “الكابوس الممتد إلى أجل مجهول”، لم تُطوَ بعد، فإنه مؤمن أن حكم عائلة الأسد مآله الزوال، لتبقى للسوريين الأحرار مرافعته الشهيرة التي قدّمها أمام قضاة (محكمة أمن الدولة العليا) في دمشق، شهادة حية في سجل النضال الوطني السوري ضد حكم الطغاة في العقود الخمسة الماضية، تلك الشهادة أو الوثيقة التي قال فيها: “إن دولة تُعدّ فيها الكلمة جريمة يُحاكم عليها المرء، هي دولة غير جديرة بالحياة، ولا حتى بالدفن”.. “حتى الأجيال التي ستُولد في سورية مستقبلًا، ستُطرق الرأس خجلًا، كلما توقفت أمام هذه الصفحات السوداء من تاريخ سورية”.

في نهاية تسعينيات القرن العشرين، بسبب مطالبة (اللجنة الدولية لمكافحة القمع) سفارة النظام السوري في باريس بالإفراج عنه، صرّح مسؤول في السفارة بأن لا وجود لشخصٍ باسم فرج بيرقدار، فانطلقت حملة دولية لتحريره، شارك فيها كبار الشعراء والكتاب الفرنسيين أمثال: موريس بلانشو، وإيف بونفوا، وجاك دوبان، وميشال دوغي، وبرنار نويل، إلى جانب الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، والشاعر المغربي الكبير عبد اللطيف اللعبي، فاضطر النظام الأسدي، مع تزايد الضغط الدولي، إلى الإفراج عن صاحب «مرايا الغياب»، في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2000، أي بعد وفاة حافظ الأسد بنحو خمسة أشهر، وبعد قضاء زهاء 14 عامًا في آخر رحلة له في غياهب سجون الزمرة الأمنية الأسدية.

من كتب بيرقدار المطبوعة

هنا نص الحوار

بداية كيف يقدم الشاعر فرج بيرقدار نفسه للقراء؟

مع الأسف، أنا فرج بيرقدار، الشاعر والصحافي السوري، بكامل قضائه وقدره ولعنة ظروفه الحجرية. كم تمنيت لو أنني كنتُ غيري، أو لو أن سورية كانت غيرها.

أنا من مواليد مدينة حمص، في الحادي عشر من شباط/ فبراير، العام القادم سيغدو عمري سبعين طعنة أو وردة أو رقصة على حافة الهاوية.

أجرّ ورائي جثة تشبهني إلى حد بعيد، إنها جثة أربعة عشر عامًا في سجون نظام الأسد، وهذا يعني أني حائز على أكثر من دكتوراه سجون، بعد تخرجي في قسم اللغة العربية في جامعة دمشق. وأعمل كثيرًا لتعويض السنوات المهدورة، لكني على الرغم من ذلك أشعر بأني ما زلتُ عاطلًا من العمل، وعاجزًا عن الضحك من كل قلبي.

حائزٌ على ست جوائز عالمية، وواحدة عربية، وواحدة سورية، أعتز بها أكثر من كل ما سبق، أعني (جائزة حامد بدرخان)، التي يشرف عليها “اتحاد الكتاب والصحفيين الكرد” في سورية، مع ذلك فإني أعتقد أن كل جوائز الكون، على أهميتها، لا تعوض سجينًا سياسيًا سوريًا عن جولة تعذيب واحدة.

شاركتُ بعد الإفراج عني في كثير من المهرجانات الأدبية العربية والعالمية، لكن لم يتح لي أن أقرأ قصائدي في أي مؤسسة ثقافية سورية، لا رسمية ولا أهلية.

صدر لي تسع مجموعات شعرية، وكتاب عن تجربة السجن، وكتاب عن رحلتي إلى هولندا، حيث درّستُ الأدب الجاهلي في (جامعة ليدن) في هولندا.

أُقيم في استكهولم إلى حد الحزن والكفاف منذ عام 2005، وما زلتُ منزهًا عن النوستالجيا، وقد يكون في ذلك فرادة لا أتمناها لعدوي ولا حتى للأحد الصمد.

أنا عضو “اتحاد الكتاب” في السويد، وعضو شرف في “نادي القلم العالمي”، وعضو مؤسس في “رابطة الكتاب السوريين”. ولم أحظَ “بشرفٍ”، ولا بقلة شرف عضوية “اتحاد الكتاب العرب” في سورية، وربما كان في ذلك خير لم يكن في الحسبان. وعلى الرغم من كل شيء، فإنني ما زلتُ على درجة عالية من التفاؤل بالكلمة والمستقبل، وبالإنسان أيضًا.

في مهرجان مانتوفا للأدب

تعيش الإنسانية اليوم حالة من الذعر والهلع بسبب تفشي فيروس “كورونا” (كوفيد-19). سؤالي: كيف تقضي أيامك في الحجر المنزلي الطوعي؟ وما الذي تغيّر من عاداتك اليومية؟

أرى الحجر أو شبه الحجر المنزلي الطوعي فرصة لإنجاز ما تأخرت كثيرًا عن إنجازه؛ أتممت، على سبيل المثال، مخطوطين للنشر وأعمل للثالث، ولكن الحجر لا يمنعني من الخروج، حين أشاء، للتمشي في الغابة المجاورة، في الواقع هو “حبسة خمس نجوم”، أتخذ الاحتياطات المتوافق عليها طبيًا، لكني لا أشعر بالذعر ولا حتى بالقلق من أن أكون أحد ضحايا “كورونا”.

ملأت أعوامي بأقصى ما أستطيع، حُبًا وشعرًا وحزنًا وفرحًا، والباقي متروك للظروف والمصادفات، في أزمنة الأوبئة لا أحد يستطيع أن يتنبأ بأنه سيتعرض للعدوى أو سينجو منها، فالأمر أشبه بضربة حظ، لكن المبالغات جزء أساسي من طبائع الإعلام الذي لا يواتيه، في هذه المرحلة، الحديث عن أن (منظمة الصحة العالمية) قد وثّقت مقتل 1.35 مليون شخص في العالم، بسبب الحوادث المرورية خلال عام 2018 فقط، ومقتل نحو 7.2 مليون شخص سنويًا في العالم بسبب التدخين، ومقتل نحو 8.8 مليون في العالم سنويًا بسبب التلوث، حُمّى الربح تعمي الدول الصناعية المتقدمة عن رؤية ما هو أفظع من “كورونا”. إذا ساهمت إجراءات مواجهة “كورونا” بتخفيض عدد قتلى التلوث بنسبة خمسين في المئة، فذلك سيعني إنقاذ حياة أكثر من أربعة ملايين من قتلى التلوث، الأمر الذي يمكن معه عدّ الفيروس محترمًا وحكيمًا ورحيمًا، قياسًا على ما ترتكبه الحكومات والشركات الصناعية الكبرى من تدمير بحق الطبيعة والبشر.

من جهة أخرى، أرى أن إذا لم يستطع هذا العالم، بكل ما لديه من أنياب نووية، أن يهزم وباءً بسيطًا، فهذا يعني أننا نعيش في عالم تافه يستحق الانمحاق.

وأرى أيضًا، أن المخاوف من “كورونا” ليست في أعداد ضحاياه، بل في كونه مثل اللغم، لا تعرف متى ينفجر بك، وليس هناك من احتياطات مضمونة تمامًا لتحاشي العدوى، مع ذلك، وفي النهاية، سيكتب التاريخ أنه فيروس آلَ إلى ما آلَ سابقو، تلك هي قراءتي لتاريخ الأوبئة كـ “الطاعون” الذي أودى بحياة ما يزيد على مئة وثلاثين مليونًا قبل حوالي عشرة قرون، كذلك أودت “الانفلونزا” و”الكوليرا” و”نقص المناعة المكتسبة” وغيرها بحياة ملايين. ضحايا الأوبئة القديمة كانت أكبر بسبب نقص الخبرات الطبية، وبالتالي فإني أستبعد أن يَفتُك فيروس “كورونا”، هذه الأيام، كما فتك وباء “الطاعون” قديمًا.

حمص تأبى أن تنأى…

ما هي مقاربتك الشخصية والإنسانية لجائحة “كورونا” التي يراها بعض الناس “مؤامرة”، فيما يراها بعضهم “حربًا بيولوجية عالمية” بدأت بين القوى السياسية العظمى في العالم، بينما يشيع البعض الآخر أنها “نقمة إلهية على البشر”؟

لا يراها نقمة إلهية إلا من يعتقدون أن الله ساديا أو أنه يهمل إدارة شؤون الكون ويتفرغ لانتقامات صغيرة وصبيانية. ولا يراها مؤامرة أو حربًا بيولوجية إلا أصحاب الخيال المريض ومَن يستسهلون الحديث من دون أي حاجة للأدلة. من حسن حظ البشرية أن تناقضات مصالح الدول لا تسمح بمؤامرة كونية إلا إذا كانت تلك المؤامرة تلبي مصالح جميع الدول، وإلا فإن الفضائح والمفاضحات جاهزة عند الطلب أو الاصطياد. يحاول كثير من زعماء العالم استثمار فيروس “كورونا” لخدمة مآرب سياسية أو اقتصادية أو انتخابية. حتى ترامب، الذي يبصق كل يوم قرارًا أو قرارين متناقضين ثم يلحس بصاقه باستمرار، أقول: حتى ترامب يحاول أن يلعب هذه اللعبة مع الصين اليوم، متعاميًا عن أن الصين ليست صدام حسين، إن حجم التبادل التجاري بين الصين وأمريكا يتجاوز 700 مليار دولار سنويًا، وأكثر من 500 مليار دولار منها مستوردات أمريكية من الصين، قد تكون بلطجة ترامب وافتقاده للحكمة والتواضع في تعامله مع “جائحة كورونا” سببًا في خسارته الانتخابات القادمة، وإذا حدث ذلك فسيكون لفيروس “كورونا”، على خطورته، فضل عظيم على البشرية.

اسمح لي الآن أن أعود معك إلى المكان الأول، إلى مسقط رأسك حمص (عاصمة الثورة السورية)، ماذا بقي في ذاكرتك عنها وعن البيت الأول؟

حمص تأبى أن تنأى، وتأبى أن تقترب إلا في الأحلام والمصادفات وكمائن العشاق، ليس من عادتي أن أصلّي، لكن حمص شأن آخر، وأنا مستعد أن أصلي لها ومن أجلها، ربما لم تكن مصادفة أن تنشأ مملكة زنوبيا في الواحات التي صار اسمها لاحقًا بادية حمص أو صحراء تدمر، وربما ليس اعتباطًا أن جداتنا الحمصيات حفيدات زنوبيا حكمن روما، ما أقوله عن حمص هو رأيي الشخصي ومشاعري وقراءتي لها، ولست ملحاحًا على إقناع الآخرين بذلك، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لكن لا أحد يستطيع أن يماري في أن حمص أمّ نهر العاصي، وهذا النهر سيد بلاغة العصيان، وهو في الواقع معلمي الأول، ولا أستطيع إلا أن أكون وفيًا له، حتى لو شَح أو تبخر أو تواطأت النذالات عليه. حمص أجمل من أسمائها وتسمياتها، بما في ذلك تسمية (عاصمة الثورة السورية) التي تتآخى فيها فعليًا وواقعيًا مدن سورية كثيرة.

لم تكن حمص استثناء ثوريًا، لكن الضرائب والضحايا التي دفعتها حمص كانت الأكثر فداحة، ومن شأنها أن تستحث وتستثير لدى الأحرار ما هو أكثر من دموع الخيول. حمص حكاية لا يمكن لأحد أن يحكيها ويفيها حقها، ربما هي كذلك لأني أحبها أولًا، وليس لأنها كذلك فعلًا.

(من قال حمصُ مدينةٌ لم يحسنِ التأويلْ

سأقولها امرأة ومرآة وسروًا سامقًا في الروحْ

سأقولها نهرًا يجيد بلاغة العصيانْ.

من قال حمصُ بأهلها، وبخصبها، وشموعها، ودموعها

صدقتهُ، وذهبتُ خلف ظنونه حتى أرى أن الأهلّة تشبه الصلبانْ).

ما بين الحياة في مكان والجذور في مكان آخر، وتحت وطأة الحنين والشعور بالغربة، كيف تكتب عن أمكنة وآلام وأوجاع بلدك وأنت بعيد عنه؟

بالنسبة لي، وعلى المستوى الشخصي، أخذت من الجذور ما أريد، وما لا يستطيع طاغية تجريدي منه. القحط والتصحر والتصحير في سورية، حفّز مقاومة الجذور لتضرب عميقًا في باطن الأرض. الأشجار في سورية يمكن أن تخلخل أسس الأبنية. السويد بلد منعم بكل أنواع الخيرات ومن ضمنها الثلوج والأمطار والبحيرات، فلا تضطر جذور الأشجار أن تنزل إلى الأعماق بحثًا عن ري وغذاء، لهذا فإن الأشجار في السويد يمكن أن تسقط عند ضربة ريح بسيطة. بالطبع، ذلك لا يعني أني أدعو إلى قحط طبيعي أو سياسي أو معيشي لتمتين الجذور، فتوفر الماء والغذاء والحرية والكرامة والعدالة والأخلاق أهم من مدى عمق الجذور، أما كيف أكتب عن ذلك فلا أدري، غالبًا ما أشعر وأنا أكتب أن هناك في داخلي مَن يكتب ما أريد بصورة أفضل مما لو كنت أنا من يكتب. ذاكرتي البعيدة ما زالت بخير وعلى رسوخها، أما ذاكرتي القريبة فكأن شيطانًا ما يدفعها إلى النفور أو الاستنكاف عن دورها ووظيفتها، وأفترض أني لو أُصِبت بفقدان ذاكرة، فإن الأحلام لن تكفّ عن إيقاظ الذاكرة واستحضار ما ينعشها، لست مهجوسًا بالكتابة عن أمكنة محددة في بلدي، أو عن آلام وأوجاع محددة. أنا حين أتنفس لا أعرف ولا أعي ولا أنتبه كيف أتنفس. مؤشر الحياة أن أتنفس، ومؤشر التنفس أن أكتب.

التنازل عن جنسية يمنحها الأسد…

في عام 2014 أعلنت عن تخليك عن جنسيتك السورية، قائلًا: “أنا المدعو فرج بيرقدار، بن خدوج وأحمد، أعلن عن تنازلي عن جنسيتي السورية التي لا يشرفني أن نظام الأسد (الذي ما زال يحتل سورية داخليًا، ويحتل موقعها في الأمم المتحدة) هو من يمنحها رسميًا”. كيف تنظر إلى ذلك الإعلان اليوم؟ هل راجعت موقفك هذا؟ وهل ندمت يومًا على ذلك الإعلان؟

ما قلتُه وكتبته أو صرحت به تضمن أمرين، الأول هو اعتزازي بسوريتي التي يمثلها الشعب السوري، والثاني هو تنازلي عن الجنسية التي يمنحها الأسد، وبالطبع جواز السفر المرتبط بها، وذلك احتجاجًا على احتلال الأسد لسورية، واحتجاجًا على الأمم المتحدة التي ما تزال تعترف بنظام الإجرام الأسدي بوصفه عضوًا مؤسسًا أو أصليًا في منظمتها. أوصل الأسد جواز السفر السوري من جواز ينطوي على حد من الاحترام الدولي إلى جواز مزدرى وفي ذيل قائمة جوازات السفر في العالم من حيث الوزن والأهمية والاحترام والامتيازات، ومع ذلك صارت كلفة استخراجه أغلى من كلفة أي جواز سفر في العالم، أوصل الأسد جواز السفر السوري والليرة السورية واستقلالية القرار السوري، والبنية التحتية لسورية، وكل ما هو سوري إلى دركٍ تهون معه جهنم، بعد عامين من تنازلي عن الجنسية، تحدث الأسد في أحد خطاباته، الوقحة كالعادة، عن سورية المتجانسة، وعن أن السوري ليس من يحمل جواز السفر السوري، بل من يدافع عن سورية، أي عن الأسد بوصفه “الممثل الشرعي الوحيد لسورية”. وعلى الرغم من ذلك فيمكنني لو أردتُ أن أذهب إلى سفارة الأسد في استكهولم، وأشتري سريعًا جواز سفر سوري مقابل 800 دولار، وصل الأسد إلى حد صار فيه بحاجة إلى أن يبيع جوازات السفر حتى لمعارضيه، ولكني لست مضطرًا للحصول على ذلك الجواز الذي لم يعد محترمًا حتى لدى مافيا بوتين (الرئيس الروسي فلاديمير)، فأنا أملك جواز سفر سويدي يضمن لي كرامتي جيدًا، لذلك حين تنازلتُ عن جنسيتي قلت: إني لا أريد من أحد أن يقتدي بي إلا إذا كان لديه خيار بديل أو جواز سفر آخر يضمن له كرامته. في الحقيقة، ومنذ سنوات بعيدة، أنا لا أؤمن بأي حدود رسمَتْها موازين قوى واتفاقيات سياسية، بالطبع أنا لا احترام “اتفاقية سايكس- بيكو” التي قرأنا في طفولتنا أهجياتها في المدارس والإعلام والمناسبات الوطنية، وحين كبرنا انتبهنا إلى أن الأنظمة العربية، من دون استثناء، تعدّ “اتفاقية سايكس- بيكو” امتيازًا إلهيًا لا تنازل عنه ولا تفريط به. ولا أحترم أيضًا الحدود القائمة بين دول العالم المتمدن، ولكن دعنا من الاتفاقيات والموازين والاعتبارات الدولية للحدود في العالم، ولْنتوقف عند ما أعلنته الإدارة الأمريكية ومعظم حكومات العالم أن نظام الأسد فقد شرعيته، وأن (الائتلاف الوطني السوري) هو “الممثل الشرعي للشعب السوري”، هذه أكبر كذبة في تاريخ الأمم المتحدة التي لم يوافق أي من أعضائها على منح (الائتلاف) صلاحية إصدار جواز سفر أو تمديد مدة صلاحية جوازات السفر الصادرة عن مؤسسات نظام الأسد. حين أعلنت تنازلي عن الجنسية تناهت إليّ همهمات مفادها أن الجنسية حق لنا وليست ملكًا للأسد، وهو كلام ناجم عن عدم إدراك طبيعة النظام، أو هو كلام حق أريد به باطل، فالأمم المتحدة بكامل أعضائها تقول لهؤلاء: إن الأسد هو من يملك حق الجنسية، وإن (الائتلاف) ومن يدعي تمثيلهم، وكل ملايين اللاجئين السوريين في العالم، عليهم أن يرضخوا للنظام ويدفعوا الإتاوة الأكثر بهظًا في العالم ليحصلوا على جواز سفر ليس في العالم ما هو أسوأ منه سوى جواز السفر الصومالي، مع فارق أن السلطات الصومالية ليست جشعة في ما تطلبه من رسوم استخراج جواز السفر. أنا أعرف أن ليس من حق الأسد أن يفعل ما يفعله بحقوق السوريين، ولهذا قلت: إن تنازلي عن الجنسية لا يعني تنكرًا لشعبنا، بل إني لن أدخر جهدًا من أجل انتصار ثورة شعبنا، لعلي بعدها أصبح مواطنًا سوريًا حقيقيًا وبجواز سفر هو حق لي وليس ضريبة مفروضة وباهظة.

اليوم، بعد سنوات طويلة من الحياة في المنفى، قضيتَها في هولندا وألمانيا والسويد، لا تخضع كتاباتك لتهديد الزنزانة ولا لمقص الرقيب، فهل أفلتّ من الرقيب الداخلي بعدما تخلصت من الرقابة الرسمية/ الأمنية كي تتمكن من كتابة ما تشاء بلا خطوط حمر؟

الرقابات لدى أنظمة الشرق تتشابه وتتناسل وتتقمص كما لو أنها “ماتروشكا” الروسية، تلك اللعبة التي تمثل شكل امرأة في داخلها المرأة نفسها لكن أصغر ثم أصغر ثم أصغر. لكن في السجن كما في المنفى، تتراجع الرقابات عمومًا، وبخاصة الرقابة السياسية، حتى الدينية، ولكن الرقابة الاجتماعية تبقى حاضرة حتى لو لم يكن هناك من يفرضها. وأنا لست خصمًا لهذه الرقابة ما دامت ليست مفروضة بالقوة بل هي استجابة لدوافع اللطف والتسامح والمحبة والاحترام. أنا أراعي قناعات أمي، على سبيل المثال، حتى لو لم أكن مقتنعًا بها، ولكن ذلك لا يتعلق بتغيير قناعاتي، وإنما باختيار أفضل الطرق الممكنة التي لا تجرح مشاعرها، ولا تورثها غمًّا، ومع الأسف أنا لم أنجح دائمًا في تجنيبها همًّا متعلقًا باختلاف قناعاتنا، بعد أن تجاوزت أمي عمر الستين قررت أن تتعلم القراءة والكتابة، وقد شجعناها جميعًا، لكن العبء الأكبر في تعليمها كان على أخي إبراهيم. استطاعت أمي محو أميتها في القراءة والكتابة بسرعة استثنائية، وقد يكون ما سأقوله الآن محرجًا لها في حال قرأتْه، غير أن في داخلي الآن ما يدفعني إلى قوله حتى لو لم يكن هنا مكانه أو لا علاقة مباشرة له بسؤالك. في بداية الثمانينيات كنت مطلوبًا ومتخفيًا ولا أحد من أهلي يستطيع الوصول إليّ سوى أمي. أحد المواعيد الحزبية حمل لي خبرًا مفاده أن امرأة عجوزًا حضرت إلى الموعد وتطلب مقابلة الرفيق “سيف أبو المجد”، هكذا كان اسمي الحركي. كان حزبنا حينها تحت وطأة ضغط أمني شديد وحملة اعتقالات معمّمة في جميع أنحاء سورية. أخذتُ أمي إلى بيت صديقي الموسيقي تركي مقداد الذي يسكن في مخيم فلسطين (اليرموك)، وتركت أمي عنده وعُدت لمتابعة المواعيد مع مراسلي مناطق حلب واللاذقية وحمص، وشؤون حملة الاعتقالات. بعد حين من الليل عدتُ لآخذ أمي إلى بيتي في منطقة “الربوة”، ولم يكن لدي في البيت ما يقيم الأود، فذهبت إلى حي “المزة” القريب لأجد جميع المحلات مغلقة بسبب عيد المولد النبوي، وتذكرت دكانًا صغيرًا قرب المدينة الجامعية يتأخر صاحبه في إغلاق محله انتظارًا للطلبة الذين يعودون حوالي منتصف الليل، وجدت صاحب المحل يتهيأ لإغلاقه، ورجوته أن يبيعني شيئًا آكله، فقال: لا بيع ولا شراء، ولكن لدي عشائي الذي أرسلته لي عائلتي، وأنا لا حاجة لي به كوني ذاهب إلى البيت، فآمل أن تقبله مني. كان ذلك هدية أثمن من قيمتها المادية بكثير، جهزت أمور العشاء ودعوت أمّي لنأكل، كنت قد صببت قدحًا صغيرًا من العرق، اعتدت أن آخذه قبل النوم لعلّي أسترخي من توتر ومخاطر أحداث النهار، لاحظتُ أن ملامح أمي تمتقع، فسألتها أأنت مريضة؟ فنفت، سألتها أحدث شيء للأهل في حمص؟ فنفت أيضًا. ما القصة إذن يا أمي؟ قالت: “رائحة هذا الذي تشربه تكتم أنفاسي”. شربت الكأس دفعة واحدة وأخذته إلى المطبخ فانفرجت أسارير أمي. لو قالت لي أمي منذ البداية: لا تشرب هذا الكأس، لأنه حرام أو لأنه كريه الرائحة، لما شربته. تلك هي حدود الرقابة الاجتماعية التي أتحدث عنها. مع ذلك ومن دون ذلك فإن الشرق يحتاج إلى زمن طويل كي يمحو الخطوط الحمر، ولكني لا أرى ضيرًا من تخطيها بين موقف وآخر أو حين وآخر. الخطوط الحمراء على الصعيد الاجتماعي ليست مصمتة ولا عقائدية ولا متشنجة، يعني هي في إطار الوجدان أكثر مما هي في إطار الرقابة والقسر والقانون والقمع.

مفاعيل تجربة السجن…

ماذا تحدثنا عن تجربة أربعة عشر عامًا قضيتها في سجون الدكتاتورية في سورية؟ ما الذي فعله السجن في روحك، وفي كتابتك؟ كيف كانت الكتابة فيه؟ وهل تعتقد أنك لم تخرج بعد منه؟

أربعة عشر عامًا في سجون الأسد اقتضت مني كتابًا لتلخيصها، وليس سهلًا عليّ تلخيص التلخيص أو تحمل سرده أو تذكره. كل سجين سوري، وأعني السجين السياسي حصرًا، يستطيع أن يملي عليك مجلدات مما هو حقيقة ويقتضي الإصغاء إليه، لكن ذلك له أهله ومواقيته، ونحن الآن أهلُ شيء آخر قابل لتكثيف أكثر أو جدوى أكثر أو فاعلية أكثر. لذلك أحاول تكثيف القول في أن هناك في قيعان النفس أعماق ومساحات كثيرة احترقت، أما أني خرجت أم لم أخرج من السجن فتلك مسألة أو مسائل مربكة ومعقدة. لم أكن في حياتي حرًا أكثر مما كنت في السجن والمنفى. في إحدى زيارات أهلي لي، ضبطت إدارة السجن رسالة كتبتُها لأهلي، أخذوني بعدها إلى مدير السجن الذي سألني كيف أجرؤ على كتابة رسالتي التي تصفهم بالطغاة والوحوش والجلادين، فقلت له: تلك هي قناعاتي، فإن لم تعجبك، فيمكنك اعتقالي.

تلك إحدى الصفعات التي يمكن للسجين أن يوجهها للنظام ممثلًا بمدير السجن.

في الواقع، كنت في السجن أكثر حرية، أو في الحقيقة وللدقة، أكثر رغبة واستعدادًا وإحساسًا بها مما قبله وبعده. أما لماذا، فإنه سؤال لا أعرف كيف أجيب عنه.

في السجن أنت جزء من السجن، لكن حين تخرج منه يصبح السجن جزءًا منك، ليس الأمر بدقة كذلك. هي إحدى المقاربات ليس إلا. ولكن، بالطبع، تتراجع وطأة ذلك مع تراكم الزمن، لكنها لا تزول ولا تتلاشى. على سبيل المثال، أنا حتى الآن أعاني من نقص الفراغات في المكتبة، أكره المكتبة المكتظة إلى حد أنها لا تسهّل تناول كتاب منها، ولا تقبل بضعة كتب إضافية، أكره خزائن المطبخ المحتشدة بأشياء لن تُستخدَم أبدًا إلا في تنقيص حجم الفراغ، أنا أحب الفراغ وأكره الامتلاء إلا إذا كان الأمر متعلقًا بالشبع أو بالجوع، بودي أن أكتب عن جماليات الفراغ، وليس عن جماليات المكان كما فعل الكاتب النمساوي باشلار.

الفراغ حرية إن لم يكن جوعًا، والامتلاء ترهل وكسل ومضاضة واعتداء على حريتي الشخصية، هذا إحساسي، بالطبع، وليس حكمي المبرم، حتى الآن أنزعج ممن يكتب بضع كلمات على ورقة قياس (آ أربعة) ثم يمزقها ويرميها في سلة المهملات. أربع أوراق كهذه كنت أكتب عليها في السجن مجموعة شعرية كاملة، حين درستُ في جامعة ليدن في هولندا كان معي بطاقة تتيح لي الحصول على ما أشاء من أوراق للكتابة أو الطباعة، ولكني لم أهدر ورقة واحدة بسبب الإهمال أو الوفرة أو الاستهتار. أرجّح أن ذلك من مفاعيل تجربة السجن. والآن عندما يحضرني مَلاك الكتابة، تستحق الكتابة ملاكًا وليس شيطانًا، أجدني في المطبخ وفي وضع هو أقرب إلى السجن.

منذ شهور قررت تحويل إحدى غرف البيت، المطلة على طبيعة ساحرة، التي لم أنتبه إليها سابقًا، إلى مكتب خاص لي. وفي الواقع، ساعدتني هذه الغرفة في إنجاز مخطوطين تأخر إنجازهما كثيرًا.

باختصار، مع مرور السنوات يرتب السجناء تفاصيل حياتهم وعاداتهم بـ (روتين) يجعلهم أقرب إلى الأشخاص المتوحدين (من لديهم “آوتزم”)، وهذا سيرهق محيطهم ومن يتعاملون معهم بعد الإفراج عنهم. السجناء الذي أمضوا زمنًا طويلًا في السجن يتشابهون في سلوكياتهم مع الشخص المتوحد، ومع سلوكيات الابن البكر الذي يغضب لو رأى أحدًا من أفراد أسرته يضغط عبوة معجون الأسنان من منتصفها وليس من نهايتها.

ما هو أول ما تعلمته من تجربة السجن، وماذا أضافت لك تلك التجربة، وما الذي أخذته منك بوصفك إنسانًا وشاعرًا؟

أول ما تعلمته في السجن هو (ألفباء) الحرية، ثم حصلت على إجازة جامعية بالإحساس بالحرية، ثم على الماجستير والدكتوراه. بالطبع، دفعت مقابل ذلك أربعة عشر عامًا ربما هي الأجمل كاحتمال أو كما أرجّح.

حين اعتُقِلت كان عمري ستة وثلاثين عامًا، وأُفرِج عني وأنا في الخمسين.

لستُ ندابًا ولا متاجرًا بمظلومية، ولا أحقد على من جلدوني باستثناء واحد منهم كانت تأتيه الأوامر بجلدي ثلاثمئة جلدة بالكابل الرباعي، وكان يزيد عليها حسب ما يلهمه الوحش الذي في داخله. لست من المصابين بـ”متلازمة ستكهولم” لكي أتعاطف مع جلادي، ولكن الوقائع قالت: إن هناك جلادًا سعيدًا بسفالته، وجلادًا يخجل من الدور الذي وجد نفسه متورطًا فيه. ولست مسيحًا ولا من مريديه ليكون غفراني فائضًا، ولكني لا أطالب بما هو أكثر من محاكم عادلة وفق أرقى محكمة يختارها المجرمون. نعم لو كان الأمر بيدي فسأتيح لهم أن يختاروا المحاكم التي يريدون، وبخاصة المحاكم التي تمنع الإعدام. أعتقد أني أخذت من تجربة السجن الكثير من الحرية والمحبة وحس العدالة والتأمل والشعر والصداقات الطيبة، ولكن السجن لم يأخذ الكثير من جوهري بوصفي إنسانًا، وإن كان أخذ الكثير من عمر الشباب ومن اللطائف والجماليات التي كان يمكن أن تكون أجمل، وأورثني الكثير من الآلام التي لا مبرر منطقيًا أو أخلاقيًا لها. بالطبع تتقلص أو تتناقص خسارات السجن مع الزمن، وبخاصة مع كل إنجاز يحققه السجين في حياته بعد السجن، مثل (الدراسة والعمل وعلاقة حب ونجاح فني أو أدبي، وزواج وصداقات وسفر وإنجاب وزراعة إلخ).

من هم أبرز المثقفين والكتاب والشعراء والفنانين الذين كانوا معك في السجن؟ وماذا استطعتم أن تقدموا لبعضكم ثقافيا من وجودكم معًا؟

لم يكن الأسد الأب بحماقة ابنه، ولهذا كان يحاول أن يتحاشى المزيد من الإدانات الدولية التي يستثيرها اعتقال الكتاب والفنانين والحقوقيين بصورة أكبر مما تستثيرها شرائح أخرى، لذلك لم يكن يعتقلهم إلا عندما كان يرى أن اعتقالهم ضرورة أمنية قصوى، لا يلجأ إليها إلا عندما يستنفد أساليب الترهيب والترغيب والتهديد. وأنا، للحقيقة، لم أتعرض للاعتقال بوصفي شاعرًا، بل بوصفي عضوًا في حزب يساري معارض. ولكن بعد مرافعتي التي قدمتُها لـ(محكمة أمن الدولة العليا)، ولاحقًا لترجمة المرافعة إلى الفرنسية من المناضلة الجزائرية لويزة حنون، ثم الترجمة إلى أكثر من لغة، والحديث عن أن صاحب المرافعة ليس سجين رأي فحسب، إنما هو شاعر أيضًا، أدرك الأسد أن ضريبة اعتقالي أكبر من جدواها، فتحرك ملف الإفراج عني من دون شروط. في السجن كان هناك مثقفون كثر صاروا لاحقًا كُتابًا مهمين ومرموقين. استطاع السجناء تحويل السجن إلى جامعة ومعاهد لغات ومنتديات حوار، وقد استفدتُ الكثير ممن هم معي عبر الحوارات المباشرة أو المراسلات بين أجنحة السجن. أعتقد أننا كنا نملك أسرع شبكة أو مؤسسة بريدية في العالم. كنا نستطيع إيصال أي رسالة إلى أي جناح في السجن خلال دقائق. في الواقع، إن القدر البسيط أو المعقول الذي أتاحته لي حياتي من الثقافة، إنما هو نتاج السجن أكثر مما هو نتاج الجهد الذاتي قبل السجن. 

خسرتُ حلم أن أزور سجن تدمر كسجين سابق…

تقاسمت أنت وياسين الحاج صالح وغسان الجباعي الخبز والكتابة والسجن وفيلم «رحلة إلى الذاكرة»، ترافقتم كثيرًا في الذاكرة وأثناء الحديث عن سجن تدمر الصحراوي، ذاكرة جيل عشتموها.. وجيل قادم، من أنتم الآن من بعضكم؟

عليّ الآن أن أشكر الشاعرة والمخرجة هالا محمد التي جمعتنا في هذا الفيلم، وتركت لنا حرية إدارة الحديث. كنا نعرف في وقت سابق ما ستتعرض له هالا بعد عرض الفيلم، وأنا كنت أفترض أنها تعرف أخطار المغامرة أيضًا، لكن ما حدث لها من استدعاءات وضغوط، ربما كان أكبر بكثير مما كانت تتوقع. أنهينا التصوير والعمليات الفنية قبل مجيئي إلى السويد بيومين. كان قلبي عند هالا في الأساس، وعند ياسين وغسان بدرجة أقل، فهما سجينان سياسيان سابقان، ويعرفان كيف يتعاطيان مع أي استدعاء أو مساءلة.

في الواقع، غسان وياسين وأنا في منطقة مفتوحة مسبقًا وبلا ضفاف. صحيح أننا اُعتُقِلنا بتُهَم متباينة، لكننا كنا نعرف ثم تأكدنا خلال تصوير الفيلم، أننا على أرضية واحدة. أظنها أرضية أننا نملك وعيًا متقاربًا واستعدادات متقاربة وجماليات متقاربة، ومسافة محسوبة بين انتماءاتنا الثقافية والإنسانية من جهة، وانتماءاتنا أو تُهَمِنا السياسية السابقة من جهة ثانية. كما ترى، صارت الوقائع والذكريات والكثير من التفاصيل، إذا ذُكِر أحدُنا، تستدعي الآخرَين تلقائيًا. أنا خرجت من سورية مصادفة بعد تصوير الفيلم، وياسين ظل مقيمًا ومتشبثًا إلى أن لم يعد أمامه أي خيار سوى الاعتقال أو القتل، أما غسان فما زال في سورية، وآمل أن تحميه الظروف، وإحراجات النظام، وأهميته المعنوية في كثير من المحافل.

فرج بيرقدار يتوسط ياسين الحاج صالح وغسّان الجباعي في لقطة من فيلم (رحلة إلى الذاكرة) للشاعرة والمخرجة هالا محمد

كيف تلقيت خبر تدمير سجن تدمر الصحراوي عام 2015 على يد تنظيم “داعش” الإرهابي، السجن الذي اعتُقلت فيه من نظام الأسد الأب، ومعك مئات الآلاف من السوريين، من السياسيين والمثقفين والمبدعين، والبسطاء من كل الطوائف والملل والأعراق السورية؟ وماذا عنى لك ذلك؟

تدمير سجن تدمر خسارة كبيرة لواحد من أهم شواهد ومعالم القمع والاستبداد الأسدي في سورية، وما من أحد يمكن أن يفكر في تدميره إلا إذا كان أحمق أو عميلًا للأسد ويريد أن يغطي على جرائمه، لكن لحسن الحظ هناك صور وبعض لقطات فيديو وذاكرة آلاف السوريين واللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين والعراقيين ممن ما زالت أعمارهم وصحتهم بخير، بالإضافة إلى فنانين موهوبين، وهم بمجاميعهم قادرون على استعادة كل ما هو مطلوب من وقائع وأحداث وعلامات. في الواقع، خسرتُ حلم أن أزور سجن تدمر، بصورته التي كان عليها، وأنا حر كصحافي وشاعر وسجين سابق. كنت أنتظر تصفية حساب من هذا النوع مع ذاكرتي، لكن “داعش” ليست جرائمها هي المنظورة فحسب، “داعش” هي لعنة مجتمع دولي ساهم بعضه بخلقها، وساهم بعضه بـ “التطنيش” على ما يعرف عنها، وساهم بعضه بالاستثمار بها وفيها.

الشاطر أوباما توقع أن العالم يحتاج إلى عشر سنوات ليهزم “داعش”، وأحد أركان حربه توقع أن يحتاج الأمر إلى ثلاثين عامًا، وما من استخبارات في العالم أخبرتنا حتى الآن كيف استطاعت “داعش” خلال ثلاثة شهور من تأسيسها أن تمتلك آلاف سيارات الدفع الرباعي الخارجة توًا من مصانعها، ومليارات الدولارات، وجميع صنوف الأسلحة الكلاسيكية.

أحرق نظام الأسد حتى الذاكرة…

ما الصور التي عادت إليك عندما قرأت تقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) عام 2017، حول ما جرى في “مسلخ الأسد البشري” في سجن صيدنايا؟

حين نقلونا من سجن تدمر إلى سجن صيدنايا في بداية شهر أيار/ مايو 1992، استقبلَنا مدير السجن وألقى علينا محاضرة مقيتة لكثرة ما فيها من غباء وسذاجة. ملخص المحاضرة: اسمعوني كيس شو بدي قول. أنتو هلق بسجن صيدنايا العسكري.. الأول (كان سعيدًا وهو يقول الأول). عندي.. اللي بيجوع بطعميه.. اللي بيمرض بعالجو.. اللي بفكر يهرب.. ترى حول السجن حقول ألغام، لكن قبل ما يطلع ويوصلها بقوسو وبقول إنها محاولة هرب. كنا نظن أن الأمر للإرهاب النفسي، إلى أن سمعنا صوت انفجار، فتسلقنا إلى النوافذ العالية وشاهدنا أن أحد العساكر من عناصر الحراسة مر على لغم أودى بحياته. على الرغم من ذلك كان الانتقال من سجن تدمر إلى سجن صيدنايا يعادل نصف إفراج، لكن الرحرحة النسبية في صيدنايا قياسًا إلى تدمر لم تلغِ أن تجهيزات السجن مهيأة في أي لحظة لتحويله إلى مكان يزدري حتى جهنم. لم أتعرض في سجن صيدنايا إلى عقوبات قاسية كما حصل مع رفيقنا الجميل الوادع إحسان عزو، حين أنزلوه إلى المنفردات في الطابق السفلي تحت الأرض، ومنعوا عنه أدوية مرض القلب فمات، أعني أنهم قتلوه. ولم أتعرض لعقوبات أصغر كعقوبة أخي إبراهيم الذي أمضى شهرًا في تلك الزنازين، فعاد وكانت العباءة التي أعطاها له أحد الشباب، قبل نزوله إلى المنفردات، مهترئة كورق تشرب ماء.

مع كل ذلك كان سجن صيدنايا في حينها ليس سيئًا كثيرًا. على الأقل كان سجنًا وليس مسلخًا. سجن صيدنايا بعد الثورة صار مسلخًا بشريًا كما قال تقرير (أمنستي). لأني كغيري من زملاء المحنة والتجربة أعرف مداخل ومخارج وتفاصيل السجن، فقد صرت، تلقائيًا، أعيد تخطيطات أجنحته وأماكن القتل والدفن المحتملة. أحرق نظام الأسد حتى الذاكرة التي تقول: “إن انتقال المرء من سجن تدمر إلى سجن صيدنايا يعادل نصف إفراج”.

لو عاد بكَ الزمان إلى سنوات الشباب، هل ستفعل ما فعلته من جديد، وبخاصة انخراطك في العمل السياسي والحزبي؟

أراجع تفاصيل حياتي بين عام وآخر، وما من مراجعة أوصلتني إلى خطأ ارتكبته، أو إلى تناقض بين مصلحة شخصية وعامة، أو إلى نية أزاغتني في لحظة عن ما لا ينبغي لمثلي أن يزوغ عنه، فهل عليّ الآن أن أتراجع عما لم أرتكبه من أخطاء؟

قبل اعتقالي كان أبي ضد معارضتي لنظام الأسد، وحين اعتقلوه وابتزوه وساوموه ليوصلهم إليّ، بلغ القهر به حدًا لا يطيقه، فصار أكثر حنقًا عليّ وعلى معارضتي للنظام.

حين أُفرِج عني تغير موقفه أو تحول، فصار يتباهى بتجربتي ومواقفي.

حتى أهالي قريتي.. كثيرون منهم قالوا بعد اعتقالي أني دمرت مستقبلي. وحين خرجت من السجن صرت مجال فخر لهم، ولكن بعد اندلاع الثورة صار أهل القرية والشعب السوري بغالبيته أكثر إدراكًا لتجربة المعارضين الذين تعرضوا للاعتقال، وأكثر احترامًا لها.

لو عُدت إلى سنوات الشباب لغيرت الكثير من خياراتي، وبشكل خاص دراستي الجامعية للأدب العربي التي كان من شأنها محاصرة كل اجتهاد أو لمحة إبداعية، وبقيت أيضًا حرا وأخلاقيًا وضد كل ما هو استبدادي ولا يليق بالإنسان، مع فارق أن التكنولوجيا الآن في صالح المقهورين أكثر مما هي في صالح أنظمة الاستبداد المتخلفة.

كان قدرك أن تخوض معركة في ظلام الزنزانة أولًا، والآن في أرض الغرب البارد. أسأل عن دور الشعراء والكتاب والمثقفين هناك وأي مساحة للتأثير من المنفى؟

كل الزنازين التي مررت بها كانت أكثر برودة من أرض الغرب البارد، هذا إذا افترضنا أن الغرب بارد بالمعنى الروحي والوجداني الذي يفترضه سؤالك.

إن معيار البرودة، في رأيي، ذو درجات متعددة. لي علاقات كثيرة مع سويديين لا ينقصها الدفء، لكن طرائق تعبيرهم عن الحميمية تختلف عن طرائقنا في الشرق. ثقافة الشرق تميل إلى المجاملة والمبالغة في اللطف والاهتمام الظاهري والشكلي وعدم الصراحة أو عدم الوضوح، وخذ بعين الحسبان أني جئت إلى السويد من سورية التي، إن نحيت الأهل والأصدقاء والذكريات، لا أحمل لها أي ذكرى طيبة، وبالتالي ليس لدي خارج الأهل والأصدقاء والذكريات ما أحن إليه. ولكني أرى الحنين غير الاهتمام، فأنا مهتم بشعبنا ومصالحه ومستقبله بوصفه جزءًا مني كما أنا جزء منه. تعرضت للاعتقال خلال حياتي في سورية ثلاث مرات، ولا أظنني أحن إلى ذلك إلا إن كنت (مازوخيًا). أما عن دور الكتاب والشعراء والمثقفين السوريين في المنفى، فما زال الرهان مبكرًا. مأساة العراقيين في الهروب من بطش صدام سبقت السوريين بثلاثة عقود على الأقل، ولذلك فإن الكتاب والفنانين والمثقفين العراقيين استطاعوا تَأْسيسِ وتنظيم حد أدنى من الفعل الثقافي والأدبي والفني في منافيهم. وعلينا بصفتنا سوريين أن ننتظر سنوات حتى نرى دور المثقفين وتأثيرهم في المنفى. لكن طاقات وإبداعات السوريين الفردية تملأ العالم، ولا تقصّر وسائل الإعلام في تسليط الضوء عليها. أيّ جردة بسيطة لعدد الجوائز المهمة أو الحضور المهم في السينما والرواية والشعر والموسيقا يعطينا الجواب.

نفتقد الحوامل السياسية والثقافية التي تليق بنا…

برأيك، أي دور يلعبه الشعر في الظرف السوري الراهن؟ وهل على الشعر أن يكون سياسيًا في مكان ما، بمعنى أن يكون في قلب الصراعات الاجتماعية والسياسية التي تحيط بنا؟

مع أفول العصر العباسي أفل دور الشعر، كما أفل دور الثقافة والسياسة، وصار الاقتصاد استهلاكًا لا إنتاجًا. باختصار بدأ الانحطاط منذ ذلك الحين، فانتهت أو تراجعت كل الظواهر والمظاهر القابلة للاحترام على المستوى العام، ولم ينجُ من ذلك إلا تجارب فردية قليلة بين مرحلة وأخرى لأسباب ليس هنا مجال بحثها. ليس بمقدور الشاعر أو شعره أن يقرر لنفسه دورًا سياسيًا أو اجتماعيًا، وذلك مشروط بظروف وتداخلات عديدة، لكني، عمومًا، لا أميل إلى تحميل الآداب والفنون أي دور فاعل ومؤثر في تناول أعباء الناس إن لم يلقِ الناس عباءاتهم وآمالهم عليه. كنتُ وما زلتُ ضد الأسد ومع خيارات أغلبية الناس. هذا موقفي السياسي، أما شعري فله شؤونه المتعددة، والثورة أحد هذه الشؤون، لكن على مقلب آخر أين يمكن أن نجد أدبًا أو فنًا أو اقتصادًا أو رياضة أو غير ذلك مما يمكن تنزيهه عن السياسة؟

أليس الخبز سياسة، وكذلك الوردة والسكين والكفر والإيمان والرياضة والغناء والسينما والمسرح وبائعات الهوى والجوع والتجارات القومية والدينية والمنفلوطي وعادل إمام وما شئت من هذه الحالات والاحتمالات والأنساق؟

إلى أي مدى يمكن للشعر أن يتجاوز سيول الدم ويقترح إبداعه في مواجهة المستبد السياسي والديني؟ وكيف ترى الشعر السوري اليوم بعد تسع سنوات من هذه المقتلة؟ ومن قبل، ما مدى تأثير الثورة على تجربتك الشعرية؟

قد يكون الشعر، تاريخيًا، وبطبيعته، أقرب ترجيعًا من الرواية، ومع ذلك ليس الشعر إلا شعرًا، وفي هذه الأيام، وما تحفزه من “مكارم” الفقر والجهل والخوف والربح مهما تكسرت الأوزان والقيم، لم يعد الشعر إلا نخبويًا.

في ظروف الاحتقانات والأزمات والثورات، تصبح الصورة والأغنية والفيلم والمؤثرات الصوتية أقرب متناولًا وأكثر تأثيرًا من القصيدة. لم يتجاوز عدد القراء لأي من قصائدي ثلاثة آلاف قارئ، في حين أن تسجيل أغنية من تأليفي أو فيلم وثائقي أو فيديو لحديث لي، يبلغ عدد متابعيه عشرات الآلاف. الأمر هنا ليس موضوعيًا فحسب. هناك مستوى ذاتي له تأثيره إن استطاع أو قرر الفعل. ولكن، مع الأسف، حتى الآن ليس لدى السوريين الذين هم مع الحرية حوامل سياسية وثقافية تليق بهم.

أما تأثير الثورة على تجربتي الشعرية فأترك للنقاد تقويم الأمر إن وجدوا ما يقتضي التقويم، ما أعرفه وقد حدث في حياتي فعلًا قبل شعري، أني واحد من مئات أو آلاف السوريين الذين بدؤوا ثورتهم منذ سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين حتى مطالع القرن الواحد والعشرين، وقد انهزمنا بجميع تشكيلاتنا السياسية والاجتماعية. قاموسي الشعري في ما يخص الثورة قديم، وحين جاءت الثورة في آذار/ مارس 2011 صار قاموسي الشعري مفهومًا أكثر، ومن شرائح أوسع.

ذلك لا يعني أن الثورة قصّرت أو تأخرت، بل أنا من كان متسرعًا وبصلته محروقة.

تاريخ الشعر غنيٌ بشعراء ثورات ومقاومة، ربما كان أبرزهم منذ الربع الأخير من القرن العشرين الراحل محمود درويش، الذي اتفق الناس من حوله أنه (شاعر الثورة الفلسطينية). هذا يدعوني لسؤالك لماذا لم يُطلق حتى اليوم هذا اللقب (شاعر الثورة السورية) على أي من الشعراء السوريين على الرغم من سعي بعضهم الحثيث لنيل هذا اللقب؟

في عصرنا لم يحظَ شاعر بمكانة جماهيرية كبيرة وواسعة سوى نزار قباني ومحمود درويش ومظفر النواب. كل منهم كان جماهيريًا، على الرغم من فوارق ودوافع الجماهيرية بينهم، ولكن دعني أتوقف عند عدّك أن الناس توافقوا على عدّ محمود درويش (شاعر الثورة الفلسطينية)، وتلك هي الحقيقة بغض النظر عما هو محمود درويش وماذا كان يريد، وبغض النظر عن رأيي الشخصي بأنه أهم شاعر قرأته في حياتي. دُعيت إلى مهرجان جرش عام 2001، وذهبتُ إلى أمسية محمود درويش التي ألقى فيها قصيدته «جدارية». كانت الصالة مكتظة بالحضور، وحين دخل محمود درويش دوت الهتافات لفلسطين، لم يَقل أحد كلمة واحدة عن محمود. بالطبع، يدرك محمود الأمر ودوافعه ولا يصادر من هم مع فلسطين. معظم الحضور لم يدرك ما قاله درويش في الجدارية، التي تحتاج إلى ثقافة شاقة لإدراكها، لكن الهتافات لفلسطين ظلت حاضرة، وكان خيار الشعب الفلسطيني وثورته وإعلامه والجمهور متفقين على أن محمود درويش شاعر الثورة الفلسطينية، بل شاعر فلسطين الذي أدرك ياسر عرفات أهميته الكبيرة فأراده أن يكون في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولحسن الحظ أن درويش تملص من المهمة بهدوء لاحقًا. المستوى الإعلامي للثورة الفلسطينية قبل رحيل ياسر عرفات هو الأرقى عربيا، ولهذا استطاع أن يكرس محمود درويش بوصفه شاعرًا في المقام الذي يستحقه. وأفترض لو أن محمود درويش كان سوريًا لكان مكانه في السجن، أو التناسي على أقل تقدير.

لن يفوتني هنا أن أعلن لنفسي والآخرين امتناني لمشاركة محمود درويش في الحملة الدولية لإطلاق سراحي، ومشاركته بقصيدة «بقاياك للصقر» في الكتاب الذي أصدرته في فرنسا (المنظمة العالمية لمناهضة القمع). كل قصائد المشاركين في الكتاب كانت مترجمة إلى الفرنسية، غير أن محمود درويش أصر على نشر قصيدته بالعربية.

يومًا ما سيأتي نظام محترم، وسيختار شعراء محترمين من أجل تكريسهم باسم شعراء الثورة السورية، ولو كان الأمر مُلحًا أو مطروحًا الآن لرشحت لك بضع شعراء على الفور، وتعرف أني لست واحدًا منهم. 

استخبارات الأسد تمنع توزيع كتبي في سورية…

ما هي قراءتك لتأثير الحراك الثوري على المشهد الأدبي والثقافي السوري؟

تأثيرات الثورة أو الانتفاضة، أو الحراك الثوري كما سميتَه، ليست متساوقة على جميع الصعد. التأثيرات على صعيد السينما والرسم والموسيقى والغناء كانت واضحة على المستوى الإبداعي والجمالي، بل إنها برزت وتفوقت في كثير من المهرجانات العالمية. الشعر كان متباينًا بحسب الشعراء. الرواية تحتاج وقتًا أطول، وإن كان هناك روايات نجحت في مهمتها في عرض بعض جوانب الثورة، ولا بدّ مع الزمن من أن تتواصل وتتكامل سلاسل الروايات لتغطي ما حدث بالصورة الملائمة، لدينا روائيون سوريون عظماء تنقصهم الفرص ولا ينقصهم الإبداع، وبالطبع لدينا مثلهم شعراء ورسامون ومخرجون وموسيقيون. هي قناعتي وليست انحيازًا أعمى لسورية، فأنا في الأصل لست وطنيًا متعصبًا، بل إني متنازل حتى عن جنسيتي السورية إلى أن يسقط الأسد، وبعدها أعرف أني سأستردها حرة وكريمة.

تُرجمت أشعارك إلى لغات أجنبية عدة منها: الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والإسبانية والألمانية والهولندية والسويدية والدانماركية والكتالونية والليتوانية والسلوفينية والتركية، فإلى أي مدى تساهم الترجمة في نقل شعرك إلى ضفاف العالمية؟ وهل أنت معنيّ بأن يكون نصك عالميًا، وأن تكون ضمن قائمة أدباء العالم في الألفية الثالثة؟

إن لم أصبح شاعرًا سوريًا مُهمًّا فإن الترجمات، مهما كثرت وتعددت لغاتها، لن تنقلني إلى ضفاف العالمية، ولا حتى إلى ضفاف نفسي. الترجمات ليست مؤشرًا على جودة كاتب أو نَص. هناك مبدعون كبار حقًا، في الشعر والرواية والقصة والمسرح، ولكنهم محارَبون لأنهم أكثر إبداعًا، أو لأنهم لا يبيعون مواقفهم ولا يساومون عليها، وبالتالي، مع الأسف، لم تُتَح لهم أي فرصة مستحَقة لترجمة أعمالهم إلى أي لغة، وهناك كتاب رخيصون، لكنهم مدعومون بسلطات وأنظمة تسوق نتاجاتهم في إعلامها وعلاقاتها وتزكياتها وترشيحاتها، فيحصدون ما يستحقه غيرهم. كنت وما زلتُ أحد الممنوعة كتبهم في سورية ومن ضمنها كتاب «مرايا الغياب» الذي نشرته وزارة الثقافة في دمشق، ولكن المهزلة أن الاستخبارات منعت توزيعه. التكنولوجيا المعاصرة، على تفاهات ما يُستثمَر فيها، هي ما كسر حاجز المنع لكتبي. وبعد إقامتي في السويد تكسّرت كل الحواجز حتى حواجز الترجمة.

في الواقع لدي دواوين شعرية تعتمد على الوزن وجزالة اللغة واللعب على الكلمات والاشتقاقات اللغوية، وأنا أنصح المترجمين أن لا يتورطوا فيها لأن ترجمتها مرهقة وربما غير ممكنة أو أنها ستخسر الكثير من جمالياتها. على وجه العموم كنت كلما طرح عليّ أحدهم أو إحداهن ترجمة أحد كتبي، أضع يدي على قلبي. كل ترجمة لقصائدي ستهتك أهم ما فيها من جماليات اللغة التي أحتفي بها كثيرًا. مرة كنت بصحبة الروائية السويدية “ماريا موديج” في زيارة للشاعر “توماس ترانسترومر”، فأخبرَتْه بتخوفي من الترجمة. طلب “توماس” من زوجته إحضار أحد كتبه وطلب منها أن تقرأ إحدى فقراته. مضمون الفقرة: “نحن حين نكتب قصائدنا فإننا نحاول ترجمة أحاسيسنا ومشاعرنا، فما المشكلة إذا جاء شخص وترجم ترجمتنا لأحاسيسنا إلى لغة أخرى”. بعد ذلك لم أعد قلقًا من الترجمات.

أن تكون أعمالك مترجَمة له أسباب كثيرة منها المصادفة. من أجمل مصادفات حياتي أن مجموعتي الشعرية «مرايا الغياب» التي كتبتها في السجن، ولم أكن أحلم بأكثر من تهريبها، لتبقى بين يدي أهلي وأصدقائي، وعلى الرغم من أن الاستخبارات منعت وزارة الثقافة التي نشرتها، من توزيعها، فإنها صارت الأكثر ترجمة بين كتبي.

أقول إن من أجمل المصادفات أن اتصل بي قبل ثلاث سنوات شخص سويدي قال إنه مؤلف موسيقي، ويأمل أن نلتقي ليطرح عليّ مشروعًا مهمًا. بعد إحدى تظاهرات السوريين قرب البرلمان في استكهولم، عرضتُ على المغنية السورية المبدعة سهير شقير أن تذهب معي لتتعرف إلى ذلك المؤلف الموسيقي فرافقتني مشكورة. أبلغني المؤلف الموسيقي “سفانتى” أن مغنية ذات صوت أوبرالي طلبت منه، قبل خمس سنوات، أن يجد نصوصًا شعرية تتحدث عن فكرة تشبه فكرة الرحلة الشتائية القاسية التي لحّنها الموسيقي النمساوي الشهير “شوبرت”. لم يفلح بحثه خلال خمس سنوات إلى أن اشترى مختاراتي الشعرية المترجمة إلى السويدية، وحين وصل إلى قصائد «مرايا الغياب» وجد ضالته، فاتصل بالمغنية ثم بي، وأنجزنا المشروع الغنائي وتسجيله باللغة السويدية وطرحه في السوق، ثم دُعينا من كلية الفنون بميونيخ وقدمنا المشروع باللغة الألمانية، فالمغنية أصلها ألماني والقصائد مترجمة إلى الألمانية، والآن هي تتدرب على تقديم المشروع بالإنكليزية. لا سلطة ولا علاقات شخصية ولا وساطات كانت وراء هذا العمل الفني الاستثنائي في حياتي. إنها إحدى المصادفات، ولكن كان يصعب تحققها لو كنت ما زلتُ في “رعاية” استخبارات الأسد. أفترض أن الترجمات تعيد تصديري إلى سورية والبلدان العربية، وذلك بالنسبة إلي أكثر أهمية بكثير من أن تضعني على ضفاف العالمية. أشتهي أن أقرأ شعري بالعربية، أمام جمهور عربي لا يحتاج إلى أي وسيط من ترجمة مكتوبة أو مرئية أو مسموعة.

الأبدية صارت عملة منهارة…

الثورة السورية شكلت مفترق طرق سياسيًا وثقافيًا وحياتيًا، كيف تقيّم الثورة اليوم وقد دخلت عامها العاشر، وما هو تصورك لمستقبل سورية بعد أن مزّقتها حروب المستبدين وأصحاب الرايات السوداء؟ ما هو الحل لتعود البلد كما نتمناها جميعًا؟

أرى أن أهم ما أنجزته الثورة السورية، على الرغم من كل ما تعرضت له من خسائر وضحايا وفواجع وخذلان متعدد المستويات داخليًا وعربيًا وعالميًا، هو إغلاق مرحلة “الأبد” بالنسبة لنظام الأسد. صحيح أن العالم تواطأ كثيرًا ضد الشعب السوري، وصمتَ عن الكثير من أخطر جرائم الأسد، ولكن لم يعد في وسع روسيا ولا أمريكا و”إسرائيل” وإيران تسويق “أبدية” الأسد، فالأبدية صارت عملة منهارة واقتصادًا منهارًا ووباء سيصيب بعدواه كل من يقف مع الأسد.

مع دخول ذكرى الثورة عامها العاشر صار الأسد عبئًا على الجميع. تضحيات الشعوب وضحاياها على مر التاريخ فظيعة وفادحة، ولكني لم أرَ ولم أقرأ ولم أسمع عما هو أكثر فظاعة وفداحة مما تعرض له الشعب السوري. منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن لم يحدث أن وُجدت قاعدة أمريكية إلى جانب قاعدة روسية في العالم باستثناء سورية. طبّل الإعلام الأوروبي والأمريكي كثيرًا بقصة الحرب الأهلية في سورية. قواعد عسكرية على الأراضي السورية لإيران وأتباعها من حزب حسن نصر الله وأشباهه من الميليشيات الشيعية المتعددة، وقواعد عسكرية ومطارات على الأراضي السورية لأمريكا وروسيا، وأجواء مفتوحة أمام الطيران الإسرائيلي، وقواعد تركية أخيرًا. هذه الحرب العالمية المصغرة، وإن شئتم هي الحرب بالوكالة، اسمها في الإعلام العالمي “حرب أهلية”!

كان المطلوب من الأمم المتحدة تضييع الوقت أو اللعب بالوقت الضائع، فأتحفتنا بموفدها “كوفي عنان”، ثم “الأخضر الإبراهيمي”، ثم “ستافان دي مستورا”، ثم “غير بيدرسون”، ولا نعرف مَن التالي.

في السنة الأولى من الثورة لم نكن نرى رايات سوداء أو فصائل إسلامية. كان الشباب والصبايا والتنسيقيات حالة حضارية لم تبلغها الثورة الفرنسية التي ما زالَ العالم يتغنى بها. اعتقالات النظام في السنة الأولى للثورة كانت مركّزة على الوطنيين الأحرار والديمقراطيين والعلمانيين والصف الأول من قيادات التنسيقيات، وكان العالم يعرف ويصمت. حتى عندما انشق “قيصر” (سيزر)، وقدم ما عنده من صور ووثائق عن المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في سجون الأسد، بقي العالم صامتًا على الرغم من كل تلك الفظائع والوقائع التي بين يديه. بعد سنوات تبنت الإدارة الأمريكية قرارًا باسم “قيصر” سيطال بالعقوبات كل من يدعم نظام الأسد.

في الوقت الذي كان الأسد يعتقل العلمانيين والديمقراطيين والوطنيين الأحرار، كان يطلق سراح المعتقلين الإسلاميين المتطرفين. أطلق سراح الجولاني (أبو محمد) ليشكل (جبهة النصرة)، وأطلق زهران علوش ليشكل تنظيم (جيش الإسلام) مع لواءين كان قائداهما معتقلَين في سجون الأسد. لكن بعد تهجير نصف الشعب السوري ضاقت أوروبا ذرعًا باللاجئين السوريين، وصار اللاجئون ورقة ضغط تلعب بها تركيا وغيرها لإرباك أوروبا والعالم، وصارت كلفة إعادة الإعمار مجال صراع دولي من أجل الربح وليس المسؤولية، بالإضافة إلى أن روسيا وإيران أُرهِقَتا ووهنتا في الدفاع عن مسخهما الأسد. كل هذه المآسي والضحايا، على ما فيها من فادحات، تبقى أقل وطأة من بقاء الأسد إلى الأبد، لأنه هو وسلالته سيعتقلون ويهجرون ويقتلون مع الزمن أكثر بكثير مما فعلوا. إن وضع السوريين يبدو الآن محبَطًا، غير أن كل شيء سيختلف بعد لحظة إعلان انتهاء الأسد. ألمانيا واليابان تعرضتا لدمار هائل في الحرب العالمية الثانية، وها هما الآن في طليعة بلدان العالم، ليس الشعب السوري أقلّ منهما، وفي تاريخه ما يشهد على ذلك.  

ما المشروع الذي تعمل على تحقيقه حاليًا؟

لا أفكر في أكثر من استكمال مشروعي الشعري وبعض مذكراتي، وأعمل الآن بدأب على إتمام الأمر لأستقيل من كل ما يعكر صفو حياتي قبل أن أدخل في نومي النهائي، وآمل أن يسعفني الوقت في ما أنوي استكماله. عندي مخطوطان شعريان ينبغي أن أضع عليهما لمساتي الأخيرة، ومخطوط يتضمن مختارات من محاضرات ومداخلات ومقالات لي كتبتها بين عام 2000 و2020، وأنا على وشك الانتهاء من كل ذلك، ثم لدي مشروع عن مذكرات الطفولة والشباب. من الطرائف أنني كنت في السجن مشغولًا جدًا. كنت أشتهي أن أمر بلحظة إجازة أو ملل. قبل الإفراج عني بأيام هربت آخر أوراق السجائر التي أضمنها ما أكتب، وأبلغت الأصدقاء أني أول مرة في هذه الحبسة “الفضيلة” قررت أن آخذ إجازة مفتوحة.. لا كتابة ولا قراءة ولا نقاشات جادة ولا إلخ. ولكن مساء 15 تشرين الثاني (نوفمبر) جاء مدير السجن وقال: “فرج بيرقدار ضب أغراضك”.

أخيرًا، ما الذي تود أن تضيفه في نهاية حوارنا معك؟

أنا أضيف؟ بعد 22 سؤالًا جميلًا وعويصًا ومرهقًا؛ تسألني ماذا أود أن أضيف؟ على قولة أمي المصرية في الرضاعة: “يفتح الله يا صديقي”. والله لو لم تكن أسئلتك مغرية لاختصرتها أو لتملصت من الإجابة على كثير منها. لكن: “اعمل خير وغُب من البحر”. 

__________

فرج بيرقدار، شاعر وصحافي سوري من مواليد حمص 1951. حائز إجازة في قسم اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق.

شارك في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، مع عدد من الأدباء الشباب في جامعة دمشق، في إصدار كراس أدبي شبه دوري، وقد اعتقلته المخابرات الجوية السورية في عام 1978 بسبب ذلك، فتوقف الكراس عن الصدور بعد تسعة أعداد.

ثم اعتُقل آخر مرة في 31 آذار/ مارس 1987 بعد مدة من التخفي والملاحقة دامت حوالي أربع سنوات، وقد كان اعتقاله هذه المرة بسبب انتمائه إلى (حزب العمل الشيوعي) السوري.

أحيل بعد ست سنوات من اعتقاله إلى (محكمة أمن الدولة العليا) بدمشق، وهي (محكمة استثنائية)، فأصدرت حكمًا ضده بالسجن خمسة عشر عامًا مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية.

طوال فترة سجنه التي استمرت حتى عام 2000، شكّل الشعر خط دفاع بيرقدار الوحيد. ففي سجن تدمر الصحراوي الذي أمضى فيه السنوات الأربعة الأولى، تعلّم الكتابة بلا قلم أو ورقة، عبر صياغته مقاطع شعرية قصيرة وحفْظِها عن ظهر غيب. وحين تخونه ذاكرته، كان يتلو قصائده همسًا على رفاقه في السجن ويتكل على ذاكرتهم، قبل أن يكتشف وسيلة لصناعة حبر من شاي وقشور بصل، ويستخدم أوراق السجائر لتدوين قصائده.

قامت حملة دولية واسعة للمطالبة بالإفراج عنه، شارك فيها مئات الكتاب والفنانين العالميين، بالإضافة إلى العديد من الشخصيات الحقوقية والسياسية، إلى جانب العديد من المنظمات الحقوقية والإنسانية والصحفية المعنية، مثل: (اللجنة العالمية لمناهضة القمع، ومنظمة صحفيين بلا حدود، ونادي القلم العالمي، ومنظمة العفو الدولية). لكن النظام السوري لم يرضخ لضغوط الحملة إلا بعد مرور قرابة أربعة عشر عامًا من الاعتقال، قضاها ما بين أقبية فروع الاستخبارات وسجني تدمر الصحراوي وصيدنايا العسكري.

شارك بعد الإفراج عنه في كثير من المهرجانات والملتقيات العربية والعالمية، كما أقام العديد من الأمسيات والندوات في دمشق وعمان وبيروت ولندن وباريس وبرشلونة وجنيف وبرلين وكولونيا وفرانكفورت وديجون وأنتويرب وغوتنبورغ وأوسلو وكوبنهاجن وليتوانيا وإسطنبول واستكهولم.

دُعِي عام 2001 للإقامة في ألمانيا ثمانية شهور، في ضيافة مؤسسة (هاينرش بول)، كما دعته مؤسسة (شعراء من كل الأمم) للإقامة في هولندا مدة عام، من 24/9/2003، وحاضر في قسم اللغة العربية في جامعة ليدن.

في 27/10/ 2005 سافر إلى السويد بدعوة من منظمة (ICORN) في مدينة استكهولم و”نادي القلم السويدي”، حيث أقام في استكهولم عامين، ضيفًا تحت لقب “كاتب المدينة الحرة”، وقد حصل بعد انتهاء الدعوة على الإقامة الدائمة في السويد حيث يعيش الآن.

صدر له تسع مجموعات شعرية وكتاب عن تجربة السجن، وكتاب عن رحلة هولندا، وهي:

     «وما أنت وحدك»، دار الحقائق، بيروت 1979.

    «جلسرخي رقصة جديدة في ساحة القلب»، دار الأفق، بيروت 1981.

    «حمامة مطلقة الجناحين»، دار مختارات، بيروت 1997. وسيصدر قريبًا في طبعة ثانية عن دار خطوط للنشر والتوزيع في عمان.

    «تقاسيم آسيوية»، دار حوران، دمشق 2001.

    «مرايا الغياب»، وزارة الثقافة، دمشق 2005.

    «خيانات اللغة والصمت.. تغريبتي في سجون المخابرات السورية»، دار الجديد، الطبعة الأولى- بيروت 2006. الطبعة الثانية عن دار الجديد- بيروت 2011.

    «أنقاض»، دار الجديد، بيروت 2012.

    «الخروج من الكهف.. يوميات السجن والحرية»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2013.

    «تشبه وردًا رجيمًا»، دار الغاوون، بيروت 2012.

    «قصيدة النهر»، دار نون للنشر، الإمارات العربية المتحدة 2013.

    «ليس للبكاء.. ليس للضحك»، مركز الآن، بيروت 2020.

وصدرت عدة ترجمات لبعض كتبه، وأشعاره إلى الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والإسبانية والألمانية والهولندية والسويدية والدانماركية والكاتالونية والليتوانية والسلوفينية والتركية.

حاز بيرقدار عددًا من الجوائز السورية والعربية والدولية، نذكر منها: (جائزة هلمان/ هامت أمريكا 1998، وجائزة نادي القلم العالمي/ الفرع الأميركي لعام 1999، وجائزة الكلمة الحرة/ هولندا 2004، وجائزة حرية القلم للتعبير/ هولندا 2006، وجائزة توشولسكي/ السويد 2007، وجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي -فئة اليوميات- عن كتاب: «الخروج من الكهف.. يوميات السجن والحرية»، في دورتها الثامنة، الإمارات العربية المتحدة 2012، وجائزة الشاعر الكردي حامد بدرخان للإبداع لعام 2016، وجائزة مهرجان فيرتشيلى/ إيطاليا 2017).

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى