مقالات

فرج بيرقدار شاعر طليق الجناحين/ بشير البكر

كان فرج بيرقدار في البدايات في منتصف سبعينيات القرن الماضي مشغولاً بالنضال، ويقدم نفسه كشاعر من دون تبجح الشعراء عادة. يتكلم عن نفسه وكتابته ونصه الشعري بخفر، ولا يزاحم أصحاب الصنعة الشعرية الذين يتدافعون عادة بالمناكب من أجل الوصول إلى المنابر والمهرجانات. ويمتلك بيرقدار نوعاً من الثقة في النفس جعلته محصناً لا يضعف أمام الإغراءات التي تعد بها الشهرة الأدبية، ولا يعني ذلك أنه لم يكن مهجوساً ومهموماً بالشعر أو بجماليات النص الشعري. ومن علامات تميز هذا الشاعر، صاحب التجربة الخاصة، أنه رفض أن يسير معنا في ركاب قصيدة النثر الذي سار به جيله وأصدقاؤه وأبناء مرحلته (رياض الصالح الحسين، حسان عزت، خالد درويش، بشير البكر)، وبقي يكتب قصيدة التفعيلة. وهذا سؤال بقيت أبحث له عن إجابة لم أجدها خارج وعي فرج لموقعه في عالم الكتابة. هو وحده يعرف أين يقف، ولا يريد لأحد أن يحدد له أحداثيات القصيدة التي يجب أن يكتبها. وعلى هذا الأساس استمر يكتب من دون ضجيج، ووصل إلى المكان الذي يشغله اليوم بين تجارب جيل السبعينات الشعري السوري، الذي رفد الكتابة بأصوات متميزة.

وحين أُدخل فرج إلى السجن في المرة الأولى العام 1979، لم يكن قد أصدر مجموعة شعرية أو نشر سوى بضعة قصائد، وأول مجموعة له صدرت في بيروت العام 1979 عن دار الحقائق تحت عنوان “وما أنت وحدك”، وكانت عبارة عن نصوص تحمل نكهة البدايات على صعيد تقنية الصور الشعرية وعمق التصورات عن الحياة والوجود. حارّة متدفقة، وهي، مثل كل بداية، محاولة أولى، لكنها ليست محاولة من فراغ، ولا محاولة من أجل المحاولة. وما لم يلاحظه كثيرون أن تلك المجموعة كانت بمثابة جواز مرور إلى عالم الكتابة وليست على سبيل التجريب. كان يريد أن يحمل كتابه بيده ليدل عليه حين يقف في صفوف الشعراء الذين كانوا يتكاثرون بسرعة، وينبتون في كل مكان، لكن المتميزين منهم قلة قليلة هي التي ثابرت على الكتابة، وتقديم الجديد من دون السقوط في اجترار الذات. ولم يسعف فرج الوقت كي يشتغل على قصيدته، ومن ذلك لغته الشعرية التي بقيت لغة خام غير مصقولة. واستغرق الأمر سنوات حتى يصل إلى كتابة قصيدة متينة متماسكة وذات نفس شعري يخلو من الضجيج السياسي الذي كان واضحاً في أعماله الأربعة الأولى. وجاءت مجموعته الشعرية الخامسة “مرايا الغياب” خالية مما وصفه في حديث دار بينه وبيني في الآونة الأخيرة “فوضى الشاعر، ومراهقة اللغة، واللهو الجمالي، والعبث تجاه جدوى الكتابة”، ويقول “في السجن بدأت التأملات تحتل مساحات أوسع.

في السجن تتراجع المحرّمات السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية، ويغدو حسّ المسؤولية أكثر حضوراً تجاه الكتابة وتجاه القناعات والسلوكيات والمستقبل.”. ولهذه المجموعة قصة يكشف فرج تفاصيلها في الحوار الذي دار بيننا” هذه المجموعة هي الوحيدة لي الصادرة عن جهة حكومية (وزارة الثقافة السورية) العام 2005، ولكن المخابرات منعت الوزارة من توزيعها، فبقيت في المستودعات. استطاع بعض العاملين في الوزارة أن يهربوا لي عشرات النسخ. لهذه المجموعة سيرة طويلة منذ أرسلتها للوزارة كمخطوط، ثم نام عليها قاسم مقداد مسؤول قسم المطبوعات، إلى أن جاء بعده الكاتب محمد كامل الخطيب فقرر نشرها. يؤسفني أن هذه المجموعة، التي كتبتها في السجن ما بين العامين 1997 و 2000، غير موجودة في المكتبات السورية، مع أنها تُرجمت إلى السويدية والفرنسية والألمانية والإنكليزية والسلوفينية والإيطالية”. وتحولت هذه المجموعة إلى مشروع كبير في حياة فرج “صارت مشروعاً غنائياً للمؤلف الموسيقي سفانتى هنريسون والمغنية إيفون فوكس وعازفة البيانو آنّا كريستينسون.

المشروع هو نوع من استذكار واستحضار الموسيقي النمساوي شوبرت في مشروعه الموسيقي الغنائي الذي تضمّن 24 قصيدة قصيرة تتحدث عن رحلة شتائية قاسية في أوروبا. مشروعنا أيضاً يتضمن 24 قصيدة تتحدث عن رحلة في غياهب سجون الأسد. أنجزنا النسخة السويدية بشكل نهائي. ولأن المغنية إيفون أصلها ألماني، فقد حصلتْ على كتابي بالألمانية بترجمة الشاعر السوري وحيد نادر، ثم قدمنا المشروع بالألمانية في كلية الفنون الجميلة في ميونخ، وهي الآن تجري تدريبات على النسخة الإنكليزية لصالح أحد المسارح الكندية”. وحتى يصل بيرقدار إلى هنا كان دربه طويلاً ومتعرجاً، وكان يمكن للعقبات التي اعترضته أن تصرفه عن الشعر كلياً، وتأخذه إلى اهتمامات السياسيين ومحترفي النضال بعد أن أمضى قرابة 14 عاماً في سجون سوريا الأسد الأب بسبب عضويته في حزب العمل الشيوعي. وكان يمكن لخيبة التجربة السياسية، والثمن الذي دفعه في السجون، أن تصيبه بالإحباط، لكن الشاعر الكامن فيه كان قوياً ولم ينكسر، ورغم أن البعض، ومنهم شعراء مثل أدونيس، استكثر المطالبة بحرية بيرقدار كونه لم يدخل السجن كشاعر، وانما كمناضل سياسي، فإن الذي سند فرج في السجن هي روح وجذوة الشعر. ولحسن الحظ كان هناك من رفض أطروحة أدونيس. وللتاريخ فإن أن أدونيس وقّع العريضة التي تطالب بإطلاق سراح بيرقدار بوصفه شاعراً، ثم بعد يومين اتصل بالفنان يوسف عبدلكي وطلب سحب توقيعه لسبب سياسي وسبب أمني.

مقالة أدونيس في هذا الشأن نشرت في جريدة “الحياة”، ورد عليه عبدلكي في الجريدة نفسها. ويقول فرج “انتظرتُ عاماً لكي لا أكون منفعلاً ثم نشرتُ ردي في الحوار المتمدن”. ولحسن الحظ هناك من أوصل القضية إلى المنابر العالمية مثل الشاعر الفرنسي ميشيل دوغي، الذي تبنى قضية فرج ودافع عنه وعن حقه في الحرية. وقامت حملة دولية واسعة للمطالبة بالافراج عنه، شارك فيها (أولاً منظمة حزب العمل في الخارج) ومئات الكتاب والفنانين العالميين، والعديد من الشخصيات الحقوقية السياسية، بالإضافة إلى المنظمات المعنية، ولكن السلطات السورية لم تستجب إلا بعد مرور قرابة 14 عاماً من الاعتقال قضاها ما بين فروع الأمن وسجن تدمر الصحراوي وسجن صيدنايا العسكري.

وينتمي فرج إلى جيل ثقافي ترك بصمة خاصة في الحياة السورية في شتى وجوهها الثقافية والسياسية. وكانت تجربة هذا الجيل ثريّة، وشكّلت إضاءة كبيرة للأجيال اللاحقة على مستوى الوعي والحرية. وغير النضال السياسي سجّل هذا الجيل حضوره في الكتابة والمسرح والسينما والفن التشكليلي. وأهم ما يجمع هذا الجيل هو التوجه نحو الحداثة والانتماء إلى اليسار بأطيافه المختلفة من البكداشية الشيوعية المهادنة التي كانت تشارك في الحكم من خلال الجبهة الوطنية التقدمية إلى رابطة العمل الشيوعي التي كانت ترفع شعار إسقاط النظام. وفي ما يخصّ فرج فقد كان قيادياً في الرابطة، يتمتع بطيبة أهل الريف وفطريتهم، أقرب إلى الشاعر منه إلى المناضل المحترف، وهذا ما حماه من السقوط أمام التعذيب القاسي والمساومات السياسية، وكانت مرافعته أمام محكمة أمن الدولة شهادة جيل على النكسة التي عاشها بوصول حافظ الأسد إلى الحكم، ولكنها في العمق تأتي من إحساس الشاعر بالعدالة، وما يترتب على الالتزام السياسي من شجاعة خاصة. وعبّر فرج عن ذلك في كتاباته التي أعقبت السجن، وخصوصاً شهادته الحارة والمميزة عن سجن تدمر التي سجلها في كتابه “خيانات اللغة والصمت”، وفي حديثي معه يقول” هذا الكتاب كان ينبغي أن أكتبه بعدما أخرج من السجن، لكن حين رأيت قلق الصديق الدكتور عبدالعزيز الخير، وهو يقرأ صور وتخطيطات القلب التي جلبتها معي من مشفى التل، قررت أن أكتب كتابي وأهرّبه في أقصر وقت ممكن، خشية أن أموت وتموت معي كل القصص التي عاينتها في فرع فلسطين وسجن تدمر ثم صيدنايا”. وصدر في عام 2006 بعدما أضحى فرج خارج سوريا وبات مقيماً في السويد، وصدر الكتاب في طبعة ثانية في عام 2011. وتابع هذه السيرة والمسار في عدة مؤلفات (أنقاض – صدر عن دار الجديد 2012، والخروج من الكهف.. يوميات السجن والحرية 2012).

وما يهم هنا هو نظرة الكاتب للكتابة قبل السجن وبعده، وفي داخل الوطن وخارجه، وهنا يجيب فرج على سؤال طرحته عليه: “بخصوص سؤالك إن كانت تغيرت نظرتي للكتابة قبل السجن وبعده.. قبل الإقامة في الخارج وبعدها، فأعتقد أن نظرتي لنفسي بكلّيّتها تغيرت، وكذلك نظرتي للآخر والحياة والعالم، وكتحصيل حاصل تغيرت نظرتي للكتابة”. ويضيف: “بعد إقامتي في الخارج بدأت أتلمس كينونتي التي لم يكن لها في السجن أو قبله أي اعتبار ولا حتى اعتراف بوجودها أصلاً. في أوروبا كما لو أن مشاعري ترعرعت من جديد. كثير من الأمور التي طحنها الاستبداد بدأت تستيقظ وتسترد أنفاسها. باختصار إن الكلمات التي قرأتها أو كتبتها أو اقتنعت بها ودافعت عنها في سوريا أوصلتني إلى السجن، لكنها في أوروبا أوصلتني إلى الكثير من الاهتمام والتقدير والترجمات ناهيك عن المكافآت والجوائز”. وينتقل في الحوار إلى مستوى آخر: “إذا كان اعتقال الجسد ممكناً، فإن اعتقال الخيال مستحيل إلا في حال الموت. الشعر وثيق الصلة بالخيال ولهذا فإن الشعر، كغيره من الآداب والفنون، يسهم في حماية صاحبه من اليأس أو الاستسلام أمام وطأة السجن، كما يسهم في خلق توازنات وتعويضات نفسية وروحية ووجدانية في مواجهة ما يعنيه السجن من اختلال لأي توازن في عموم مضامير الحياة الطبيعية، وبصورة أو بصيغة أخرى يمثّل الشعر، والإبداع عموماً، سبيلاً من سبل مواجهة القبح بالجمال، وسبيلاً من سبل خلق المعاني التي من شأنها مواجهة السجن بوصفه محاولة لإلغاء معنى السجين، بل محاولة لإلغاء المعنى بإطلاق”.

وعن الشاعر والسجن والشاعر والحرية، يقول بيرقدار في ختام حوارنا “السجن يستنفر لدى الشاعر جوانب من قاموس لفظي كان نائماً أو لم يكن هناك من حاجة له. قبل السجن لم أكن أكترث لمخزوني من الألفاظ التي لها علاقة بالآلام الجسدية مثلاً، أو بحركة السياط وهي تشهق وتزفر وتكسر كل ما في العالم من إيقاعات، ولكن عندما تصبح سنوات السجن قطاراً طويلاً متعباً من الصفير ويائساً من المحطات، فإن القاموس اللفظي للسجين يبدأ بالتخثر.. بضع مئات من الكلمات هي كل ما يحتاجه السجين في حياته اليومية. وإذا كان السجناء لا يشعرون بتخثر قاموسهم أو لا يرونه أمراً خطيراً، فإن الأمر خطير جداً لدى من لهم علاقة بالكتابة. في الواقع هناك سبيلان لإبقاء القاموس اللفظي حياً وحاضراً ومتجدداً، السبيل الأول هو القراءة إن توافرت الكتب، ثم الذكريات وسردها أمام الآخرين، وكذلك الحوارات في شتى الأمور بين السجناء، والسبيل الثاني هو التواصل مع الخارج بكل السبل الممكنة. مرة سألني أحد أصدقائي السجناء عن جدوى مخاطرتي بخرق قوانين السجن عبرالتسلق إلى إحدى النوافذ العليا من أجل نظرة خاطفة إلى الخارج. قلت له اني سأتسلق الآن وألقي نظرة ثم أعود لأعدد لك مئات الكلمات التي لا نستخدمها في السجن، وبالتالي يمكن أن تموت تلك الكلمات أو ننساها. في تلك النظرة رأيت الكثير من مفردات الطبيعة كان أحدها الجبل المجاور. قلت له: رأيت الكثير الكثير، ولكني سأحدثك عن شيء واحد مما رأيت هو الجبل. ثم رحت أسرد له مشاهداتي وتقديراتي وانطباعاتي وقناعاتي عن حجم الجبل مقارنة بجبال أخرى، وعن ألوان التربة ما بين أسفله ومنتصفه وأعلاه، وعن شكل إشرافه على الوادي الذي يتوسطه طريق معبّد ومزدحم بالسيارات، وحدّثته مطولاً عن قمة الجبل، ثم انتقلت إلى الحديث عن سفوحه المتموجة والأشجار وأشكالها وأعدادها وشكل توزّعها، والطيور التي كانت تتجاوزه إلى جهة الغرب على عكس الغيوم المتجهة شرقاً، كما حدثته عن الشعاب الصاعدة من الوادي نحو القمة، وما أثارته رؤية الجبل في داخلي من معاني الثبات والرسوخ والقوة وأغنية فيروز والرياح والحتّ والتصدّع وآية قرآنية وبدوي الجبل وبعض ما قرأناه في كتب الجغرافيا. قال لي صديقي: بعض ما حدثتني به يكفي لأقتنع بفكرتك وأقنع غيري بها. ذلك هو السجن بوصفه مكاناً معادياً، إن لم أقل عدوانياً، بحضوره المادي الصلب والفظ والافتراسي. بالمقابل تحضر الحرية كنقيض للسجن بكامل زينتها ورهافاتها وظلالها وشموسها وأقمارها. السجن والحرية هما صورة الحجر والورة، وصورة الانتقام والغفران، وصورة الذكورة البهيمية والأنوثة المعلِّمة، وباختصار هما صورة  الموت والحياة. وعلى الشاعر أن يوازن نفسه فوق هذا الصراط”.

وفي الخارج لم يستعد فرج الحرية فحسب، حرية الكائن والكاتب معاً، بل تعرف إلى فرج الآخر بلا قيود، الشاعر طليق الجناحين.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى