سياسة

سؤال سوريا الصعب -مقالات مختارة-

==================================

—————————————-

احتلالات تتقاسم سوريا/ عروة خليفة

ليس جديداً أن نقول بأن مصير البلاد، بلادنا، أصبح خارج يدنا نحن السوريين، وسط احتلالات متعدّدة لا تبدو متفقةً فيما بينها، لكنّها جميعاً لا تنوي على ما يبدو الرحيل قريباً. احتلالاتٌ هي نتيجة واضحة لتوجهات نظام الأسد، الذي فضّل استجداء التدخل الخارجي، على الانكسار أمام الانتفاضة التي قامت عليه ربيع عام 2011، وهو ما ساهم بنزع المحلية عن الصراع في سوريا، وجعلها ساحةً للتنافس الإقليمي والدولي، ليس على سوريا، بل على النفوذ والسلطة في المنطقة التي تشهد انهيارات متعددة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، ما سمح عملياً بتفكيك دول الاستبداد الموجودة واستبدالها بدُوَيلات القتل الجماعي والإبادة، التي تسمح للميليشيات بالسيطرة على الأرض وفرض سطوتها على السكان المدنيين الذين دفعوا وحدهم أكبر الأثمان.

هذا النص تفكيرٌ أوليٌّ بصراعات إقليميّة تجري على أرضنا، هي اليوم عائقٌ أمام أيّ مستقبلٍ سوريّ ممكن، إلى جانب بقاء نظام الأسد الذي دمّر سوريا وسلّمها بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة لتلك القوى الإقليمية والدولية.

الصراع الإيراني الإسرائيلي

منذ العام 2018، قبل ذلك بالطبع أيضاً، لكن منذ سقوط الكثير من المناطق بيد قوات النظام نتيجة الدعم الجوي الروسي، ودعم الميليشيات الإيرانية لقواته على الأرض، اتّجه الحضور الإيراني في المناطق السوريّة إلى تعميق نفوذه بشكلٍ أكبر في شؤون الحياة المدنية. قصّة فيلق المدافعين عن حلب، الذي تحوّل من ميليشيا محليّة مدعومة إيرانياً، إلى ميليشيا إيرانية أجنبية يقودها أعضاء في الحرس الثوري بشكل مباشر، هي مثال أساسي على هذا التغلغل. لكن ليست السيطرة الاحتلالية للميليشيات الإيرانية هدفاً بحد ذاته، خاصةً وأن طهران تدفع اليوم وستدفع مستقبلاً أثماناً لذلك. فالتعرّض المستمر للغارات الإسرائيلية والخسائر التي تتسبب بها تلك الغارات لم يكن ثمناً قليلاً لتثبيت وجود إيران في سوريا، وبالمقابل فإنّ الحضور الإيراني جنوب البلاد، ابتداءً من دمشق وحتى درعا والسويداء والقنيطرة، بدا أنّه يتّخذ موقعاً أساسياً في صراع طهران مع تل أبيب، ليصبح التركيز الإيراني على السيطرة على مواقع استراتيجية بعينها، موزعةً على مساحة البلاد، وكأنّه مسخّرٌ لدعم إيران في هذا الصراع الإقليمي بين الدولتين.

سيكون نفي الدوافع الإيديولوجية التي تقوم عليها دولة ولاية الفقيه في طهران أمراً غير حكيم بالمرة، لكنّ الوجود الإيراني في سوريا اليوم، من البوكمال التي تؤمّن خطوط الإمداد البرية عبر العراق، إلى البادية وريف دمشق ومنها إلى الجنوب في القنيطرة، وأيضاً لكن بصورة أقل في درعا والسويداء، هو وجودٌ يتّخذ مواقعه على خريطة المواجهة مع إسرائيل، بينما يمكننا فهم الوجود الكبير في حلب وريفها وفي حمص باعتباره دعماً لعمق وجود تلك الميليشيات في مناطق المواجهة.

تل أبيب تفهم هذا التموضع الإيراني، إلّا أنّ أدواتها لم تفلح في مواجهته على ما يبدو، إذ وعلى الرغم من الخسائر الدورية لطهران خلال تثبيت مواقعها خاصةً بالقرب من دمشق، إلّا أنها قد استطاعت حتى اللحظة السيطرة على مواقع حيوية تمتد بين مطار المزة وكيوان، ناهيك عن مطار دمشق الدولي، بالإضافة إلى منطقة السيدة زينب في ريف دمشق ومحيطها الذي يتجه كله نحو الجنوب.

قد تكون الخطّة الإيرانية الكبرى هي السيطرة التامّة على البلاد، وبهذا يكتمل حضورها من طهران إلى العراق وسوريا ولبنان، لكن الواضح أنّ الخطة التي يجري العمل عليها اليوم هي تدعيم ميليشيا حزب الله في لبنان وفي جنوب سوريا، وتدعيم الحضور الإيراني المباشر وغير المباشر في مناطق المواجهة مع إسرائيل. وهي مواجهة غير صفرية حتى اللحظة، لكنّها تدعم بالتأكيد سياسات طهران في مواجهة التشدد الدولي تجاهها، خاصةً بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، بعد أن كان الاتفاق النووي ذاته من العوامل التي أفسحت المجال أمام طهران لمزيد من التدخل والتوسع في المنطقة.

هذا التموضع يُحيل إلى اعتبار سوريا كما لبنان سابقاً، نقطة انطلاق للصراع بين إسرائيل وإيران، وهو ما يعني عملياً ربط هذا الوجود بذاك الصراع، لا بالديناميكيات التي تعتمل في سوريا وحولها. بمعنى آخر، فإن ارتباط الوجود الإيراني في البلاد بهذا الصراع، واستسهال تل أبيب لمواجهة طهران على أرضنا، سيعني أنّ أيّ حل سياسي في البلاد، أو أي مسار يتوجه لتحقيق السلام، سيصطدم بالصراع الإيراني- الإسرائيلي الذي يبدو غير معني بالبلاد التي يجري عليها. سيحاول كلٌّ من الطرفين تعزيز الظروف الموضوعية في أرض المواجهة لتحسين موقعه الاستراتيجي، وهو ما يعني بالنسبة لطهران الوقوف في وجه أي تحوّل سياسي يقود إلى أوضاع غير مناسبة له، خلافاً لتلك التي يوفرها تحالفه مع نظام الأسد ككل، ومع ماهر الأسد والفرقة الرابعة اليوم بشكل خاص.

التدخل التركي

تربط كثيرٌ من التحليلات التَغَيُر في الموقف التركي بسقوط أحياء مدينة حلب الشرقية بيد قوات النظام نهاية العام 2016، ودخولها في مسار أستانا إلى جانب روسيا وإيران، إلّا أنّ ما يَظهر اليوم بعد توضّح الاستراتيجية التركية في البلاد، هو أنّ الحرب مع حزب العمّال الكردستاني منذ انهيار التفاهمات الأولية معه عام 2013، كانت الدافع الأساسي لتحوّل السياسات التركية التي ركّزت بشكل واضح على تفكيك سلطات وحدات حماية الشعب، ولاحقاً قوات سوريا الديموقراطية والإدارات الذاتية التي تمثل نفوذ تلك القوات على الأرض، باعتبارها امتداداً لحزب العمّال الكردستاني في سوريا.

لكن لا يبدو أنّ الحرب مع حزب العمّال على الأرض السورية معنيّة فقط بتفكيك سلطة القوات العسكرية، والهيئات والمؤسسات التي تعتبرها أنقرة امتداداً لهذا الحزب، إذ اتّضح بعد سيطرتها على عفرين عام 2016 أنّ تغيير الوقائع الديموغرافية والبشرية هو أحد أدوات تلك الحرب، تغييرٌ اشتركت فيه فصائل سورية معارضة كانت الذراع الأمثل لتنفيذ تلك السياسات.

وتتوجه أنقرة اليوم إلى بسط نفوذها على كامل المناطق الحدودية مع سوريا، ليكون الجزء الأعظم من شمال البلاد بيدها، بعد تعاظم قواتها في إدلب، وقدرتها على فرض السياسات التي تريد هناك عبر هيئة تحرير الشام أو عبر فصائل الجيش الوطني، بالإضافة إلى سيطرتها المباشرة على ريف حلب الشمالي بما يشمل منطقة عفرين، ومن ثم الأراضي التي استولت عليها نتيجة العملية العسكرية التي قامت بها خريف العام الماضي، لتسيطر على شريطٍ ممتدٍّ من رأس العين (سري كانيه) إلى تل أبيض بعمق يصل إلى أكثر من 20 كم.

وعلى الرغم من أنّ المعارك والضربات المباشرة لحزب العمّال الكردستاني في معقله الأساسي في جبال قنديل الحدودية مع إيران والعراق مستمرة، فإنّ سياسات أنقرة في سوريا تهدف إلى تفكيك ما تقول إنه امتداد لهذا الحزب، ليس من خلال ضربات عسكرية محدّدة كما يجري في قنديل، بل عبر سيطرة تامّة على أجزاء واسعة من سوريا، وتغييرها ديموغرافياً لإنهاء ما تراه أنقرة حاضنةً لهذا الحزب. بهذا توّلدت أيضاً صراعاتٌ إثنية في شمال البلاد، عبر استخدام فصائل عربية وتركمانية، تشكّلت وفق انحيازٍ لما يمكن أن يوافق التوجه القومي في تركيا بهدف تنفيذ هذه السياسات. هكذا تمّ فرض وقائع لن تسمح بأيّ شكلٍ من الأشكال بالوصول إلى سلام دائم في البلاد، طالما هناك مهجرون لا يستطيعون العودة إلى مدنهم وبلداتهم.

ولا يبدو اليوم أنّ تراجع حزب العمّال في قنديل وطرد زعامته من سوريا كافٍ بالنسبة لأنقرة، التي تعتبر الوجود الإيراني على حدودها الجنوبية تهديداً لها، وهو ما يعني على أرض الواقع ارتباط السيطرة التركية على الأراضي السورية بملفاتٍ معقّدة، من غير المرجح أنّها ستجد حلّاً قريباً، وهو ما يقود إلى أن يكون الحضور التركي العسكري، المباشر وغير المباشر في شمال سوريا، عقبة أخرى ليست في الواقع مرتبطةً بما يجري في البلاد، وستقود إلى استعصاء أي حلٍّ قريب، كما أنّها ستقود مستقبلاً على توتراتٍ وحروبٍ أهليّة قد لا تتوقف بزوال الوجود التركي المباشر.

المأزق الروسي

ساهم التدخل الروسي منذ العام 2015 بإنقاذ النظام السوري من فخّ خارطة السيطرة، التي كانت تظهر تراجعه إلى مراكز المدن وسيطرته على ربع مساحة البلاد فقط، بينما توزعت السيطرة على باقي المناطق قوى أخرى، ليس بينها من يريد التحالف مع نظامٍ متهالك.

نهاية العام 2018 وبعد قرابة الثلاث سنوات من التدخل الروسي، استطاع النظام بدعم طائرات موسكو والمجازر التي ارتكبتها السيطرة مجدّداً على مساحات واسعة من البلاد، من درعا جنوباً وغوطة دمشق حتى مدينة حلب شمالاً، وبعدها حتى أقصى ريف دير الزور شرقاً، ومن ثم نهاية العام الماضي على مساحاتٍ واسعةٍ من أرياف حماة وإدلب، لتقتصر سيطرة فصائل المعارضة على مساحاتٍ محدودةٍ في إدلب وريف حلب، هي اليوم عملياً ضمن النفوذ التركي.

هذه الانتصارات العسكرية التي حقّقتها موسكو على قوات محليّة غير منظمة، أعطتها الحجّة على ما يبدو لاعتبار نفسها من جديد قوّةً دوليّة، وعلى الرغم من أنّها تتصرف في سوريا كقوة إقليمية تحاور قوى دولية (دول الغرب تحديداً) للسماح والاعتراف بسيطرتها على البلاد أو أجزاء منها، لكنّها على الأقل إعلامياً، ومن خلال ناطقيها الرسميين، تحاول التصرف كقوة دولية في استعادة لمثال الإتحاد السوفييتي أو ربما الإمبراطورية الروسية.

بالمقابل، فإنّ انتصارها العسكري في البلاد والإبقاء على نظام حليفها بشار الأسد، ليس نهاية المطاف بالنسبة لوجودها العسكري المكثّف، وما يترتب عليه من تكاليف ومخاطر، إذ لم تصل البلاد إلى الاستقرار الذي يسمح لموسكو بسحب كتلة كبيرة من قواتها في البلاد، كما أنّ النظام الذي دعمته وصل إلى مرحلة من الانهيار الاقتصادي، أصبح معها غير قادرٍ على تأمين أبسط الاحتياجات للسكان في مناطقه. احتياجاتٌ مثل الخبز والماء والكهرباء وأبسط الخدمات الصحية والتعليمية، أصبحت شبه منقطعة في عدد من تلك المناطق، وبالغة السوء في جميع المناطق بما فيها العاصمة دمشق. أزمة لا يمكن عمليّاً الخروج منها بغير إعادة إعمار ما دمرته حرب النظام على السوريين طوال السنين العشر الماضية، وهي عمليّة بالغة التعقيد وكبيرة التكاليف، وليس باستطاعة موسكو ولا إيران تأمينها، خاصةً وأنّ الدولتين تعانيان اقتصادياً بسبب العقوبات الأميركية وتراجع أسعار النفط.

هذا المأزق الذي يعني دوامةً غير منتهية وقعت فيها موسكو من عدم الاستقرار، وانهيار البلاد المديد ضمن مناطق نفوذ حليفها، لا يقابله الكثير من الخيارات، فإعادة تعويم النظام من أجل تسهيل جمع جزء من تلك التكاليف من مستثمرين ودول مثل دول الخليج، قد أصبحت ملفّاً مغلقاً بعد إعلان موقف الولايات المتحدة الواضح من خلال إصدار قانون قيصر والبدء بتنفيذه، وموافقة الدول الأوروبية عليه بشكلٍ واضحٍ لا لبس فيه.

تحاول موسكو في هذه الأثناء البحث عن حلول تناسبها وتكون مقبولة من الولايات المتحدة، لكنّ هذا البحث الذي تجلّى بلقاءاتٍ روسيةٍ مع شخصياتٍ سوريةٍ معارضة، وتصريحاتٍ إيجابية نحو الرسائل الأميركية التي كان السفير جيمس جيفري قد أطلقها مراراً على مدى شهور. هو بحثٌ لم يقترب من الاكتمال، حتى أنه لم ينجز أي تحرك فعليّ نحو الالتقاء بين وجهتي النظر، كما أنّه توجّهٌ قد لا تكون موسكو قادرةً على تنفيذه مع تعنّت حليفها العصي على التغيير، ووجود حليفٍ آخر له متمثّل في طهران التي تسيطر مباشرةً على مساحاتٍ واسعة من البلاد.

مأزقٌ سيعني أنّ الوجود الروسي في سوريا، الذي لا يحظى برفضٍ من الولايات المتحدة، قد يؤول إلى مزيدٍ من التعنّت في موقف موسكو، في حال رأت استحالة تنفيذ تغييرٍ في النظام من دون فرط التحالف معه، والدخول في مواجهة مع ميليشيات متوزّعة على مساحة البلاد.

أما اليوم، فإنّ الوجود الروسي في سوريا يعني شيئاً واحداً، وهو أنّ بشار الأسد هو مرشح موسكو الوحيد. لم تتغير هذه المعادلة حتى اللحظة، وإن كانت هناك مؤشرات على احتمال تغييرها بعد البدء بتنفيذ قانون قيصر، وهي مؤشراتٌ قد تكون مجرد ألاعيب جديدة من موسكو، ليبقى الوجود الروسي هو العائق الرئيسي أمام تطّورِ أيّ حلِ سياسيّ في سوريا يهدف إلى إجراء تغييرٍ حقيقيٍّ وفعّالٍ في نظام الحكم من أجل مستقبل أفضل للبلاد وأهلها.

اللاوجود الأميركي

تسبّب عدم انتظام وجود الولايات المتحدة في البلاد في استراتيجية واضحة بارتهانها لمواقف مفاجئة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يقرّر فجأةً أنّ بلاده أتّمت مهمتها. هذه المهمّة التي انتهت عدة مرات على تويتر، لم تستدعِ تنظيم عمل هذا التدخل العسكري وفق خطّة واضحة معلن عنها، فعدا عن مطالب واشنطن التي أعلن عنها وزير الخارجية مايك بومبيو والمبعوث الخاص إلى سوريا جيمس جيفري؛ حول الحل السياسي وانسحاب إيران ووقف العمليات العسكرية في البلاد، لا توجد خطّة واضحة لتطبيق أيٍّ من تلك المطالب، وهو ما يعني أنّ الولايات المتحدة موجودة من دون أن تفعل شيئاً على الحقيقة.

أما في سياق وجودها المحلي على مستوى الجزيرة السورية، لم تُبدِ واشنطن أيّ اهتمامٍ فعليٍّ بالحساسيات التي أدى إليها الاعتماد المفرط لحزب العمّال الكردستاني على كوادره الأجنبية في إدارة شؤون المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، خاصةً المناطق العربية، حيث بدأ السكّان المحليون يصرّحون عن اعتراضهم على سياسات قسد، وهو ما قد يتحوّل إلى بذرة شقاق أوسع في المنطقة، إذا ما ظلّت واشنطن على حالها من عدم المبالاة. هو شقاقٌ سيكون أحد عوائق الحل في سوريا مستقبلاً، وسيكون أحد أسبابه الوجود غير المنتظم للولايات المتحدة، الذي يرتبط رسمياً بالوصول إلى حلٍّ سياسيٍّ في البلاد، فيما تقود تصرفات الولايات المتحدة في مناطق تواجدها إلى إعاقة الوصول إلى مثل هذا الحل، خاصةً إذا لم يكتب النجاح لتوسيع الحوار الكردي الكردي نحو حوارٍ لأهل الجزيرة عموماً.

من يملك مصير البلاد ليس أهلها بالتأكيد، إلّا أنّ الصراعات الإقليمية في سوريا وعلى أرضها، تقود اليوم ليس إلى إبعاد الحل السياسي فقط، بل أيضاً إلى تأخير الوصول إلى سلامٍ واستقرارٍ في البلاد يسمح بعودة اللاجئين والنازحين والمهجرين، وخروج آلاف المعتقلين من السجون.

يقود هذا الصراع إلى خلق صراعات جديدة قد تكون مديدة، وغير مرتبطة ببقاء تلك الصراعات والاحتلالات التي تتقاسم من خلالها هذه الدول أرضنا؛ أرضٌ يفضّل الجميع على ما يبدو أن تكون بلا سكان، أو بالحد الأدنى منهم، من أجل تنفيذ مشاريع لا يمكن إنجازها بوجود أهل البلاد الأصليين وبقائهم في بيوتهم.

موقع الجمهورية

——————————————-

سؤال سوريا الصعب/ ياسين الحاج صالح

ليست القضية السورية قضية تحرر وطني، رغم قوة حضور بعد استعماري من نوع ما فيها، يتمثل في احتلالات خمسة، إسرائيلية وإيرانية وأمريكية وروسية وتركية على التتابع الزمني، يتطلع ثلاثة منها على الأقل، وربما خمستها، إلى الدوام. ولا تبدو قضية ثورة اجتماعية رغم قوة البعد المتصل بالفقر وضرورة تأميم مصادر الثورة الوطنية، ونزع ملكية نازعي الملكية الأسديين ومن والاهم. ولم تعد ثورة ديمقراطية رغم قوة البعد المتصل بالطغيان وعموم الحرمان من الحقوق والحريات السياسية، ورغم أن هذا هو الخطاب الذي لا تزال تسوغ به نفسها معارضة رسمية، ضيعت استقلالها مثل فعل النظام.

تبدو قضية سوريا موضع إرباك عام، لأنها لا تستجيب لخطابات رئيسية انتظم التفكير السياسي حولها في القرن العشرين، الوطني والاشتراكي والديمقراطي. وهو ما يجعل البلد مغموراً تحليلياً، على نحو ما كان سكانه مغمورين سياسياً طوال نحو نصف قرن قبل الثورة في ربيع 2011. لكن عند التفكير في الأمر يبدو هذا حال بلدان أخرى، أو جميع البلدان في واقع الأمر.

تبدو قضايا التحرر الوطني والثورة الاجتماعية أو الديمقراطية دوال لغوية عائمة من دون دلالات اجتماعية وسياسية محددة ترسو عليها وتستقر. سوريا تبدو بلداً مقبلاً من المستقبل، يعرض لمختلف المتحدات السياسية، صور الامتناع في حاضرها. وما تظهر في سوريا كمقاربات تفسيرية وعملية جزئية ومتقادمة هي واقع يترسخ عالمياً في كل مكان. لا يجد الناس لغة للكلام على شؤونهم الحاضرة، وتبدو صراعات عالم اليوم مستعصية على التأويل وفق لغات الأمس وخطاباته. ويبدو فوق ذلك أن هذا واقع قديم نسبياً لم يُفكّر فيه، وليس ناشئاً لتوه بحال.

لكن ماذ جرى؟ كيف حصل أن استهلكت خطابات كانت تساعد في إدراك الواقع وتوجيه العمل فيه؟ ومن قوّض صلاحية الخطاب المناهض للاستعمار والإمبريالية، أو للبورجوازيات التابعة، المستولية على الموارد العامة، التي تتصرف كأرستقراطيات مالكة للبلدان التي تحكمها، أو للديكتاتوريات والطغيان الدولتي؟ لا ريب في أن المراكز الاستعمارية السابقة، وهي نفسها قوة السيطرة الدولية النافذة اليوم، وإن بتراجع، خلقت بيئة دولية أقل ملاءمة لتحرر وطني معافى في بلدان كانت مستعمرة، لكن في واقع الأمر تدهورت قضية التحرر الوطني أساساً على يد نخب وطنية وقومية جعلت من الصراع ضد الاستعمار أيديولوجية مشرعة لسلطتها المطلقة ولاستئثارها بأنماط ملكية وحياة لا تحظى بمثلها حتى بورجوازيات الدول الاستعمارية. يمكن أن يتساءل المرء بخصوص سوريا مثلاً: ترى لو استطاع إيلي كوهين، الجاسوس الإسرائيلي الذي كان نافذاً في أوساط النخبة البعثية السورية، بعد الانقلاب البعثي الأول عام 1963، والذي اكتشف وأعدم عام 1966، لو لم ينكشف أمره واستطاع حكم سوريا بدل حافظ الأسد، ترى هل كان يمكن أن يخرب البلد أكثر مما استطاع «عظيم هذه الأمة» وسلالته أن يفعلا؟ ثم إن كان صحيحاً أن الرأسمالية الغربية صعّبت منافسة أي تجارب اشتراكية لها لسبقها التكنولوجي والعلمي ولاستيلائها الواسع على موارد البلدان المستعمرة سابقاً، إن بصورة مباشرة أو عبر عمليات التبادل اللامتكافئ، فإن فشل الاشتراكية يعود أساساً إلى الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، التي دخلت في سباق قوة لا يتناسب مع الفكرة الاشتراكية، قبل عدم تناسبه مع إمكاناتها، وهذا فضلاً عن فسادها وميلها إلى أشكال وحشية من الطغيان. ما كان لأحد أن يدمر الشيوعية أكثر مما فعل الرفيق ستالين، أبو الشعوب، المسؤول عن قتل ملايين البشر، بمن فيهم معظم الرعيل البلشفي الأول. كما لم تنهزم الفكرة الديمقراطية عالمياً بفضل صمود ديكتاتوريات في بلدان كثيرة، بل أساساً على يد الديمقراطيات الغربية، سواء عبر أشكال من التمييز والمحاباة الفاضحة للنظم التابعة لها، أو المحبوبة منها، أو منذ ثلاثين عاماً عبر أمننة متصاعدة للسياسة، تضعف الديمقراطية في كل مكان. من يقوض الديمقراطية في أمريكا اليوم هو إدارة أمريكية، عنصرية وفاشية، بعد استخدام تصدير الديمقراطية أيديولوجية مشرعة لاحتلال بلدين، ما تسبب بدمار واسع فيهما وفي الفكرة الديمقراطية.

يتعلق الأمر في جميع الحالات بتحطيم ذاتي أكثر مما بهزيمة أمام عدو خارجي. النموذج يفسد من رأسه مثل السمك. وهو ما يبقى صحيحاً لو أضفنا عقيدتين مؤثرتين في تفكير قطاعات من الناشطين والمثقفين في مجتمعاتنا، أعني الإسلامية والعلمانية. ما كان لأحد أن يؤذي الإسلامية أكثر مما استطاعت أن تفعل بنفسها، إلى درجة أن يتساءل المرء: ترى لو كان هناك من يريد الكيد للإسلام وإهانة المسلمين إلى أقصى حد، هل كان يمكن أن يخرج بشيء أسوأ من «داعش»؟ وهذا من دون أن يكون الآخرون «أنظم» كثيراً. ولم تفشل الدعوة العلمانية في تقديم نماذج تحتذى في التفكير وفي العمل، لا كأفراد ولا كتيارات، من دون أن يكون هذا ذنب أحد من خارجها. بشار الأسد بالذات استطاع أن يتكلم عن العلمانية في السنوات الأخيرة، من دون أن يشعر أحد من دعاة العلمانية بالإهانة ويرد عليه.

في المحصلة، نجد أنفسنا في أوضاع لا نعرف كيف نسميها، ولا نتعزى كثيراً مما يبدو أن الحال من بعضه، أو مقبل على أن يكون من بعضه في كل مكان من العالم، وإن بنسبة كل مكان ومقداره، إن حاكينا صيغة لابن خلدون. وبينما يعود وضع الأزمة العالمية بقدر من تطبيع أزمة الوطنية والمواطنة السورية، فإنه في الوقت نفسه فرصة لتفكير متناوب، ينطلق من سوريا التي هي عالم مصغر بدلالة المحتلين الخمسة، وغير قليل من منظمات ما دون الدولة التي تولدت في غمار حروب أهلية في البلدان المجاورة: لبنان، تركيا، العراق، فضلاً عن القاعدة التي هي توأم العولمة،، أقول تفكير متناوب ينطلق من سوريا نحو العالم، أو ينطلق من عالم يزداد سورية نحو… سوريا.

تبدو سوريا سؤالاً صعباً بالفعل.. وما يظهر في أي نقاش مع ناشطين حسني النية في الغرب، وكذلك مع متعاطفين من العالم العربي، ليس فقر التفكير في شأن سوريا، بل في الواقع فقر التفكير فحسب. فقره في شأن العالم، وليس سوريا وحدها. وعلى صلة بذلك أنه ليس هناك كائنات سياسية جديدة تكبر وتنضج وتعد. ليس هناك وعود. ويبدو أن ما يقوله كوكب سوريا المقبل من المستقبل هو أن المستقبل لم يعد موجوداً.

ليس هناك دروب تؤدي إليه، وهو في الأصل لا شيء غير الدروب. التقدم لا يعمل، والثورة تأكل نفسها أو يأكلها أبناؤها مثلما حصل في بلدنا نفسه، فتستغني بذلك عن أكل أبنائها مثل الثورة الفرنسية والروسية، أو أكل غيرها مثل الثورة الأمريكية؛ التحرر الوطني لا يؤطر ما يحدث لأنه لم يعد هناك وطن، ولأن كل محتل أجنبي من محتلينا الأربعة الجدد يجد «وطنيين» مدافعين عنه، منددين بمحتل أو محتلين أو ثلاثة آخرين، بحسب سعة ذمة المنددين، فضلاً عن وصفائهم من المحتلين المساعدين؛ والثورة الاجتماعية ليست في الوارد لأنه لم يعد هناك مجتمع (فقر 90% من «المواطنين» لم يعد فقراً لهم، صار مجاعة وموتاً وطنياً)، وتصور التغيير الديمقراطي لا يطابق ما يحدث، لأنه أرضية تشكل أكثرية ديمقراطية أو كتلة تجد في الديمقراطية العامة مصلحة خاصة تحطمت مع تمام نزع وطنية الدولة، وتقدم نزع وطنية المجتمع في سوريا.

يمكن أن نستنتج من ذلك ما يناسب مزاجنا: القنوط والسينكية، أو الشعور بالتحدي ومحاولة الاستجابة الفاعلة له. يشجع على الخيار الثاني أنه أكثر من أي وقت مضى، هناك اليوم شعور يحتد بالمأزق في العالم كله. هذا جديد. هناك سعي وراء وعود جديدة، حتى أن هناك سعياً وراء وعود قديمة أيضاً. ونحن من بين الساعين. لسنا مؤهلين أفضل من غيرنا، لكننا نشغل موقعاً أميز من غيرنا: موقع البلد- العالم.. نحن السوريين.

كاتب سوري

القدس العربي

————————————

عودة إلى البدايات أو الصراع الذي لا ينتهي على سورية/ برهان غليون

لجأ بشار الأسد، منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة السورية، إلى اختلاق قصص خيالية للتهرّب من المسؤولية، كان أهمها قصة المؤامرة الكونية التي يشارك فيها العالم بأكمله، غيرةً من النجاح والاستقرار والأمن الذي تنعم به سورية في ظل حكمه. ولم يلبث أن أردفها بقصة الإرهاب العالمي، أو الوهابي، الذي وقع ضحيته هذه المرّة، كما وقعت ضحيته من قبل الولايات المتحدة الأميركية في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 ثم في العراق منذ 2007، التي يشترك معها في الحفاظ على الأمن والسلام العالميين حماية للقيم المدنية والإنسانية. وفي الحالتين، كما كان الأسد الذي لا يستطيع الفصل بين شخصه وسورية مقدار شعرة، لا يقبل أن يرى في نفسه غير ضحيةٍ بريئةٍ للنيات والمشاريع الشريرة الأجنبية، لم يكن يقبل أيضا، ولو لحظة واحدة، أن يرى في المشاركين في المسيرات الشعبية سوى قناع يلبسه المتآمرون والإرهابيون الكونيون الحاقدون على ما تنعم به البلاد من سلام وسعادة وازدهار. وهذا ما يجعل القضاء عليهم من دون رأفة ولا رحمة واجبا وطنيا وأخلاقيا، وليس سياسيا فحسب.

ومع الأسف، ينبغي الاعتراف بأن ترديد هذه الرواية العُصابية لم يقتصر على أصحاب النظام وجوقته الكبيرة من الدبلوماسيين والمثقفين والإعلاميين الذين أبدعوا بالفعل في تزوير الوقائع وتلفيق التصريحات والافتراءات لإقناع أنفسهم وجمهورهم بالطابع الوطني لحرب الإبادة الجماعية، ولكنها أثرت بوضوح في قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والدولي الذين صاروا يشكّكون في المضمون السياسي التحرّري لهذه الثورة التي لم تكن تختلف مع ذلك، في شعاراتها وأساليب التعبير عن مطالبها وغاياتها، عن الانتفاضات أو ثورات الربيع العربي الأخرى. ساعدهم على ذلك افتقار هذه الثورة ذاتها إلى أي وسيلةٍ إعلاميةٍ وخبرات دبلوماسية تستحق هذا الاسم، تدافع عنها، وتمكّنها من التواصل مع جمهورها والتعبير عن مواقفها وبرامجها ونشاطاتها والدفاع ضد متهميها، كما ساعد عليه أيضا تناحر قياداتها وتضارب تصريحاتهم، وتعدّد خطاباتهم وأجنداتهم. وجاء سقوط بعض فئات المعارضة السورية في فخ أوهام الأسلمة الإيديولوجية ليقضي على ما تبقى من صفاء صورتها الحقيقية، وليصبّ الزيت على نار الحرب الإعلامية والسياسية التي يوقدها أعداؤها لنزع الشرعية عنها وحرقها. بل لم يتأخر الوقت، حتى يتسرّب كثير من مصطلحات خطاب هذه الحرب الجائرة إلى داخل صفوف جمهور الثورة والمعارضة والرأي العام السوري الذي يكاد يردّد اليوم، حرفيا، ومن دون وعي، في سياق التمثيل بالذات الذي يولّده تفاقم الفشل والإحباط واليأس من الخلاص، الكثير من افتراءاتها وطروحاتها.

ولحسن الحظ، نقلت وسائل الإعلام، في شهر يوليو/ تموز الجاري، شهادات مهمة تلقي مزيدا من الأضواء على أحداث تلك الحقبة الحاسمة الأولى من تاريخ الكارثة السورية. ومن المفيد، في نظري، تعميمها، لعلها تساهم في تبديد الشكوك التي بدأت تدخل إلى أذهان كثيرين من أنصارها، وليس خصومها فحسب، في أصالة الثورة السورية وحقيقتها التحرّرية، وتساعد على الاحتفاظ بالذاكرة الحقيقية الحية للتضحيات العظيمة التي قدّمها نشطاؤها والسوريون عموما. على استعادة الوعي والذاكرة.

أول هذه الشهادات كانت لوزير خارجية تركيا في 2011، داود أوغلو، (في حديث له على قناة “خبر ترك” 15 يوليو/ تموز 2020، ونقله موقع جسر18 تموز). والثانية شهادة أماني مخلوف التي تنتمي إلى إحدى الأسرتين الحاكمتين عمليا في سورية بشكل مشترك منذ خمسين عاما، وقد روت، عبر صفحتها، تعقيبا على شهادة داود أوغلو وتأكيدا لما جاء فيها، تفاصيل عملية تفجير خلية الأزمة (18 يوليو/ تموز 2012) التي أدت إلى مقتل وزير الدفاع داود راجحة ونائبه آصف شوكت ووزير الدفاع الأسبق، معاون نائب رئيس الجمهورية للشؤون السياسية، حسن تركماني، ورئيس مكتب الأمن القومي هشام اختيار، وإصابة وزير الداخلية محمد الشعار، والأمين القطري لحزب البعث محمد سعيد بختيان بجروح. وتكمن أهمية الشهادتين في إثباتهما، بعكس ما درجت دعاية النظام على تأكيده، في حقيقة أن المتهمين بقيادة المؤامرة الكونية من خليجيين وأتراك، بعكس ما درجت على ذكره دعاية النظام، لم يتدخلوا في الأزمة السورية لصالح قوى المعارضة، أو من باب العداء له، أو بهدف تغييره، ولكن لصالحه. وبدافع الحرص على بقاء النظام واستقراره، لقاء إصلاحات اعتقدت هذه الدول، التي كانت من أبرز حلفائه السياسيين وشركائه الاقتصاديين، أنه لا يمكن وقف الاحتجاجات الشعبية وإنقاذ النظام من مصير مجهول من دون تحقيقها.

كان داود أوغلو يعتقد، كما ذكر في لقائه الإعلامي، وكان على حق، “أن الربيع العربي موجة كبيرة، من الممكن أن تصل آثارها إلى تركيا”. لذلك كان حريصا على ألا تخرج الأزمة السورية عن السيطرة. ومن أجل ذلك، لم يوفر جهدا للقاء الأسد مرات عديدة، ويحمل إليه رسائل تطمين من رئيس جمهورية تركيا ورئيس وزرائها أيضا، تؤكد له جميعها “نحن إلى جانبك”. وقد ذهب، في هذا التطمين، إلى حد أنه عرض على الأسد مشروع اندماج إقليمي يحقق السلام لسورية وتركيا ولبنان والأردن، أي يرسخ حكم الأسد ونظامه داخل هذا التجمع السياسي.

وعلى الرغم من تراجع الأسد عن هذا المشروع، حافظت أنقرة، حسب أوغلو، على علاقات جيدة مع النظام ثمانية أشهر أو تسعة بعد انطلاق الثورة، كما أنّها دعمته في البدايات. ولم تنقطع الاتصالات التركية السورية إلا في وقت متأخر، عندما وجدنا، يقول داود أوغلو، الأسد، “خصوصا في تلك الأيام المباركة من شهر رمضان، يستمر في قتل شعبه، في حمص وحماة بالمدافع، وكان يضرب اللاذقية من البحر، وفي دير الزور كان يُلقي البراميل على رؤوس شعبه، فما الذي كان يترتب علينا فعله حيال هذا؟ نحن حاولنا أن نحول دون وقوع هذه الكوارث، ولكن المسؤول الأول عن كل ما حدث هو الأسد”. أما “الادّعاءات التي روجّها الأسد، واتهمت تركيا بأنها كانت ترغب في جعل الأخوان المسلمين شركاء له في السلطة، فهي لا تمتّ إلى الواقع بصلة. “ومما يزيد من صدقية رواية رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، أنه لم يتردّد، نهاية العام الماضي 2019، أي قبل تسعة أشهر من شهادته هذه، في الحديث عن ضرورة “الالتقاء بالجميع”، أي بمن فيهم الأسد، في سبيل تحقيق السلام الدائم في سورية.

وقد جاءت شهادة أماني مخلوف قبل أسبوع لتكمل رواية رئيس الوزراء التركي السابق، أضافت إليها معلومات جديدة تفيد بأن تركيا لم تكن وحيدة في المساعي لترشيد رد فعل الأسد وإقناعه بمخاطر زج الجيش في حربٍ ضد المحتجين السلميين. فقد كانت تعمل بالتعاون مع “مجموعة العمل العربي” في جامعة الدول العربية، بهدف بلورة مبادرة مشتركة لإيجاد حل للأزمة، ولم يكن يخطر لأحدٍ من هؤلاء أن يطرح أو يتحدث أبدا عن تغيير نظام الحكم في سورية. “كل ما كانت تسعى إليه المملكة السعودية وتركيا إقناع الحكومة السورية بحزمة إصلاحاتٍ تعيد الأمور إلى مجراها”. وبحسب وصف أحد العاملين في الخارجية السعودية الذي تحفظت مخلوف على ذكر اسمه، أنه ذكر لها بالحرف أن الأسرة المالكة لم تكن “مسرورة بالحدث السوري بل عملت ودعت إلى تطويقه، خوفا من امتداده إلى الخليج والسعودية”.

(2)

وفيما يتعلق بالعمل الإرهابي الذي أودى بحياة أهم الشخصيات القيادية التي تشكلت منها خلية الأزمة التي شكلت لمعالجة قضية الثورة الشعبية، والتي يبدو أنها كانت المحاور الرئيسي للأطراف العربية والدولية في ذلك أيضا، فإن أماني مخلوف تضعه في إطار الصراع الذي دار بين إيران من طرف وجامعة الدول العربية وتركيا من طرف آخر على السيطرة على المقدّرات السورية. تروي مخلوف: كان “التخبط يسود القصر الجمهوري. وفي يوم واحد، استقبل السيد أبو سليم دعبول مدير مكتب الرئيس السوري مدير المخابرات المصرية السابق السيد عمر سليمان كوسيط وطرف عن الجامعة العربية والجنرال الإيراني حسين همداني الذي التقى بالسيد ماهر الأسد والسيد أبو سليم دعبول. وطلب الجنرال همداني دخول وحدات خاصة إيرانية وتعهد بقمع المظاهرات خلال أسبوعين. بالمقابل، أعطى السيد عمر سليمان ورقة عمل للجانب السوري تتضمن إصلاحات سياسية واقتصادية. وتعهدت دولتان خليجيتان بتقديم 10 مليارات دولار لإجراء إصلاحات اقتصادية في سورية واستثمارات بملايين الدولارات”.

وكانت خلية الأزمة قد اجتمعت مع عمر سليمان ومبعوث أمير قطر عدة مرات، و”التقت بوفود عربية وتركية، وكانت النتائج النهائية للاجتماعات فك الارتباط السوري بإيران وحزب الله عسكريا، وإجراء مصالحة وطنية شاملة، حتى لجماعة الإخوان المسلمين، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السوريين (معتقلي الرأي) من السجون السورية، وتقدّم دولة قطر (مقابل ذلك) تعويضات مادية لجميع ضحايا الحرب. وبعد توقيع الاتفاق، كان مقرّرا خروج الجامعة العربية بموقف موحد داعم للرئيس بشار الاسد، تعقبه زيارة للملك السعودي الى سورية، وتقديم مساعدات مادية للدولة السورية. هذا الأمر أغضب إيران ووكيلها في الخلية جميل الحسن الذي اتهم حسن تركماني بالعمالة لتركيا أمام الجميع”.

ومن الواضح، كما تذكر مخلوف، أنه “مع وصول الجنرال همداني وقاسم سليماني إلى سورية، انشقت الدولة السورية إلى قسمين، قسم يريد العمل مع جامعة الدول العربية وقسم موال لإيران. والغلبة كانت للفريق الداعم للجهود العربية بدعم مباشر من الخلية المشكّلة (خلية الأزمة)”. ومما فجر الصراع، وأدّى إلى اغتيال أعضاء خلية الأزمة، طلب آصف شوكت، باسم فريقه المؤيد للحل العربي، من الأسد، صرف همداني وسليماني من سورية قبل التوقيع النهائي على الاتفاق. بينما “كان قاسم سليماني وهمداني وماهر الأسد وجميل الحسن قد اتفقوا على إنهاء خطر آصف شوكت والخلية المشكلة، حيث قام أحد سائقي الشهيد آصف شوكت بإدخال حقيبة المتفجّرات إلى قاعة الاجتماع”. ومن يعرف المكان، تضيف مخلوف “يعلم أنه من المستحيل الوصول إلى المبنى والصعود إلى قاعة الاجتماعات ووضع متفجرات. بكل أمانة أقول لكم، العمل كان مدبرا بأوامر إيرانية وتوجيهات من ماهر الأسد للأسف وجميل الحسن الذي تغيب عن الاجتماع”.

هكذا ربحت طهران الصراع على سورية داخل النظام، وضد سورية وجامعة الدول العربية وتركيا، وقبل ذلك وأهم منه ضد الشعب السوري، بعد أن قدّمت “إغراءات لعملائها” فيه. وعلى أثر ذلك، “تم نقل ملف سورية من الجامعة العربية إلى مجلس الأمن بدعم عربي تركي فرنسي أميركي”. وتختم مخلوف مقالها، بالتساؤل: “هل عرفتم من كان السبب في قتل 300 ألف شاب من أبناء الطائفة العلوية، وزجهم في محرقة مع أهلهم من باقي الطوائف؟ هي إيران ورعونة جميل الحسن والسيد ماهر الأسد للأسف. أقولها، بكل حرقة قلب، السيد ماهر الأسد وجميل الحسن وقاسم سليماني وهمداني وحسن نصر الله هم الذين قتلوا الخلية”.

تأتي هذه الشهادات لتؤكد ما ردّده سوريون كثيرون منذ سنوات، أن المؤامرة الحقيقية الوحيدة التي عرفتها سورية هي التي حاكها النظام، بتوجيه من دولة ولاية الفقيه وعملائها السوريين المباشرين، لإسقاط الدولة السورية وبث الخراب والفوضى فيها، كما حصل من قبل في العراق، لتسهيل السيطرة عليها وإلحاقها بامبرطورية وهمية من صنع خيالها. وأن الثورة السورية مثلت الخطر الأكبر عليها، بمقدار ما هدّدت باستبدال سلطة الشعب وسيادته بنظام الإرهاب والحرب الطائفية المعممة التي تراهن عليها، والتي لا يزال المشرق برمته يعاني من ويلاتها، ويخوض في دمائه بسببها ويتخبّط في مستنقعها.

العربي الجديد

—————————————–

الحل السوري الذي لا يأتي/ عمر قدور

تلاشت تماماً التوقعات حول تغييرٍ ما يحدث في سوريا؛ مرت أزمة رامي مخلوف كشجار عائلي بقيت تأثيراته في إطار تدوير الثروة ضمن الدائرة الضيقة، واستقرت ارتدادات قانون قيصر كما هو الحال المعتاد للعقوبات الاقتصادية ضد هذا النوع من الأنظمة. حليفا بشار لم يبارحا أيضاً السياسة المعروفة عنهما لجهة عدم الاعتراف بتأثير العقوبات، وما لم يكن مؤثراً على سياسة كل منهما في بلده لن يؤثر عندما يتأذى من العقوبات شعب آخر، على رغم اختلاف ما هو مطلوب أمريكياً من موسكو وطهران.

إذاً، بخلاف الآمال التي انتعشت قبل مدة، ها هي الساحة السورية مفتوحة أكثر من قبل على احتمالات التصعيد، وإذا لم نشهد حتى الآن معارك كبرى فإن احتمال نشوبها قائم، والرسائل المتفجرة المتبادلة قد لا تغني عنها. مثلاً، بلا ضوضاء تتبادل موسكو وأنقرة توجيه تلك الرسائل التي لم تعد مقتصرة على جبهة إدلب، بل تعدّتها إلى مناطق تعتبر مستقرة للنفوذ التركي. الخلاف بين البلدين في ليبيا قد يلقي بثقله على تفاهمهما في سوريا، وإن كان الصراع هناك مفتوحاً على الأطماع بينما تستوجب علاقة “الجوار” في سوريا ضبطه.

ثمة إجماع على أن القضية السورية خرجت من أيدي أصحابها الأصليين، وهذا يستتبع الإقرار بأن سوريا أصبحت ساحة لصراع دولي وإقليمي، بأدوات سورية أحياناً وبحضور الأصلاء أحياناً أخرى. بناء على ذلك، الحل في سوريا لن يأتي إلا عندما تكون الأطراف الدولية والإقليمية جاهزة له، ولم تعد بحاجة إلى ساحة “تتفاوض” فيها باستخدام العنف، وبتمرير الرسائل المحدودة أو غير المباشرة التي لا تكلفها خوض حرب بين دولتين بالمعنى الكلاسيكي.

ما يحدث على مقلب أية جهة “أداة” سورية غير مهم إلا بقدر ما يكون مؤشراً جاداً وواضحاً على تغير لدى الجهة الراعية، وعلى ذلك قد نخطئ إذ نحمّل بعض التفاصيل ما لا يحتمله من تأويلات. على سبيل المثال، هناك فارق بين سعي موسكو إلى هيمنة أوسع على التركيبة الأسدية وبين إعادة تأهيل التركيبة على نحو مغاير، أو تجهيزاً لتسوية مقبلة. لقد شاهدنا نوبات غضب روسية من الأسد وحلقته الضيقة، لكن سرعان ما تم امتصاصها من دون أثر على تلك التركيبة، ما يستدعي فهم الغضب ضمن حدود متدنية من اقتسام النفوذ والمنافع لا ضمن مخطط روسي لما بعد الأسد. كذلك هو تبادل الأدوار بين موسكو وطهران في سوريا، حيث يسير التنافس والتحالف على خطين متوازيين ومتوازنين، وبما يضمن متانة تحالف البلدين حتى الآن في العديد من المجالات، ما يتعلق منها بالعلاقات الاقتصادية المتينة أو بالتنسيق إزاء السياسات الأمريكية والغربية عموماً.

ما هو ظاهر حتى الآن يُبرز القوى التي تستخدم الساحة السورية لتحقيق أهداف ممكنة، وقوى أخرى التي تعلن عن أجندات يستحيل تحقيقها وفق المعطيات الحالية. الأولى منهما تترك هامشاً من المناورة والسياسة، حتى إذا استخدمت القوة العسكرية العمياء المفرطة أو الذكية، أما الثانية فستكون التسوية على حسابها ما يدفعها إلى التمسك بالوضع الحالي والتصدي لأي تغيير محتمل.

موسكو مثلاً طرحت هدف الحفاظ على السيادة وعدم قبولها تغيير الأنظمة بالقوة، مع التصريح بين الوقت والآخر بأن ذلك الهدف لا يتضمن التمسك ببقاء بشار الأسد. بالطبع لم تكن موسكو مخلصة لهدفها المعلن، واستهلت حربها في سوريا بالإجهاز على كان يُسمى الفصائل المعتدلة قبل نظيرتها المتطرفة، ولم تميز على طول الخط بين سيادة سورية يُفترض أن تُمثل بمؤسسات لا بعصابة حاكمة، لكن مع ذلك تتكفل أهدافها المعلنة بالتفاوض حول تسوية لا يرفض فيها لاعبون آخرون تلك الأهداف، ويقبلون حتى ما تنطوي عليه من نفوذ روسي مستقبلي.

أنقرة استقرت أخيراً على مطلب يتيم يتعلق بهواجسها الكردية وعدم تكرار النموذج العراقي، هذا لا يلغي مطامع أخرى إلا أنه بمثابة الهدف الذي لا يمكن التنازل عنه، وما دونه قابل للتفاوض. بالطبع هناك قضايا أخرى مثل إعادة اللاجئين الذين تتحمل العبء الأكبر لاستضافتهم، وعودتهم تقتضي تغييراً يسمح بها كعودة طوعية آمنة، أما الحديث عن مطامع تركية أضخم، ومنها ضم أجزاء من سوريا، ففيه الكثير من عدم الواقعية وعدم الانتباه إلى التنازلات التركية على مسار أستانة وما تعنيه من استعداد لتنازلات تخص التسوية النهائية طالما أنها لا تمس المخاوف التركية المُتفق عليها داخلياً إزاء المسألة الكردية.

واشنطن وتل أبيب تتقاطعان عند هدف إخراج الإيرانيين من سوريا، ولا تطرح تل أبيب اشتراطات أخرى على بقاء بشار وطبيعة حكمه، بينما لا تطالب واشنطن بأكثر من تطبيق ملطّف لقرار مجلس الأمن 2254. المعركة التي يخوضها الطرفان ضد الوجود الإيراني في سوريا، وصولاً إلى شبهة استهداف منشآت في العمق الإيراني، تجد في الساحة السورية ملعباً مفضلاً، تضرب فيه إسرائيل من دون أن تتحمل طهران حرج الرد. البلدان لا يتكلفان ثمناً في الساحة السورية يدفعهما إلى استعجال الحسم سلماً أو حرباً، فالطيران الإسرائيلي يحظى بحرية القصف من الأجواء السورية واللبنانية، والوجود العسكري الأمريكي في شرق سوريا قليل الكلفة وافر المردود في الوضع الراهن وفي إطار أية تسوية محتملة. المؤشرات الواردة من واشنطن تفيد بتفضيل التوصل إلى تسوية والانسحاب على أساسها، لأن بقاء مستداماً في سوريا قد يؤدي إلى التقسيم غير المطروح بسبب تداعياته على مجمل المنطقة.

داخلياً، لن يأتي أي حل إلا على حساب سلطة بشار ولو لم يتضمن تنحيته. هذا وحده كفيل بأن يجعل من المتضرر في طليعة المناوئين لأي حل، ويجعل منه منضوياً بشدة في النهج الإيراني، يجمع الطرفين عدم امتلاكهما أهداف سياسية “مرنة” وطموحهما المشترك إلى عودة الوضع إلى ما كان عليه من قبل. إن كلفة اللاحل بالنسبة لطهران وبشار تهون أمام أفضل الحلول المطروحة عليهما، ما يضعهما تلقائياً على الضد من أي اقتراب منه. يجدر بنا تذكّر أن الجانبين لم يطرحا خلال السنوات الماضية أي هدف سياسي، وشعارهما المرفوع هو النصر بمعنى امتناع التغيير، لم يطرحا أي برنامج سياسي للمستقبل لا عندما كان يتلقيان الخسارات ولا عندما كانا يحققان انتصارات.

من المؤكد طبعاً أن التنظيمات الجهادية سينتهي وجودها مع أية تسوية، وبرامجها جميعاً أعلى أصلاً من إمكانياتها ومن أن يُسمح لها بالمشاركة في صياغة المستقبل، وهذه التنظيمات لن ترى في الخسارة سوى فقداناً لساحة جهاد يجب تعويضها بأخرى، بينما الفصائل وكذلك المعارضة الواقعتين تحت النفوذ التركي ليستا في وضع من يملك رؤية سياسية وطنية أو مستقلة. ولا تجد وحدات الحماية الكردية نفسها في وضع أفضل مع عدم الثقة إزاء الراعي الأمريكي، وعدم الثقة أيضاً إزاء موسكو وبشار، مع التخوف الحالي والمستقبلي من المصالح التركية التي أثبتت أولويتها في عفرين وشرق الفرات. من المتوقع أن تكون سلطات الأمر الواقع جميعاً متخوفة من حل سيضحي بها أو بطموحاتها، وقلقة في الوقت نفسه من هشاشة الوضع الحالي.

لن يكون الحل سورياً كما تروّج الرطانة الدبلوماسية للدول المنخرطة في الصراع، والأهم أنه لن يأتي ما لم تكن هذه القوى وصلت إلى تفاهمات نهائية تخص صراعاتها البينية قبل صراعها في سوريا. وفق توزع اللاعبين وأولوياتهم، لم تنتفِ بعد الحاجة إلى الساحة السورية، ولا بديل عنها حتى مع وجود ساحات مثل اليمن وليبيا. لذا ربما علينا، قبل التورط كل مرة في الحديث عن اقتراب الحل، النظر جيداً إلى ما إذا كان أصحاب الحل الفعليون جاهزين له.

المدن

————————————-

في تفاقم الجحيم السوري/ عمر قدور

يؤكد الوضع السوري ما قد يكون قاعدة عامة، وهي أن غياب الاحتمالات الجيدة يفتح تلقائياً على الاحتمالات الأسوأ. وهكذا، مع توالي الانحدار، ما كان يعتبر الأسوأ قبل حين قد يُرفع إلى مرتبة الأقل سوءاً. المخيف في هذا المسار أن المدى المنظور ينذر باستمراره، خاصة في الأشهر المقبلة التي من المرجح أن تشهد تفاقم الجحيم السوري إلى حد كان يصعب تخيله حتى قبل أشهر قليلة. واحد من الأمثلة شهدناه قبل مدة من انهيار الليرة السورية، ما يؤكد قاعدة الاحتمالات السيئة أن سعر صرفها قد تحسن مع استمرار التراجع الحاد في مستوى المعيشة. فضلاً عن الإجراءات القسرية التي اتخذتها سلطة الأسد وساهمت في رفع سعر الصرف، يشير الأخير إلى انخفاض حاد في الطلب على الدولار رغم الحاجة الحالية إلى الأخير لاستيراد السلع الأساسية، أي أن الأسوأ ليس ارتفاع سعر صرف الدولار وإنما انخفاض الطلب عليه بسبب التدني المريع في الاستهلاك.    

في الأيام الأخيرة لم يعد تفشي كورونا احتمالاً مفزعاً، لقد أصبح واقعاً يصعب إخفاؤه، ومن مظاهره التحدث عنه علناً في صفحات موالية على وسائل التواصل الاجتماعي، بل نقل رسائل عن الأطباء تنصح بعدم ذهاب المصابين إلى المستشفيات لأن الأخيرة غير قادرة على تقديم شيء لهم سوى العدوى إن لم يكونوا مصابين حقاً. أرقام الإصابات التي صارت تعلنها سلطة الأسد لا تواكب ما يحدث، وهي محكومة بما هو معروف عنها من كذب، ومحكومة أيضاً بعجزها عن إجراء الفحوص وتقديم الحد الأدنى من الرعاية الطبية ضمن ما تبقى لديها من منشآت بعد أن تولت قواتها تدمير نسبة معتبرة منها.

لقد أدى تفشي الفيروس إلى تركيع دول ذات إمكانيات صحية واقتصادية لا تقارن بأطلال سوريا، وحتى الآن لا يتوفر له علاج أو لقاح، وما تفعله الأنظمة الصحية في معظم الدول هي مساعدة مناعة المصابين على المقاومة حتى الشفاء. الخصوصية السورية ليست فحسب في تدني الإمكانيات الصحية، وإنما أيضاً في آثار هذا التدني خلال السنوات الماضية، فكما نعلم نسبة كبيرة من ضحايا الفيروس هي من المصابين بأمراض أخرى، وهنا تلعب الرعاية الصحية السابقة دوراً مهماً في تقليل عدد الضحايا وهذا مفتقد في الحالة السورية حيث شهد العقد الأخير تدنياً حاداً في كل ما يتصل بالصحة العامة، ولدى كافة الشرائح العمرية.

أمر آخر أظهرته التجربة في دول أخرى “متقدمة”، هو التفشي الأكبر للفيروس لدى الشرائح الأفقر التي لم تملك مستوى جيداً من الرعاية الصحية السابقة، والتي لا تمكنها ظروفها من اتباع سبل الوقاية الموصى بها. في سوريا اليوم هناك 85% من السكان تحت خطر الفقر، أي أن السواد الأعظم منهم غير قادر على تكاليف الحد الأدنى من الوقاية. الاستهتار المعتاد بحياة السوريين قد تكون كلفته مضاعفة، فالبلد لم يلتقط أنفاسه بعد جراء النزيف البشري الهائل بين قتلى ومهجّرين، لكن لا يُتوقع إطلاقاً أن تحيد سلطة الأسد عن ذلك الاستهتار كأن تقدم الصورة الحقيقية عن الواقع وعن عجزها، أو أن تعلن البلد منكوباً وتطالب بلا شروط بمساعدات أممية.

الخبر الذي يُضاف إلى ما سبق من السوء أن القوى الكبرى ستكون خلال الأشهر القليلة المقبلة منشغلة بتحصين أوضاعها الصحية والاقتصادية، ولن تتخذ مبادرات خارجية ولو في الحد الأدنى المعتاد، ولن يكون لسوريا حضور إلا من خلال تطورات عسكرية محتملة. القوى التي لم تُظهر اكتراثاً بحيوات السوريين الذين يقصفهم الأسد، في وقت لم تكن فيه الظروف على النحو الحالي، هذه القوى لن تكترث اليوم بحيوات سوريين آخرين، وستقتصر رؤيتها للشأن السوري من زاوية الصراع الدولي والإقليمي فيها لا غير.

على صعيد متصل، قد تحتدم المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية من البوابة السورية، فتل أبيب تسعى إلى الاستفادة القصوى من الوقت المتبقي حتى انتخابات الرئاسة الأمريكية، وطهران تتحاشى تصعيداً مباشراً من جبهة الجنوب اللبناني ربما تكون كلفته أعلى بكثير من استخدام الساحة السورية. لن تحدث مواجهة شاملة تكون قوات الأسد جزءاً منها، لكن تل أبيب أنذرت سلطة الأسد بأنها لن تبقى خارج طائلة العقاب في حال أتى الرد الإيراني من جهة الأراضي السورية. إذا تحقق هذا السيناريو فسيأتي الرعب من كافة أماكن تواجد القوات والميليشيات الإيرانية، وهي منتشرة من شمال سوريا إلى جنوبها. أية مواجهة عسكرية جديدة ستنعكس آثارها سلباً على وضع إنساني شديد الهشاشة، لكنه آخر ما يؤخذ في الحسبان من قبل كافة الأطراف المعنية.

لا تبذل موسكو جهوداً علنية لتجنب التصعيد بين حليفيها الإسرائيلي والإيراني، ولا تستغل وجودها العسكري لرسم خطوط حمراء أمام المتحاربَيْن. ما كان واضحاً خلال الأسابيع الماضية أنها أيضاً لم تعبأ بالأزمة الداخلية الخانقة لمناطق سيطرة الأسد، بعد أن وبخته على فساده بوصفه سبب الأزمة. القوة الوحيدة القادرة على فعل شيء ما لتحسين شروط الجحيم السوري غير راغبة في ذلك، وليس جديداً على السياسة الروسية هذا النوع من اللامبالاة، وقد يعززها انصراف جزء من التركيز إلى ليبيا، وجزء آخر إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية في تشرين الثاني، وهي أقرب إلى تل أبيب بتفضيل بقاء ترامب على انتخاب الديموقراطي بايدن.

حدثان هما الأهم ينتظرهما العالم في خريف هذه السنة، صحياً توصلُ التجارب إلى إثبات فاعلية لقاح أو أكثر ضد كورورنا، وسياسياً معرفةُ المقيم الجديد في البيت الأبيض. عملياً سينقضي ما تبقى من السنة في انتظار الحصول على لقاح ناجع، مثلما ستنتظر القوى الدولية والإقليمية تنصيب الرئيس الجديد في حال فوز الديموقراطيين لتبني على ذلك سياساتها. ستكون هذه الأشهر ثقيلة جداً على العالم بأسره، وهي أثقل على السوريين مع انفتاح جحيمهم على مزيد من السوء، والتواريخ المنتظرة لن يأتي شقها السياسي بحل سحري لهم، أما الخلاص الصحي المأمول فمن المستبعد جداً أن يكون عادلاً في توقيته.

المدن

——————————————–

عشرون عاماً .. واكتمل الخراب في سورية/ عمار ديوب

مضى على حكم الرئيس بشار الأسد في سورية عشرون عاماً. قضى العشريّة الأولى في تحويل بنيّة الدولة لتصبح ليبراليةً في الاقتصاد، وتظلّ استبدادية في السياسة، ولصالح الفئات الطفيلية المرتبطة بالسلطة تاريخيّاً. العشريّة الثانية نتاج الأولى، حيث انهار الاقتصاد العام، وتلاشى الوعي الاشتراكي والقومي، وأصبحت بنى المجتمع طوائف وعشائر، وتقومن الأكراد، وتقلصت القيم الإيجابية. وأدّى هذا إلى بداية انفجارٍ اجتماعيٍّ كبيرٍ، تلا ثوراتٍ عربيّة، ومناخٍ إقليميٍّ، يفتح الأفق نحو تغييرٍ كبير في بنى الأنظمة، وتوجهاتها.

بعيداً عن الركاكة، وأيّ إصلاحٍ هو الأدقّ في سورية في عام 2000 وما بعده، حيث تمحور النقاش: أنبدأ بالاقتصادي أم الإداري أو السياسي، فإن النتيجة، وقد بُدِئ باللبرلة، كانت انهيار حياة الأغلبية. بعد 2011، انتصر الخيار الأمني، في مواجهة المجتمع، وضد فئاتٍ في السلطة، راغبةٍ بالتغيير، “خلية الأزمة” وسواها، وكما تبدى أخيرا عبر التضييق على التجار، ومن أثرى في سنوات الحرب، ووصل البلّ إلى الذقن، أي إلى رامي مخلوف، والذي، شُلِّح أغلبية مؤسّساته داخل سورية. وربما، ولولا حمايةٍ من روسيا لتمّت تصفيته، وهذا متروك للمستقبل، حيث أصبحت سورية، نظاماً ومعارضة، مرهونةً للدول الخارجية.

مكّنَ نفسه جيداً بشار الأسد، وعبر روسيا وإيران في العشرية الأخيرة، ولكن ذلك ليس نهاية المطاف؛ فالتسوية لم تبدأ بعد، والسيئ أن ضعف نظامه يجعله ورقةً بيد تلكما الدولتين، والدول ليست جمعيات خيرية في النهاية! وعالمياً وإقليمياً، هناك صراع جاد حول بقائه أو تغييره. وفي أفضل الأحوال نزع أغلب الصلاحيات منه، في حال اُتُفِقَ على تسويةٍ، تتضمن بقاءه.

لم يستثن فيروس كورونا سورية، وإذا واجهه النظام بحزمٍ في الشتاء، فإنّه رعى انتشاره في الصيف، كما يبدو. تكاثرت أعداد المصابين، ولم يعمد إلى أيّ حجرٍ أو حظر، وهذا ساهم في انتشاره في كل مدن سورية المحتلة، غرباً وشمالاً وشرقاً وجنوباً. أسباب كثيرة لموقفه الصيفي هذا؛ ربما يكون السبب معرفته بعدم قدرة الشعب على البقاء من دون عمل، حيث أوضاعهم الاقتصادية منهارة أو استيراد أجهزة طبية للكشف، وتخصيصها ببعض الطفيليين، وهذا سيشكل سيلا ماليا للأعوان وللسلطة. وربما يشكل انتشار الفيروس ورقة ضاغطة على الأمم المتحدة أو منظمة الصحة العالمية وسواهما، لتقديم المساعدات، المتعدّدة الأشكال، والنظام أحوج إليها. ما نعرفه جيداً أن الدول تسعى جاهدة لتطويق هذا الوباء، بينما الدولة السورية تتركه ينتشر، وبذلك يكتمل فشلها، حيث أصبح عاماً، والحمد لله.

على الرغم من هروب ملايين السوريين إلى الخارج، ووجود مئات آلاف في المخيمات، وتراجع مختلف أشكال الإنتاج، وانتشار فيروس كورونا، فقد أجرى النظام الانتخابات التشريعية في مجتمعه المتجانس، وبالتالي لم ينتخب قرابة نصف الشعب السوري فيها، ولم يحاول إشراكه بطريقةٍ ما، ورفضت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أن تجري الانتخابات في الحسكة ودير الزور والرقة، وفي إدلب لم تجر كذلك، وأيضاً في المناطق التي تسيطر عليها تركيا؛ على الرغم من ذلك كله، تحدث موالون كثر عن الفساد في الانتخابات، وعدم شرعيتها! الانتخابات هذه ندّدت بها دول كثيرة، وبالكاد أبدت موسكو تعليقاً عليها، وهو بين رفضٍ وقبولٍ شكليٍّ فيها، حيث تُكرّر “ثرثرتها” بأنّه نظام شرعي، وعليه أن يُحدّثُ مؤسساته!

التحذيرات الإسرائيلية والأميركية من الاستمرار بالعلاقة مع إيران لم تتوقف منذ 2011. وعلى الرغم من ذلك وَقّعَ اتفاقا عسكريا شاملا مع إيران، وينص على إقامة نظام دفاع جوي إيراني. وهذا ما دفع إسرائيل إلى تصعيدٍ أكبر، شمل في الأسبوع الأخير مواقع عسكرية كثيرة، إيرانية وسورية. عدا التحذيرات، هناك ما يشبه الإجماع الدولي والإقليمي أن إيران يجب أن تخرج من سورية؛ يضاف إلى ذلك تطبيق قانون قيصر. هي عوامل عديدة إذاً، وتؤكد ضرورة أن يصحو النظام السوري من السكرة الإيرانية، ويتعقّل، ويرى مصيره الذي سيقرّر في أيّة تسويةٍ مستقبلية، ولن تكون لصالح شخصيات أساسية فيه. ولكن عبثاً؛ هو بذلك، لا يُفرّط بالشعب وببعض تيارات في السلطة فحسب، بل وبذاته كذلك؛ إنّها الحماقة.

لن نفترض، كما بعض الأبحاث العلمية، أنّه لو لم يعتمد النظام الخيار الأمني واعتمد الخيار الوطني النهضوي، لكانت سورية في أفضل حال. لا لا، حيث إن سياسات النظام في عام 2000، ومنذ السبعينيات، هي ما أدى إلى ما نراه اليوم. وكذلك لن ننشغل كثيراً بالدور الإيراني، وقد يكون صحيحاً، في دفعه إلى الخيار الأمني، فتاريخ السلطة تاريخ الخيار الأمني، وبالتالي دُمرت سورية، وإذا كان للنظام دور مركزي في ذلك، فإن كل الدول والأطراف المتدخلة بالشأن السوري ضالعةٌ في ذلك الدمار، والخراب، والذي أصبح شاملاً، والأسوأ أن المعارضة، بأغلبية تياراتها، مُخرَبة ومشوهّة، ويعوزها كثير من الوطنية.

بخصوص المعارضة، ومنذ أكثر من عشرة أيام، أثار التبديل التافه بين أنس العبدة، حيث انتقل من رئاسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية إلى رئاسة الهيئة العليا للمفاوضات، وعكس ذلك، انتقل زميله نصر الحريري من رئاسة الهيئة إلى رئاسة الائتلاف، سخريةً مريرةً وألماً كبيراً لدى أغلبية المعارضة السورية، والشعب الذي انتفض يوماً. الفعل هذا هو من أشدّ حالات الاستهتار، وهو تعبير عن تبعية هذه الشخصيات للدول الإقليمية. يتجاهل التبديل المنحط هذا مئات من أفراد النخب السورية المعارضة، وهي جديرة بأن تتبوأ تلك المناصب وسواها. هيئات المعارضة هذه، كما النظام، تبتذل مفهوم الانتخاب والتمثيل السياسي والعمل المؤسساتي والحس الوطني، لصالح شخصياتٍ مضمونة وخاضعة، وذليلة.

مضت عشرون عاماً، انكشف المجتمع السوري فيها كلّيّا، ولم يحفظ لنفسه سنداً أو هوية أو إجماعاً يركن إليه للنهوض، بل أصبحت فئاتٌ كثيرة منه موزعةً بين دول متعدّدة؛ فيوالي بعضها تركيا أو روسيا أو أميركا أو إيران، وهذا مأساوي لشعبٍ انبعث من الموت، وقام بثورةٍ عظيمة، وإذا بنظامه ومعارضته يقودان البلاد إلى الدمار والخراب والاحتلالات.

ثمّة احتلالات عدّة، وتحتل سورية بأكملها، والمشكلة في غياب التوافق بينها، ورغبة كل منها في ترسيم مناطق نفوذها وتعزيزه باعتبارها أوراق ضغطٍ إلى حين التسوية. الأسوأ أن روسيا التي هناك إجماع، إلى هذه اللحظة، أن سورية من نصيبها، لم تعِ بعد أن من أكبر أخطائها ربط احتلالها سورية بتسوياتٍ عالمية، ومنها أخيرا الوضع المفتوح في ليبيا.

سمح الوضع المتأزم في سورية، والمعقد، لتركيا بإرسال آلاف المقاتلين السوريين إلى ليبيا، وهناك تقارير تؤكد إرسال روسيا مقاتلين سوريين إلى البلد ذاته. الأسوأ من هذا وذاك أن لا وطنيّة حقيقية في سوريّة ترفض أحوال بلادها. وأمّا استجابة الوطنيين السوريين، وقد أصبحوا فئات هامشية، فهي متدنية إزاء كارثية الوضع الذي وصل إلى الاستنقاع، ومنه الارتزاق؛ سورية بحالتها المعقدة أعلاه، وبعد عشرين عاما من سلطة الاسد الابن، تتجه نحو مزيدٍ من التشظي والخراب والدمار وتمكين الاحتلالات منها، سيما الروس.

العربي الجديد

——————————————

بشار الأسد.. عشرون عامًا/ خضر الآغا

في انقلاب على الدستور الذي وضعه الأسد الأب ذاته، وعلى المجتمع، وعلى الأعراف الدولية، استلم بشار الأسد السلطة وراثة عن أبيه؛ حافظ الأسد، أحد أشرس طغاة الشرق، إن لم يكن أشرسهم على الإطلاق، وذلك في 17 حزيران/ يونيو 2000.

ذلك التاريح الذي يعرفه السوريون جيدًا، يعرفونه كفضيحة تلاحقهم كما لو أنها ظلهم، يعرفونه مثل مرض خبيث تشكل على مرأى منهم خطوة خطوة حتى فتك بهم… في ذلك الوقت شاعت فكرة غبية وهي أن بشار الأسد عمل في لندن كطبيب وعاش فيها، الأمر الذي يعني أنه يعرف كيف تعيش الدول الحديثة وأنه -ربما- سيقود البلد نحو ذلك، وصدقها كثير من السوريين، ربما عن طيبة قلب، أو ربما كنوع من الحيلة لإرغامه على تنفيذها، أو أملًا بمنحه فرصة نادرة ليقوم بإصلاحات يحتاجها المجتمع كعلاج ما قبل الموت، فكثرت الرسائل والبيانات التي توجهت مباشرة إليه ودعته لإنقاذ البلد، وقد اشتهر آنذاك بيان الـ 99، ورسالة الأستاذ أنطون مقدسي. فكان من نتائج البيان أن تم استدعاء العديد من موقعيه إلى التحقيق، وتم منع بعضهم من السفر، وكان أن تم فصل الأستاذ مقدسي من عمله كمدير للتأليف والترجمة في وزارة الثقافة بعد أن أمضى فيها ناحجًا حوالي الـ 35 عامًا، ولولا قيمته الثقافية والاجتماعية وكبره في السن كان يمكن أن تكون النتيجة فادحة أكثر.

وعندما لم يقدم الرئيس الوريث على أي نوع من الإصلاحات شاعت فكرة أخرى وهي أن “الحرس القديم” يمنعه من ذلك، والمقصود بـ”الحرس القديم” المجموعة المقربة من أبيه والتي بقيت في السلطة بالمواقع السياسية والأمنية والعسكرية ذاتها، فخيره السوريون عبر فكرة أشاعوها هم أنفسهم هذه المرة وهي أن عليه أن يختار: إما “الحرس القديم” وإما الشعب، بحماية الشعب نفسه!

وشاعت فكرة أخرى أعتقد أنها مشتركة بين أركان السلطة وبين الناس، وهي أن بشار الأسد إنسان ضعيف، متردد، ولا يقوى على شيء، وأن ثمة فرق هائل بينه وبين أبيه، وأعتقد أن أركان السلطة أرادوا بذلك أن يجعلوه يمشي على نهج أبيه في القوة والبطش، وأن الناس أرادوا بذلك أن يحثوه على اتخاذ قرار الانحياز لهم!

وضمن تلك الفكرة العامة التي سيطرت على المشهد السوري إبان وراثته أسّس سوريون منتديات مدنية/ سياسية وتباحثوا خلالها في المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأنشأوا لجانًا أسموها “لجان إحياء المجتمع المدني” الذي صفّاه الأسد الأب بشكل نهائيًا، وتم تسمية تلك الفترة بـ”ربيع دمشق”، إلا أن النتيجة أن “الرئيس الشاب” قمع “ربيع دمشق” واعتقل وسجن بعضًا من أعضائه، وأغلق المنتديات، وأشاع فكرة أن الديمقراطية التي يريدها السوريون ستؤدي إلى “جزأرة” البلاد، وفق تعبير عبد الحليم خدام، نائبه آنذاك، والمقصود بـ”الجزأرة” هو أن تصير سوريا مثل الجزائر التي شهدت في تلك الفترة أحداثًا دامية سميت بـ “الـعشرية السوداء”! وبهذا تم إقفال الباب نهائيًا على كل أمل للسوريين بأن الرئيس “الأمل” قد يكون أملهم فعلًا!

من المعروف في ذاكرة السوريين أن الرئاسة كانت ستورث للابن الأكبر لحافظ الأسد وهو باسل، لكنه مات قبل ذلك، فتم تحضير بشار لمدة أكثر من ست سنوات ليكون هو الوريث، وفي هذه الفترة أطلق النظام فكرة أرغم السوريين على تردادها في كل مناسبة، وكُتبت على اللافتات والجدران وهي “باسل المثل وبشار الأمل”. لكن “الأمل” كان أملًا بتدمير البلاد وقتل ناسها تحت التعذيب في السجون وبأصناف الأسلحة واعتقالهم وتهجيرهم…

عام 2019 نشر الصحفي الأمريكي (من أصول لبنانية) سام داغر كتابًا في الولايات المتحدة بعنوان “الأسد أو نحرق البلد”، جمع مادته من اطلاعات واستقصاءات وتحقيقات شخصية قام بها عندما كان يعمل في سوريا مراسلًا لصحيفة “وول ستريت جورنال” خلال عامي 2012 – 2014 ذكر فيه أنه في شباب بشار الأسد تم اعتقال أحد السائقين في محيط العائلة لاشتباه أنه سيقوم بشن هجوم على بشار، وتعلم أطفال الأسد من تلك الحادثة أن عدوهم يمكن أن يختبئ في أي مكان ويجب ألا يعطوه أيه فرصة، وعلّم الأسد الأب ابنه بشار: “عليك بالبحث عن الخونة في كل مكان، وعليك اجتثاثهم أينما وجدوا ولا يكون لديك أية شفقة”. وفي الكتاب ذاته ينقل أن مناف طلاس (الضابط المنشق عن النظام والذي كان مقربًا من بشار وصديقًا له وقائدًا عسكريًا في جيشه) نقل أنه في العام 1995 قال له بشار الأسد: “لا توجد أية طريقة أخرى لحكم مجتمعنا سوى بالحذاء فوق رؤوس الناس”، وكان ذلك بعد سنة من موت أخيه باسل، أي أنه كان في طور التحضير لوراثة البلد. ونقل الكاتب داغر عن مناف طلاس أيضًا أن بشار وصف “جماعة ربيع دمشق” بأنهم “أشخاص فقدوا عقولهم ويعيشون في عالم خيالي” ثم أردف: “إذا منحتهم إصبعًا فسيطلبون اليد كلها”.

منذ البداية كان بشار يعيش صراعًا نفسيًا، فهو أراد أن يكون مستقلًا عن هيمنة والده، وأن يكون مثله بالقوة في الوقت نفسه، وأن يتجاوزه بالبطش أيضًا، وقد تحقق ذلك على نحو مرير منذ العام 2011 حيث ثورة السوريين، فأنشأ بدلًا من حماة واحدة 24 حماة أخرى (عدد المحافظات السورية)، وبدلًا من حوالي 40000 شهيد (قتلوا خلال مجزرة حماة) حوالي المليون، إلى آخر تلك الكارثة التي لم يزل السوريون يعيشونها على مدار الساعة منذ 2011.

عشرون عامًا كافية لبناء بلدان قوية ومزدهرة، لكنها كافية زيادة لتدمير بلدان، وهذا ما أجاده الأسد، وأعتقد أنه يفخر به على مدار الساعة. في إحدى لقاءاته التلفزيونية قال: “يقولون إن الإرهابيين يريدون تدمير سوريا، لكنني أقول لكم بالعكس، يريدونها سليمة، ليأخذوها على طبق من فضة”. الأسد مقتنع أنه سيسقط طال الزمان أم قصر، إلا أنه مقتنع أيضًا أنه لن يسلم سوريا “للإرهابيين” سليمة وعلى طبق من فضة. كان هذا قراره وقرار أبيه وأركان حكمه منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة 1970.

الترا صوت

————————————————-

مأزق الأسد!/ فايز سارة

يبين المشهد السوري أبعاداً مختلفة في المأزق الذي يحيط بنظام الأسد. ففي الجانب السياسي يستمر مأزق النظام نتيجة عدم وجود حل في سوريا وحولها، حيث ما زال النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون وميليشياتهم عاجزين عن الوصول إلى نهاية الحل الأمني – العسكري الذي يفضلونه، بل إن أبرزهم، وهم الروس، ليست عندهم قناعة بالوصول إلى حل من هذا النوع، بينما الحل السياسي ما زال بعيداً ليس بسبب الانقسامات الإقليمية والدولية حوله فقط، بل أيضاً نتيجة معارضة النظام لحل يرى فيه نهايته، ولو بعد وقت.

الأهم والأكثر سخونة وإثارة في المأزق، هو الجانب الاقتصادي – الاجتماعي الطافح في المشهد السوري. ففي معطيات هذا الجانب، ما يجعل كارثة السوريين فوق التصور والاحتمال. فإضافة إلى البطالة والفقر ومشاكل الصحة والسكن والتعليم، وما يصاحبها من أمراض ومشاكل اجتماعية، فإن انهيار قيمة العملة السورية مقارنة بالعملات الأجنبية، فاق كل التقديرات، والأمر في هذا بدا نتيجة مركبة لعوامل وتفاعلات محلية وإقليمية، أطبقت قبضتها على بلد واقتصاد منهكين، وعلى نظام هش وفاسد عاجز عن اتباع أي حل خارج ما تبقى من نهج الإكراه، مواصلاً استخدام القوة الأمنية على بطانته أيضاً؛ أملاً في الوصول إلى ما يساعده على تجاوز المأزق الراهن، إذا لم يتمكن من إيجاد حل للمأزق على نحو ما يحلم فاعلون في بنية النظام.

وسط الوضع الكارثي الذي يحيط بالمشهد السوري ونظام الأسد، يقع الأخير في حيرة اتباع مخرج مناسب، وقد سعى في السنوات الماضية إلى إجراءات تمرير الأزمة من حلقة إلى أخرى، وكان اعتماده الأقل على المصادر المحلية والأكثر على تقديمات ومعونات حلفائه الروس والإيرانيين، واعتمد في بعض الحالات على تقدمات وإعانات منحها له داعمون مجهولون من المحيطين العربي والدولي.

لقد وفرت المصادر المحلية دعماً ملموساً للنظام ساعد في تمرير سنوات الحرب. إذ تكفل بعض مؤيدي النظام من رجال المال والأعمال بتقديم مساعدات مالية للنظام، وبعضهم زاد على ذلك تشكيل ميليشيات مسلحة، تقاتل إلى جانب قوات النظام، وتضبط مناطق سيطرته، وأضاف البعض إلى ما سبق تقديم مساعدات متعددة الأوجه إلى حاضنة النظام، وكان التعبير الأبرز في هذه المجموعة رامي مخلوف، وبين أهم التعبيرات الأخرى حسام القاطرجي وفارس الشهابي والقائمة تطول. ولعبت عمليات نهب وتعفيش المناطق، التي اقتحمتها قوات النظام وتجارة المخدرات دوراً في تمويل مجموعات وشخصيات داخل النظام، كما لعبت الإتاوات على الأموال التي تم تحويلها لمساعدة السوريين من الخارج وعائدات الحواجز، ولا سيما في المناطق المحاصرة، دوراً في تمويل النظام وبعض مجموعاته وشخصياته.

إن أهم مصادر تمويل النظام والحرب على السوريين كانت مصادر إيرانية وروسية، حيث أنفقت إيران ما بين 30 و48 مليار دولار في سوريا منذ تدخلها عام 2012، في حين تراوحت النفقات العسكرية الروسية وحدها ما بين 5 و7 مليارات دولار في سنوات تدخلها ما بين أواخر 2015 ومنتصف عام 2020. وفي حين كان القسم الأكبر من الصرفيات الروسية مخصصاً للشؤون العسكرية والأمنية، فإن الصرفيات الإيرانية ذهبت إضافة إلى البند السابق إلى بنود شملت توريد الأغذية والأدوية والمشتقات النفطية والخدمات.

لقد تغيرت ظروف الأطراف جميعاً حالياً؛ إذ استنفدت سنوات الحرب معظم قدرات السوريين المادية، وانخفض عائد الأطراف المحلية من الحرب، التي تراجع عدد معاركها، وتغيرت نوعيتها، وانخفض مستوى النهب والتعفيش، وانتهت حالات الحصار الكبرى، وغابت حواجز ممرات المناطق المحاصرة، وكله انعكس سلباً على القوى المشاركة في الصراع، في حين تراجعت موارد مؤيدي النظام من رجال المال والأعمال إلى درجة، دفعت رامي مخلوف الأبرز فيهم إلى التمرد على النظام، ورفض مد النظام بالمال، فرد الأخير بإجراءات رادعة، ما زالت تتواصل، قبل أن يشمل آخرين بالإجراءات ذاتها.

ولم يكن تدهور تمويل النظام مقتصراً على الأطراف المحلية، بل أصاب الحليفين الروسي والإيراني، خاصة أن نظام الأسد لا يستطيع دفع ديونه لأي منهما، في حين لا تدر أغلب الامتيازات والاستثمارات، التي منحهما النظام مكاسب جدية عليهما لأسباب، أهمها استمرار تدهور الأوضاع السياسية والميدانية، وعزوف المجتمع الدولي عن بدء عملية إعادة الإعمار قبل الشروع في تسوية سياسية للصراع في سوريا وحولها بالاستناد إلى القرار الدولي 2254. وقد أضيف إلى ما سبق عامل مستجد، وهو وقوع كل من إيران وروسيا تحت ظروف سياسية – اقتصادية نتيجة جائحة «كورونا» والتراجع الكبير في أسعار النفط.

وبطبيعة الحال، فقد جاء تطبيق قانون قيصر الأميركي لعام 2019، ليفاقم مأزق نظام الأسد، ليس فقط من باب توسيع إطار العقوبات المفروضة عليه بما فيه من هياكل وشخصيات ذات صفة، بل من خلال اعتماد آليات جديدة من جهة، وتطبيق عقوبات على هياكل وشخصيات ذات صفة ومؤثرة في بلدان أخرى ممن يقيمون علاقات تعاون مع نظام الأسد وهياكله وشخصياته، ولا شك أنه سيتم التركيز بصفة أساسية على روسيا وإيران من بين دول لها علاقات مع نظام الأسد، وقد بدأت أول آثار ذلك في لبنان الذي لطالما سعى نظام الأسد بالتعاون مع الأوساط الحاكمة هناك، لجعله حديقة خلفية، يتنفس منها النظام، ويعالج فيها بعض مشاكله.

وإضافة إلى تدهور قدرة روسيا وإيران على الإنفاق في سوريا، فإنهما ستكونان أكثر حذراً في التعامل مع النظام وهياكله وشخصياته في المرحلة المقبلة بفعل قانون قيصر، وهو ما ستذهب إليه دول عربية وأجنبية، أبدت في العامين الأخيرين رغبة في الانفتاح على النظام ومساعدته تحت لافتات متعددة؛ منها المساعدة لدفع النظام نحو حل القضية السورية وإعادة الإعمار ومواجهة فيروس «كورونا»، وجميعها كانت لافتات مضللة.

إن خيارات نظام الأسد في مواجهة مأزقه محدودة. فإذا كانت روسيا وإيران لن تقدما قدرات جديدة للإنفاق في سوريا، بل سوف تخفضان من إنفاقهما هناك، كما أن أياً من الهياكل وأياً من الأشخاص فيهما وفي البلدان الأخرى، لن يغامر ويدخل في مواجهة خاسرة مع الولايات المتحدة، وبسبب من ضعف ومحدودية قدرات المصادر المحلية، فإنها لن تكون قادرة على الإنفاق بما يتناسب مع أدنى احتياجات النظام.

وسط الصورة السوداء لما يحمله المشهد السوري، لا يبدو هناك أي حلول يكون بإمكانها تمرير الأزمات والمشاكل الحالية، أو معالجتها بطريقة جذرية؛ الأمر الذي يجعل النظام يتخبط في علاقاته وسياساته وقراراته وإجراءاته، ليعطي للعالم انطباعاً بأنه يتحسن ويتغير، بادئاً من علاقاته مع الروس والإيرانيين التي تظهر كل يوم بتفاصيل جديدة، مروراً بالخلافات داخل الحلقة المركزية للنظام ومنها خلاف الأسد مع مخلوف، وصولاً إلى حكومته بقراراتها وإجراءاتها الارتجالية، والتي لا تراعي المعطيات المحيطة إلا من باب المصلحة الضيقة لنظام الأسد والمقربين منه، ومن هنا يمكن فهم التعديلات الجارية في قائمة المقربين من النظام بإبعاد بعض القدماء وضم أعضاء جدد في قائمة رجال الأعمال، وفي التشكيل الحكومي الجديد وفي القوائم الانتخابية لمجلس الشعب، وقبل كل ما سبق في تعيينات كبار الضباط في المؤسستين العسكرية والأمنية، التي يعتمد عليهما النظام، ويراهن عبر مساندتهما له للتغلب على المأزق الراهن أو تمريره على الأقل من دون مفاجأة كبرى.

*نقلا عن “الشرق الأوسط”

———————————————-

المعارضة السورية: «فالج لا تعالج»/ موفق نيربية

منذ أربعين عاماً انعدمت الممارسة السياسية في سوريا، بقرار من حافظ الأسد، يومَ أصابته الانتفاضة السلمية للنقابات المهنية والتجمع الوطني الديمقراطي في عام 1980 بحالة من الهلع والذعر، دفعته في فبراير من ذلك العام إلى إطلاق سراح معتقلين ديمقراطيين، ما لبث أن أعاد اعتقالهم مع مئات الكوادر القيادية والأساسية من الأحزاب والنقابات الديمقراطية، التي طالبت بالإصلاح، وإلغاء حالة الطوارئ، واحترام الحريات الأساسية.

حصل هذا بالتوازي مع ارتفاع وتيرة الصراع أيضاً بين النظام، والطليعة المقاتلة القريبة أو البعيدة من الإخوان المسلمين، وكان يهمه كثيراً إدماج الحركتين في عيون الرأي العام الخارجي، بحيث لا يرى في النظام إلا محارباً للإرهاب ونقيضاً له، وأسكت الشعب مهيض الجناح، منذ ذلك الوقت إلى عقود تالية، بعد أن توّج هجمته بمجزرة حماة الرهيبة في فبراير1980.

ما يهمنا هنا هو الحجاب بين الناس والسياسة، الذي جعله نظام الأسد سداً سميكاً من الصعب اختراقه. وما يهمنا ثانية هو اعتياد القوى المعارضة، أو ما تبقى منها على ترك مسافة ما، بينها وبين السياسة في الرأي، ومسافتين في الممارسة. ومع الزمن، أصبحت تلك العادة أصيلة مستحكمة، لم تتململ من سباتها، إلا مع موت الأسد الأب، لتقوم بمناورة على هامش الممارسة السياسية، في ما أطلق عليه ربيع دمشق، ثمّ لتوغل في ذلك الدرب خطوة أكبر قليلاً، بما أطلق عليه اسم «إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي» من خلال الجرأة التي أكسبتها إياها عملية اغتيال الحريري 2005، وتداعي هيبة النظام نسبياً. ولكن التحدي الأكبر كان مع مفاجأة الثورة للنائمين في قيلولتهم 2011. فابتدأوا بالتمطي الحركة على العادات القديمة ذاتها، بالتناحر والتنابذ، فتشكلت هيئة التنسيق الوطنية، ثم المجلس الوطني السوري، بمساهمة ممن بقي حاملاً لاسم إعلان دمشق، بعد تشتيته أواخر 2007، مع الإخوان المسلمين، وقوى مهاجرة يغلب عليها الطابع الإسلامي، وممثلي الحراك الثوري الشاب، الذين كانت رابطتهم تضعف سياسياً وتنظيمياً، بالتنافس مع الحراك المسلح والتدخلات الخارجية. وحين عجزت تلك القوى عن التقدم إلى أمام في حسم الموضوع بقوى داخلية أو خارجية. اندفعت، أو تمّ دفعها إلى تشكيل «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» للتحضير للتسوية السياسية، التي ابتدأ طبخها قبل أشهر في جنيف صيف 2012 برعاية دولية جامعة. ولقي الائتلاف ترحيباً كبيراً واعترافاً واسعاً، في الوقت نفسه الذي ابتدأت به حملة التدخل الإقليمي، فالدولي على نطاق أعمق، من خلال الفصائل العسكرية من كلّ الألوان، ومن خلال الائتلاف وعليه أيضاً.

تنافست دول الخليج في البداية، ودخلت تركيا بزحف واثق الخطى أيضاَ، كما اشتغلت الولايات المتحدة أيضاً، من خلال مكاتب الارتباط العسكرية والاستخباراتية، التي ضمت إليها المعنيين في المنطقة.. واستقرّ الائتلاف وديعاً في إسطنبول، وهيئة التنسيق ما بين القاهرة ودمشق، مع ظهور تكملة جديدة بما سمّي بمنصتي القاهرة وموسكو. الثابت الوحيد في الائتلاف كان الإسلاميون مع مجموعات لا علاقة لها بالسياسة أساساً، واستمدّت ثقافتها البراغماتية المتطرفة من خلال التجربة العملية الشاذة التي عاشها الائتلاف نفسه، ومجموعات أخرى وضعتها الصدفة الإقليمية في طريق العمل السياسي. وكان هنالك بعضنا في الائتلاف آنذاك، مع فشل الفصائل الإسلامية وتعبيراتها السياسية، أو المدنية بشكل دراماتيكي في حلب أواخر 2016، وظهور لوحة جديدة، يبدو فيها التداخل الروسي- التركي مدروساً ومتناغماً في خطاه الأساسية على الأقل، وعجز الائتلاف عن البراءة البائنة مع قوى التطرف والإرهاب، وانكشاف عملية الارتهان الكامل إقليمياً، والامتناع عن القيام بخطوات واضحة للقطع مع الحالة.. تقدمنا بمذكرة تضع بعض تلك النقاط على بعض الحروف، وظهر أنها تناطح جداراً مصمتاً لا يمكن اختراقه، فاستقال العديد منا، ليخلو بعدها الائتلاف، أو يكاد من القوى أو الشخصيات الديمقراطية (إلا من تعلّق بالوهم وخسر الرهان فابتعد مسارعاً، أو الذي تعلّق بقوة العادة فخسر نفسه).. وذلك كله إمعاناً على طريق استبعاد خيار التسييس والوطنية، لمنع انهيار التمثيل السوري، في إطار أي دائرة للبحث في حاضر سوريا ومستقبلها. الأمر الذي حدث المزيد منه لاحقاً.

أصبحت المعارضة السورية رداءً تتنازعه القوى الإقليمية، ويزداد نسيجه هشاشة، حتى شفّ ورقّ وكشف المستور، من خلال ما حدث في انتخابات هيئة التفاوض، ثم في الائتلاف نفسه، وكان الأمر فضيحة كاشفة للعجز، ولضعف الائتلاف حتى ظهر عظمه من خلال جلده.

وكنا قد طلبنا منذ أعوام، إضافة إلى المسائل السياسية والاستراتيجية – وهي الأساس بالطبع – أن تجري عملية تغيير شاملة في الائتلاف، بحيث يعاد النظر في بنيته الحالية نفسها أولاً، فتستبعد المجموعات التي كانت – ربما- تمثل شيئاً ثم لم تعد كذلك، ثم يجري عقد مؤتمر وطني بمبادرة من الائتلاف نفسه، يتم من خلاله توسعة تمثيله بشكل جدي وجذري، في الوقت نفسه الذي يتم فيه استبدال ممثلي القوى، التي مازال ينبغي استمرار تمثيلها فيه. وبالطبع كان من دون تلك المطالب خرق القتاد. لعلّ ذلك كله صرخة في وادٍ غير ذي زرع، أما ما ينفع السوريين بالفعل، فهو أن تكفّ تلك النخبة السورية الشابة عن مقاومتها للعمل والتنظيم السياسيين، وهي التي أشعلت الثورة، وجوبهت بالحديد والنار حتى تفرّق جمعها في الأرض من بعد قتل وتعذيب واغتيال العديدين منها. هنالك فكر ضروري لا بدّ أن يأتي من خارج الصندوق، وسياسات أيضاً من خارج الصندوق، وعقلية تنظيم جديدة ومبتكرة خارج كلّ الموروث المعارض، لأن هنالك درباً صعباً على البنى القائمة أن تسير فيه، يتطلب استقلالاً في القرار الوطني بالحدّ الأدنى، الذي لا وجود للسوريين إلا به، بعد أن ارتهن الائتلاف وغيره كلياً، وصرنا على حياءٍ في مطالبته بما فوق طاقته، ذلك يحتاج أيضاَ استراتيجية توحيد للقوى الموجودة كلها من خلال بنى تحضيرية تتجاوز أنانيات القائمين على الأمر، أو تلتفّ عليها بالأدوات والآليات المفيدة، ومن خلال الإقرار بقصور بنية الائتلاف الحالية وغربة الكثيرين فيه.. وليس في ذلك مطالبة بإنهاء الائتلاف رسمياً، لأنه منته فعلياً، بل على العكس، إعطاء الفرصة لمن بقي قادراً فيه على التراجع عن دربه الموحل في وسط المستنقع. يتطلب أيضاً استراتيجية جديدة، هي الشيء الوحيد الذي أصبح أسهل من السابق مع وفرة المحترفين الجدد، ومراكز الدراسات والباحثين الأكثر تطوراً. من ذلك ألّا يكون بناء على أسس عرجاء منذ بدايته، يستعجل فيها البعض احتكار الراية والطريق، ومن ثم المكاسب الآتية، التي أصبح من الصعب أن تأتي.. ومن ذلك اللجوء إلى النهج الذي يوحّد ويتواضع بأصحابه، فيمتنعون عن الجمود على تأمين مراكز القيادة والريادة، قبل المضامين والمسائل الجوهرية، خصوصاً بعد أن أثبت السوريون أنهم أناس فردانيون بطبيعتهم ليبراليون بالفطرة والإرث والعقل، لا يحتملون العقلية الجمعية الجامعة بسهولة، إلا حين يكونون في صدد ثورة بالطبع.

أصبحت مسألة انعدام تمثيل السوريين أو ضعفه الخانق في الواجهة بين المهام، بعد أن صار مألوفاِ قولنا وقول الآخرين أمام كلّ مناسبة، إن الغائب الأكبر هو صاحب الشأن والمصلحة المطلقة، ذلك الوضع هو ما يدفع نحو التنازل والتراجع وتضييع تضحيات السوريين ومستقبلهم. وخطوة عملية واحدة، تساوي عدة آلاف من المقالات!

كاتب سوري

القدس العربي

——————————————

سيرة النظام الأسدي: من تل الزعتر إلى اليرموك/ ماجد كيالي

ما يحصل اليوم وتحت ستار المخطط التنظيمي إنما هو محاولة لتصفية مخيم اليرموك، كشاهد على نكبة الشعب الفلسطيني، في إطار محاولات تصفية قضية اللاجئين، وتصفية حق العودة.

تزامنت زيارة وفد فلسطيني ترأسه زياد أبو عمرو، نائب رئيس الحكومة في السلطة الفلسطينية، والموفد الشخصي للرئيس محمود عباس، إلى دمشق راهناً، مع طرح النظام السوري مخططاً تنظيمياً يستهدف تغيير الطابع الديموغرافي لمخيم اليرموك، المخيم الأبرز، الذي يعتبر بمثابة عاصمة للاجئين الفلسطينيين، المنتشرين في شتى بلدان العالم. كأن النظام في خطوة كهذه، يستكمل مسيرته في تصفية مخيمات اللاجئين الفلسطينيين أو تسهيل هذه المسألة، التي بدأت مع تصفية مخيمي تل الزعتر والضبية (قرب بيروت- 1976)، وسط صمت فلسطيني رسمي (من المنظمة والسلطة والفصائل).

ويمكن التحقيب لسياسات النظام السوري وتحوّلاته في عهدي الأسد (الأب والوريث)، داخلياً أو خارجياً، من خلال مسارات عدة، تأتي ضمنها القضية الفلسطينية، التي كانت من أهم المسائل الإقليمية التي أصر النظام على إمساكها والتلاعب بها، إلى جانب المسألتين اللبنانية والعراقية، باعتبار كل منها مجرد ورقة يفترض أن يضعها في جيبه لتعزيز مكانته الإقليمية.

ويجدر التنويه هنا إلى أن التركيز على ذلك التحقيب لا علاقة له بفكرة (أو بادعاء) أن قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية، لأن أكثر من ابتذل واستهلك وتلاعب بهذا الادّعاء، الذي ينطوي على مخاتلة، هو النظام السوري تحديداً، الذي أراد عبره إضفاء شرعية على استبداده، وتغطية مصادرته حقوق وحريات السوريين لنصف قرن، وشرعنة تدخّلاته المضرّة في الشأن الداخلي الفلسطيني.

منذ البداية تمكن ملاحظة أن الأسد (الأب) أتى إلى سدّة السلطة في سوريا بواسطة انقلاب عسكري (أواخر عام 1970)، أي بعد خسارة الجولان إبان توليه وزارة الدفاع وقيادة القوى الجوية (في حرب 1967)، وأن ذلك حصل بالتزامن مع أحداث أيلول/ سبتمبر (1970)، المتمثلة بالتصادم بين النظام الأردني والحركة الوطنية الفلسطينية، آنذاك، وكان ذلك بمثابة التذكرة التي قدمها للنظامين العربي والدولي، لشرعنة وصوله إلى الحكم، ولشرعنة دوره الإقليمي. بعد ذلك، قام النظام السوري بوقف العمل العسكري للفصائل الفلسطينية من جبهة الجولان، نهائيا، منذ العام 1974 (أي بعد حرب تشرين 1973)، رغم تشدقه بمقاومة إسرائيل. لكن التصادم الأكبر بين النظام السوري والحركة الوطنية الفلسطينية حصل مع دخول الجيش السوري إلى لبنان (1976)، الذي استهدف الحركة الوطنية اللبنانية، أيضاً، آنذاك، وقد شهدنا حينها اغتيال شخصيات لبنانية، أهمها كمال جنبلاط. والمعنى أن النظام اشتغل بشكل متعاكس في الحالين الأردنية واللبنانية، لكن من الناحية الشكلية، فقط، في حين أن الهدف كان هو ذاته، ففي الأولى أتى الاستنكاف عن التدخل لإضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي الثانية تم التدخل لإضعاف الحركتين الوطنيتين الفلسطينية واللبنانية (بغض النظر عن رأينا في تلك التطورات أو الصدامات أو تقييمنا لها من الجهة الفلسطينية).

وبشكل أكثر تحديداً، فقد دأب نظام الأسد على التلاعب بقضية فلسطين، وتوظيفها في خدمة سياساته، وضمن ذلك فقد دأب باستمرار على بذل الجهود للتدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي، والسيطرة على القرار في منظمة التحرير، حتى أن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان أشهر شعار: “القرار الفلسطيني المستقل” في وجه النظام السوري وضد محاولات حافظ الأسد تحويل منظمة التحرير إلى ورقة في جيبه يساوم عليها لتحسين مركزه إزاء الولايات المتحدة.

وللتذكير فإن ذلك النظام كان شكّل فصائل فلسطينية موالية له، أو دعم تشكيلها، ضمنها الصاعقة والجبهة الشعبية القيادة العامة، يضاف لهما تلك الفصائل التي استمالها، أو نظم فيها انشقاقات لصالحه في ما بعد، وفي السياق ذاته، أتى طرد الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من سوريا 1984، بعد انشقاق حركة “فتح الانتفاضة” (1983). ما نجم عنه اعتقال معظم كوادر “فتح”، بل إن هذا النظام لم يتوانى عن منع الرئيس الفلسطيني المحاصر، من قبل الجيش الإسرائيلي، في مقر المقاطعة في رام الله  من إلقاء كلمته الهاتفية لاجتماع القمة الذي عقد في بيروت (آذار/ مارس 2002)، في تواطؤ مع النظام اللبناني، وقتها.

وربما يفيد أن نذكر في هذا السياق، أن ذلك النظام شّكل جهازاً استخباراتياً خاصاً أطلق عليه اسم: “الضابطة الفدائية”، للتعامل مع الفصائل الفلسطينية، وقد شهدت أقبية هذا الجهاز اعتقال كثر من خيرة كوادر تلك الفصائل، ناهيك بأن ذلك الجهاز كان هو المعني بأنشطة الفصائل في المخيمات السورية، وفي المعابر إلى لبنان، بل إن ترخيص إقامة حضانة أطفال، أو فريق رياضي، أو معرض أو ندوة أو حتى بيت تعزية كانت تحتاج لموافقة من ذلك الجهاز، من دون أن ننسى أن النظام سمى أحد أهم أجهزته الاستخباراتية المتعددة وأكثرها وحشية، “فرع فلسطين”، للإمعان في امتهان اسم فلسطين.

    لعل الدور الأبرز للنظام السوري تمثل أيضاً في تسهيله تصفية مخيمات فلسطينية.

هذا يحيلنا إلى التنويه بأن الكثير من أعضاء اللجنة المركزية الحالية لحركة “فتح”، كانوا اعتقلوا لفترات متفاوتة في سجون المخابرات السورية، وضمنهم: عزام الأحمد (1976)، وتوفيق الطيراوي وسمير الرفاعي (1984)، والأخير أمضى سنوات في السجن مع معظم كادر الحركة في سوريا. وللعلم فإن منزل الرئيس الفلسطيني محمود عباس في دمشق ومنزل جمال محيسن (عضو اللجنة المركزية لفتح) كان تم الاستيلاء عليهما مثل بيوت آخرين من قادة وكوادر “فتح”، في حين لقي كثر من قيادات إقليم فتح في سوريا مصرعهم في السجون السورية، أو بالاغتيال، أخيراً (موعد موعد وأبو أحمد طيروية وأيمن جودة مثلا)، علماً أن عشرات من كوادر فتح استشهدوا خلال الأحداث في المخيم، إبان قصفه وحصاره منذ أواخر عام 2012، ضمن قائمة تضم آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين من فلسطينيي سوريا (أبرزهم الكاتب الفلسطيني المعروف علي الشهابي). وفي الحقيقة ففي غضون السنوات القليلة الماضية لقي خيرة الشباب من فلسطينيي سوريا مصرعهم، سواء بالقتل أو الاغتيال أو الموت تحت التعذيب في المعتقلات (ثمة شخصيات لا أحد يعرف عن مصيرها، مثل علي الشهابي، وعلاء الدين يوسف، وفياض الشهابي، وسمير عبد الفتاح، ويزن عريشة، وصالح السهلي، ومحمد عمايري، ومهند عمر وصالح كيالي، إضافة إلى الشهداء أحمد الكوسى،، وحسان حسان، ونيراز سعيد، وايمن الصفدي وخالد بكراوي وغسان الشهابي وأبو إبراهيم الخطيب).

مخيم اليرموك

ولعل الدور الأبرز للنظام السوري تمثل أيضاً في تسهيله تصفية مخيمات فلسطينية، حصل ذلك مع تسهيل تصفية مخيمي تل الزعتر والضبية (قرب بيروت 1976)، ثم حصل ذلك في دفعه حركة “أمل” الموالية له لشن حرب المخيمات الوحشية والمدمرة (1985-1987)، ضد مخيمات بيروت (برج البراجنة وصبرا وشاتيلا)، وتحت أنظار “حزب الله”، ولم يكن هناك “داعش” ولا “جبهة نصرة”، ثم حصل ذلك في مخيم نهر البارد (قرب طرابلس 2007) عبر جماعة “فتح الإسلام”، التي ولّدها من جماعة “فتح الانتفاضة”، علماً أن زعيمها أو أميرها شاكر العبسي كان أخرج من المعتقل السوري، ليذهب الى لبنان ويشكل حركته. ثم بعد تدمير مخيم نهر البارد واعتقل من بقي من تلك الجماعة، وضمنهم شاكر العبسي، تم إخفاؤه، ولم يعرف أحد مصيره، ما يذكر بسيرة إفراج النظام عن إسلاميين متشددين بداية الثورة السورية (2011)، لدفعهم إلى تشكيل فصائل مسلحة ومتطرفة لتغطية بطش النظام، وإزاحة الثورة عن مقاصدها المشروعة والعادلة. هذا من دون أن ننسى صنيعته الداعية الجهادي أبو القعقاع زعيم حركة “غرباء الشام”، في حلب، بعد الغزو الأميركي للعراق، أو تحميله الوزير السابق ميشال سماحة للمتفجرات في سيارته، في مخطط لإجراء تفجيرات في لبنان وإشعال الفتنة في لبنان.

هكذا، تلك المسيرة كلها أوصلت النظام إلى حد تصفية مخيمات في سوريا وتدميرها، وأهمها مخيم اليرموك، الذي يعتبر بمثابة عاصمة للاجئين الفلسطينيين، وهو ما حصل بالتدريج عبر تشريد معظم سكانه (أواخر 2012)، ثم فرض حصار شديد عليه منذ ذلك التاريخ، ثم تدمير أجزاء كبيرة منه ( بين 2015- 2018). وها هو يصل إلى حد فرض مخطط تنظيمي للمخيم لتصفيته نهائياً، ليس عبر تغيير معالمه العمرانية، فقط، وإنما بتغيير طابعه الديموغرافي، وعدم تمكين سكانه من العودة إليه.

وربما يجدر بنا هنا لفت الانتباه إلى أن نظام الأسد سعى منذ اندلاع الثورة السورية، (آذار/ مارس 2011)، وهي ما زالت في طورها الشعبي– السلمي، إلى إنكار مطالب الشعب السوري، بادعاء أن ثمة مؤامرة على سوريا. وكان أول اتهام وجّهه للفلسطينيين في مخيمي اللاذقية ودرعا، جاء على لسان بثينة شعبان وغيرها من المسؤولين وقتذاك، وبرز في ذلك الوقت كلامُ رامي مخلوف (ابن خال رئيس النظام) الذي وجهه إلى “إسرائيل”، مستجدياً إياها الحفاظ على نظام الأسد، بقوله: “إن عدم الاستقرار في سوريا يعني عدم الاستقرار في إسرائيل”.

    المسيرة كلها أوصلت النظام إلى حد تصفية مخيمات في سوريا وتدميرها، وأهمها مخيم اليرموك، الذي يعتبر بمثابة عاصمة للاجئين الفلسطينيين.

بعد ذلك، حاول النظام تجنيد الفلسطينيين لمصلحته ضد الشعب السوري، من خلال إثارته النعرة بين مخيمات وجوارها، من خلال أزلامه الذين راحوا يبثون روح الكراهية والعصبية، بين أهالي المخيمات والمناطق المجاورة. وعندما فشل ذلك، في مخيم اليرموك مثلاً، حاول توظيف القضية الفلسطينية على جاري عهده، كورقة ابتزاز ومساومة، من خلال تشجيع الشباب على الذهاب إلى الحدود مع هضبة الجولان (في ذكرى 5 حزيران/ يونيو 2011)، التي ظل يمنع السوريين من الذهاب إليها، حتى بعد استعادة مدينة القنيطرة (1973)، وذلك لاقتحام الحدود بدعوى “مسيرة العودة”، في محاولة لتوظيف مسيرة العودة التي جرت في ذكرى يوم النكبة (أيار/ مايو 2011)، حيث تمّ التضحية بـ21 شاباً فلسطينياً وجرح المئات، وهو ما أثار غضب الفلسطينيين، لا سيما في مخيم اليرموك، وأدى إلى اندلاع هبّة شعبية في المخيم في اليوم التالي، إبّان التشييع، ضد النظام وضد أعوانه في الفصائل الفلسطينية الموالية.

بناء على ذلك، فإن ما يحصل اليوم وتحت ستار المخطط التنظيمي إنما هو محاولة لتصفية مخيم اليرموك، كشاهد على نكبة الشعب الفلسطيني، في إطار محاولات تصفية قضية اللاجئين، وتصفية حق العودة، بعد تفريغه من سكانه، وتدمير أجزاء كبيرة منه، وهو الأمر الذي حصل بعد خروج المسلحين منه، وهي قصة يعرفها الفلسطينيون أصحاب المخيم. هذا ما يفعله حتى اليوم النظام الذي يتشدق بالمقاومة والممانعة، وبالقضية الفلسطينية، التي هي بالنسبة إليه مجرد مطية يريد الاستمرار في ركوبها لإضفاء شرعية على سياساته، وللحفاظ على سلطته، وتسلطه على السوريين.

*ملاحظة: هنا موقف قديم للقيادة الفلسطينية (3/8/2012) تحيل فيه المسؤولية عن أحداث مخيم اليرموك إلى النظام السوري، والجبهة الشعبية، القيادة العامة (زعيمها أحمد جبريل).

درج

——————————————-

حكم الأسد وأسئلة النهاية .. عشرينية بشار وخمسينية العائلة/ محمد علاء الدين

يتمّ بشار الأسد اليوم (السابع عشر من يوليو/ تموز)، عشرين عاما من حكمه سورية، وريثاً لأبيه حافظ الأسد، الذي أمضى في حكمه المطلق ما يقرب ثلاثين سنة، إلى أن مات في العاشر من يونيو/ حزيران عام 2000.

كانت كل الأمور مهيأة تماماً لنقل السلطة إلى الابن، فبعد ساعات الترتيب الأمني، كان مجلس الشعب (البرلمان) منعقداً في جلسة طارئة وعاجلة، اتخذ فيها، وكالعادة، بالإجماع، قرار القفز بالابن خمس رتب عسكرية كبيرة، ليغدو فريقاً أوّل وقائداً للجيش، ومن ثم أقر المجلس أيضاً، وبالإجماع، تغيير المادة الدستورية الخاصة بسنِّ المرشح لرئاسة الجمهورية، لتغدو ولمرة واحدة فقط 34 عاماً على مقاس عمره. وخلال شهر، تم إجراء الاقتراع الصوري المسمّى انتخاباً بغير منافسين، فدستور حزب البعث لا يسمح أن ينافس أحد مرشحه، لأن هذا الحزب قائد الدولة والمجتمع، بحسب الدستور إياه.

كيف وصل بشار إلى الحكم

حتى العام 1983 ومع السلطات المطلقة والأبدية لحافظ الأسد، لم يكن في وارد أحد الحديث عن مستقبل الرئاسة في سورية، فالأسد في عنفوانه ومطلع خمسينيات عمره مزهوٌّ بقضائه على حركة الإخوان المسلمين وطليعتها المقاتلة، ومن تجرأ من أقصى اليسار على التحرّك ضده. لكن ظروف مرضه المفاجئ الذي غيبه عن ممارسة مهامه أوائل العام 1984 ومحاولات شقيقه، رفعت، إنزال قوته الضاربة (سرايا الدفاع) للاستيلاء على المراكز الحيوية في قلب العاصمة دمشق ومحيطها، ومناوأة معظم القيادات العسكرية البارزة، خصوصا من ضباط الطائفة العلوية، محاولات رفعت، وتزامن ذلك مع تحسّن الوضع الصحي لحافظ الأسد، جعل الأخير يتدخل عاجلاً مستوعباً طموحات أخيه، ليعمل بأعصاب باردة على نزع فتيل الأزمة أولاً، ومن ثم التكتيك مع الحليف السوفييتي آنذاك، لإبعاد رفعت وفق شروط تم التوافق عليها ومبالغ طائلة ساهم بها حليفه الليبي معمر القذافي. ثم أخذ حافظ الأسد بالتهيئة لإعداد ابنه الأكبر، باسل، ولم تمض سنوات حتى بات اسم الأخير مسبوقاً بستة ألقاب توحي بالمهابة، على الرغم من عاديتها في المجالين العسكري والمدني، الفارس الذهبي المهندس الرائد الركن المظلي باسل الأسد.

    الضربة الموجعة والمفاجئة لمشروع حافظ الأسد التوريثي جاءت عبر موت باسل الأسد، سواء أكان بقدرية أم بتخطيط مجهول

الضربة الموجعة والمفاجئة لمشروع حافظ الأسد التوريثي جاءت عبر الموت، سواء أكان بقدرية أم بتخطيط مجهول ما زال مختلفاً عليه، فقد انتهت حياة باسل صبيحة يومٍ شتائي ضبابي على طريق مطار دمشق مطلع العام 1994. ولكن الأسد الأب بقي في خضم فاجعته متماسكاً وواعياً لبدائله، إذ سرعان ما استدعى ابنه الثاني، بشار، من إنكلترا، حيث كان يتابع تخصّصه في طب العيون، ليكون حاضراً مراسم العزاء وصلاة الجنازة (أخطأ فيها على نحو فاضح) أمام كاميرات التلفزة التي تقصد التركيز عليه. بعد أيام، تم اتخاذ القرار رسمياً بتأهيل بشار ليكون وريث الحكم، وكلف رجل المخابرات، العميد بهجت سليمان، بمهمة الإشراف على التأهيل والإعداد، لتبدأ مرحلة الإبعاد الصامت لكبار الرتب العسكرية، خصوصا من الطائفة العلوية التي يُسْتشفُّ منها موقف غير متحمس لخطوة التوريث، أو يخشى من نفوذها وتأثيرها، فكان أول المبعدين قائد الوحدات الخاصة، اللواء علي حيدر، ولم يكن آخرهم رئيس الاستخبارات العسكرية، اللواء علي دوبا، وآخر الأقوياء من الضباط السنة رئيس هيئة الأركان، العماد حكمت الشهابي. فيما كانت الثقة بالعماد علي أصلان، الذي تولى قيادة الأركان، وكان عسكرياً معروفاً بالابتعاد عن الطموحات السياسية، وبالعماد أول مصطفى طلاس، وزير الدفاع وشريك حافظ الأسد وأمينه على المشروع. وبذلك مضت عربة التوريث من دون عقبات، لتكون كل الأمور مهيأة حتى قبل موت حافظ الأسد.

عشرينية بشار

باشر بشار الأسد حكمه الرسمي إثر ما عُرف بخطاب القسم في مثل هذا اليوم، 17 يوليو/ تموز عام 2000، وبدأ بإصدار حُزَمٍ من المراسيم يومياً موحياً بمرحلة تطوير وتحديث وعد بها. شهدت السنتان الأوليان من حكمه تحسّناً معيشياً طفيفاً كان مخططاً له، تزامناً مع ما بدا في الظاهر بعضَ لين في القبضة الحديدية الأمنية التي سرعان ما عادت في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق وسقوط نظام صدام حسين (2003)، ثم مقتل رفيق الحريري في لبنان (2005)، والاتهام المباشر لنظام الأسد بالضلوع فيه والتوجّه الفوري إلى محكمة تحقيق دولية. وعلى الرغم من استجابة النظام لمهلة الشهر الممنوحة له لتنفيذ قرار مجلس الأمن (1559)، القاضي بإخراج قواته من لبنان، فإن ملامح الارتباك والتخوف ظهرت واضحةً في صفوف النظام، خصوصا مع ما شهدته المرحلة من انشقاقات وتصفيات (أبرزها انشقاق نائب الرئيس عبد الحليم خدام ومقتل وزير الداخلية غازي كنعان)، فزجّ في السجون المعارضين خارج جبهة النظام، ممن وقّعوا وثيقة “إعلان دمشق للتغيير”، وراح يستخدم كل أدواته للدفاع عن بقائه. ويضيق المجال هنا حتى بسرد بعض ما اتبعه، لكنّ المهم في سياق موضوع هذه المراجعة رواية لافتة للوزير اللبناني السابق ميشال سماحة.

    ميشال سماحة : حافظ الأسد ضمن الحكم لبشار عشرين سنة .

جاءت الرواية في سياق الحرب الإعلامية التي شهدتها الساحة اللبنانية عقب مقتل الحريري، وما يلوّح بعضٌ به إلى أن نظام الأسد إلى زوال، فيما ينبري سماحة للدفاع عن متانة النظام ورسوخه وبأنه باقٍ عشرين سنة بضمانات دولية، فيروي أنه كان مع عز الدين ناصر (عضو القيادة القطرية في حزب البعث ورئيس اتحاد العمال والمقرّب جدّاً من حافظ الأسد)، في الطريق إلى مكتب الرئاسة، إثر انتهاء أعمال المؤتمر العمالي العام، والذي حضره سماحة ضيفاً. وكان في حوزة ناصر عددٌ كبيرٌ من الطلبات العامة والشخصية له ولسماحة. وكان ناصر يمنّي النفس أن يكون الرئيس رائق البال، عسى أن يوافق لهما ولو على بعض الطلبات. يتابع سماحة أنه انتظر خارج مكاتب القصر لأن اللقاء كان شخصياً، ولكنه ما أن رأى صاحبه يخرج حتى عرف من ابتسامته وانفراج أساريره علامات الرضا بما حدث، وفي السيارة، قال له ناصر حرفياً: “كان الرفيق أبو باسل بمنتهى الرواق ووافق لنا على جميع الطلبات، وأسرّ لي بما يفرحه قائلاً: البارحة ضَمِنَّا الحكم لبشار عشرين سنة” (رواية سماحة على تلفزيون الجديد عام 2005 وما زالت في أرشيفه).

هل أتى بشار الأسد حقّاً بضمانة دوليّة لعشرين عاماً من الحكم؟ وهل يعرف من أعطاها سير دوره الوظيفيّ خلالها؟ التشكيك في مصداقية رواية سماحة وارد، لكنّ ما يسندها ليس فقط استطاعة نظام الأسد التفلّت من مآلات المحكمة الدوليّة الخاصة بجريمة قتل رفيق الحريري، المحكمة المستمرة من دون فعاليّة، إنّما في ما حدث بعد ذلك عبر ما ارتكبه نظام الأسد من جرائم ضد السوريين على مدى تسع سنوات من الثورة السورية، والكفيلة بأن تجعل من أيّ حاكم يقترف مثلها أو القليل منها يحمل صفة السابق أو الأسبق، وفي سرّ بقائه على كرسيّ الحكم، على الرغم مما يعتريه من تخلّعات واهتزازات، وهو ما تدعمه شهادة أحد أهمّ العارفين بأسرار تركيبة ذلك النظام وشريك أسرار الأسد الأب، وزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس.

    هل أتى بشار الأسد حقّاً بضمانة دوليّة لعشرين عاماً من الحكم؟ وهل يعرف من أعطاها سير دوره الوظيفيّ خلالها؟

تمثل الخطر الأكبر الذي تعرّض له حكم الأسد ونظامه في اندلاع الثورة السورية، أواسط مارس/ آذار 2011، وشمولها أغلب المناطق السوريّة، على غير ما كان يتوقّع الأسد ومنظومته الأمنيّة. وبحسب تصريحه بعد بدء الربيع العربيّ لصحيفة وول ستريت الأميركية، حين اعتبر نظامه في منأى عن رياح التغيير الشعبي. ولكنّ الثورة الكاسرة حاجزي الصمت والخوف تجاوزت في عنفوانها ما سبقها من ثورات الربيع العربيّ، فلم يجد الأسد من سبيلٍ غير المواجهة العسكريّة، معلناً، في خطابه الأوّل بعد اندلاعها بأيام، “إن أرادوها حرباً فلتكن”، ورفعت منظومته الشعار الشهير “الأسد أو نحرق البلد”، وقد فعلت.

تواترت الانشقاقات عن النظام والتي بلغت ذروتها صيف 2012، مع انشقاق رئيس الحكومة رياض حجاب، وقائد اللواء 105 حرس جمهوري، العميد مناف طلاس، والذي وإن لم يكن صاحب الرتبة الأعلى بين المنشقين عسكريّاً لكنّه الأكثر تأثيراً، كونه نجل مصطفى طلاس، أحد شركاء عمليّة التوريث. وتأتي شهادة طلاس الأب، في سياق قضية هذا البحث هنا. يقول رجل المال والأعمال والابن الأكبر للعائلة، فراس طلاس، إنه عندما أزمع وشقيقه مناف على الوقوف ضدّ نظام بشار الأسد، نصحهما والدهما قائلاً: “لا يمكنكما لا أنتما ولا الدول العربيّة إسقاط هذا النظام، سقوط هذا النظام هو تغيير لشكل النظام العالمي، لأن حافظ الأسد نسج نظامه داخل النظام العالمي”.

    مصطفى طلاس : سقوط النظام تغيير لشكل النظام العالمي لأنه منسوج داخله.

وتحمل هذه الشهادة، ومن شخصٍ بمستوى معرفة مصطفى طلاس بنية نظام الأسد وشراكته أسراره أربعة عقود، تحمل بعداً أعمق بكثير وأكثر دلالة من رواية ميشال سماحة، وتطرح السؤال عن بنية نظام الأسد ضمن النظام العالمي ودوره الوظيفيّ الذي شكّل له الضمانة.

ضمن حافظ الأسد التوريث لابنه

بعيداً عن نظرية “حكّام العالم السريّين” وما يزعمه المقتنعون بها إنّ من ضَمِنَ الحكم للأب أعاد طمأنته بضمانه لابنه عشرين سنة، يعرف الراسمون دوره الوظيفيّ لخدمة مخططاتهم المرسومة بدقة، والتي يذهب إليها المؤوّلون رواية ميشال سماحة. ومع التأكيد على مدلول شهادة طلاس عن نسج حافظ الأسد نظامه داخل النظام العالميّ، فإنّ ضلوع القوى العظمى في عمليّة انتقال السلطة من الأب إلى الابن مؤكّد بالوثائق:

– تمّ إخبار الأميركيين منذ عام 1994 بأن القرار في دمشق اتخذّ رسميّاً ولا رجعة عنه بتهيئة بشار الأسد لوراثة أبيه في حكم سورية، عبر محمّد مخلوف، خال بشار، وهو المكلّف من حافظ الأسد منذ السبعينيات بالتواصل مع الأميركيين (وثائق ويكيليكس). وما يؤكّد الرضا الأميركي حضور وزيرة الخارجيّة، مادلين أولبرايت، مراسم العزاء بحافظ الأسد، واجتماعها المنفرد ببشار، ثم بقاؤها يوما إضافيا في دمشق بطلب سعوديّ (أكّده السفير السعودي الأسبق في واشنطن، بندر بن سلطان، في مقابلة مع موقع إندبندنت عربية)، لتخرج بتصريحها “إنّ الحكومة الأميركيّة راضية عن آلية انتقال السلطة في سورية”، ولتسكت بعدها حملة إعلامية كبيرة كانت تشهّر بسابقة “التوريث الجمهوري” وطريقته الفجّة.

– أكّد الملحق العسكريّ في السفارة الروسية في دمشق وقتها، الفريق فلاديمير فيودوروف، وفي أكثر من مرّة، عبر وسائل إعلام روسيّة، أنّ موسكو درست جيّداً ولسنوات موضوع التوريث ووافقت عليه.

    نظام الأسد يبدو اليوم كشجرة شبه معطوبة، تتقاصر جذورها في تربة تزداد هشاشة، وقد أُتخِمَت نَخْراً وغدت قابلة للانكسار أمام كلّ هبّة ريح ذات إرادة

– ساهمت فرنسا في الموضوع علنيا. ويروي الرئيس الأسبق جاك شيراك، في مذكرّاته، أنّ حافظ الأسد طلب منه مساعدة الرئيس المقبل لسورية وأوكله بذلك، وأنّه لم يقصّر، وقد استقبل بشارَ رسميّاً وقبل تولّيه أيّ منصب استقبال الرؤساء في قصر الإليزيه.

– بريطانيا اللاعب الأساسي سياسيّاً (والأكثر صمتاً وسريّة)، والتي كان بشار وزوجته وعائلتها مقيمين فيها، كانت مساندةً لخطوات التوريث، وعبر لقاءات مباشرة ووسطاء على طريقتها وسابقتها مع الأب.

– السعوديّة وملكها عبد الله، الذي كان وليّا للعهد ومسيّراً لشؤون المملكة خلال فترة مرض الملك فهد، كان واضح التأييد وحضر مراسم العزاء، وهو من طلب بقاء أولبرايت في دمشق (رواية بندر بن سلطان).

أمّا إسرائيل، المعنيّة أكثر من سواها بانعكاسات الموضوع، فلا شكّ أن كلّ ما سبق يراعي إرادتها غير المعلنة.

أسئلة النهاية

بعد كلّ ما سبق، ما هو واقع نظام بشار الأسد في عشرينه؟ على الرغم من استطاعة النظام ظاهريّاً استعادة السيطرة على نصف مساحة سورية، وجعل مراكز المدن الكبرى والحيويّة متّصلة، والذي عبّر عنه الروس بمصطلح “سورية المفيدة”، فإنّ تلك المناطق تخضع لقوّتين داعمتين أقوى من النظام، روسيا وإيران بمليشياتها. ويبدو رأس النظام منزوع الإرادة ودائم التعرّض لإهانات مقصودة من حليفه الروسيّ، وعبر تسريباتٍ إعلاميّةٍ مقصودة. في المقابل، وعلى الرغم أيضاً من تهلهل المعارضة السياسيّة، وافتقارها الشعبيّة في الوسط الثوري، وانعدام فاعليّتها، فإن نصف سورية الآخر خارج كل سيطرة لنظام الأسد، وتتوزعه مجموعات مسلّحة متباينة الاتجاهات بين مشاريع وطنيّة وإسلاميّة متشدّدة، ومختلفة الولاءات، وإن كانت لتركيا إرادتها المرجّحة، حين تريد في الشمال الغربي، حيث قوّاتها المتزايدة، وبين قوّات كرديّة مدعومة أميركيّاً (قوات سورية الديمقراطية)، ووجود أميركي في الشمال الشرقي حيث النفط، إضافة إلى قواعد بريطانيّة وفرنسيّة في شرق البلاد.

لذلك، مزاعم نظام الأسد يكذّبها واقع الحال، أكثر ممّا هو واقع الأرض عسكريّاً، فالحليف الروسي غير مأمون الجانب تاريخيّاً، ومشهور بالبيع عندما يستطيع رفع ثمن الصفقة. وقد سبق له التخلّي عن حلفاء استراتيجيّين في يوغسلافيا والعراق وليبيا، وبأثمان أقلّ بكثير ممّا حصّله في سورية. وقد بدأ هذا الحليف يرسل إشاراته القوّية بإمكانيّة البدائل، ولعلّ ذلك ما دفع الأسد، الأسبوع الماضي، إلى الارتماء تماماً في الحضن الإيرانيّ عبر توقيعه اتفاقيّة “التعاون العسكريّ الشّامل”، في رسالة إلى الروس قبل سواهم.

    هل حان وقت إنهاء الدور الوظيفي للأسد ؟ أم مازال له دور بعد إتمام حكمه 20  عاماً .

يضاف إلى ما سبق إقرار قانون قيصر أميركيّاً والبدء بتطبيقه، والذي جعل الاقتصاد في الحضيض والليرة السوريّة تفقد أضعافاً من قيمتها بتسارع، والحالة المعيشيّة تتدنّى إلى أدنى خطوط (تحت الفقر)، ما يجعل حاضنة الأسد الحقيقيّة غير متمسّكة به، كما كانت.

أمام هذا المآل لحال نظام الأسد، تتكاثر الأسئلة وتتشعّب وتتعقّد، وتغدو كرتها المتدحرجة متسارعة التضخّم، حتّى في عزّ صيف المنطقة الذي يعتبره البعض أنّه جديدها بعد مئة عامٍ من تنفيذ “سايكس بيكو”. فهل اتّخذت أميركا قرارها بإسقاط نظام الأسد، وبمقدّمة عنوانها قانون قيصر؟ وهل إشارات الروس إلى بدائل قادمة ليست مخادعة، وتأتي إمعاناً في الإذلال لمكاسب أكثر من دون التخلّي؟ وهل يستطيع الحليف الإيرانيّ أن يكون منقذاً وهو في تخبّطاته الكثيرة؟

نظام الأسد يبدو اليوم كشجرة شبه معطوبة، تتقاصر جذورها في تربة تزداد هشاشة، وقد أُتخِمَت نَخْراً وغدت قابلة للانكسار أمام كلّ هبّة ريح ذات إرادة. ذلك هو السؤال الأهم: هل هناك هبّة ريح ذات إرادة لإنهاء حكم بشار الأسد بعد عشرينيته، وحكم العائلة وما أنتجته من منظومة بعد خمسين؟ أم أنّ الدور الوظيفيّ ما زال قابلاً للإنعاش وإنْ سريريّاً، وأنّ النظام العالميّ الذي جعل منظومة الأسد ضِمْنَ نسيجه لم يتنهِ بعد، من إتمام تهيئة المرحلة المقبلة؟ سؤال هو الأصعب تحديداً، ربّما تجيب عنه قادمات أيّام قليلة، وقد يبقى زمناً إضافياً يحدّده الصانعون.

العربي الجديد

———————————–

سوريا… ما بعد تهميش المعارضة/ فايز سارة

كان بين آخر الخطوات المشهودة لتشكيلي المعارضة السورية الرئيسيين، القيام بتبادل الرئيسين فيما بينهما، حيث صار رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة رئيساً للهيئة العليا للمفاوضات، وانتقل رئيس الأخيرة ليتولى رئاسة الائتلاف الوطني، ولم يشرح أحد منهما الأسباب التي تقف في خلفية هذه الخطوة، والتي لم تقابل باستغراب واستهجان الوسط السياسي السوري فقط، بل قوبلت باستنكار شعبي، وصل إلى درجة الشتيمة قولاً وعملاً في مظاهرات نظمها جمهور واسع في إدلب، غنوا فيها: «يلا ارحل يا ائتلاف»، في تقليد واضح لأغنية منشد الثورة الراحل إبراهيم القاشوش: «يلا ارحل يا بشار».

واقع الحال يؤشر إلى بعض ما وصل إليه الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات وعموم قوى المعارضة من تدهور وانحطاط سياسي وتنظيمي، وهو ناتج طبيعي لعاملين أساسيين؛ أحدهما يتعلق بوضع المعارضة على نحو عام، والثاني يتصل بالبيئة المحيطة بالقضية السورية في مستوياتها المحلية والإقليمية والدولية، والتي كانت الحيثيات المتصلة سلبية، بل إنها كانت كارثية خلال السنوات الماضية في أغلب الجوانب، إن لم نقل كلها، ما جعل المعارضة تصل إلى هذا المستوى من التدهور والانهيار والهوان أيضاً.

عندما قامت الثورة عام 2011، كانت جماعات المعارضة شديدة الضعف، ليس فقط نتيجة عيشها الطويل تحت سيف القمع والإرهاب والملاحقات، التي طبّقها نظام البعث بعد استيلائه على السلطة عام 1963، وتشدد حافظ الأسد وابنه من بعده في ممارستها في العقود الخمسة الأخيرة، وإنما أيضاً بسبب بُناها الآيديولوجية والسياسية والتنظيمية التقليدية من جهة وشيخوخة تنظيماتها وقادتها من جهة ثانية، خاصة بعد فشلها في التجاوب مع الحراك الثقافي والسياسي في سنوات ربيع دمشق 2000 – 2005 وسعيه لإحداث نقلات في واقع المعارضة ودورها، وتقصيرها في التجاوب الإيجابي مع مبادرات ومشروعات الإصلاح، التي اصطدمت بتشدد النظام ورفضه العملي للفكرة من أساسها.

وكان من الطبيعي وسط ضعف المعارضة السورية عند انطلاق الثورة، أن تبرز قوتان للمشاركة في قيادة الثورة. وهكذا ظهرت تنظيمات وشخصيات مستقلة من شتات السوريين العالمي الواسع، وظهرت شخصيات وتشكيلات من الحراك الثوري، وكان من الطبيعي، أن تتشارك القوتان مع المعارضة لإطلاق قوة مشتركة، تقود ثورة السوريين لتغيير النظام وتحقيق أهداف الثورة، لكن الظواهر المرضية، التي تنخر الجميع، منعت قيام شراكة عملية ومتوازنة على طريق النجاح، وهذا ما أثبتته تجربة المجلس الوطني السوري في 2011 – 2012، وأكدته لاحقاً تجربة الائتلاف الوطني، وقد سيطرت عليهما تشكيلات استئثارية، كان «الإخوان المسلمون» وتفرعاتهم رأس حربتها وسط دعم إقليمي ظاهر، الأمر الذي لم يؤدِ إلى عزوف بعض قوى المعارضة عن الانخراط في التجربتين فقط، بل إلى خروجات متتالية لشخصيات مستقلة وجماعات معارضة وتنظيمات ثورية من تجربة الائتلاف، ليصير في النهاية حكراً على لون واحد مرتبط بسياسات إقليمية معينة أكثر من ارتباطه بالقضية السورية، على نحو ما يبدو اليوم، وهي حالة تركت أثرها في تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات ومسارها، وجعلت من اليسير أن يتبادل رئيس الائتلاف ورئيس الهيئة العليا موقعيهما في الجهتين كما حصل مؤخراً.

إن المعارضة، سواء لجهة الائتلاف، أو لجهة تعبيرها العام، ممثلاً بالهيئة العليا للمفاوضات، التي تضم الائتلاف وهيئة التنسيق ومنصات القاهرة وموسكو ومستقلين، ما كان لها أن تصبح على ما هي عليه لولا تدهور البيئة المحيطة بعملها، التي يمكن القول إنها كانت سلبية من حيث مقدماتها ونتائجها في مستوياتها الداخلية والخارجية على السواء.

ففي الداخل لم يكن على المعارضة، أن تواجه نظام الأسد وحلفاءه المسلحين حتى أسنانهم فقط، إنماً أيضاً التشكيلات المسلحة، التي بدأت بظاهرة الدفاع عن المتظاهرين السلميين من جماعات الجيش الحر، ثم تطورت إلى تشكيلات عملت على أسلمة الثورة وتطييفها، ومن خاصرتها وبيئتها ولدت جماعات التطرف والإرهاب مثل «داعش» و«النصرة» وغيرهما، والتي لعبت دوراً في إضعاف وتهميش قوى المعارضة والحراك الشعبي والمدني في الداخل، وتصفية الجيش الحر، ما هيّأ الفرصة الفضلى لتكريس حالة الانفصال بين أكثرية السوريين والمعارضة.

وكانت التدخلات الخارجية بين العوامل المهمة في وصول المعارضة إلى ما هي عليه من نتائج، رغم كل ما يقال من دعم سياسي أو مالي أو عسكري قدّمه الخارج لقوى المعارضة، لأن أغلب الدعم لم يكن هدفه مساعدة المعارضة بتقوية نفسها وتحسين أدائها من أجل تحقيق أهدافها، بقدر ما كان هدفه السيطرة عليها، وتوظيفها في إطار حجز مكانة للمانحين في مستقبل سوريا، واستخدام قوى المعارضة ورقة في الصراعات الجارية داخل سوريا وفي محيطها الإقليمي، ولعل واقع حال شمال وشمال شرقي سوريا، بما فيه من قوى تخدم أجندات خارجية، تعبير واضح.

لقد ضيّعت المعارضة، وخاصة «جماعة الإخوان» وشقيقاتها، نفسها وقدراتها، عبر توافقها الآيديولوجي والسياسي مع دول وتنظيمات تجتمع معها في خانة واحدة، أو نتيجة ضغوط بعض الدول، أو بفعل ما اعتبرته «تقاطع مصالح» مع قوى إقليمية ودولية، وبذا فقدت مكانتها المستقلة في قضية تخصّها، وألحقت موقفها بأطراف لا تشكل القضية السورية محور اهتمامها وأساس مواقفها، بل كانت مجرد واحدة من قضايا، يمكن أن يتغير ويتبدل الموقف منها وفق عوامل متعددة.

وسط هذا الوضع المعقد للمعارضة، فقدت الأخيرة بجماعاتها وشخصياتها المستقلة مكانتها وأهميتها ودورها القيادي المفترض في القضية، وصارت في موقع ومكانة شكلية وهامشية، وللحقّ فإن ذلك من بين عوامل إطالة المعاناة السورية، لأن ضعف المعارضة أو هامشية تأثيرها أسقط ثقة الأطراف الإقليمية والدولية فيها وفي احتمال نجاحها في قيادة مرحلة ما بعد الأسد ونظامه.

إن ما آل إليه وضع المعارضة، بات يتطلب سلوكاً سياسياً جديداً من كل الأطراف المتصلة بالقضية السورية، المؤثرة فيها، والراغبة في الذهاب إلى حلّ للقضية، سلوكاً يتجاوز ما يحصل حالياً من شتم وتنديد وتشهير بالمعارضة على نحو ما يفعله أغلب السوريين، وفعالياتهم، وخاصة معارضي النظام، وأيضاً يتجاوز واقع التهميش والإضعاف الذي تمارسه أطراف مصنفة على قوى دعم المعارضة، ووقف حالة تجاهل المعارضة، التي تمارسها غالبية الدول الموصوفة بـ«أصدقاء الشعب السوري». فهذه السلوكيات جميعاً، تساهم في النتيجة ببقاء نظام الأسد، وتطيل زمن معاناة السوريين، وتكلف المجتمع الدولي مزيداً من الفواتير الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتناقض مصلحة الأطراف الراغبة في حلّ للقضية السورية، وتعيق إمكانية الحل وتجعل احتمالاته أبعد، ما يتطلب الحاجة إلى سياسات أخرى في التعامل مع المعارضة وجماعاتها، سياسات من شأنها تقوية المعارضة وإعدادها لدور مقبل في القضية السورية، وهو أمر من الصعب أن تقوم به الأطراف المنخرطة بالقضية السورية والمتدخلة فيها، حسب ما أكدته تطورات الأعوام الماضية، ما يؤكد الحاجة إلى طرف في خارجها للقيام بهذا الدور، ولعل الأمم المتحدة هي الطرف الأكثر حيادية والأكثر قدرة، والطرف الذي يملك إرثاً وتجارب وخبرات، وعنده مقاييس موضوعية، يمكن من خلالها إعادة تنظيم وهيكلة وتأهيل المعارضة السورية بشكل يتجاوز سلبيات تجربة جامعة الدول العربية عام 2012، ويفتح أمامها الباب للمساهمة في حلّ القضية السورية، التي لا شك أن حلّها يتطلب وجود المعارضة، وليس بالضرورة وجود النظام!

——————————-

اضبطوها، والأفضل حلّوها/ ميشيل كيلو

لم تكن الفصائلية يوما نمط التنظيم العسكري القادر على إلحاق الهزيمة بالنظام الأسدي، أو المؤهل للدفاع عن المناطق التي سيطر عليها، بعد تحوّل القتال ضد مليشيا الأسد إلى حرب تولاها الروس والإيرانيون: القوتان اللتان تمتلكان من القدرات الميدانية، والتقدّم التقني، والاحتياطيات البشرية والسلاحية، ما يتحدّى قدرات التنظيمات الفصائلية التي كان عليها، لو أرادت حقا مواجهة الغزو الروسي / الإيراني المباشر، أن تطوّر أشكالا تنظيمية تتخطّى الفصائلية وتبعثرها المكاني وافتقارها إلى قيادة موحدة وخطط عسكرية مهنية، تدمجها في إطار وطني جامع، لطالما رفض معظم قادتها الانضواء فيه، وأحبطوا إقامته.

قاوم معظم قادة الفصائل التخلي عن نمطها التنظيمي الذي استجاب لمصالحهم، وللسلطة “الأسدية” التي أقاموها في المناطق التي احتلوها، وتنعموا بما ومن فيها من موارد ومواطنين، فلا عجب أن رأى السوريون فيهم نماذج تُخضعهم لما اعتقدوا أن الثورة ستحرّرهم منه: الاستبداد والإجرام.

… وكنت قد كتبت أواخر عام 2014 مطالبا بالتخلي عن الفصائلية، لاعتقادي أنها عسكرة عضوض، تكتم أنفاس الشعب وتقوّض قدرته على المقاومة، وأنه حان الوقت لاستبدالها بتنظيم وطني مقاوم وموحّد، يقوده ضباط مهنيون وأصحاب خبرة، يجيدون وضع (وتطبيق) خطط ميدانية ينفذها جيش تحرير وطني، يضم وحداتٍ صغيرةً وثابتة، تغطي جميع مناطق سورية، وخصوصا التي أخرجت الأسدية منها، ووحدات متحرّكة كبيرة نسبيا، وتعمل على مستوى الأقضية والمحافظات، تنضوي في وحدات أكبر، جيدة التسليح عالية التدرب، تضم خيرة مقاتلي الثورة، وتعمل على المستوى الوطني. تعمل هذه المستويات الثلاثة بإشراف مركزي وتنفذ برامج مدروسة، وتشن هجماتٍ متفرقة ومتواصلة على الأسدية، وتقوم، في توقيت زمني واحد، بهجوم استراتيجي أو أكثر كل عام، لتحرير أوسع رقعة من الأرض، وأكبر عدد من السوريين، وإقامة نظام بديل فيها، يجسد قيم الثورة.

اقترحت ذلك، لأن التجربة الميدانية كانت تؤكد فشل الفصائلية، وإصرار معظم قادتها على التمسك بها، من دون الالتزام بأي قيادة سياسية أو عسكرية، وتبنّي خطط جامعة، يتطلب تنفيذها تبني ممارساتٍ اخلاقية ووطنية تعبر عن تفوق الثورة الإنساني على الأسدية، وتحول بين قادتها وبين إقامة نظم تشبيح وفلتان أمني وأخلاقي حيثما يحلون، وخصوصا في في المناطق التي يحتلونها فيحولونها إلى معازل تحتجز مواطنيها الذين يجدون أنفسهم، وقد فرّوا من الأسدية، بين يدي أسديين فصائليين، لا يقلون عنها هم إجراما، ولا يتقيدون باخلاق أو قانون أو عرف أو دين.

.. واليوم، والأخبار تنقل إلينا صورا كارثية عن تعامل بعض هؤلاء القادة مع الذين أرسلوهم للقتال في ليبيا، وعن انتهاك حياتهم وحقوقهم بأشد الصور إجراما. بينما نرى بأسى وغضب صور عشرات السوريات والسوريين، القتلى والجرحي في انفجارات رأس العين، وصور آلاف المهجّرين منها إلى المجهول، لمجرّد أن قادة الفصائل الذين يحتلونها، ويصادرون أراضي فلاحيها، ويسطون على عوائد عمل مواطنيها، ولا يوفرون من “خدماتهم” أحدا من بناتها وأبنائها: كبارا وصغارا، نساءً وذكورا، يرفضون الخروج منها، بعد أن تظاهروا قبل أيام بالموافقة على إخلائها، لكنهم انقضّوا عليها وأخذوا يدمّرونها، ليثبتوا أن خروجهم منها سيجلب الفوضى والموت والدمار لها، وأن “المحافظة” على أمن ناسها يتطلب بقاءهم فيها. يرفض قادة الفصائل، كذلك، حلها، على الرغم من “انضمامهم” إلى ما يسمى “الجيش الوطني” الذي حوّلوه إلى تجمّع تفكّكه تناقضاتهم وصراعاتهم.

إذا كان هذا دور الفصائل وأداؤها .. بربكم، ما الذي يسوغ الإبقاء عليها؟ ولماذا لا تحلّ وينزع سلاحها، إن كانت تمثل خطرا على السوريين، وتحول دون بلوغ أهدافهم، وتضطهدهم وتعتدي عليهم، ويظهر بالتجربة أنها لعبت بفاعلية واقتدار دورا خطيرا في تقويض ثورتهم التي لم يخدمها إطلاقا، بل خدم الأسد ونظامه.

العربي الجديد

—————————

عن أدوار المعارضة السورية والنظام/ سميرة المسالمة

تتابع الولايات المتحدة الأميركية لعبة خلط الأوراق في سورية، بإعلانها أخيرا توقيع اتفاقية استثمار النفط في شرق الفرات مع “قوات سوريا الديمقراطية”، وهي إذ لا تأتي بجديد على الواقع السوري المبعثر بين دول الصراع في سورية (روسيا، إيران، تركيا، والولايات المتحدة وإسرائيل)، من حيث أدوار هذه الدول مع الجهات السورية التي تستقوي بها ضد القوى المحلية الأخرى، فإنها (هذه الدول) جميعاً، أجرت تقزيما للهياكل السورية على ضفتي الصراع، وكادت أن تصبح الجهة السورية غير مرئيةٍ إلا من خلال الهامش التي تسمح به الدولة الراعية، في سابقةٍ تاريخيةٍ تصبح من خلالها الفرق المتصارعة داخليا “معرّفةً” بجهة تمويلها الخارجي.

إذ ينقسم النظام بين إيران وروسيا، تنقسم المعارضة أيضاً بين تركيا ومحور الغرب ممثلاً بالولايات المتحدة، مع وجودٍ غير محسوم الموقع (بين معارضة أو نظام) لفرق أو تنظيمات سورية على قائمة التبعية الروسية أو الإيرانية، أو حتى بين محوري الخليج العربي، سيما (السعودية وقطر)، على الرغم من تضاؤل حجم فاعلية التدخل العربي في الصراع السوري خلال السنوات الأخيرة التي روج فيها المجتمع الدولي دورا سعوديا في تشكيل المعارضة، بدءا من مؤتمر الرياض 1 عام 2016 الذي نتج عنه الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة السورية بتشكيلتها الأولى، والثانية بعد مؤتمر الرياض 2 عام 2018، وما حدث بعد ذلك من تشرذمات داخل كيانات المعارضة، وصولاً إلى حالة التصدّع الداخلي التي يعيشها وفد المعارضة وانقسامات بشأن شرعية التمثيل داخله إلى كيانات ومستقلين.

فوّض النظام السوري كلا من إيران وروسيا إدارة مراكز وموانئ ومؤسسات تمثل شريان الحياة الاقتصادية، بعد أن تصاغر دور وفاعلية جيشه العسكري، ليصبح ملحقا تنفيذيا للعمليات العسكرية التي تجري داخل سورية بقيادة جوية روسية، وأرضية إيرانية، ومن ثم نزعت روسيا عن النظام أي صفةٍ تمثيليةٍ في عمليات التفاوض، سواء مع الأطراف الداخلية المعارضة له، أو مع الدول المتصارعة في سورية وعليها، بدءاً من حليفته إيران التي أصبحت تدور في فلك الوجود الروسي وتختبئ خلفه في أي عمليةٍ سياسيةٍ دولية، ووصولاً إلى التفاهمات الروسية مع كل من تركيا والدول الأوروبية (المانيا، فرنسا، بريطانيا)، والمرحلة الأهم لروسيا كانت بإعادة مقعدها المقابل إلى الولايات المتحدة الأميركية على طاولة المفاوضات، تحت عناوين متغيرة، تارّة لتحريك العملية السياسية، وأخرى لنزع فتيل الاقتتال، وثالثة للبحث في مصير إيران وغيرها.

على الجهة المقابلة للنظام، وفي إجراءات متساوقة معه، تم إبعاد التمثيل المعارض الحقيقي، لتضع تركيا نفسها بديلاً عنه، ومقرّراً له ، سواء في العمل العسكري الميداني، أو في المهمة السياسية التفاوضية، وأصبحت كيانات المعارضة (في الشمال وإسطنبول) مرتهنةً للتطورات العسكرية ولمساراتها، وضمناً لمن يقودها. وبذلك أصبحت تركيا هي المعنية أو المقصودة بالحديث عن المعارضة أو التفاوض، ما يعني خلو الساحة من الأطراف السورية لحساب الدول المشغلة لهم، وتماشي “المعارضة” مع النظام في لعب دور “الكومبارس” في القضية السورية.

ووفق ذلك، نشأ الدور التكاملي بين تركيا وروسيا في تقويض ما يمكن تسميته الحل السياسي الذي تدعو إليه الإدارة الأميركية، مقدمة ضرورية وملزمة لعملية إعادة الإعمار، وهو ما يمكن تسميته الدور المزعج للولايات المتحدة، والذي يعني تفاهماتٍ خارج النص المسموح به أميركياً، ما جعلها تنتقل من دور المراقب لأداء الأطراف، والتحكّم عن بعد في مساحات حركة الممثلين، إلى دور فاعل ومؤثر بدلالات وجودها في المنطقة، ورعايتها ما يمكن تسميته التوافق الكردي – الكردي، ,الذي يعني إرجاع الكرد من حافّة انقسامهم المعلن إلى التجمع حول مصالح اقتصادية، قد تكون مقدمةً لمصالح سياسية قابلة للتفسير في اتجاهات مختلفة:

– حرمان روسيا وإيران والنظام من عوائد نفط المنطقة، ليس لأهميتها، بل لتضييق الحصار تنفيذا لقانون العقوبات الأميركي (قيصر) على النظام، ما يُلزم كل الأطراف المتضرّرة الإسراع في بدء العملية السياسية المقيدة بشروط أميركية صارمة، سواء في تغيير سلوك النظام السوري مع معارضيه، أو في تعاطيه مع المنظمات الإرهابية والدولة الداعمة لها (إيران).

– سحب البساط من تحت أقدام روسيا بما يتعلق بشق الصف الكردي، واللعب على الخلافات مع المجلس الوطني، واستقطاب “قوات سوريا الديمقراطية” لتكون ذراعا كرديا لروسيا في المنطقة، وعدم استخدامه كنقطة ضغط يمكن تحريكها ضد المصالح التركية عند تعثر مفاوضاتهما المشتركة بما يتعلق بعفرين ومناطق الشمال الشرقي من سورية.

– هو تصريح أميركي بإعادة تموضعها ليس في حقول النفط، ولكن داخل صفحات أي اتفاق يعقد في المنطقة. وبالتالي، رعايتها “قوات سورية الديمقراطية” اقتصادياً هو مقدمة لرعاية سياسية قادمة، تمثل في أحد وجوهها عناوين عريضة لنوع الحوار الذي يجب أن يدور حول دستور سورية، وشكل الدولة السورية الجديدة، ما يعني فتح الحوار الجدّي مع تركيا من خلال واقعة نفط الكرد، حول مصير الكرد في سورية الجديدة، بما يحمله ذلك من تهديدات من جهة، أو تطميناتٍ من جهة مقابلة، تؤكد أن الكرد جزء من التوليفة السورية، لا يمكن إبعادهم خارج النص الدستوري، إلا إلى كيان مستقل، وهذا ما لا تريده تركيا وتعمل على إبطاله. وهنا يأتي الدور الدبلوماسي التركي في استيعاب أهمية المصالحة الكردية، والدفع بها لإبعاد قيادة القيادة في جبال قنديل عن المنطقة، والتسليم بسوريتها مع تنوع قومياتها.

يمكن قراءة الاتفاق النفطي الموقع مع قائد “قوات سورية الديمقراطية”، مظلوم عبدي، بلغات عديدة ومضامين كثيرة، أخطرها إرادة الإدارة الأميركية توزيع الشرعية بالتساوي بين الأطراف السورية المتصارعة، لتوقيع عقود خارجية مع الدول، ما يجعل النظام في مأزق، والمعارضة في مأزق، والكرد أمام اختبار قوي يراقبهم شعبهم داخلياً والدول الغربية الداعمة لهم خارجياً، لمعرفة قدرتهم على إدارة توافقاتهم البينية من جهة، والاندماج في مشروع شامل للحل السياسي السوري من صف المعارضة، وليس النظام.

العربي الجديد

———————

هل ما زال إنقاذ سورية ممكناً؟/ مروان قبلان

تثير الاتفاقية التي أقرّتها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بين شركة دلتا كريسنت إينرجي وقائد مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، لاستثمار النفط في مناطق شرق الفرات، مخاوف سوريين كثيرين على اختلاف توجهاتهم، فقد تمثل الخطوة مدخلا لتكريس أمر واقع، شبيهٍ بما أقامته واشنطن شمال العراق بعد حرب تحرير الكويت عام 1991، وإنْ كانت نتائجها أكثر مدعاةً للقلق في الحالة السورية، لماذا؟ لأن العراق، وعلى الرغم من أنه خاض منذ عام 1980، خمس حروب: مع إيران (1980 – 1988) حرب الكويت (1990- 1991) والغزو الأميركي (2003) الذي فكّك مؤسسات الدولة، والحرب الأهلية (2006 – 2008) والحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (2014 – 2017)، وفوقها الحصار الطويل (1991 – 2003) إلا أنه ظل مع ذلك متماسكا، غير مهدّد ببقائه ووجوده كيانا سياسيا، وفق الحدود التي نشأ عليها بعد إعلان المملكة العراقية عام 1921. وحتى محاولة الاستفتاء على الاستقلال التي أجراها إقليم كردستان عام 2017 باءت بالفشل، على الرغم من تصويت أغلبية السكان لصالحها، ودعم دول عربية وإسرائيل لها. في سورية، يبدو الوضع مختلفا، فالدمار الذي لحق بالبلاد، سواء على الصعيد المادي أو على صعيد النسيج المجتمعي، وتقاسم السيطرة على الأرض بين قوى خارجية، مباشرة أو عن طريق أمراء حرب ومليشيات، وإنشاء سلطات موازية، فضلا عن تحلل مؤسسات الدولة التي يقبض عليها النظام، وانهيار سيطرتها الأمنية والاقتصادية، حتى في مناطق حكمها، أدّى ذلك كله إلى تهشيم الدولة السورية، وتغيير معالمها بعمق. هذا يعني أن الصراع الذي بدأ، بشأن نظام الحكم وشكله وممارساته ومصادر شرعيته، قد انتقل إلى مرحلةٍ باتت فيها الدولة نفسها، بوصفها كيانا سياسيا، محل تساؤل، ما يمهد لظهور كانتونات، وتعدد سلطات، يحاول كل منها أن يحظى بمصدرٍ من مصادر الشرعية، وتعد اتفاقية النفط المشار إليها دليلا على هذه النقلة الخطيرة في الوضع السوري.

عندما خرج السوريون، أو جزء كبير منهم، عام 2011 لإطلاق ثورتهم المؤجلة (يمكن القول نظريا على الأقل، إنه كان ممكنا أن تحدث بالتزامن مع ثورات أوروبا الشرقية، لولا أن جاء حبل النجاة من أكثر مكان غير متوقع، العراق بغزوه الكويت عام 1990، فساهم في كسر جدران العزلة التي كان يعيشها النظام في دمشق، ففتح له أبواب واشنطن، وخزائن الخليج لقاء مشاركته في حرب تحرير الكويت، ثم في مسيرة السلام)، عندما خرجوا إذا كان هدفهم هو استعادة الدولة من قبضة نظام حوّلها إلى أداة للسيطرة على المجتمع، وقمع طموحاته وتطلعاته في الحرية والمواطنة ودولة القانون. لا شك أن كثيرين لم يكن لديهم، ولم تتكوّن لديهم بعد ذلك، القدرة على التمييز بين السلطة والدولة، نظرا إلى التماهي الشديد بين الاثنين في الحالة السورية. لكن الأكيد أن أحدا لم يخرج طلبا لإسقاط الدولة، أو تغيير ملامحها، أو إعادة تعريفها كيانا سياسيا قانونيا موحدا، من خلال أطروحات كالفيدرالية واللامركزية، أو ربط أجزاء منها بدول الجوار، وغير ذلك مما قد يؤدي يقينا إلى تحلل سورية، وظهور كيانات وهويات تحت – وطنية. خرج السوريون، إذا شئنا استعارة التشبيه الذي يستخدمه المنظّرون الغربيون للتمييز بين السلطة والدولة، لتغيير السائق، ووضع قواعد متفق عليها للقيادة، وليس لتفكيك المركبة، والظفر بأجزاء منها.

أما وقد صرنا إلى هنا، فلا بد من مشروع يوقف الانهيار. كيف يمكن لنا، نحن السوريين، أن نقبل بعد مائة عام على قيام الدولة السورية، تلك التي كنا نصمها بأنها صنيعة التجزئة الاستعمارية، ونعدها أقل كثيرا من طموحاتنا، بالفشل في الحفاظ عليها، أو السماح بتفكيكها، إلى ما هو دون سايكس بيكو؟ كيف نقبل بعد أن صدّعنا رؤوس العرب أكثر من قرن بأفكار القومية العربية وإقامة كيان عربي موحد، بالفشل في إنتاج هوية وطنية سورية صغيرة والحفاظ عليها؟ كيف لنا، نحن الجيل الراهن، أن نقبل بالمسؤولية التاريخية عن ضياع وطن وانهيار أمة؟ لا بد لذلك من استعادة وعينا الوطني، واسترداد الإرادة التي استلبتها تبعيتنا للدول والمعسكرات، وتضافر جهود الجميع لإنقاذ وطنٍ ما زال ممكنا إنقاذه، ولتكن اتفاقية النفط بمثابة جرس إنذار يحفّزنا بهذا الاتجاه.

العربي الجديد

—————————–

عشرون عاماً على حكم بشار الأسد/ د. نجيب الغضبان

خلال شهر تموز/يوليو قبل عشرين عاماً، بدأ حكم بشار الأسد لسوريا. ففي العاشر من هذا الشهر لعام 2000، تم الإعلان عن فوز بشار الأسد، كمرشح أوحد، في الاستفتاء الرئاسي والذي حصل فيه على نسبة 97.29 بالمائة من الأصوات حسب المصادر الرسمية، ليستكمل بذلك حلقات التوريث الذي بدأها الأب مباشرة بعيد وفاة الابن الأكبر باسل. وبعد سبعة أيام من الاستفتاء، ألقى الحاكم الجديد خطاب “القسم” الشهير أمام مايسمى بمجلس الشعب صاحب الرقم القياسي عالمياً في تعديل الدستور—لم تستمر عملية التعديل أكثر من عشرين دقيقة- مزيلاً بذلك عقبة قانونية على طريق اعتلاء الولد للحكم. وبذا يكون بشار قد أكمل عشرين عاماً كحاكم لسوريا، وهي فترة ليست قصيرة، إذ تعادل خمس دورات رئاسية على مقاييس الدول التي تقتصر الدورة الرئاسية فيها  على أربع سنوات. ففي أثناء هذه الفترة يكون الأسد قد عاصر أربعة من الرؤوساء الأمريكان، وهم بيل كلينتون، وجورج بوش (الابن)، وباراك أوباما، وأخيراً دونالد ترامب. وعلى الرغم من صعوبة تقييم فترة العشرين عاماً في مراجعة مقتضبة، تحاول هذه المقالة الوقوف على محطات رئيسية من حكم الأسد، بتحديد أولوياته، وتفسير قدرته على  الاستمرار في الحفاظ على العرش الموروث، على الرغم من فقر تجربته، واضطراب شخصيته، ومحدودية محاكماته العقلية.

لعل أولى محطات حكم بشار هي فترة ماعُرف “بربيع دمشق”، وهي لحظة لم تدم إلا أشهر معدودة، انطلقت بفعل رحيل الدكتاتور الأب، وأجواء تفاؤل بالقادم الجديد، غذاها بوعود غامضة حول الإصلاح والتطوير. انتهت هذه المرحلة بسجن عدد من النشطاء الذين حاولوا امتحان ادعاءات العهد الجديد. الدرس الأهم في هذه التجربة أن النظام لم يكن بوارد تقديم أي تغيير حقيقي، وأن أركانه استطاعوا إقناع الحاكم الجديد بخطورة أي عملية إصلاحية حقيقة، قد تودي بهم وبزعيمهم في مصائر مشابهة للاتحاد السوفيتي، في عهد ميخائيل غورباتشيف.

المرحلة الثانية من حكم بشار يمكن وصمها بمرحلة التقوقع على الذات، وإحكام الإمساك بمراكز القوة في النظام السياسي، من خلال استغلال تركيبته التي تقود كل الخيوط فيها إلى الجالس على كرسي الرئاسة، والتخلص من بعض مساعدي الأب، ممن عرفوا “بالحرس القديم”، واستبدالهم بدماء جديدة من عين الخلفية السياسية والطائفية والعائلية والطبقية للمستفيدين من النظام السابق. لقد ترافق مع هذه الفترة تحديات خارجية كان من ضمنها تصاعد وتيرة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والحرب على الإرهاب، بعيد الهجمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة، وكان من أهم تطبيقاتها مغامرة غزو العراق. لقد عززت هذه التحديات قناعة رأس النظام بخطورة التحديات الخارجية، وزودته بتبريرات كافية لإهمال التعاطي مع الإشكاليات الداخلية المتراكمة في كافة المجالات. شكلت هذه الأجواء قناعة لدى بشار بضرورة المحافظة على الأوضاع الراهنة على مختلف الأصعدة، بما في ذلك تمسكه بالتمديد لفترة الرئيس اللبناني الموالي، إميل لحود. هذا القرار كان السبب المباشر لتطورات قادت إلى عملية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري. ومع أن التحقيقات الأولية أشارت إلى الدور المحوري للنظام السوري، ورأسه تحديداً، في التخطيط لعملية الاغتيال والتحريض ضد الضحية، إلا أن النظام استطاع الخروج من دائرة المسائلة، بطرق ملتوية كان من أهمها استعداده للانحناء أمام العاصفة ودفع فاتورة قاسية تمثلت في انسحاب القوات السورية من لبنان بعد ثلاثة عقود، مدركاً تناقض المصالح الدولية وضعف الآليات الأممية للمسائلة والمحاسبة في الجرائم التي لاتمس مصالح الكبار.

المرحلة الثالثة من حكم بشار هي مرحلة استعادة الثقة وإعادة التأهيل الدولي للنظام ورأسه، بعد الحرب الإسرائيلية مع حزب الله في صيف عام 2006. ومع أن لبنان البلد قد دفع ثمناً باهظاً لمغامرة حزب الله في اختطاف جنود إسرائليين، إلا أن فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها من تلك الحرب، قد مكن الحزب وداعميه الإيراني والسوري من إعلان نصر، كان بالنسبة لرأس النظام بمثابة تعويض مهم للانسحاب المخزي في أعقاب اغتيال الرئيس الحريري. ولعل نعت بشار لمنتقدي الحزب من الحكام العرب بـ “أنصاف الرجال”، كان مؤشراً قوياً على استعادة الثقة بالنفس لشخص كان بالأمس في موقع المتهم بجريمة اغتيال دولية. بعض هؤلاء الحكام، وآخرين من القادة الأوربيين وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، كانوا ممن اتخذوا خطوات لتجاوز الماضي، وإعادة تأهيل بشار إقليمياً ودولياً، وذلك باقتصار التحقيق في جريمة الاغتيال على المنفذين فقط، وقبول منطق النظام الضمني بأنه دفغ ثمناً مقبولاً بانسحابه العسكري من لبنان.

تبدأ المرحلة الرابعة من حكم بشار مع انقضاء عشر سنوات على استلامه سدة الرئاسة، بسجل متواضع على صعيد “الإنجازات”، خاصة مع الإشكالات الداخلية التي تفاقمت مع مرور الوقت، وذلك بإنكار وإهمال التعاطي معها باسم التحديات الخارجية (المؤامرة المستمرة على محور المقاومة)، أو من خلال تقديم بعض الحلول المهدئة. وعندما انطلق الربيع العربي في تونس مع نهاية عام 2010، أنكر رأس النظام أن بلاده معنية بما يجري، فسوريا غير مصر، كما أن مصر ليست تونس، كما قال حسني مبارك قبله. وتكشف المقابلة الشهيرة التي أجراها بشار مع صحيفة وول ستريت جورنال، في آخر يوم من شهر كانون  الثاني/يناير لعام 2011 عن الحالة العقلية والنفسية لدكتاتور معزول عن الواقع. فالثورات، حسب بشار، قامت في الدول الصديقة للولايات المتحدة، وهي دول يعيش حكامها في معزل عن شعوبهم. في حين يجسد نظامه روح المقاومة للإمبريالية والصهيونية، ويسير بتؤدة على طريق الإصلاح الذي سيتم تتويجه—و الكلام لرأس النظام- بإعطاء رخص لبعض المطبوعات المستقلة، والسماح بتنافس أكبر على صعيد الانتخابات المحلية! لقد بدأت إرهاصات الثورة السورية في دمشق العاصمة، لكن انطلاق الشرارة الكبرى كانت في مكان لم يكن يتوقعه النظام في مدينة درعا، بفعل أطفال كانت لديهم الجرأة لاستنساخ شعارات ثورة الربيع العربي على جدران مدرستهم، في حادثة أشبه ما تكون بقصة الطفل مع الامبراطور الروماني المتذاكي على شعبه، عندما صرخ الطفل أمام الجميع بأن الامبراطور عار من دون ملابس. عندما خرج الأهالي في مدينة درعا مطالبين بالإفراج عن أطفالهم، كان رد فعل النظام بعقليته الأمنية عنيفاً، منسجماً مع تاريخه وتجربته وثقافته التي ترسخت على مدى عقود، وكان من أهم محطاتها القمع الشامل للمعارضة الإسلامية في آوائل الثمانينيات. العنف الذي استخدمته الأجهزة القمعية ضد التظاهرات السلمية أدى إلى نتيجة عكسية غير متوقعة تمثلت بكسر حاجز الخوف، إذ انتشرت حركة التظاهر في كافة أنحاء البلاد.

ومع انتشار التظاهرات السلمية، وفي أجواء التفاؤل التي عمت بلاد العرب وتُوجت برحيل الرئيسين التونسي والمصري، ومقتل القذافي فيما بعد، سادت قناعة داخل البلاد وخارجها بأن أيام رأس النظام معدودة، مالم يتخذ خطوات جذرية على طريق الإصلاح، وهو ماكان يأمله خصوم النظام قبل أصدقائه. لقد أثبت بشار الأسد للجميع بأنهم على خطأ وبأنه استطاع الحفاظ على مقاليد حكمه، بعد أكثر من تسع سنوات من مقارعة أكثرية شعبه، ودول إقليمية ودولية، فكيف أمكن له ذلك؟

لقد لجأ النظام منذ الأيام الأولى للثورة، كما تبين من الظهور الأول لبشار أمام مايسمى بمجلس الشعب، إلى سردية ملخصها أن النظام التقدمي المقاوم يواجه “مؤامرة” كونية من الأعداء الداخليين المتمثلين بقوى التطرف والظلام، مدعومين من قبل دول إقليمية لا تمت للحرية والديمقراطية بصلة، وأخرى دولية هاجسها معاقبة النظام على مواقفه المشرفة بدعم المقاومة لإسرائيل ومشروعها التوسعي. لكن السردية لوحدها لاتكسب مواجهة ضد شعب قد انتفض بعد عقود من القمع والتخويف والتجويع، وحظي بتفهم ودعم أغلبية دول المجتمع الدولي. لقد استطاع بشار الأسد الاستمرار في الحكم بفعل العوامل التالية:

أولاً، انتهاج استراتيجية استخدام أقصى درجات العنف والقمع ضد شعبه، والاستعداد للتخلي عن أجزاء من البلاد التي لايمكن السيطرة عليها، لكن بعد إحراقها وتدميرها. في الشق الأول من هذه الاستراتيجية، تدرج النظام في استخدام ترسانته العسكرية—دفع ثمنها السوريون بأموالهم وعرقهم- ضد الشعب السوري، بدءاً بالقنص والمدفعية والدبابات، وصولاً إلى السلاح الجوي  والبراميل المتفجرة، وأخيراً السلاح الكيماوي المحرم دولياً. واستغل النظام تحول الثورة السلمية إلى مقاومة مسلحة، بعد أشهر من القمع الممنهج، وكذلك دخول بعض التنظيمات المتطرفة على خط الثورة الوطنية المدنية، وهو ما ساهم النظام فيه بشكل كبير. وعلى مدى السنوات الفائتة، وثقت المنظمات الدولية والحقوقية جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ارتكبتها الأطراف المتنازعة، لكن كان للنظام نصيب الأسد منها (أكثر من 90 بالمائة). استراتيجية الأرض المحروقة التي انتهجها النظام، عبر عنها مؤويده بمقولة: “الأسد أو نحرق البلد”. لقد تم تدمير أكثر من 60 بالمائة من المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، وقُتل، حسب التقديرات المتواضعة، اكثر من 700 ألف سوري، وجرح أكثر من مليون إنسان، وتم تهجير أكثر من نصف الشعب السوري داخل البلاد وخارجها. الأمر الهام أنه بالنسبة لرأس النظام ومعاونيه، فإن هذا ثمن مقبول للحفاظ على الحكم، فالبلاد الآن بالنسبة لهم “أكثر تجانساً”، وبحال أفضل بعد أن تم التخلص من الإرهابيين وداعميهم.

ثانياً، العامل الثاني الذي يفسر استمرار الأسد في الحكم يتمثل في دور القوى الإقليمية والدولية، خاصة بعد تحول الصراع في سوريا إلى صراع إقليمي/دولي. وهنا يمكن تبسيط هذا العامل إلى ثنائية، أحد أوجهها القوى التي دعمت النظام، والأخرى التي عارضته. فبالنسبة للقوى التي وقفت مع النظام، وعلى الرغم من قلتها، إلا أنها كانت أكثر فاعلية من 114 دولة التي أطلقت على نفسها اسم “أصدقاء الشعب السوري”، وكانت في صف المعارضين للأسد. إيران وذراعها اللبناني، حزب الله، قدمت الدعم المالي والعسكري والسياسي، وجندت عشرات الآلاف من الميليشيات الطائفية، حاربت قوى المعارضة بالنيابة عن النظام، وساهمت في منع انهياره عسكرياً. لكن الدور الحاسم كان لروسيا، التي تحولت من الدعم السياسي والعسكري في السنوات الأولى إلى التدخل المباشر في أيلول/سبتمبر عام 2015، لتقلب موازين القوى العسكرية لصالح النظام وتساعده في تحوير العملية السياسية لضمان بقاءه. الوجه المقابل للدور الإقليمي والدولي تمثل في عجز المجتمع الدولي ممثلاً بأغلبية أعضاءه، بمن فيهم أغلبية الدول العربية وتركيا والاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، في وضع حد لجرائم النظام، وحماية المدنيين، أو على الأقل مجاراة داعمي النظام في إحداث توازن قوى، لتطبيق حل سياسي، تم صياغة إطاره من خلال وثيقة بيان جنيف لعام 2012، وقرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015.

لقد استطاع النظام، من خلال داعميه الروسي والإيراني، استعادة جزء هام من الأراضي التي فقدها، وقاد المحتل الروسي عملية سياسية مع إيران وتركيا، تم بمقتضاها إخراج مقاتلي المعارضة من مناطق هامة في وسط البلاد، ومحيط العاصمة، والجنوب، إلى الشمال الغربي من البلاد. لكن لحظة إعلان انتصار النظام على شعبه، لم تكن لتدوم طويلاً، وذلك لأنه لا يوجد رابحون في الحروب الأهلية، وهو أمر لم يستوعبه النظام ورأسه عندما أوغل في قتل أبناء وطنه. الأمر الآخر الذي اكتشفه النظام أنه أصبح مسؤولاً عن المناطق التي أعاد السيطرة عليها، وعن إعادة إعمارها، وهو أمر أكبر من قدرته، ومن إمكانيات داعميه من الروس والإيرانيين.

التركة الثقيلة والثمن الهائل الذي دفعته البلاد ثمناً لتمسك بشار بالحكم، ما كان ليكتمل بإعادة تأهيل للنظام الذي تجاوز هذه المرة بجرائمه مرحلة تصعب حتى على داعميه تبريرها. ومن هنا، كان تمرير قانون “قيصر”، ومن ثم الإعلان عن تطبيقه، تزامناً مع مرور عشرين عاماً على حكم بشار، تمرير هذا القانون يُكمل إحكام حلقة حرمان النظام من إعلان النصر السياسي بعد أن أعلن أنه كسب المعركة العسكرية. ومع  أن النظام حاول تحميل فشله في إدارة الأزمة الاقتصادية القاتلة التي تعصف بالبلاد—بينما تعاني أغلب دول العالم بما في ذلك داعمي النظام من أزمة كورونا- على حزمة العقوبات المتضمنة في قانون قيصر، فإن الأمر الأكيد أن النظام قد وصل إلى طريق مسدود في كسب معركة السلام. ومع أنه من غير المتوقع أن يكون لدى بشار الجرأة للتسليم بفشله الذريع في حكم سوريا، فإنه لن يتوانى عن تقديم استمراره في الحكم على أنه الإنجاز الأكبر له. هذه الحقيقة تلقي العبء على الأطراف الدولية الأساسية، وعلى رأسها الولايات المتحدة—العائدة للملف السوري من خلال قانون قيصر- وروسيا الداعم الأساسي للأسد، لإيجاد مخرج لسوريا، يحقق تطلعات الشعب السوري، ويحفظ مصالح البلدين المتناقضة. الوقت اللازم لحل هذه المعادلة الصعبة قد يطول أويقصر، لكنه يضع الشعب السوري المنهك من هذا الصراع أمام تحد الوقوف على قدميه، وصياغة مستقبل له، تستفيد من تجارب المعارضة المتعثرة، وتتجاوز تجربة مأساة حكم بشار الأسد.

أكاديمي وناشط سوري

————————————–

هل يمكن إعادة تأهيل المعارضة السورية؟/ عمر كوش

  ما تزال تشكيلات ومؤسسات المعارضة السورية وشخصياتها تحظى باهتمام ومتابعة سوريون كثر، بالرغم من تعرّضها لانتقادات واسعة، طاولت أداء مؤسساتها وتركيبتها وأدوار كتلها وشخصياتها السياسية، وعدم بنائها مؤسسات قوية، قادرة على تمثيل مظلة للسوريين وثورتهم، وقصور خطابها السياسي في مخاطبة جميع السوريين، إضافة إلى عدم استقلالية قرارها، وتبعيتها للقوى الإقليمية والدولية المتدخلة في الشأن السوري وسوى ذلك كثير.

  ومع ذلك، تابع سوريون وقائع الزيارة التي قام بها، مؤخراً، المنسق العام السابق لهيئة المفاوضات، أو ما عرف بهيئة الرياض1، رياض حجاب، إلى الولايات المتحدة الأميركية، ولقائه بمسؤولين أميركيين، حيث تناول في ندوة نظمها “معهد السياسات الدولية” بواشنطن، “تحولات المشهد السوري وآليات التعامل معها”، المعارضة السورية، ودعا “إلى إعادة تأهيلها، وإعادة تشكيل مؤسساتها، مع التأكيد على أهمية المحافظة على مؤسسات المعارضة، ولكن هذه المؤسسات بعد تسع سنوات تحتاج إلى إعادة تشكيل وترتيب من جديد لتقويتها وتوسيع تمثيلها”. وطالب بألا “تكون المعارضة طرفاً في تلك الخلافات الإقليمية”، وأن تهتم بالشأن السوري أولاً، بالرغم من أننا “بحاجة الجميع ولا مصلحة لنا أن نكون طرفاً بأي خلاف، بل أن نكون على مسافة واحدة من الجميع، لنستطيع أن نقدم لشعبنا الخلاص والفرج.”

  ولا تخرج مطالب حجاب عما طالب به سويون كثر، منذ سنوات، تشكيلات المعارضة، وخاصة الائتلاف السوري المعارضة وهيئة التفاوض، كي تحسن أداءها وتقوي مؤسساتها، وتتخلص من حالات الترهل والتردي وتمييع المواقف، ولكن لم يلقَ كل ذلك آذاناً صاغية طوال الفترة الماضية، حتى بات السؤال المطروح هو: هل يمكن إعادة تشكيل المعارضة؟ وكيف؟

  يشير واقع الحال إلى فشل كل محاولات إعادة تأهيل المعارضة السورية، وأن تشكيلات المعارضة لم تستجب لكل ما أثيره حولها من انتقادات ومطالب، بل تمادت في الامتناع عن القيام بأي عملية نقد أو مراجعة لما قامت به من أدوار، وأمعنت في تبرير خطواتها، وفي الانكفاء على ذاتها، والسبب الأساسي يعود إلى تركيبة كل من الائتلاف والهيئة، اللذين تشكلا وفق مبدأ المحاصصة بين مجموعة من القوى والشخصيات السياسية، التي تتمتع بدعم دولي وإقليمي، وجرى تسويقها كي تتصدر المشهد السياسي للمعارضة السورية، حيث تنطحت لمهمة تمثيل قوى الثورة السورية وحاضنتها الاجتماعية، لكن واقع الحال أثبت أنها بعيدة كل البعد عن الثورة وجمهورها، حيث لم تحتكم في عملها إلى مطالب وطموحات الحاضنة الاجتماعية للثورة ولا لقواها الحيّة، ولم تنل أي شرعية من طرفها.

   ومنذ تشكيل الائتلاف السوري المعارض في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، لم يتمكن من طرح نفسه كبديل حقيقي لنظام الأسد، ومن إقناع العالم بقدرته على قيادة سورية، وبرهن على أنه فاقد لقراره المستقل أمام الدول المتدخلة في الشأن السوري. كما لم ينل ما قام به من أدوار وما اتخذه من مواقف رضا جمهور الثورة السورية، بالرغم من إدعائه شرعية تمثيل هذا الجمهور، حيث تعرض إلى انتقادات واسعة من الناشطين ومن سائر المعارضين الذين لا يملكون أي وسيلة لمحاسبة شخصياته وقواه السياسية، والأمر نفسه ينطبق على هيئة التفاوض، خاصة بعد ما قدمته من تنازلات في جولات مفاوضات جنيف، ثم ضمها منصتي موسكو والقاهرة الى صفوفها، الذي اعتبر بمثابة تمييع لتركيبة المعارضة السورية ومواقفها، لأن منصة موسكو على وجه الخصوص ليست معارضة للنظام الأسدي، وتخضع لإملاءات وأجندة روسيا التي وقفت إلى جانب النظام ودعمته في حربه الشاملة ضد قوى الثورة السورية وحاضنتها الاجتماعية، وباتت تشكل قوة احتلال لسورية في نظر معظم المعارضين السوريين وسواهم.

   ووصل التردي في صفوف المعارضة إلى درجة أنه لا يمكن القبول بأن انتخاب نصر الحريري رئيساً للائتلاف الوطني السوري المعارض في 11 من شهر تموز/ يوليو الجاري خلفاً لأنس العبدة، الذي سبق وأن انتخب في 14 مايو / أيار الماضي بديلاً عن الحريري في رئاسة هيئة التفاوض المعارضة، كان مجرد مصادفة محضة، بل هو أقرب إلى صفقة مدبرة ومسبقة، جرى ترتيبها بين كتل وشخصيات فاعلة في كل من الائتلاف وهيئة التفاوض، تضمنت تبادل المناصب ما بين الرجلين، وغايتها ضمان استمرار هيمنتها وسيطرتها عليها. والأدهى من ذلك هو أنه لم تقدم أي مبررات أو مسوغات لعملية التبادل من قبل الائتلاف أو الهيئة.

  وعلى الرغم من أن تمرير صفقة تبادل المناصب بين الحريري والعبدة جرت وفق عملية انتخابية داخل كل من الهئية والائتلاف، إلا أنها كانت مجرد عملية شكلية، أثارت استهجاناً واسعاً بين السوريين والمتابعين للشأن السوري وسخريتهم، كونها حملت شخصين تنقلا بين أكثر من موقع قيادي في تشكيلات المعارضة، وقدمت دليلاً جديداً على أنها باتت مجرد وسيلة، يتم اللجوء إليها كي تتبادل الشخصيات التي تحتل مواقع قيادية في هيئات وتشكيلات المعارضة المعترف بها دولياً، المواقع والمناصب بينها. والأمر لا يقتصر على موقع الرئاسة والهيئات السياسية، بل يشمل كافة المواقع والمناصب في تشكيلات المعارضة السياسية، حيث باتت تشبه النادي أو الغيتو المغلق، الذي تحافظ فيه الكتل والشخصيات السياسية على مواقعها وامتيازاتها، ولا تسمح لقوى وشخصيات جديدة بالدخول إليه إلا بشكل محدود جداً، أو تحت ضغط خارجي ووفق آليات معقدة، لذلك تحول مغظم أعضاء هيئات المعارضة إلى أعضاء دائمين فيها، لا يخضعون للمساءلة عن أدوارهم ومواقفهم، وغير قابلين للاستبدال إلا في حالات نادرة، وهذا ما يفسر بلوغ حالات التردي والانهيار أوجهها في صفوف معظم هيئاتها وتشكيلاتها.

  قد يجادل بعض المعارضين بأن تركيبة كل من الهيئة والائتلاف تقتضي العمل على التوصل إلى توافقات بين الكتل السياسية المشكلة لهما، بغية تحقيق التشارك في العمل السياسي، ويرجعون ذلك إلى أن كل من الهيئة والائتلاف تشكل من مجموعة قوى وشخصيات سياسية، وهذا يقتضي بناء التفاهمات والتحالفات، لكن التفاهم شيء والمحاصصة في المناصب شيء آخر مختلف تماماً، حيث أن المحاصصة تعني توزيع المناصب بين قوى سياسية تمثل مكونات سياسية على خلفيات متعددة، بعد أن استعصى عليها الاندماج في مؤسسة جامعة وقوية، إضافة إلى أنها تقدم الدليل على أهم مؤشرات تردي هئيات المعارضة وتدهورها.

  وما يفاقم مشكلة المعارضة السورية هو أن عملية تبادل المناصب وتغيير المواقع ستزيد من تهافتها وتدهورها، ولن يخدم القضية السورية، لأن محصلة التبادل صفرية على الدوام، فيما يخص السير باتجاه دعم القضية ونصرتها، ونحو الخلاص من الوضع الكارثي، إضافة إلى أنها تزيد من عدم قدرة تشكيلات المعارضة على التوصل إلى بنية مؤسسية جديدة وفاعلة، تضع فيها رؤية استراتيجية مشتركة، وتشكل قطباً سورياً، يوحد جهود القوى الطامحة للتغيير في سورية، ويرتب العلاقات مع القوى العربية والدولية، ولا يخضع للاملاءات الأقليمية والدولية، لكن أسباباً عديدة كانت تعرقل الوصول إلى ذلك خلال السنوات السابقة، لعل أهمها العجز عن قيام المعارضة بالتأثير الفاعل في الأحداث،  وعدم ابتعادها عن المحاصصة، فضلاً عن غياب برنامج تغيير سياسي واضح لدى معظم قوى وأحزاب المعارضة، وتركيزها على المسائل الضيقة للكتل والشخصيات الممثلة لها، والسعي الدائم لتحويل العمل السياسي إلى استثمار شخصي. وهو ما تستغله القوى المتدخلة في الشأن السوري، كي تتحكم في القرار السوري وتمسك بالقضية السورية، وتستثمر فيها لحساب مصالحها وأجنداتها، وتظهر للعالم أجمع أن المعارضين السوريين هم مجموعة من الانتهازيين والفاسدين الطامحين بالسلطة، ولا يهمهم تطلعات السوريين في الخلاص من نظام الاستبداد الأسدي.

  وإذا كان للقوى الخارجية المتدخلة في الشأن السوري دور في إطالة أمد القضية السورية وتفاقم الكارثة التي ألمّت بهم بسبب حرب النظام، إلا أن المسؤولية الأكبر تقع على قيادات المعارضة السورية، التي لم تستثمر الفرص التي اتيحت أمامها للعمل على تحقيق مطامح السوريين، ولم تعمل على تجيير علاقاتها الإقليمية والدولية لصالح القضية السورية، وليس لصالح استثماراتها الشخصية والحزبية، بل راحت تنشغل بترتيبات وصفقات للاستحواذ على المناصب والمواقع داخل هئياتها، بدلاً من بناء مؤسسة قوية تشكل مظلة للسوريين الطامحين إلى الحرية والخلاص من نظام الاستبداد الأسدي، وبالتالي كيف يمكن إعادة تأهيل المعارضة السورية؟

كاتب سوري

————————————-

حكاية طويلة/ ميشيل كيلو

تفصلنا عن الحل السياسي في سورية جملة ظروف مفتوحة على صراعات ما بعد سورية، قد لا يقل بعضها ضراوة عن الصراعات التي عشناها خلال الثورة. وتكمن معضلتنا اليوم في أن روسيا ليست قادرة على إيجاد حل للصراع بمفردها، بعد أن تورّطت فيه من موقع الشراكة مع أطرافٍ ترى اليوم أنها كانت منافسة لها، قبل وبعد الغزو الذي نفذته في سورية عام 2015 وبعده. وتكمن في أن واشنطن، الممسكة بمعظم أوراق الحل، لم تقرّر استخدام ما لديها من وسائل ضرورية لفرض حلٍّ يقبله طرفا الصراع، بعد أن تركت لهما هوامش تسمح لأحدهما بقبولٍ لا تعقبه نتيجة، وللآخر برفضٍ لا ينهي الصراع، ولا يحقق انتصارا. ويكمن أخيرا في أن المعارضة، أو ما اصطلح على تسميته ممثل الثورة، عاجزة عن القيام بأي شيء، على الرغم مما قد تبادر إليه من حركاتٍ تعتقد أنها ردها على العجز، مع أنها لن تلبث أن تعزّزه.

وقد أمعنت في فصلنا عن الحل، أخيرا، تطوراتٌ تعاكس ما كان منتظرا بعد انتهاء الأعمال العسكرية الذي يتكرّس، ويتعايش المتصارعون معه. تعبّر هذه التطورات عن نفسها في انتقال هؤلاء إلى انتزاع ما يعتقدون أنه حصتهم من سورية وما وراءها، بدل انتظار الحل الذي يمكّنهم من الحصول عليها، الأمر الذي يجعل من المستبعد العودة إلى الحرب من جهة، والذهاب إلى الحل من جهة مقابلة، ويضعنا أمام معادلةٍ تتعاظم فيها حصة من يبادر إلى انتزاع غنيمته بالقوة، كما تفعل تركيا منذ أشهر، من خلال هجمةٍ ذات طابع استراتيجي طاولت سورية، حيث رسمت خطوطا حمراء لروسيا وإيران، عبر قوة ساحقة حشدتها فيها، وطاولت العراق، حيث شرعت تحتل مواقع كان يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني، قد تستأنف بعد ترسيخ وضعها فيها هجومها على المنطقة السورية التي يسيطر عليها أتباع الحزب، ويرجّح أن يفضي انتزاعها منه إلى إحباط خطته لأخذ حصته من سورية من دون انتظار الحل، كما طاولت ليبيا، حيث أقامت أنقرة قاعدةً قتاليةً تعزّز دورها في شمال أفريقيا، وعلى إمداد حوض المتوسط الشرقي، بثرواته الكبيرة من النفط والغاز.

بهذه الهجمة التي تنتزع تركيا من خلالها بالقوة بعض ما كانت تعتزم نيله من خلال الحل، يكون من الصعب أن تسمح بإخراجها من سورية من جهة، وأن تعتبر دورَها في المسألة الكردية السورية منتهيا، وتسمح بتخلق ظروف تهدّد “إنجازاتها” التي يبدو كأن تحقيقها لا يتعارَض بالضرورة مع إعادة اقتسام المنطقة، ونيل القوى الأخرى حصتها، حسب قوتها وقدرتها على المبادرة، وهي لا تتصل بأنقرة، النسبة لروسيا، بل بطهران، شريكها اللدود في إنقاذ من تكتشف موسكو أنه يرفض إقامة علاقات متوازنة بينها وبين طهران، مع أن علاقاتٍ كهذه تعتبر هزيمة بالنسبة لها، تُلزمها بالتخلي عن مخططها الأصلي الذي قام على الانفراد بسورية، واستخدامها لاستعادة ما كان للسوفيات فيه من حضورٍ ونفوذٍ في الوطن العربي. بما أن استخدام القوة بين روسيا وإيران مستبعد، ومستبعد أيضا حسم صراعهما بالقوة، فإن تنافسهما سيطيل أمد الصراع في سورية وعليها، وسيؤدّي بالتالي إلى إرجاء الحل، والإبقاء على الوضع الراهن، وضع لا حرب ولا سلم، بما يضمره من تجاذباتٍ تحسّن كل منهما أوضاعها بواسطتها، من دون أن يؤدّي ذلك إلى تبدّل جدّي في واقعهما القائم حاليا، ما لم يحدث زلزالٌ يقوّضه ويُرغمهما على إعادة النظر في علاقاتهما لصالح أحدهما، أو يطيح إيران، ويسمح لموسكو بالإنفراد بالأسدية، من خلال جهد أميركي تبدو واشنطن عازفةً عن القيام به، لأنها تريد لروسيا أن تخدمها في طهران، بدل أن تخدم هي موسكو في سورية. أما واشنطن، فإنها لا تريد تغيير أوضاع تحتجز إرادات غريميها، وتبقي أوراقهما في يدها.

العربي الجديد

————————————-

السياسة الخارجية للنظام السوري… منتجة للحصانة والدور والمال/ حازم نهار

أخذت تصورات خاطئة حيزًا كبيرًا من اهتمام سوريين كثيرين ونقاشاتهم، خلال مرحلة ما بعد الثورة السورية، وصرفوا فيها وقتًا بلا طائل، وأنتجوا مشكلاتٍ جديدة، في الخطاب والممارسة، بحكم إيمانهم بها والدفاع عنها والعمل وفقها أو في ضوئها، تُضاف إلى كارثتهم الكبرى بوجود نظام سياسي لم يتورّع عن فعل أي شيء في سبيل بقائه. منها وجود قناعة راسخة لدى نسبةٍ لا بأس بها من “النخب السياسية” بإمكان بناء “دولة إسلامية” في سورية، أو الاقتناع بتصوّر أن النظام يسعى إلى بناء، أو يستطيع بناء “دولة علوية” في حال اشتدّ عليه الخناق. لكن أهم التصورات الخاطئة التوقع المحسوم بإمكان حدوث تدخل عسكري غربي ضد النظام السوري، وفي مصلحة الثورة، وتوقع سقوط النظام خلال أيام أو أسابيع أو أشهر.

يقود هذا إلى القول إن أكثر مسألة كانت غائبة لدى مجتمع الثورة و”نخبها”، عمومًا، هي نقص المعرفة بسورية وبالنظام السوري وبنيته وتوازناته وعلاقاته الإقليمية والدولية، وكان طرح شعار “إسقاط النظام” يقتضي، على الأقل، وبالضرورة، المعرفة بالنظام وطبيعته وعناصر قوته من أجل تحويل الشعار إلى برنامج عمل سياسي واضح. ويمكن، بالطبع، تفسير نقص المعرفة هذا بتغييب المجتمع السوري عن السياسة والثقافة خمسة عقود على الأقل، بدءًا من انقلاب حافظ الأسد في عام 1970، لكنه يبقى تفسيرًا غير كافٍ بالتأكيد؛ فالمشكلة أيضًا تطال “النخب السورية المعارضة”، من حيث بنيتها وأنماط تفكيرها وخطابها وأدواتها.

 بنية داخلية تسلطية

النظام السوري بنية تسلطية ارتكزت على عناصر في الداخل، وعلى مجموعة من الخيارات في الخارج، شكلت سياسته الخارجية، وأسهمت جميعها في الحفاظ على أمن النظام وبقائه واستمراريته.  ويمكن الحديث طويلًا عن بنية النظام وسياساته الداخلية، وقد تناولها باحثون غربيون متميزون تفصيلًا، وأصبحت في خطوطها العامة معروفةً لدى قطاع واسع من السوريين بعد الثورة. لكن يمكن القول إنها ارتكزت على إعادة هيكلة الجيش السوري، ليكون في خدمة النظام والحفاظ عليه فحسب، وبناء أجهزة أمنية موثوقة وقادرة على ضبط المجتمع والتحكم فيه، وعلى حزب البعث بوصفه “قائدًا للدولة والمجتمع”، الحزب الذي فقد عقائديته تدريجًا، وخسر قدرته على التعبئة الشعبية، وتحول إلى أداة للرقابة وشبكة للوصاية، يُضاف إليه “الجبهة الوطنية التقدّمية” التي لم يكن لها من دور سوى قطع الطريق على تشكل أي معارضة حقيقية محتملة، و”مجلس الشعب” الذي صُمِّم لإعطاء الشرعية لسلوكات النظام في كل مرة يحتاج إليها، وللضمان أكثر، أُبعدت عنه القضايا السياسية والأمنية في الداخل والخارج، واقتصرت وظيفته على أداء دور إداري واقتصادي، مع إبقاء القرارات الاقتصادية الكبرى خارج صلاحياته، بما فيها الميزانية.

في عهد بشار الأسد، لم يحدث تغيير كبير في بنية السلطة، واقتصرت طريقته على القيام بنوع من “التحديث السلطوي” بحسب تعبير فولكر بيرتس، إذ سار خطواتٍ نحو الأمام في اتجاه التحرّر الاقتصادي الذي بدأ بطيئًا وحذرًا في أوائل التسعينيات، فأصبح القطاع الخاص، إلى حدٍّ بعيد، في الصدارة بدءًا من العام 2000، فحدث اختلال اقتصادي كبير، وزادت حدّة التفاوت الاجتماعي، وظهرت طبقة جديدة من الأثرياء جدًا، وطبقة فقيرة في أسفل الهرم الاجتماعي، وتحول الفساد الذي ” كان مرضًا في عهد حافظ الأسد” إلى “سرطان في عهد الأسد الابن”. وكان لا بدّ لهذه الأوضاع السياسية والاقتصادية المتأزِّمة في البلاد أن تتفجّر في أي لحظة مواتية، وكان الربيع العربي في تونس ومصر قد أوجد المناخ الملائم لانطلاق الاحتجاجات بشكل واسع في سورية.

فوجئ النظام والمعارضة التقليدية والمراقبون الدوليون بالاحتجاجات في سورية، فقد كان التوقع ألا يطرق الربيع العربي أبواب سورية، بحكم الخوف الذي زرعه النظام في المجتمع السوري بعد قمعه التمرّد الإسلامي في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، فضلًا عن حالة نزع السياسة من المجتمع السوري، وتحطيم النخب الثقافية والسياسية نحو نصف قرن.

وكثيرًا ما أعلنت نخب سياسية وثقافية في سورية نهاية النظام أو اقتراب سقوطه، وقد حدث ذلك في محطات عدة، لكنه تجاوزها دائمًا؛ فبعد وفاة الأسد الأب، ساد انطباع بعدم قدرة الأسد الابن على ملء الفراغ وتثبيت سلطته، وتوقع سياسيون ومراقبون كثيرون انهيار النظام في إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، والانسحاب السوري من لبنان، والحصار الأميركي والأوروبي والعربي، لسورية بدءًا من عام 2005. وبعد الثورة، كثيرًا ما سمعنا، في مناسبات عديدة، تصريحات إقليمية ودولية، فضلًا عن تصريحات المعارضة السورية، باقتراب سقوط النظام، لكن النظام كان يتخطى الأزمات تلك، وما زال مستمرًا. ولعل السرّ يعود، بصورة أساسية، إلى سياسته الخارجية، على الرغم من معرفتنا بالبيئة الداخلية المحكمة التي بناها خلال نصف قرن، والتي لا يُتوقّع منها كثيرًا إنتاج ثورة قادرة على مواجهته.

شكلت السياسة الخارجية السورية، على مدار عقود، أحد أهم مصادر شرعية النظام السياسي السوري وقوته منذ استيلاء حزب البعث على السلطة في 8 مارس/ آذار 1963. لذلك تُعدّ عملية مقاربة هذه السياسة، بمرتكزاتها وآلياتها وممارساتها وأهدافها، وقراءة تاريخها الطويل في التعامل مع الأزمات الخارجية المختلفة، وخلفيات قدرتها على استثمار الوقائع والعلاقات في سبيل بقاء النظام وتحصينه، مسألة مهمة جدًا.

أهداف السياسة الخارجية

في خطابه العلني، يُصدِّر النظام السوري سياسة خارجية تستند إلى عقيدة قومية، هدفها تحقيق الوحدة بين البلدان العربية، ومواجهة مشاريع الإمبريالية في المنطقة، وتجعل من القضية الفلسطينية وبناء توازن استراتيجي شامل مع إسرائيل القضية المركزية، مع التشديد على تثبيت الهوية السورية للجولان المحتل، ودعم المقاومة بجميع الوسائل، والوقوف ضد أي تسويةٍ منفردة بين الفلسطينيين وإسرائيل، وتمتين العلاقات السورية اللبنانية، وغيرها.

وانطلاقًا من الأهداف المعلنة هذه، وسّع النظام، خلال الثلاثة عقود قبل 2011، دائرة نفوذه الإقليمي، وتأثيره الدولي، وتدخل سياسيًا وعسكريًا في الشؤون الداخلية للدول والحركات السياسية والعسكرية، العربية والإقليمية، مثل النزاع العراقي الإيراني، والنزاع التركي الكردي، والصراع الفلسطيني/ العرب الإسرائيلي، والصراع اللبناني الإسرائيلي، وغيرها.

وفي موازاة الأهداف المعلنة هذه، صدّر نفسه، في الداخل والخارج، بوصفه نظامًا حاميًا للأقليات، على الرغم من اضطهاده الأكراد تحت سياط الأيديولوجية البعثية، وبوصفه نظامًا علمانيًا، على الرغم من وجود شواهد كثيرة تقول عكس ذلك، أقلّها الامتيازات التي قدمها لفئة من الطائفة العلوية والتسهيلات التي قدّمها لمجموعة القبيسيات الدينية، واستثماره الكبير دور رموز دينية إسلامية.

في خارج سورية، جعلت هذه السياسات والآليات النظام قويًا في المحيط الإقليمي، ومؤثرًا في العلاقات الدولية، وقادرًا على المناورة وتجنب الضغوط الخارجية. وحققت هذه الآلية في الداخل السوري شكلًا من أشكال الاستقرار، لكنه استقرار سلبي، يرتكز على الحفاظ على ركود الحياة السياسية والاقتصادية، استقرار غير منتج للتقدّم في أي مستوى؛ فقوة الدول، كما هو معروف، لا تحقِّقها المناورات والتكتيكات الجزئية للسياسة الخارجية، بل تنبع من وجود بناء داخلي راسخ، يعكس نفسه في التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية، ما يعني حضور المصلحة الوطنية، بصورة مكثفة، في تحركات السياسة الخارجية، وهو ما لم يكن في جدول أعماله.

آليات وأدوات

لعل أهم ثروة يملكها النظام السوري هي سياسته الخارجية؛ فهي كانت أداته لتحصين نفسه ضد التهديدات، ووسيلته لتعظيم دوره الإقليمي وإزعاج خصومه، وأحد مصادره الأساسية لتحصيل المال والمساعدات من محبيه وكارهيه على السواء، وقد استند في بناء سياسته الخارجية وترسيخها إلى عددٍ من الآليات والاستراتيجيات المتضافرة، منها البراغماتية والدور الوظيفي، التخريب واللعب في ساحات الآخرين، سياسة الانتظار وكسب الوقت.

البراغماتية والدور الوظيفي: ليس من الصعب اكتشاف أن تنقلات هذه السياسة بين “الممانعة” المتطرفة والبراغماتية البحتة، غير المستندة إلى مبادئ راسخة تتعلق بالمصالح الوطنية، لا تهدف إلا إلى تثبيت نظام الحكم في الحصيلة؛ فالأهداف المعلنة لم تكن إلا غطاءً لسياسة خارجية محرّكها الفعلي خدمة النظام وتحصينه وتأمين دفاعاته ومصالحه.

ترتكز سياسته الخارجية، أساسًا، على استراتيجية الموازنة بين المصالح المتناقضة للدول، ليتحوّل النظام بفضلها إلى نظام وظيفي، يعبِّر عن نفسه بالخدمات التي يقدمها في الإقليم والعالم، وهذا جعله متداخلًا بصورة معقدة في بنية النظامين، الإقليمي والدولي، وجعل مسألة الاستغناء عنه، من دون تفكيك هذه البنية، وإعادة صوغها على أسس جديدة، أمرًا صعبًا جدًا. بنى النظام علاقات مع دول ومحاور متناقضة، للعب على خلافاتها وصراعاتها من جهة، ولتقديم الخدمات لها من جهة أخرى، علاقات مع أميركا وروسيا في وقت واحد، علاقات مع إيران ودول الخليج العربي وتركيا في آن معًا… إلخ، فضلًا عن تداخله في صراعات المنطقة كلها، قديمًا وحديثًا: النزاع العراقي الإيراني، النزاع التركي الكردي، النزاع الخليجي الإيراني، الصراع العربي الإسرائيلي، ووحده هذا الأخير أتاح له تفاهمات، فوق الطاولة وتحتها، تُسهم عمليًا في بقائه.

كان اعتداء العراق على الكويت عام 1990 فرصة ذهبية للنظام لتحسين علاقاته بالولايات المتحدة، وبحكم أن الودّ كان مفقودًا أصلًا بين النظامين، السوري والعراقي؛ قرر حافظ الأسد الانضمام إلى التحالف الدولي ضدّ العراق، ليصبح الطرف العربي الأول في المنطقة في غياب صدّام حسين، ولفتح صفحة جديدة في العلاقات السورية الأميركية. كان مهمًا أيضًا لأميركا وتحالفها آنذاك مشاركة حكومة عربية معروفة بعدائها للسياسة الأميركية، ما يعني تحسين شرعية حملتها العسكرية وصورتها العامة في المنطقة. كان حافظ الأسد، في اللحظات الحاسمة، يُظهر درجةً عاليةً من البراغماتية والمرونة في تكييف سياسته مع الوضع الدولي، لكن نجله بشار الأسد لم يكن كذلك في عام 2003، عندما وقف ضد الهجوم الأميركي على العراق، على الرغم من أنه كان قد جعل من سورية، في وقتٍ سابق، شريكًا لأميركا في الحرب ضد الإرهاب، وسمح باستقبال بعض الذين أحضرتهم أميركا من بلدان أخرى، ليجري التحقيق معهم في سورية، على أساس كونهم إرهابيين.

بنى الأسد الأب تحالفًا مع إيران، على الرغم من الاختلاف العقائدي مع نظامها، وبنى عداوةً مع العراق على الرغم من التماثل العقائدي مع نظامها. وقد انعكس تحالفه مع إيران إيجابًا على ثبات النظام ورسوخه، وأرغم الآخرين على إعادة حساباتهم تجاهه، ومقايضته في مسائل عديدة، لكنه أضرّ بسمعة سورية وأساء إلى صورتها في المجتمع الدولي قبل 2011، خصوصا في ظل الخطاب الأيديولوجي غير العقلاني للسياسة الإيرانية في العلاقات الدولية، كما أفسح المجال لإيران للدخول إلى عمق النسيج العربي، والتدخل في الشؤون الداخلية لبلدان عربية عديدة، واستخدامها أوراقًا في صراعها مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.

التخريب واللعب في ساحات الآخرين؛ النظام السوري أخطبوطي، له أيدٍ ومنظمات وجماعات تتبعه أو تناصره في دول الإقليم كلها؛ حزب الله وحركة أمل في لبنان، بعض القوى والجماعات اللبنانية القومية واليسارية، حركتا حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، حزب العمال الكردستاني في تركيا، منظمات ومليشيات متنوعة في العراق، أحزاب اليسارية (القومية والشيوعية) في بلدان عربية مختلفة… إلخ، وهذا أعطاه القدرة على ممارسة الضغط على جيرانه، وسمح له باللعب في ساحات الآخرين، وابتزازهم وتهديدهم، وأبرز مثال على ذلك علاقة سورية بحزب العمال الكردستاني (PKK) التي أوشكت أن تجرّ تركيا وسورية إلى حرب في 1998.

في لبنان مثلًا، كانت السياسة الخارجية للنظام مافيوية، ترتكز على أدوات استخبارية بحتة في الفعل والتأثير، في وقتٍ قدم فيه لبنان للنظام السوري، على الدوام، مجالًا واسعًا لحلّ معضلاته الاقتصادية، وكانت أرضه ساحة حرب، في لحظة، بين إسرائيل وسورية. وبذلت السياسة الخارجية السورية أيضًا جهدًا كبيرًا لاحتواