شعر

قصائد جيدة للأوقات العصيبة.. مختارات من شعراء أميركيين وأوروبيين

صدر للكاتب الأميركي والإذاعي المعروف، غاريسون كيلور، عن دار بينغوين، كتابان ضخمان اختار فيهما قصائد عدد من كبار الشعراء الأميركيين والأوروبيين. يحمل الأول عنوان “قصائد جيدة”، والثاني عنوان “قصائد جيدة للأوقات العصيبة”. واخترنا منها عددًا من القصائد.

   كتابا “قصائد جيدة” و”قصائد جيدة للأوقات العصيبة” لمعدِّه غاريسون كيلور               

يذكر معد المختارات في مقدمة الكتاب كيف أن الغاية من الشعر هي مدّ القارئ بالمتعة، وبالروح المعنوية والشجاعة، فالقصيدة ليست أحجية عليه أن يحلها، إنما الغرض منها أن تحفزه، وترفع معنوياتِه، وتلفت انتباهه وتنهض به وتجعله يتألق نابضًا بالحياة، ويقبض على زمام أموره، إذ أن أهمية الشعر تكمن في أنه يفعل فعل تعويذة لها مفعول إعجازي تُبرز جمال وجاذبية وطلاوة العالم المألوف. وفي بعض الأحيان، حين تغدو الحياة شبه مستحيلة، فإن القصيدة تكون خير معين، لأنها تلمس المشترك في حياة البشر، ولكونها مصنوعة من عَظَمةٍ متاحة للإنسان الذي لا يملك ثروة، لكنَّ لديه مكانًا يسير إليه، وأذنين يسمع بهما، وعقلًا ينقله إلى حيث يشاء، إنسانًا قد يكون مهزومًا في ما يتعلق بالحب والمال، غير أن العالم بكل ما ينطوي عليه من جمال وأسرار ما يزال ملكًا له.

                                                                           (مها عطفة)

غالوي كينيل (1927 ــ 2014): شاعر أميركي حاصل على جائزة بوليتزر للشعر.

استراحة اليوم

يُضيءُ المصباحَ، يُشعل

لفافة تبغٍ، يخرج إلى الرواق،

ينشر قطعة خشب خضراء إلى قطع متساوية

ويطرحها في الموقد،

يصبّ الكيروسين، ويرمي عليه عود الثقاب

الذي أشعل به لفافة تبغ أخرى،

يرجع القهقرى بينما ترتعش خطوط الصفيح المعدني الطويلة الصدئة

التي تكسوها خيوط من زيت القطران،

لكنها بالكاد تقدر أن تتحكم بصوت طقطقة النار في الموقد

وهو يمتص الهباب عبر الثغرات في قاعه

فيتأجج وهج النار متطايرًا

من الشقوق المتفحمة في أعلاه

ليضرب بسقف الرواق ثم يرتقي إلى الخارج نحو

السماء المرصعة بالنجوم الساكنة التي تأخذ بالتألق،

يجلس وأمامه صحن من رقائق البسكويت المملحة وكأس من الحليب المزرق

تظهر عليها وتختفي انعكاسات مصباح السقف الذي تبلغ طاقته الأربعين واطًا،

يأكل وهو يتأمل جوًا يعبق برائحة الكيروسن النتنة،

ودخان المنشار والتبغ وحرارة الخشب

وبريق مصباح السقف الذي تبلغ طاقته الأربعين واطًا

وهو يتراقص على الحليب المزرق.

ريموند كارفر (1938 ـ 1988): يعد من بين أعظم كتاب أميركا في الشعر والقصة القصيرة.

غبطة

الوقت باكر جدًا، وما تزال ثمة عتمة في الخارج

أنا بمحاذاة النافذة ومعي القهوة،

وما يخطر في البال

من أشياء الصباح الباكر المعتادة.

لمّا رأيت الصبي وصديقة

يمشيان على الطريق

يوزعان الجرائد،

وقد اعتمرا قبعتيهما وسترتيهما.

أحدهما يحمل كيسًا على كتفه.

يعلوهما سرور

هذان الصبيان لم يكونا يتبادلان الحديث،

وأظن أنه لو كان بوسعهما سيمسكان بيدي بعضهما.

إنهما يقومان بهذا العمل

في وقت مبكر من الصباح،

يتقدمان على مهلهما.

تتشرب السماء الضوء،مع

أن القمر الشاحب ما يزال معلقًا فوق المياه.

فيضُ جمال تخال للحظة أنه لا يداخله

موت، أو طموح، أو حب.

غبطة، تحل بغتةً،

تتجاوز حقًا أي كلامٍ عنها في صبيحة يوم باكر.

تشارلز بوكوفسكي (1920 ـ 1994): شاعر وروائي أميركي من أصل ألماني.

الوظيفة الخادعة

اندلعت الحرب البرية اليوم

فجرًا

في أرض صحراوية

بعيدة عن هنا.

كانت معظم القوات البرية الأميركية

من الزنوج والمكسيكيين والفقراء البيض

الذين التحق معظمهم بالجيش

لأنه العمل الوحيد

الذي استطاعوا تأمينه.

اندلعت الحرب البرية اليوم

فجرًا

في أرض صحراوية

بعيدة عن هنا

وأُرسل الزنوج والمكسيكيون والفقراء البيض

ليقاتلوا وينتصروا

كما أخبرنا عن الأمر برمته في البداية

مذيعو الأخبار البيض الأثرياء

في التلفاز والمذياع

وبعدها أخبرنا

المحللون البيض الأثرياء

عن السبب

مرة تلو الأخرى

على كل محطات التلفزيون والإذاعة

وعلى مرّ الدقائق تقريبًا

ليلًا نهارًا

والسبب هو أنهم أرسلوا

الزنوج والمكسيكيين والفقراء من البيض

كي يقاتلوا وينتصروا

فجرًا

في أرض صحراوية

بعيدة بما فيه الكفاية

عن هنا.

فرانسيس كورنفورد (1886 ـ 1960): شاعرة بريطانية اشتُهرت بقصيدتها الكوميدية: إلى سيدة بدينة تُرى من قطار.

نشيد عن مهمة الأبوين

قصية وحكيمة أرواح الأبناء

يجب أن يتحرروا

كالسمك في البحر

أو الزرزور في السماء

بينما تبقى أنت

الشاطئَ الذي إليه يؤوبون من جديد بين حين وآخر.

لكن عندما يهبط عليهم ظلّ الخوف زاحفًا،

عليك فورًا أن تكون بقربهم،

عليك أنت المزعزع، أن تصبح شجرة

تتدلى من ارتفاعاتها الشاهقة الخضراء المزهرة

جميع الفاكهة النامية، بأجراسها الفضية؛

حيث تُرى الطيور السحرية التي تخلب الألباب

وكل الأشياء التي تحكي عنها الجنيات؛

مع ذلك يجب أن يكون لك جذورٌ

تضرب موغلةً في الأرض المعهودة،

ولحاء مواساة متين

كي تحب وتربت.

أخيرًا، وإذ يحل المساء

ويرقد على المخدة رأس يحدق عاليًا

بعينين قدسيّتين ثملتين

مسمّرتين عليك،

حين تمعن في الولادة من ورائهما أسئلةٌ،

عن كل الأشياء التي سبق وأخبرته بها

عن الشموس والأفاعي ومتوازي الأضلاع والذباب،

وعما إن كانت حقيقةً،

عندها ولوهلة لن تحتاج لأن تكون

الشاطئ الذي يلجأون إليه

أو الشجرة الأسطورية التي تترامى أغصانها بأمان،

لا، حينها عليك أن تلبس ثوب سليمان،

أو أن تكون ببساطة

السيد إسحاق نيوتن

جالسًا على السرير.

جين ماري بومونت (1954-  ): شاعرة أميركية حاصلة على العديد من الجوائز، منها جائزة الشعر الوطنية عام 1996.

أخشى ذلك

هل بدأت تمطر؟

هل تمّ ارتجاع الشيك؟

هل نفدت القهوة لدينا؟

هل هذا سيؤلم؟

هل من الممكن أن تخسر عملك؟

هل انكسر الكأس؟

هل ضاعت حقيبة الأمتعة؟

هل سيُذكر هذا في سجلي؟

هل فقدتَ الكثير من المال؟

هل تأذى أحد؟

هل هناك ازدحام شديد؟

هل عليّ أن أنزع ملابسي؟

هل سيترك ندبة؟

هل يجب أن تذهب؟

هل سيُنشر هذا في الجرائد؟

هل حان وقت انصرافي؟

هل سنقابل البديل؟

هل سيؤثر ذلك على نظري؟هل اح

ترقت الكتب برمتها؟

هل ما زلت تدخن؟

هل العظم مكسور؟

هل عليّ أن أقتله قتلًا رحيمًا؟

هل السيارة غير قابلة للإصلاح؟

هل أنا مدان بهذه التهم؟

هل مرضكَ معدٍ؟

هل علينا أن ننتظر طويلًا؟

هل هناك جليد على مدرج المطار؟

هل كانت البندقية محشوة؟

هل ستنتج عن هذا أضرار جانبية؟

هل تعرف من الذي خانك؟

هل الجرح ملوّث؟

هل نحن ضائعون؟

ريتشارد سيسيل (1944 – ): شاعر أميركي حصل على جائزة كراب أورتشارد عام 1988.

المنفى الداخلي

رغم أن قاضي الحاجة حكم على معظم الناس الذين أعرفهم

منذ سنوات مضت

بالعيش في شقق سكنية قرب مفرق الطريق السريع

المواتي لتنقلهم مرتين في اليوم

عبر الازدحام المروري إلى العمل الذي يبغضونه،

لم يدفنوا رؤوسهم بين أيديهم

ويبكوا “آه، كلا” حين تمّ النطق بالحكم:

أربعون عامًا في دولوث!

أو فترة حكم في جنوب غرب ولاية ميسوري!

وبدلًا من ذلك، حين رافقهم المأمور المدعوّ قَدَر إلى الموظفين

كي يملؤوا استمارات الأجور

ويأخذوا نسخة سريعة عن صورهم المتبسمة في الهوية،

تمتموا، ليس الأمر سيئًا. كان من الممكن أن يكون أسوأ.

هذا هو الشيء الذي ما يزالون يتمتمون به كل صباح

قبيل أن يسكت رنين المنبه

عندما يداعبهم حيوانهم الأليف فلافي([1]) ويوقظهم من أحلامهم

وهم يقبلون قبلةً طويلة نجمًا من نجوم السينما على الشواطئ.

ينهضون في الخامسة صباحًا، يطعمون قططهم،

يقودون السيارة إلى العمل، يعملون ثم يقفلون عائدين إلى بيوتهم،

يطعمون قططهم، يأكلون

وتخطفهم الغفوة بينما يشاهدون الكوارث الطازجة لأخبار المساء

الأجساد المفجّرة المرمية في صحراء

التي تقاتلوا عليها على مدى ثلاثة آلاف سنة خلت،

والبيوت التي بقيمة مليون دولار التي غدت حطامًا

بعد أن اجتاحتها الأعاصير.

من المريح أن تشاهد الأخبار عن أماكن

حيث الناس يتوقون للعيش فيها

حين تحيا في مكان يخلو من الجاذبية

لا جبال فيه، لا ساحل ولا تاريخ، مثل هذا المكان،

حيث يعيش كثيرون لكن بلا طموح.

“مكان عظيم للعمل، لا شيء فيه يلهيك عنه”

بهذه الكلمات وصفَه من البداية منذ تسعة عشر عامًا

الشخصُ الذي أجرى المقابلة وتعاقد معي.

ومع أنه انتقل في اليوم الذي تقاعد فيه

إلى بيت أحلامه ذي الإطلالة على النجود،

غير أنه ما كذَب

ففي هذا المكان،

خيرٌ لك وأسهل أن تعملَ من أن تحاولَ أن تستمتع.

هل هذا هو الحال عندك حيث أنت عالق أيضًا؟

ليزيل مولر (1924 –   ): شاعرة أميركية من أصل ألماني حاصلة على العديد من الجوائز منها جائز بوليتزر للشعر.

الأشياء

ما حدث هو أننا أمسينا وحيدين

ونحن نعيش بين الأشياء،

لذا منحنا الساعة وجهًا،

الكرسيّ ظهرًا،

والطاولةَ أربعة قوائم قوية

لن تعرف طعمًا للتعب أبدًا.

أعطينا أحذيتا ألسنة

ناعمة كألسنتنا

وعلقنا ألسنة داخل الأجراس

كي نقدر أن نسمع

لغتها المشحونة بالعواطف،

ولأننا عشقنا الصور البهية

صارت للإبريق شفةٌ،

وللزجاجة عنق طويل نحيل.

حتى ما يتعدّى طاقتنا

أعدنا تشكيله على صورتنا؛

فمنحنا البلدَ قلبًا،

العاصفةَ عينًا،

والكهف فمًا

كي نقدر على بلوغ الأمان.

نويل كوارد (1899 ـ 1973): كاتب مسرحي وممثل وملحن ومغن بريطاني.

لا شيء مفقودًا

قالوا لنا إنه في أغوار لاوعينا

تكمن كل ذكرياتنا، تكمن جميع العلامات الموسيقية

لكل الألحان التي سبق وسمعناها

وكل الجمل التي قالها أولئك الذين أحببناهم،

الأحزان والخسائر التي سرّى بها عنا الزمن،

نكاتُ العائلة، الحكايات القديمة

كل ما تلقيناه من هدايا وتذكارات

كل ما شوهد واختُبر، وكل كلمة

قيلت لنا في طفولتنا،

قبل أن نعرف، أصلًا، أو نفهم

مضامين أرض العجائب حيث نحن.

كلها موجودة هناك، الأكاذيب الأسطورية

هدايا عيد الميلاد، المناظر، الأصوات، الدموع

الأطلال المنسية للسنوات المنسية

تنتظر من يستحضرها، من ينتشلها

قبل أن ينحل عالمنا أمام عيوننا

تنتظر شيئًا صغيرًا وحميمًا يذكر بها

كلمةً، لحنًا، طِيبًا مألوفًا معروفًا

صدى من الماضي

حيث، بريئين،

كنا ننظر إلى الحاضر بسرور

ولم يساورنا شك بأن المستقبل سيكون أبهى

ولم نعرف قط وحدةَ الليل.

إدوارد فيلد (1924 –   ): شاعر أميركي حاصل على جائزة لامونت الشعرية.

قناع الموت

(1)

ما أراه الآن في المرآة

يذكرني

بأني لن أكون هنا للأبد

لا أشعر إطلاقًا

بأنني ذاك الوجه.

في داخله، أحتج،

أنا مختلف تمامًا.

إنه جَدّ أحد ما،

لست أنا.

جدّ من هذا؟

أنا لا أريده.

(2)

آه، يا أيتها الذاكرة، أيتها الذاكرة

كم هو مريع

أن يفقد المرء الكلمات.

(3)

كيف تذهب من هنا إلى هناك

أقصد، من حيث أنا موجود

إلى دار التمريض؟

بطقة إصبعَين،

بغمضة عين.

كما قالت أمي،

حين نقلوها إلى سيارة الإسعاف،

انقضت بسرعة فائقة.

(4)

الحياة

طنين خمول

ثم

لسعة سريعة

نفس طويل إلى الداخل

ثم

زفرة مباغتة.

ويليام ستانلي ميروين (1927 – 2019): شاعر أميركي له أكثر من خمسين ديوانًا شعريًا، معروف عنه عدم استعماله علامات الترقيم، وقد منح جائزة بوليتزر للشعر عام 1971.

للتوّ

في الصباح حين تنجلي العاصفةُ

يبين صفاء السماء للحظة ويبدو لي

أن ثمة شيئًا هناك أبسط مما كنت

أظنه

أبسط من أن أعثر له على كلمات

لا هو متريث ولا حتى في حالة انتظار

كما أنه ليس أشدّ خفاءً من الهواء ذاته

بحيث أمسى لوهلة جزءًا مني

وبقي معي مع كل نفس من دون أن ألحظه

ثمة شيء مجهول لا اسم له

كان هنا في النهارات والليالي ليس منفصلًا عنها

ليس منفصلًا عنها لمّا أتت ومضت

لا بدّ أنه لم يكن هنا باكرًا ولا متأخرًا

فبأي اسم أخاطبه الآن كي أعبر له عن امتناني.

ماري أوليفر (1935 – 2019): شاعرة أميركية حاصلة على جائزة بوليتزر للشعر، وهي الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة الأميركية، حسب النيويورك تايمز.

ساعة يحضر الموت

ساعة يحضر الموت

كالدب وقد عضه الجوع في الخريف؛

ساعة يحضر الموت ويُخرج من محفظته البرّاقَ من نقوده

كي يشتريني بها ثم يغلقها برمشة عين؛

ساعة يحضر الموت

كالجدري؛

كجبل جليدي بين لوحي الكتف

أريد أن أخطو من الباب متسائلة يملؤني الفضول:

كيف سيكون حال مسكن الظلام ذاك؟

وبالتالي أنظر إلى كل شيء

نظرةً أخوية،

وأنظر إلى الوقت على أنه ليس أكثر من مجرد فكرة،

وأعتبر الخلود إمكانية أخرى،

وأفكر في كل حياةٍ على أنها زهرة،

شائعةٌ وفريدة كحقل أقحوان،

وفي كل اسم على أنه موسيقى هادئة في الفم،

تميل، كحال أيّ موسيقى، نحو الصمت،

وفي كل جسد على أنه أسد الشجاعة،

وشيء نفيس للأرض.

وحين ينتهي العمر، أريد أن أقول: طيلة حياتي

كنت طائرًا اقترن بالدهشة

عريسًا، عانق العالم بذراعيه.

حين ينتهي العمر،

لا أريد أن أتساءل ما إذا جعلت من حياتي أمرًا فارقًا وحقيقيًا.

لا أريد أن أتنهد خائفًا،

أو مترعًا بالمماحكات.

لا أريد أن ينتهي بي الأمر على أني زرت هذا العالم وحسب.

(1) فلافي: اسم شائع للحيوانات الأليفة، وبخاصة الكلاب.

ترجمتها عن الإنكليزية: مها عطفة.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى