وجها لوجه

محمد علي الأتاسي: لم ننتج يوما فيلما يخص جمهورا غربيا

من المنفى في بيروت، “بدايات” سينمائية

تتحاور مايا أبيض وإنريكو دي انجيليس مع محمد علي الأتاسي، الصحافي وصانع الأفلام الوثائقية الذي أسّس بالاشتراك مع بعض زملائه وزميلاته في العام ٢٠١٣ مؤسسة “بدايات للفنون  السمعية البصرية” التي يتطرق لها هذا الحوار، عبر أسئلة كثيرة، تتمحور حول موقعها في الموجة الجديدة للسينما السورية، وعما إذا كان هناك “سينما وطنية” لصناعة أفلام مشتتة ومنتشرة عبر الحدود كما السوريين أنفسهم؟ دون أن تنسى الجمهور والعملية الإنتاجية ومصاعب العمل، إضافة إلى مواضيع أخرى.

17 تموز 2020

(محمد علي الأتاسي: لا شك أن أنظار العالم لم تعد تلتفت بقوة للمأساة السورية، بفعل الزمن والتعوّد على الأهوال (يالهول العبارة!). وهذا انعكس بالضرورة على نقص فادح في التمويل، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالعمل الثقافي والسينمائي)

(تم نشر هذا اللقاء بالشراكة بين موقع حكاية ما انحكت وأوبن ديموكراسي قسم شمال افريقيا وغرب أسيا، في محاولة لاستكشاف السينما السورية الصاعدة بعد ٢٠١١، سياستها، تحدياتها الإنتاجية، رقاباتها، متابعتها وأفقها. في هذه السلسلة السينمائية، عاينا صناعة الأفلام السورية من خلال عيون مخرجيها السوريين، الصحافيين والأكاديميين)

تتحاور مايا أبيض وإنريكو دي انجيليس مع محمد علي الأتاسي، الصحافي وصانع الأفلام الوثائقية الذي أسّس بالاشتراك مع بعض زملائه وزميلاته في العام ٢٠١٣ بدايات للفنون  السمعية البصرية”، وهي شركة مدنية للإنتاج والتدريب السينمائي مقرها في بيروت.

أنتجت “بدايات” منذ ذلك الوقت عشرات الأفلام الوثائقية والقصيرة التجريبية، التي تتمحور إجمالا حول تجارب السوريين في الحرب والمنفى. أين وجدت بدايات بدايتها؟ وما هو موقعها في الموجة الجديدة للسينما السورية؟ هل من الممكن أن يكون هناك “سينما وطنية” لصناعة أفلام مشتتة ومنتشرة عبر الحدود كما السوريين أنفسهم؟

س: مؤسسة “بدايات” هي أحد الفاعلين الأساسيين وراء موجة الأفلام السورية التي ظهرت بعد الثورة. من حيث الإنتاج. هل تعتقد أن هناك قواسم مشتركة بين كل أفلامكم؟

حاولت بدايات منذ تأسيسها مواكبة الجيل الشاب من السينمائيين والسينمائيات في بداية مشوارهم في مجال السينما الوثائقية والتجريبية. ومن هنا أتت تسمية بدايات. وفيما عدا بعض المحاذير المهنية والأخلاقية التي حاولنا أن نحترمها وندفع باتجاهها في برامج تدريبنا وفي إنتاجنا، لا أعتقد أنه سيكون من الإنصاف أن نعمد إلى محاولة وضع تصنيفات وقواسم مشتركة للأفلام والمخرجين والمخرجات الذين تعاونت معهم بدايات. ليس فقط لأن لكل مخرج ومخرجة منهم، ذاتيته وأسلوبه ووجهة نظر المؤلف الخاصة به، ولكن لأننا أساسا لسنا مجموعة متجانسة تتوّحد حول رؤية فنية واحدة. قد يكون هناك قواسم مشتركة بين المخرجين والمخرجات الذين تعاونوا مع بدايات، سواء لجهة الانتماء الجيلي أو الرؤية والممارسات الفنية أو المواقف السياسية تجاه ما يحدث في سورية، وعلى النقاد والباحثين محاولة استخراجها والتعرف عليها. لكن هذا بالتأكيد ليس دورنا ولا مهمتنا، وإلا فإننا سنعطي لأنفسنا الحق بالتكلم باسم الآخرين ومحاولة تصنيفهم وفي هذا سيكون هناك الكثير من التبجح والادعاء.

س: هل من الممكن أن تصف لنا خطوات عملية الإنتاج الرئيسية لدى بدايات؟ الاسم يوحي بالتوجه إلى صانعي الأفلام الجدد، هل لا زال هذا هو التوجه أم أنكم طوّرتم شبكة من صانعي الأفلام الذين تعملون معهم غالبا؟

تأسست “بدايات” في نهاية العام ٢٠١٣ في لبنان كشركة مدنية لمواكبة الجيل الشاب، اللبناني والفلسطيني، والسوري تحديدا، في خطواته الأولى في مجالي التدريب والإنتاج في سياق السينما الوثائقية والتجريبية. وغالبا ما حاولنا أن يكون الإنتاج في خدمة التدريب وليس العكس، وتجنبنا أن نعمل كشركة إنتاج تقليدية، لكن في ذات الوقت حاولنا أن نحافظ على سوية فنية تليق بطموحات الجيل الشاب السينمائية.

أما شبكة المخرجين والمخرجات الذين تعاونت معهم بدايات، فاقتصرت مواكبتهم على أفلامهم الأولى فقط. مع ذلك، فإنّ خياراتنا لم تكن دائما موضوعية، وبقيت محصورة للأسف بظروف تواجدنا المكاني في بيروت وبدائرة المستفيدين من دورات التدريب وبشبكة علاقتنا والقيود التي يفرضها عملنا في بيئة قانونية وأمنية غاية في الصعوبة.

س: برأيك هل يمكننا القول أنه اليوم بات من الأصعب الحصول على تمويل للأفلام السورية؟ هل هناك إنهاك عالمي من سوريا؟

لا شك أن أنظار العالم لم تعد تلتفت بقوة للمأساة السورية، بفعل الزمن والتعوّد على الأهوال (يالهول العبارة!) وبسبب ظروف أخرى لا يتسع المجال هنا لشرحها. وهذا انعكس بالضرورة على نقص فادح في التمويل، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالعمل الثقافي والسينمائي.

نحن اليوم مثلا في “بدايات” لم نعد نحصل على أي تمويل من أي جهة مانحة. ونحاول أن نكمل بالقليل الذي نوفره من تمويل من خلال منح إنتاج الأفلام التي ننتجها أو نشارك في إنتاجها. ولست أدري إلى متى يمكننا الاستمرار على هذه الحال، هذا في حال قررنا الاستمرار!

لقد ارتبطت ظروف نشأتنا في بيروت غداة اندلاع الثورة السورية، بكون هذه المدينة شكلت ممرا وملتقى للشابات والشباب السوريين والفلسطينيين الناشطين في الثورة من جهة، والمنخرطين في الممارسات الفنية والبصرية والسينمائية التي رافقتها. وحاولنا منذ البداية العمل معهم وتشجيع تفاعلهم مع نظرائهم اللبنانيين واللبنانيات. لقد ظنّ معظمهم في البداية أنّ بيروت هي محطة مؤقتة في انتظار عودتهم إلى سورية الحرة، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أنّ رحلتهم هذه ستطول، وأنّ لبنان بسبب قيود الإقامة والعمل ليس المكان الأمثل لهم للعيش الكريم والعمل المبدع، فغادر معظم من سنحت له الفرصة باتجاه أوروبا في رحلة لجوء طويلة بلا عودة قريبة. فخسرت الحياة الثقافية في بيروت مواهب شابة كان من الممكن لها أن تضخ طاقات هائلة في شرايين المدينة الثقافية. وخسرنا في “بدايات” أهم مقوّم من مقومات وجودنا، هذا عدا عن أنّ استقدام مشاركين لورشات التدريب من داخل سورية إلى بيروت بات صعبا للغاية، إن لم يكن مستحيلا.  وهذا بحد ذاته يستدعي مساحة تأمل وتفكير طويلة، لنقرّر بعدها جدوى الاستمرار من عدمه.

س: هل ترى أن هذه الأفلام تشكل سينما وطنية سورية جديدة، كما تسميها رشا السلطي، أم هي إنتاجات متفرقة لصناع أفلام أفراد؟

بالتأكيد هناك سينما سورية جديدة، كما هناك موسيقا جديدة ورواية جديدة وفن تشكيلي جديد. هذ هي الحياة وهذا هو منطقها. لكنني أفضل استبعاد كلمة “وطنية” وتسميتها ربما موجة سينمائية جديدة ترتبط بأجيال شابة وبأدوات وممارسات سينمائية مغايرة، وبظروف سياسية واجتماعية مختلفة كليا، وتميل هذه الموجة بشدة نحو الأفلام الوثائقية الإبداعية وسينما المؤلف والسينما التجريبية.

في المقابل وجود سينما سورية “وطنية” جديدة، فهذا معناه وجود مؤسسات وبلد. هذا معناه وجود شعب لا يزال يعيش داخل حدود بلده. هذا معناه وجود مؤسسات تعليم وطنية وشركات إنتاج وقوانين مرعية. هذا معناه وجود فضاءات مشتركة وأمكنة للالتقاء والاختلاف، لا للتخوين والقتل.

س: هل ترى انقطاعا واضحا بين السينما السورية قبل وبعد ٢٠١١؟

من وجهة نظري، يجب العودة في التاريخ قليلا إلى الوراء، لتلمّس بداية تشكّل الموجة السينمائية السورية الجديدة. فمع بداية الألفية الثانية ودخول تقنية الفيديو الديجيتال وانتشارها بشكل واسع، تقلّصت كثيرا كلفة إنتاج الفيلم السينمائي الوثائقي وأصبح في متناول دوائر أوسع، وسمح ذلك للعديد من الشباب والشابات بتقديم تجارب سينمائية لافتة، خصوصا في مجال الفيلم الوثائقي، من خارج المظلة الرسمية للمؤسسة العامة للسينما. ومع اندلاع الثورة السورية في ٢٠١١ وانخراط جيل جديد من الناشطين والمصوّرين الصحافيين والمخرجين والمخرجات الشباب، في تغطية أحداث وآمال ومآسي الثورة السورية، خلقت فسحة واسعة من الحرية والتمرد والإبداع، رافقها ولادة لغة سينمائية جديدة وطرق مغايرة في التصوير والتعبير السينمائي، بعيدا عن المؤسسة العامة للسينما وعن صناعة الأفلام الروائية وتكاليفها الباهظة. وبدأنا نشاهد تشكّل ملامح موجة سينمائية جديدة وشابة، ابتعدت عن منطق التغطية الصحفية السريعة والريبورتاج التلفزيوني، وعبّرت عن نفسها وعن واقعها من خلال الأفلام الوثائقية الإبداعية التي تعطي فسحة أوسع للتأمل والتعبير السينمائي وتحمل بصمات ووجهة نظر مخرجيها ومخرجاتها.

س: كيف ترى مشكلة وصول الكثير من السوريين الى هذه الإنتاجات؟ هي تتنقل بشكل رئيسي بين المهرجانات والعروض المتخصصة، نادرا ما تتوفر على الأنترنت ولا توزيع تجاري لها بالطبع. النتيجة هي أن الكثير من السوريين لا يمكنهم مشاهدة هذه الأفلام. هل هذا واقع لا مناص منه؟ كيف يؤثر ذلك على إنتاج الأفلام بحد ذاته؟ هل من الممكن أن تتطور سينما سورية حقيقية إذا استمرت بتوجيه خطابها (بشكل رئيسي) إلى الآخرين؟

ليس صحيحا أن الأفلام السورية لم تصل إلى جمهورها. أساسا الكثير من هذه الأفلام عرض في فضائيات عربية أو تلفزيونات سورية معارضة أو تم نشره أونلاين. ربما أنتما تتكلمان عن بعض الأفلام التي أنتجتها شركات عالمية ضخمة واشترت حقوق عروضها شركات تلفزيونية غربية، لكن حتى هذه فقد تم “قرصنتها” ووضعها أونلاين وتمت مشاهدتها من قبل السوريين. طبعا هذا لا يمنع أن من حق مخرجي الأفلام الوثائقية في منطقتنا، كنظرائهم في العالم، أن ينالوا حقهم في مشاركة أفلامهم في دورات المهرجانات العالمية، قبل أن تبث على التلفزيونات أو على الأنترنيت.

س: كيف يستخدم ويستفيد الجمهور الأجنبي من مشاهدته للسينما السورية ليتعرف على الواقع في سوريا، في مقابل ما يقدمه باقي الإنتاج الإعلامي؟ وهل لعبت ظاهرة الأفلام الجديدة دورا في هذا السياق؟ (واضعة باعتبارها حاجة الجمهور الأجنبي للمعرفة/ كيف تتحمل مسؤولية تقديم القصص التي ترويها؟).

برأي ليس هناك ما تسمياه “جمهور أجنبي”، ولو افترضنا جزافا أنه موجود فهو بالتأكيد ليس واحدا موّحدا لتتوّجه إليه هذه الأفلام، فالجمهور التركي مثلا يختلف عن الجمهور الأميركي أو الجمهور الألماني. القضية في النهاية هي قضية توزيع وانتشار وسياسات بث، وهي تختلف من بلد الى آخر ومن فيلم الى آخر. أما بخصوص الأفلام السورية، فهي متنوعة ومختلفة، ليس فقط بمخرجيها ومواضيعها ومنتجيها، ولكن ببلد الإنتاج وسياسات الموزعين في حال وجودت، من هنا أنا لا أعتقد انه يمكن وضع كل هذه الأفلام ضمن سلة واحدة.

س: مسؤولية تقديم رواية ما حدث في سوريا ينظر إليها بعض المخرجين الذين تحدثنا اليهم كعمل أرشيفي تأريخي. ما هو موقف بدايات من ذلك؟ كم من المرونة لدى بدايات في تقبّل السرديات المختلفة وأين ترسمون الحدود لذلك كمنتجين؟

بخصوص “بدايات”، لا أعتقد ان دورها أن تأخذ مواقف بخصوص التأريخ والسرديات. الأفلام بالنهاية تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها ومخرجيها، و”بدايات” أنتجت أفلام تحمل سرديات مختلفة ومتعارضة أحيانا وفقا لاختلاف رؤية مخرجيها. والشيء الوحيد الذي حرصت “بدايات” على تجنبه هو إنتاج أفلام تتواطأ مع سردية مجرمي الحرب وتتعامى عن جرائمهم.

(محمد علي الأتاسي: برأي ليس هناك “جمهور أجنبي”، ولو افترضنا جزافا أنه موجود فهو بالتأكيد ليس واحدا موّحدا لتتوّجه إليه هذه الأفلام، فالجمهور التركي مثلا يختلف عن الجمهور الأميركي أو الجمهور الألماني)

س: كيف تختلف تجربة المشاهدة بين جمهور سوري وأجنبي؟ كيف يؤثر ذلك على عملية صناعة الفيلم بالنسبة للمخرج؟ كيف يؤثر على عملية التمويل والتوزيع بالنسبة للمنتج؟

أعتقد أن مهمة كل مخرج أن يكون، بداية، صادقا مع نفسه ومع حكايته الخاصة وصوته الداخلي. أما سؤال الجمهور المستهدف وعلاقة ذلك بالتمويل، فأعتقد أن الوصول إلى أوسع جمهور، بمعزل عن هوية هذا الجمهور، هو هدف مشروع لأي مخرج ولأي منتج.

أما بخصوص “بدايات” فإننا لم ننتج يوما فيلما يخص جمهور غربي محدد أو يستجيب لتوجهات أو طلبات مفترضة للممولين محددين. لقد كان همنا الأساسي وهم المخرجين الذين تعاونا معهم هو مخاطبة جمهورهم السوري والعربي، ولكن الهدف كذلك كان الوصول الى أوسع جمهور إذا أمكن لنا ذلك.

س: خلال حديثنا مع سينمائيين أخرين، وجدنا أن القضايا المرتبطة بالعلاقة المعقدة بين السينما الوثائقية وجمهورها في بلد المنشأ ليس ظاهرة سورية خاصة. ربما ما يميّز السينما السورية في هذا المجال ويزيد من الانقطاع وعدم التواصل بين الجمهور في البلد الأصلي والأفلام، هو حالة المنفى التي يعيشها الكثير من صناع الأفلام السوريين والسوريات، ما رأيك بذلك؟

لا أعتقد أنني أملك إجابة عن هكذا سؤال. كل ما أستطيع قوله أن هناك اليوم العديد من المخرجات والمخرجين السوريين الذين يعيشون في أوروبا ويحاولون بناء حياة جديدة في منفى يبدو أنه سيطول. وعلينا أن ننتظر لنرى كيف سينعكس هذا على أعمالهم في المستقبل، هل سيظل الجرح السوري حاضرا فيها بقوة؟ وهل ستندرج أعمالهم ضمن السينما السورية الجديدة؟ أم أنها ستنتمي أكثر لواقع ومشاكل البلدان التي لجؤوا إليها؟

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى