أبحاث

مقالات مختارة تناولت فشل المعارضة السورية

===============================

—————————————-

ما رح يوصل حدا”/ ميشيل كيلو

يبدو جانبا الصراع السوري وكأنهما ينزلقان على منحدر يزداد تسارع سقوطهما عليه نحو قاعه، مع ملاحظة أن الجانب الأسدي يستميت كي لا يسبق المعارضة إليه، بينما تقوم من جانبها بكل ما هو ضروري لبلوغه قبله، ولإقناع من يمسكون دوليا وإقليميا بخيوطها وخيوطه بضرورة الاستهانة بها، وإخراجها من حساباتهم، ولو لم يكن هذا أحد أهدافها لما سكتت عن تحويل عدد كبير ممن حملوا السلاح باسمها إلى مرتزقةٍ تركوا شعبهم الغارق في دمائه، وذهبوا إلى ليبيا ليقتتلوا كأعداء، على جانبي الحرب الدائرة هناك.

حدث هذا، من دون أن ينبس ائتلاف قوى الثورة والمعارضة ببنت شفة، أو يتخذ موقفا من الواقعة التي تقنع العالم بصحة ما تقوله روسيا والأسدية عن “الثورة” إرهابا لا علاقة له بسورية وشعبها، يخدم مصالح إقليمية وضع بيضه كله في سلتها، وصار جهازا من أجهزتها، أسوة بالأسدية التي تحولت إلى جهةٍ يتصارع الإيرانيون والروس عليها، وستلفظ لفظ النواة بمجرّد أن يحسم صراعهما، باتفاق بينهما، أو بانتصار أحدهما على الآخر، فهل يستحق الشعب السوري مثل هذا المصير، هنا عند “الائتلاف” وهناك عند السلطة؟ وهل يمثل الطرفان، ولو من بعيد جدا، شعبا تخليا عن الحد الأدنى من مصالحه، وكرامته الوطنية وحريته، وأخذا يتنافسان على إهانته، سواء من خلال الانتخابات التي يعتزم الأسد إجراءها لتعيين أعضاء” مجلس التصفيق” الجديد، أم عبر انتخابات “الائتلاف” التي جرت أخيرا، وتم خلالها تبادل موقعه القيادي بدل تداوله، وما أدت إليه هذه الإهانة من توطيد غربته عن الشعب السوري، التي عزّزتها سابقةٌ لا مثيل لها حتى في السياسات الأسدية، أدانها 93% من 1500 سوري استفتاهم موقع “زمان الوصل” حول هويتها البوتينية التي أحلّت رئيس “الائتلاف” محل رئيس هيئة التفاوض، ورئيس هيئة التفاوض محل رئيس “الائتلاف”، بأمر إقليمي خال من انصاعوا له أنه يمكنهم تغطيته بمسرحيتهم الانتخابية، وتجاهلوا ما فيه من استهتارٍ بعقول السوريين، لتوهمهم أن هؤلاء سيعتبرون مسرحيتهم شرعية وسيقبلون نتائجها، لمجرّد أن مجرياتها تمت بطريقة أسدية، وتكرّر فيها ما عرفته انتخابات “مجلس التصفيق” الذي تولى رئاسته من نالوا أقل الأصوات، ممن لم يجد رئيس الائتلاف الجديد حرجا في تقليدهم، وقبل أن يصير رئيسا بأدنى عدد من الأصوات التي نالها أي عضو في الهيئة الرئاسية.

كيف بربكم يصير من نال أقل قدر من “الثقة” رئيسا لمؤسسة ادعت دوما أن الديمقراطية رهانها؟ وبأية معايير شرعية يقبل تولي منصب يفترض أن يصل إليه من ينال أكبر قدر من الثقة والتأييد؟ وكيف لا يستقيل إن كان انتخابه تم تلبيةً لتدخل خارجي تعني استقلالية الائتلاف رفضه المطلق، وإلا عبر انتخابه عن غيابها وعمقه، على الرغم من أنها قضية القضايا في الظرف الراهن، وأن لاستعادتها أولوية مطلقة على أي أمرٍ سواها، بعد أن لعب تغييبها دورا حاسما في ضياع قبول “الائتلاف” وتمثيله سورياً، وأسهم في ضياع تمثيله الخارجي، ودوره الدولي، وغيّب شرعية الثورة، حتى في نظر الدولة الإقليمية التي حوّلت مسلحيه إلى مرتزقة؟ بدل أن يقاس انتخاب قيادة “الائتلاف” الجديدة ببرنامج يلزم مرشحيه باستعادة استقلاله سبيلا إلى إحياء ثورة الحرية، تجاهل هؤلاء أن الثورة تتعين بأهدافها، وليس بالتبعية لأي طرف خارجي أو أجنبي، خصوصا إن كانت جرعة المغامرات في سياساته قد تعزّز احتمال تصحيح أخطائه بتنازلاتٍ يقدّمها من رصيد السوريين الذي لم يبق منه غير القليل!

هل نقول وداعا لهذا القليل الذي تقول الانتخابات أخيرا أن “الائتلاف” عازم على الإجهاز عليه، وأن من يتزعمونه ينطبق عليهم ما قالته مسرحية رحبانية ذات يوم: بالثورات، اللي بيضحوا كتار، بس ما بيوصل منهن حدا.

العربي الجديد

—————————————–

إضاءات على بعض أسباب فشل الثورة السورية/ حسان الأسود

مع بداية العام العاشر للثورة السورية، تطرح بعض الأسئلة الملحة نفسها ثانية. أسئلة النجاح والفشل، أسئلة النتائج النهائية، أسئلة الأساليب والوسائل، وحتى أسئلة المشروعية ذاتها.

عندما تكون أهداف الثورة تحقيقَ الانتقال السياسي إلى نظام حكم ديمقراطي، لكنها تصل إلى تكريس أنظمة حكم محلية متناحرة؛ يكون للسؤال نصيب معقول من الوجاهة. عندما تسعى الثورة لتحقيق كرامة الإنسان، لكنها تصل به إلى قعر الانحطاط والفاقة والجوع والخنوع؛ يكون للكلام طعمٌ مرّ كالعلقم. عندما تنشُد الثورة دولة حرة مستقلة ذات سيادة على جغرافيتها وحدودها ومواردها وثرواتها، لكنها تصل إلى تقسيم فعلي بين قوى احتلال أجنبي دولي وإقليمي بل ميليشياتي؛ يكون للنصر والهزيمة طعمٌ واحد. عندما تصبح التضحيات المبذولة شعاراتٍ زائفةً، والعذابات المعيشة حالةً ثابتةً لجمهور كبير وواسع من المواطنين، داخل أسوار الوطن – السجن وخارجه؛ يكون للكلمات معنى العدمية والهباء فقط.

ثمة أسباب كثيرة لا حصر لها لما وصلنا إليه من مآل، وكثيرون منا فكروا وناقشوا ونظروا لها، من الفرقة والتشرذم، إلى انعدام الخبرة ونقص التجربة، إلى قلة الموارد، إلى عدم نضوج الظروف الموضوعية، إلى طبيعة الصراع ذاته، إلى شراسة الخصوم، إلى عشرات بل مئات الأسس التي بُنيت عليها النتائج المترتبة. لكن ثمة عوامل ذاتية فينا -كأفراد وجماعات- قلما تم البحث فيها وتأصيلها، لمحاولة الكشف عن دورها في ما وصلنا إليه حتى الآن.

لم نتمكن -السوريين- من بناء أسباب الثقة بيننا، لا كأبناء ثورة، ولا كمعارضين سياسيين مخضرمين، ولا كأحزاب وجماعات وتيارات. لقد بات ممجوجًا ومكررًا القول بأن التصحر السياسي الذي خلقه نظامُ الاستبداد طوال خمسين عامًا هو السبب وراء ذلك، لأن الرد عليه من أصغر طفل حافي القدمين في مخيم أطمة أو الزعتري سيكون: وماذا فعلتم منذ عشرة أعوام؟ ألم يتسنّ لكم ممارسة السياسة حتى تتعلموها؟ ألم تلتقوا وزراء خارجية وسفراء ومبعوثي أعظم وأقوى دول العالم؟ ألم تحضروا آلاف الاجتماعات واللقاءات والدورات التدريبية؟ ألم تؤسسوا آلاف الكيانات والأجسام والهيئات والمؤسسات والمنظمات؟

ثمة خللٌ حقيقي في نمط التفكير، وفي السلوك الجمعي السوري، وربما في السلوك الفردي أيضًا، وإذا كان بعض الظن إثمًا؛ فإن بعضه من حُسن الفِطَن. ليس هذا جَلدًا للذات ولا تشاؤمًا، إنه وصف لحالات وتجارب لا تُعد ولا تحصى من محاولات العمل الجماعي التي باءت بالفشل، بسبب أداء الأفراد ذاتهم، لا بسبب أي شيء آخر. ما السبب في كل هذا الخراب وهذا الفشل؟ أليست هذه ظاهرة تستحق التأمل والبحث؟

يقول الدكتور عزمي بشارة، في دراسة له نشرت بتاريخ 20/1/2020 في موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تحت عنوان “الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية”، ما يلي:

“ظاهرة الشعبوية السياسية نمطٌ من الخطاب السياسي، يتداخل فيه المستويان الخطابي والسلوكي بشكل وثيق. وقد يتفاعل هذا الخطاب مع عفوية تقوم على مزاج سياسي غاضب لجمهورٍ فقد الثقة بالنظام والأحزاب السياسية القائمة والنخب الحاكمة، كما يوظف بوصفه استراتيجية سياسية في مخاطبة هذا المزاج هادفة إلى إحداث تغيير سياسي عبر الوصول إلى الحكم. ويتحول هذا الخطاب إلى أيديولوجيا في الحالات المتطرفة”.

يتبين للملاحظ عن كثب أن الشعبوية قد طغت على خطاب ليس فقط قادة المعارضة السياسية التقليدية السورية، ولا المعارضة الناشئة التي أفرزتها سنوات الثورة فحسب، بل أيضًا على خطاب الثائرات والثائرين من أول أيام الثورة حتى اللحظة. يكاد المرء لا يعثر على أي نسق فكري متوازن بعيدٍ عن هذه الديماغوجيا المستشرية، وإن وجدت في فترة ما -كما حصل مع خطاب بعض فئات المعارضة أيام مؤتمر القاهرة الأول، حين تم إنجاز ما عُرف لاحقًا بوثائق القاهرة- فإنها تبقى واحاتٍ متناثرة في صحراء الهباء والعدم، أشبه بومضات برق لم يعقبها مطرٌ يغيث.

منذ أن تبنى ما عُرف لاحقًا باسم “المؤتمر الوطني السوري”، بوصفه أول محاولة لبناء كيان سياسي سوري في إطار الثورة، شعارَ إسقاط النظام الذي رفعه المتظاهرون الأوائل في شوارع درعا بعد أسبوع من اندلاع التظاهرات، حتى آخر الكيانات أو الهيئات التي أفرزتها الثورة أيضًا، أي هيئة التفاوض، ما زلنا نسمع ونقرأ الخطاب الشعبوي نفسه. وعندما يطرح أي امرئ نقده لمفردات هذا الخطاب الخشبي؛ يُشْهَرُ في وجهه سيفُ الاتهام بالتخلي عن ثوابت الثورة!

لكن ما هي ثوابت الثورة، ومن يحددها، وكيف يمكن قياسها، وما هو الثابت في الثورات، وما هو المتغير أو المتحول فيها؟ وهل الثورة غاية بحد ذاتها؟ وسواء أكانت كذلك أم لم تكن، هل هي مقدسةٌ أم غير ذلك؟ وهل هي الطريق الوحيد للوصول إلى المطالب والحقوق، أم هناك طرقٌ أخرى غيرها؟ وهل هي وسامُ شرفٍ وميزةٌ، أم هي فعل اجتماعي له قواعده وأصوله؟ عشرات الأسئلة التي لو أجيب عليها مبكرًا؛ لما كنا وصلنا إلى ما نحن به اليوم، ولما كانت هذه حالنا.

لماذا لم تستطع المعارضة السياسية السورية إنشاء خطاب موحد، أو بناء مؤسسات سياسية حقيقية، أو المساعدة في توحيد الخطاب الثوري على الأقل، خاصة أن أغلب القوى السياسية المعارضة كانت أو أصبحت مقيمة خارج سورية، وأغلبها موجودٌ في دول تسمح أنظمتها السياسية بهامش كبير من حرية التفكير والعمل؟

هي إذن حالة من الفشل الواضح والناتج عن فقدان الثقة بالنفس، التي بدورها ناتجة عن إدراك مبهم غير واضح لفقدان الشرعية، تلك التي جعلت السياسيين، أو من دفعتهم الأحداث إلى تصدر المشهد السياسي، يتصرفون بشعبوية مفرطة لكسب ودّ الجمهور الثائر الغاضب، ويتعاملون معه باعتباره على صواب في كل ما يقول ويفعل، حتى ذهب الأمرُ ببعض أبرز قادة المعارضة السياسية التقليدية (الذين دفعوا حقًا من أعمارهم وحيواتهم في سجون الأسدين الأب والابن باهظ الأثمان) إلى أن يعتبروا “جبهة النصرة” أحد فصائل الثورة السورية، ويدافعوا عنها في العلن أمام ممثلي الدول التي تصنفها كتنظيم إرهابي متفرع من تنظيم القاعدة الأم!

لا تفشل الثورات من تلقاء ذاتها، أو لأسباب تخصها أو تتعلق بطبيعتها وبالظروف المحيطة بها فقط، بل تفشل أولًا، لأنها لا تجد قادة قادرين على استثمارها، واستثمار غضب صناعها ووقودها بشكل صحيح، وتحويله إلى مكاسب سياسية. إنّ فشل الدفاع عن القضايا العادلة يوجب تغيير المحامين المدافعين عنها، لا تغييرها، فهل آن الأوان لأن نتغير؟

مركز حرمون

———————————————–

ثورة بلا سياسة/ ماهر مسعود

قد تكون الثورة أهمَّ فعل سياسي قام به السوريون خلال نصف القرن الماضي، لكن بالمقابل كان أكثر ما افتقدته الثورة خلال السنوات التسع الماضية هو السياسة! فكيف يصحّ هذان القولان المتناقضان؟ لكي نفهم هذا التناقض؛ لا بدّ من إعادة تعريف السياسة، والتمييز بين معنيين، عام وخاص، للمفهوم.

السياسة، بالمعنى العام، تعيدنا إلى الفهم الأرسطي الذي يرى أن الإنسان هو “حيوان سياسي”، يسعى لتحقيق رغباته ومصالحه وحاجاته عبر التعاون والتفاوض والتنازل والتفاضل والقوة، وبالتالي؛ يكون كلُّ فعل عام يؤثر سلبًا أو إيجابًا، ويندرج ضمن علاقات السلطة بين الأفراد أو بين الفرد والمجتمع أو بين الحاكم والمحكوم، فعلًا سياسيًا، والسياسة بهذا المعنى العام قد تشمل كل فعل اجتماعي تقريبًا، بحيث يصبح حتى العزوف عن السياسة سياسةً وموقفًا سياسيًا.

مع ميشيل فوكو الذي أقام فلسفته استنادًا إلى الفهم النيتشوي للعالم؛ تغيّر معنى السلطة التي هي حجر الأساس في السياسة، حيث باتت السلطة منتشرة في كل علاقة فردية أو اجتماعية، والأفراد في أي مجتمع يمارسون السلطة ويعيدون إنتاجها في كل فعل واع، أو غير واع، ضمن الإيبستيم السائد، فعلاقات مثل الأب/ الابن، المرأة/ الرجل، الطبيب/ المريض، المدرّس/ الطالب، الكاهن أو الشيخ/ التلميذ.. إلخ، كلها علاقات سلطة، وإعادة تمثيل للسلطة. وليس ذلك فحسب، بل إنه حتى الاقتراحات أو التوقعات، ما تقبله وما ترفضه، أو من تأخذ كلامه على نحو جديّ، ومن لا تعيره اهتمامًا، حتى اللايكات على فيسبوك وتويتر.. جميعها علاقات سلطة، وتندرج ضمن ما يسميه فوكو repressive hypothesis. وعلى اعتبار أن جميع العلاقات الافتراضية أو الواقعية هي علاقات سلطوية، فهي إذًا علاقات سياسية، وتدخل ضمن التعريف العام للسياسة.

أما السياسة، بالمعنى الخاص، فيمكن تعريفها بأنها فنّ إدارة الشأن العام، أو هي فنّ إدارة علاقات السلطة في المجتمع، وعلى ذلك؛ فإن أي عمل سياسي فردي أو جماعي “الثورة ضمن سياقنا” هو عملٌ يحتاج إلى إدارة سياسية وتأطير نظري، ينطلق من عمومية الفعل السياسي، ويقوم بتخصيصه ضمن قيم سياسية، ليُعاد طرح تلك القيم على العموم ضمن برامج عمل، وذلك بهدف مأسستها وتحويلها إلى مبادئ أو قوانين تؤطر العمل السياسي وتحكم معاييره، وبحسب ديفيد إيستون، السياسة هي “تخصيص سلطوي للقيم”.

ن تأطير الثورة -بوصفها عملًا سياسيًا عامًا- بالسياسة التي تدير العمل العام، يمنعُ أولًا “التشبيح” الثوري الذي يُبنى على قاعدة “ثوار الخنادق وثوار الفنادق”، أو تقسيمات الداخل والخارج، مع التفضيل المعياري السائد دائمًا للأول على الثاني. ويمنع ثانيًا تحوّل الفعل الثوري والسلطة التي ترافقه إلى نسخة مقلوبة عن السلطة التي يحاربها، فكثيرًا ما تحول “الثوار” إلى مجرمي حرب، وكثيرًا ما تحولت مقولة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” إلى أداة سياسية بيد الدكتاتوريات الثورية وأنظمتها التي أعقبت الثورات. ويؤسس ثالثًا للقيم التي قامت عليها الثورة وأفرزتها ضمن سياقها وتجربتها الفريدة، عبر تحويل تلك القيم إلى أسس عمل وسلطة بديلة تمثيلية دون أن تكون متعالية.

في الثورة السورية، أدت مستويات القتل والعنف والتعذيب والتهجير والاقتلاع التي مارسها النظام السوري، ضد الأفراد والبنى الاجتماعية الثائرة، إلى صعود العمل الثوري إلى الواجهة، باعتباره الفعل السياسي الأعلى والأسمى، لكن “العمل الثوري” الذي انخرط تدريجيًا -بقوة الأمر الواقع- في السلاح ثم الأسلمة، وجد نفسه في النهاية، نتيجة أولويته ذاتها، أمام تمثيل سياسي شعبوي وهزيل، يفاوض باسمه محمد علوش، وأمثاله من “حاملي همّ الأمّة” وسُرّاق المعونات الإنسانية للمحاصرين.

تلك العملية التي أدت إلى صعود الشعبوية الثورية (ويمكن تسميتها بالانتخاب الطبيعي المعكوس، حيث البقاء للأسوأ والأكثر رداءة) ساهم فيها عدد من العوامل ومنها:

أولًا، مثقفون يعيشون على الرفض الذاتي والشعور بالذنب، نتيجة عدم انخراطهم في الساحات ثم في ميادين القتال، وربما فقط لنجاتهم؛ فيبدؤون بتبجيل الثائر المقاتل، وإعطائه الأولوية والأهمية العليا، وتلك العملية بدأت منذ البداية، مع انتشار فكرة إعطاء الأولوية للشارع ولصوت الشارع، وجعل السياسة مجرد انعكاس ميكانيكي له، وأوصلتنا إلى أن يرفض “الناشط الثوري” خالد أبو صلاح، وخلفه كتلة التمثيل الثوري، بيان جنيف في 30 حزيران/ يونيو 2012 الذي يقرّ هيئة حكم انتقالية بصلاحيات كاملة، مطالبًا بمنطقة آمنة لحماية المدنيين. ثم انتقال قيادة الجيش الحر، الذي كان عماده العساكر والضباط المنشقين، إلى “أبو البراء” و”أبو محمد”، ثم إلى الفصائل الإسلامية و”محاكم التفتيش الإسلامية”، وصولًا إلى الأمير الجولاني، والخليفة البغدادي.

ثانيًا، سياسيون قدماء، معظمهم يعامل السياسة كثقافة، أي جملة مبادئ وطنية متعالية أخلاقيًا، بعد أن حولوا الثقافة سابقًا إلى سياسة وأيديولوجيا، أما الجزء الآخر من المدرسة ذاتها، فهم “إخوان مسلمون” ممن اجترحوا سياسة يمكن وصفها بـ “الميكافيلية الإسلامية”، ويعاملون السياسة كاللصّ الذي يسلّم عليك بيد، ويسرقك باليد الأخرى.

ثالثًا، الشارع السوري الشاب الذي لا يثق بالمعارضة، ولا يُكنّ لها الاحترام. وذلك الموقف العام، على الرغم من أحقيته، موقفٌ مؤسَّس بفعل رجعي يعود لنظام الأسد الذي قلّل من شأن المعارضة وأهميتها، وأنكر حتى وجودها. وجديرٌ بالملاحظة أن الشارع السوري الشاب الذي لا يُكنّ الاحترام للمعارضة السياسية، كان وما يزال، يرفض هو ذاته الانتماء السياسي، ويجزع من الجماعات والأحزاب والحركات السياسية، وتلك المشكلة جعلت الجميع يدور في حلقة عدمية مفرغة، فلا الجيل القديم معترف به من الشارع، ولا الجيل الجديد قابل للانتظام السياسي الفاعل.

ربما كان كل ما سبق ذكره، من مشكلات وإشكالات، يعود في أصله وفصله إلى نظام الأسد الذي أفرغ سورية من السياسة والحياة السياسية، خلال نصف قرن من حكمه، ولكن لا بديل أمامنا من صناعة السياسة، لتأسيس المستقبل المشترك للمختلفين، فالثورة بلا سياسة تكون عمياء، مثلما كانت السياسة بلا ثورة -دائمًا في سوريا الأسد- جوفاء.

مركز حرمون

——————————————

نظام سياسي.. نظام ثقافي/ خضر الآغا

إحدى أكبر مشكلات الثقافة العربية الحديثة، خاصة تلك التي انتشرت وترسخت بعد استقلال الدول العربية، أنها بقيت تدور في فلك الكتب والأفكار بعيدة كل البعد عن مجتمعاتها وحركة شعوبها، الأمر الذي جعلها نخبوية متعالية.

وكان تبريرها لعدم الانخراط في مجتمعاتها أن هذه المجتمعات متخلفة، جاهلة، ورعاعيه… وعندما لم تجد متلقيًا ومنفعلًا بالأفكار التي طرحتها اتهمت شعوبها بأنها أمية، لا تقرأ، ولا تفكر… ونحن نتذكر الإحصائيات المزيفة الكثيرة التي نشرتها الثقافة العربية، خاصة في العقدين الأخيرين من القرن الفائت، والتي تنتهي إلى أرقام مخجلة حول نسبة القراءة لدى الشعوب العربية وشعوب المنطقة قياسًا إلى تلك النسبة لدى الشعوب الأوربية والأمريكية.

وقد وجدت هذه الأفكار والإحصائيات طريقة ذهبية لشيوعها وانتشارها تتمثل في وسائل إعلام الأنظمة العربية ذاتها. حدث أن تكامل الخطاب السياسي لهذه الأنظمة مع الخطاب الثقافي لكتاب ومفكري العرب والمنطقة في غالبيتهم. بالبحث عن أسباب ذلك التكامل نجد أن كل نظام سياسي بحاجة، لكي يستمر وينال الشرعية، لنظام ثقافي موازِ، وقد وجد كلا النظامين السياسي والثقافي العربي مشتركات كبيرة جدًا في خطابهما، هذه المشتركات تتمثل في الكثير من الآراء الجوهرية التي يقوم عليها، أصلًا، النظام السياسي. فقد وجد النظام السياسي السوري، كمثال، في الأفكار التي تبناها ونشرها النظام الثقافي ضالته، وهي أفكار التحرر ومواجهة الإمبريالية والصهيونية في الخارج وعملائهما في الداخل وبعث العرب وغير ذلك… وكسوريين نعرف أن الأفكار التي لطالما رددها نظام الأسد على مدار الساعة منذ خمسين عامًا هي ذاتها أفكار الثقافة الحديثة في المنطقة. بذريعة هذه الأفكار تم قمع الناس وإذاقتهم الويلات وإخراسهم وإبعادهم عن الشؤون العامة وسجنهم وقتلهم… وكان التبرير الثقافي لذلك هو مقولة أن الناس جهلة ورعاعيون ومتخلفون ولا تليق بهم الحرية ولا الديمقراطية ولا شيء، وبذلك وجد النظام الاستبدادي ذريعة ثقافية كبيرة أطلقها مفكرون وكتاب ومثقفون بحق هذا الشعب الجدير بالقمع فقط حسب طروحاتهم. نعرف ونتذكر أننا في سوريا بقينا طويلًا ننعت شعبنا بالرعاعية والتخلف والهمجية، ولولا الثورة كنا بقينا، ربما، على تلك الآراء!

وبهذا، فإن النظام السياسي العربي والنظام الثقافي العربي تبادلا خلق بعضهما بعضًا، كما تبادلا الفائدة: كلا النظامين تأسس على التأبيد فلا يتغير ولا يتبدل، ويواصل إنتاج الأفكار والوضعيات التي تحقق له شروط بقائه على العرش مهما حدث في هذا العالم، وكلاهما منح الآخر كافة الطرائق والوسائل التي تبقيه مهيمنًا، وكلاهما أمعن في طغيانه، فقد أخذ السياسي من الثقافي جميع الأفكار التي تبرر طغيانه، ونال الثقافي حرية خلق طغاة صغار في الشعر خاصة وفي الثقافة عامة كلما وجد ضرورة لذلك! فطغيان النظام السياسي يلزمه طغيان النظام الثقافي، فكلاهما صنيعة بعضهما بعضًا.

عندما ثبّتت الأنظمة السياسية نفسها في السلطة جيدًا، وتكشّفت عن دكتاتورية وشمولية غير مسبوقتين، وجد أولئك المثقفون أنفسهم أمام معضلة أخلاقية، إن لم يكن سياسية، وكان لا بد لهم من الإعلان عن موقف من ذلك، وعلى اعتبار أنهم يشكلون المنظومة الثقافية لهذه الأنظمة، وعلى اعتبار أن الثقة متوفرة بين النظامين اللذين هما قفا الورقة ووجهها، كان أن أعلن الكثير من هؤلاء عن موقفهم المعارض لهذه الأنظمة ظاهريًا وشكلانيًا فقط.. لكنْ حدث أن بطشت الأنظمة السياسية بمعارضيها الآخرين: سجنًا ونفيًا وتشريدًا وقتلًا.. فيما أبقت على هؤلاء الشعراء والفنانين والكتاب الحداثيين كواجهة معارضة لا تفعل أي شيء، أي شيء يسيء لنظامها السياسي، بل على العكس، لم تنفك تؤازره في ادعاءاته تحرير الأراضي المحتلة، ومواجهة المشاريع الخارجية والداخلية الهادفة إلى القضاء على بذور المقاومة!

أتى زمن الثورات وهدّد بانهيار النظام السياسي الذي يعني بدوره انهيار النظام الثقافي، فانكشف الأمر على نحو صفيق، حيث وقف الكثير من أولئك المثقفين ضدها، وساندوا ذلك النظام: رديفهم في الطغيان.

نستطيع أن نلاحظ أنه خلال الثورة السورية، وعبر الكثير من المقالات والشفويات وما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي، تعرض المثقفون العرب، ومثقفو المنطقة، السوريين خصوصًا، لحملة رفض وتشهير وتشكيك وانعدام ثقة وسخرية شديدة القوة وغير مسبوقة أطلقها مناصرو الثورة. التشكيك، لا بقيمتهم الثقافية فحسب، بل بوجود “ثقافة” صنعوها أو شاركوا بصنعها أصلًا! كان المبرر الأكثر قوة لتلك الحملة هو موقف بعض المثقفين من ثورة السوريين. وهذا سببٌ أعتقد، شخصيًا، أنه كاف للقيام بمراجعة نتاجهم الثقافي والبحث عن الأنساق المضمرة التي قادتهم إلى تلك المواقف اللاأخلاقية والمنحطة، دون أن نغفل عن عمومية الحملة وتعميمها الظالمين، إذ نعرف أن ثمة الكثير من المثقفين انخرطوا بالثورة منذ قيامها، وثمة من اعتقل وتشرد واستشهد في مظاهرات أو تحت التعذيب في سجون النظام، ناهيك عن الكثير من الكتابات والفعاليات التي قام بها مثقفون لأجل ثورة شعبهم… هذا الأمر يجعنا نفكر أن البعد الحقيقي والأكثر قربًا من الواقع لهذه الحملة يكمن في رفض تلك الثقافة التي أنتجت ذلك النظام، ورفض البنية الثقافية والاجتماعية التي بقيت أكثر من نصف قرن تنتجه وتعيد إنتاجه بلا هوادة. ولعل موقف بعض المثقفين الرافض للثورة هو موقف دفاعي عن نتاجهم الثقافي أصلًا، إذ أدركوا أن الثورة هي رفض للثقافة التي أنتجوها وللبنية التي تأسسوا فيها وأسسوها، وإن اتخاذ أي موقف متعاطف أو داعم للثورة يتطلب منهم جرأة لا تستطيع ثقافتهم هذه أن تتيحها لأنها ثقافة ثوابت وقرارات نهائية وحسم، إنها ثقافة بلا تشكك ولا سؤال.

الترا صوت

——————————————

لا تاريخية المعارضة السورية/ حسين عبد العزيز

كل فكرة أو فلسفة أو موقف أيديولوجي أو سياسي لا بد أن يكون محكوماً بمنطق التاريخ وصيرورته، فيعبّر عن الإمكان التاريخي، لا عن الاستحالة التاريخية، والتعبير عن الإمكان وحده الذي ينقل الفكرة من حالة القوة إلى حالة الفعل، أي من النظرية إلى التطبيق.

لقد علمتنا تجارب التاريخ السياسي أن الحركات المعارضة دائماً ما تحمل أيديولوجية سياسية راديكالية، عندما تكون مستبعدة من العمل السياسي. ومع انتقالها من الهامش السياسي إلى المركز السياسي، يحصل تغيير في خطابها الأيديولوجي، فتظهر عناصر العقلنة التي كانت غائبة قبل ذلك. ويمكن ملامسة ذلك عند حركات سياسية كثيرة في العالم، سواء حركات التحرّر الوطنية أو الاحتجاجية المناهضة للسلطات القائمة. وأفضل مثالين، ما حصل مع حركة فتح قبل توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 وبعده، ولاحقاً مع حركة حماس قبل انتخابات عام 2006 وبعدها. ولا يجب أن يفهم من استحضار مثال “فتح” الرغبة في تكرار تجربتها في ترك النضال العسكري والانتقال إلى النضال السياسي وفق شروط الاحتلال وواقعه، فليس هذا هدف هذه المقالة التي تركز على أن الخطاب السياسي يجب أن يكون انعكاساً للواقع، لا متعالياً عليه.

ما الذي برر هذه العقلانية في الخطاب، هل هي انعطافة فكرية مفاجئة حصلت في الوعي، أم أن منطق التاريخ وحركته فرضا هذا التغيير؟ وفي المقابل، لماذا حصلت استثناءات لهذه القاعدة، بمعنى أن ثمة حركات وقوى في المعارضة حافظت على خطابها الراديكالي، على الرغم من تغيير الظروف التاريخية؟ في الإجابة، يمكن القول إن الفرص السياسية التي نشأت مع انتقال الحركات والقوى من هامش الحياة السياسية إلى مركزها جعلتها تدرك عالم المصالح الحقيقي، وجعلتها تدرك أن السياسة ليست سوى فن للممكن. أما بقاء بعض القوى في الحفاظ على منطوق خطابها الأيديولوجي، على الرغم من تغير المعطيات المادية، فيعود، إذا ما استعرنا لغة توكفيل، إلى غياب عالم المصالح في وعيها، وذلك بسبب الغياب الكامل لكل حرية سياسية سابقة.

الحالة هذه هي حالة المعارضة السياسية السورية منذ نشأتها كياناً موحداً عام 2001، فظل خطابها السياسي ثابتاً لم يطرأ عليه أي تغيير، وظل استبعاد الأسد والقضاء نهائياً على النظام الحاكم جوهر خطابها، من دون أية فكرة عملية عن كيفية تحقيق الهدفين، ولا وجود لأي فكرة عن البديل السياسي المطروح.

ثمة تصريح لافت للمستشرق الهولندي، نيكولاوس فان دام، يوضح هذا الواقع، بقوله: “لم يكن ثمة مجال للعمل مع النظام في معجم المعارضة. كانت، بتركيزها على مطالب تغيير القيادة وتطبيق إصلاحات شاسعة في المؤسسات الأمنية والعسكرية، تطلب عملياً من النظام التسليم الطوعي لسلطة الدولة إليها”.

لم تدرك المعارضة السورية أن معظم تجارب التاريخ، باستثناءات نادرة، تؤكد أن الانتقال الديمقراطي لا يحدث نتيجة الهزيمة التامة للأنظمة الحاكمة، ففي الأغلبية العظمى يعتمد الانتقال إلى الديمقراطية على التفاوض مع القوى الداعمة للنظام التسلطي. كانت المعارضة السياسية حالة نظرية أكثر منها عملية، ولأنها لا تمتلك مقومات العمل السياسي على الأرض، حمل خطابها ترفاً سياسياً متعالياً على الواقع، فبقيت أسيرة تفاهمات ما تتفق عليه الولايات المتحدة وروسيا وبياناته، ومنها بيان جنيف الأول الذي دعا إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة. أزمة المعارضة السورية تكمن، في جزء منها، في غياب النخب السياسية داخل صفوفها، ويكمن الجزء الآخر في استبداد النظام وأسلوبه القمعي الرافض أي حوار أو محاولة لممارسة الضغوط عليه. لكن تحميل النظام المسؤولية والاكتفاء بذلك، من دون ترتيب بيت المعارضة الداخلي، ومن دون وضع برنامج سياسي قابل للتطبيق، سيُبقي المعارضة على هامش اللعبة السياسية، وإن كانت تتمتع بشرعية دولية، لأن الشرعية شيء والعمل السياسي الواقعي شيء آخر، ووضع النظام السوري خير دليل، فهو وإن كان لا يتمتع بشرعية قانونية دولية، إلا أنه يتمتع بشرعية واقعية من المجتمع الدولي.

قال فيلسوف الحرب الصيني القديم سو شو: الانتصار أو الهزيمة يتحددان في كل حرب قبل أن تبدأ، حيث جميع العوامل التي تقرر نتيجة الصراع تكون موجودة في الجغرافيا وفي القوة العسكرية وفي عقل صناع القرار، ولمّا كانت المعارضة لا تمتلك الجغرافيا القوية، ولا القوة العسكرية، فلم يبقَ لها سوى العقل، أو بعبارة أخرى لم يبقَ لها سوى البحث عن نخب حقيقية تفهم معنى فن الحكم.

كانت المعارضة السورية خلال السنوات الماضية مجرّد وعاء تفرغ به مطالب الدول الفاعلة في الساحة السورية: وُسّع الائتلاف الوطني نتيجة مطالب دولية وإقليمية، وأُدخلت منصتا موسكو والقاهرة في الهيئة العليا للمفاوضات نتيجة ضغط أممي، واختارت السعودية ثماني شخصيات مستقلة في هيئة التفاوض لمواجهة الهيمنة التركية. وقد كشفت مشكلة المستقلين الثمانية داخل الهيئة مدى هشاشة الهيئات السياسية للمعارضة، وكشفت صراع المحاصصة المستمر منذ عشر سنوات، وكشفت التأثير القوي للدول الفاعلة فيها، إلى درجة أن جزءاً كبيراً من جهود المعارضة يُستنفَد في تطبيق مصالح هذه الدول.

العربي الجديد

—————————————-

مات باسل الأسد.. فظَهَر الجسد السوري/ أدهم حنا

منذ الثمانينيات، اختفى الجسد السوري العادي من واجهة الكاميرا، الكاميرا التي لم تعد حُرة أبداً، حتى في التقاط زوايا الشوارع والأرصفة، الأبنية وامتداد الحارات. بل تخضع لما يُمكن تسميته (التثكين) أي الإنسان في ثكنة عسكرية، بحسب توصيف ماركيوز.

 التثكين السوري أسسه النظام وفق مقاييس تُظهرها كاميرته، كاميرا التلفزيون الرديئة، بألوانها المُعتمة التي تجعل العين البشرية فقيرة ومحدودة المخيلة. أما الألوان الحقيقية التي ظهرت لاحقاً، فكانت الألوان التي لا غِنى عنها، ألوان برامج الأطفال المستوردة والمترجمة. وبقيت وجوه الترفيه الرديئة، لتكراريتها وبساطة موضوعاتها، حاضرة في سورية منذ السبعينيات إلى يومنا هذا. بطلها نهاد قلعي وناجي جبر ودريد لحام، تلك الشخصيات التي اجتاحت الكاميرا الرسمية وبالتالي التلفزيون السوري.

هنا مقاس السوريين العاديين لم يكن يظهر في اللقطات المشهدية، خارج الأطر المرئية المستندة إلى الكوميديا البدائية المستهلكة، أو دراما استهلاكية تستحوذ سرد قصص البشر وهم مخلعون من إرادة السبب. قدرية ساذجة تليق بمخاض السجون والثكنات التي لا مفر منها.

جعل النظام الفن المرئي منمطاً، صعود الشخصيات في الفن أو في المرئي يُحدد، لا تُنمطه النصوص فقط، بل تُنمط المشاهد والأجساد والوجوه أمام الكاميرا. يتصاعد (الكاركتر) الشخصي ليبقى، على حساب هيئة عامة قد يظهر فيها السوريون كتنوع عام، ولا تُلتقط الشوارع ولا الناس العاديين. البعث جعل الكوميديا والدراما (مثكنة) في أقفاص الأستديوهات، وفي الشخصيات ذاتها. وظهور الجسد السوري انعدم تماماً من واجهة أي كاميرا، الثمانينيات والتسعينيات بدت للمرئي العام محددة، فيض من الأستديوهات والعمل داخلها، سلسلة مسلسل خمس نجوم، وست نجوم وسبع نجوم كلها صورت في استديوهات. أو مسلسلات اعتنت بتاريخ الشعب السوري في منتصف القرن العشرين، بخلق ما يشبه واقعاً قديماً ببشر ومجتمع. كله هرب من الواقع لخلق ما يبدو خفياً. حتى الأصوات التي تظهر في المشاهد مُسجلة في غالبها، وبتصعيد نفسي جماعي يكذب المنتجون والعاملون في الفن بإصعاد رغباتهم في الجمال بجعل أصوات العصافير مرافقة للمشاهد، أو ذكر الياسمين كناية على دمشق، رغم أنه لا يظهر فيها ولا يُعتنى به. مشاهد التسعينيات التلفزيونية ترافقت مع أصوات مسجلة غير حقيقة البتة، كمحاولة لتعويض فضائح الضجة والاتساخ والفوضى العارمة التي تعم الشوارع والتي خلقها البعث والسلطة الحاكمة.

والحفاظ على هيئة الشر استمر بشكله الكلاسيكي حتى مطلع القرن الحادي والعشرين. ناجي جبر، في شخصية “أبو عنتر” استُبقي بوصفه شراً، الملعون الظريف هو ذاته الأزعر، أزعر الخمسينيات والستينيات هو البلطجي والسارق والمجرم اللطيف المقبول، لأنه ذاته الفقير الذي يكسب تعاطف الفقراء مثله، على حساب تغطية مشاهد الرعب في الشوارع (للشبيحة)، وعسكريي البعث وجنود النظام الريفين. صورة العسكري المرتزق الهاتك للحقوق لم يظهر درامياً بوصفه الأزعر. استُبقي “أبو عنتر” كوجه للأبد المرئي. أما دريد لحام (غوار الطوشى) فاستُبقي حتى بداية القرن العشرين كأزعرٍ ذكي يسرق السندويش والتفاح فقط، القبقاب الخشبي وليس الأحذية العسكرية التي تقف وراء طبقة النهابة الجدد باللباس الأنيق. كل هذا جاور اختفاء السوري العادي، السائر في الطريق، الجالس في مقهى الباحث عن مشهده في كاميرا ليرى ذاته في المجتمع، لكن من دون جدوى.

استُثنى ياسر العظمة أحياناً من تنميط التلفاز السوري، ظهرت الشوارع أحياناً عبر كاميراته، لكن عبر إنتاج خاص خارج كاميرا التلفزيون الرسمي، وصولاً إلى صورة السوريين الرديئة والتي أرادها النظام بعد حينٍ من قتله البلاد وتوسيخها وتدمير بنيتها التحتية وإخفاء معالم الجمال الفطري فيها، أو الجمال العمراني الذي حاكه المحتل الفرنسي. كان موت باسل الأسد درامياً، المأساة التي عليها أن تبحث عن بطولة لكي تُثلج قلب الأسد الأب الذي هيأ ابنه الفارس لقيادة سوريا من بعده. أن يموت البطل في سيارة.. قاهر الأحصنة والبشر، مات بائساً جراء طيشٍ في منتصف الليل. كان على السوريين أن يتقبلوا الموت للمرة الأولى بوصفه دمجاً، لكن هذا الموت لا يماثلهم. بحسب فوكو، يبدو التعذيب للمحكومين بالإعدام قبل الموت، حِرصاً من السلطة على دمج الموت بالحياة، أو مساءلة دينية للبشر وعذاباتهم جراء اقتراف أخطائهم، أو تهيئة صورية لما قد يحدث لهم في سماوات الله . هذا ما حرص عليه النظام مع السوريين.

لكن موت باسل الأسد لم يكن دمجاً للموت بالحياة، فهو موت من اختصاص السوريين، كان موته مفارقاً للموت، فانهال مهرجان “المحبة والوفاء لباسل” في التسعينيات، كانتقام من الحياة ذاتها. اسم ابن السلطة غزا سوريا كلها، ملاعبها الرياضية، المراكز العلمية، كل المنشآت حملت اسم باسل الأسد وصوره. كان هذا سحبٌ من الموت، محاولة انتشال باسل المرضية من قلب موته من دون دمجه مع موت السوريين بأثر من المدافع إبان حماة، وقتلهم وتعذيبهم في السجون. هنا كان مهرجان المحبة، الفخ الذي سيفقده النظام أثناء جذبه لفنانين من لبنان والوطن العربي للغناء داخل أراضيه. ملايين دُفعت من أجل شعبٍ عليه أن يظهر جسده أمام الجميع، والأهم أمام الكاميرا السورية التي تنقل الحفلة من اللاذقية إلى العالم العربي. كانت الكاميرا السورية تضطر لتصوير النجوم الذي يغنون لشعب، كان الفن المغنى قيمة مضافة، أسهل ما يمكن للشعوب الالتفات نحوه من دون تمعن. شاهد السوريون عبر التلفاز انفصام المذيعة السورية في تقديم المهرجان، كيف نُقدم مهرجاناً فنياً ساهراً وهائجاً، ويقع اسم المهرجان على اسم ميت؟ ميتٌ يحمل الشهادة والبطولة والإباء والعزة، صفاتٌ لا يحتملها الموت ذاته. وفي الوقت ذاته، كان على المذيعة أن تنقلنا لفرح المغنى وطربه. لكن الهوة التي وقعت هي ظهور الجسد السوري، ظهور السوري وهو يطرب للموسيقى، راقصاً جانّاً غاضباً هائجاً. كان ارتفاع الكاميرا صوب المدرجات مُريباً، السوري الذي ينزع لباسه ويرقص فيه، رجالٌ يقفزون فوق بعضهم البعض كيفما كان اللحن وكانت موسيقاه، اللباس الفقير للطبقات المهمشة، هيجان السوري ما ان تتوجه الكاميرا نحوه.

كانت المظاهر مفجعة، السوري الهائج هو ما أمعننا فيه النظام عبر كاميراته وتلفازه الرسمي. السوري الذي يُفضَّل إخفاؤه لأنه يحلم بكاميرا، يحلم في أن تُرى ذاته كيفما اتفق، الهيجان الاحتجاجي للظهور أمام الناس، أمام المجتمع، كان حلم من تصيبه الكاميرا. كان مهرجان المحبة والوفاء للباسل، انشقاقاً، لظهور السوري العادي، بعدما عاش طويلاً في ثكنته العسكرية الخاصة، التي أنشأها النظام ترهيباً وخوفاً. هذا الانشقاق لم يُصبح نموذجاً للسوري حتى بداية القرن الحادي والعشرين، فظهرت سوريا أخرى عبر كاميرا حاتم علي وياسر العظمة، رُفعت الكاميرا عن حظر الوجوه والأجساد، ظهرت بشاعة سوريا عمراناً، والبشر فقراً وألماً، اختفت أصوات العصافير من خلفية المشاهد، بدت الواقعية الجميلة، جمال البشاعة تصرف حداثي واحتجاجي في وجه كاميرا النظام استديوهاته. حتى الكاتب السوري تحرر من الثكنة إلى حد ما، سمات الإغلاق والصندوقية الدرامية قد انتهت. ليس لمرحلة أفضل، بل صعد النظام بكتّابه وصانعي فنه إلى الثكنة المتسخة البشعة التي اسمها سوريا. لولا الثورة السورية وكاميرات السوريين التي صورت الثورة، لم يظهر سوري واحد على طبيعته وضمن احتجاجه. أقله السوري يسعى، أسوة بالتونسي واللبناني، ليظهر أمام الكاميرا أو يرفضها، أو يبدو مُحترماً أمامها. لقد أفرغت الثورة الاحتجاج والذائقة المطلوبة من الجسد حينما يظهر للعامة. كل ما ظهر من السورين قبل الثورة، كان تصعيداً مناوئاً لرغبات يريدونها في احتجاجٍ قادم، سيُزاد على حركة الجسد سلوكاً ذهنياً أفضل.

المدن

——————————————–

سوريا: المعارضة “اللاطائفية” بوصفها طائفية معاكسة…/ إيلي عبدو

بعض الإعلام المعارض وبعض الشخصيات، استثمروا بفقر المظلومية السنية، بالمعنى السياسي، وعمدوا إلى تفسير كل حادثة انطلاقاً منها. ما جعلها مادة لنشر الكراهية، بدل أن تكون مشكلة تستوجب وضع حلول في السياسة، وتستدعي النظر في شكل نظام الحكم في البلاد.

تستكمل قناة تلفزيونية سورية معارضة، في تقرير لها حول الأقليات في هياكل المعارضة، مساراً إعلامياً، من التركيز على الجانب الطائفي، لما يحدث في سوريا، وإهمال الجوانب الأخرى، وجعلها نتائج لقراءة أحادية لا تدرك الشرط التاريخي، وتحيله إلى مؤامرات متواصلة ضد الأكثرية. المعارضون العلويون والمسيحيون والأكراد، تبعاً للتقرير، هدفهم تخريب المعارضة، ولعب دور يشبه ذاك الذي لعبه الضباط من أبناء الأقليات خلال الستينات، وصولاً إلى السبعينات، حيث سيطر عسكر الأرياف على السلطة.

والمقارنة هذه، تسقط عمداً، الظروف والسياقات، التي حكمت تجربة الطرفين (وهم أبناء الأقليات في المعارضة وأبناء الأقليات الانقلابيون) لتصبح قابلة بالمعنى الشعبوي والإجتزائي، للتحول إلى مادة تحريضية تعبوية، وطاردة لعدد من الجماعات، من أي مقترح لسوريا المستقبلية. والتقرير وسياسة القناة، هما جزء من مناخ أوسع، يتمثل في وعي “سنّي” معارض، ينطلق من مظلومية الأكثرية ويحيلها معياراً تفسيرياً لا يقبل التعدد. جذور هذا الوعي يمكن تلمسه في مجازر الثمانينات، وما سبقها من إضعاف للسنّة في السياسة، لكنه تبلور بشكل منتظم مع قمع الثورة من قبل النظام، وما شابه من تلابس مع تكوينات أهلية مرتابة ببعضها بعضاً. ما يعني أن مظلومية السنّة في سوريا لم تُصَغ، ضمن حلول سياسية تلحظ طبيعة العلاقة التاريخية السيئة مع الأقليات، ولجوء الأخيرة إلى العسكر توسلاً لسلطة انتهت عند عائلة تحظى بدعم جماعة وصمت وقبول شرائح في جماعات أخرى.

عدم التفكير بالمظلومية كنتيجة لصراع الجماعات، جعلها نهباً للتحريض وحوّلها مسرحاً للتعبير عن الغرائز، من دون أن يعود ذلك بالنفع على السنّة أنفسهم. وبعض الإعلام المعارض وبعض الشخصيات، استثمروا بفقر المظلومية السنية، بالمعنى السياسي، وعمدوا إلى تفسير كل حادثة انطلاقاً منها. ما جعلها مادة لنشر الكراهية، بدل أن تكون مشكلة تستوجب وضع حلول في السياسة، وتستدعي النظر في شكل نظام الحكم في البلاد.

وتَحوُّل الوعي السنّي العام إلى مظلومية مفرّغة من السياسة، يصحبه غالباً تمسك بفكرة الأمة المتمظهر في حقبة الراديكالية العربية، وحدة وقومية وعروبة، أي أن السنّة مظلومون كأي أقلية، لكنهم بفعل وعيهم الأكثري لا يمدّون هذه المظلومية بأي جرعة سياسة. والمفارقة هنا، أن الأقليات اتبعت في مسار تغلبها على الأكثرية بعضاً من خطاب الأخيرة، بحيث باتت المظلومية مختلطة بوعي المظلوم، وهو، على الأرجح، ما يشكل العائق الأبرز، لتحولها من التحريض إلى السياسة، ومن الغرائر إلى البحث في صياغات الحكم.

والتمسك بالمظلومية بوصفها سرديات تاريخية معطوفة على ما يغذيها من حوادث ومجازر تجاورت مع الثورة وشكلت مساراً لصراع أهلي عنيف، ينسحب على بقية الجماعات وليس على الأكثرية السنية فقط. وإذا كانت الأخيرة حملت وما زالت، وعياً يحول دون تحوّل أوجاعها إلى سياسة، فإن أبناء الأقليات كانت لهم حصة في هذا الوعي. فالأيديولوجيات الشيوعية والقومية السورية والبعثية التي كانت البيئات الخصبة لصعود أبناء الأقليات وتبلور وعيهم السياسي، أسست بسبب فشلها، لعلاقة معطوبة بين الأقليات وإمكان التعبير عن نفسها في السياسة.

وبين أكثرية تنظر لنفسها كأمة بوعي متبدل وتعاني من مظلومية، وأقليات تنظر لنفسها من خلال أيديولوجيات أفلست تاريخياً وتعاني من مظلومية، بقيت المظلوميات من دون ترجمة سياسية. ما يكشف عن فقر في التفكير بالطائفية نفسها في سوريا عبر الهروب إلى ما يتعداها أو يسبقها من أفكار وعوالم ذهنية.

والفقر هذا، جعل الطائفية تمتزج مع بقية محركات الصراع السوري، من دون أن تكون محددة وواضحة التأثير. فبات القائلون بوجود الطائفية، والذين ينفون وجودها، كلاهما على صواب، انطلاقاً من الغموض والضبابية الناتجان عن إهمال هذه المسألة فكرياً وسياسياً، وهو ما مهّد لجعلها أداة تحريض وبث كراهية لدى بعض الإعلام وبعض الشخصيات المعارضة.

وبالتالي، التفكير بالطائفية، سينعكس إيجاباً من خلال أمرين، الأول: تحديد تأثيرها، وتحديد دورها في الصراع، بدل أن تظل مضخمة أو معياراً أحادياً مطلقاً، والثاني: أن الجماعات ستعبّر عن مظلوميتها عبر البحث في نظام حكم يكفل حقوقها، وليس عبر اللجوء إلى التحريض والتعبئة ضد بعضها بعضاً.

وعلى الأرجح، فإن من يرفض التفكير في الطائفية، انطلاقاً من أنها مسألة مصطنعة وخلقها النظام، هو وجه آخر للتحريض الطائفي، مع فارق أن خطابه المظلوماتي مغلّف بكلام عن الوطنية ووحدة البلاد وانسجام أهلها.

درج

———————————–

============================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى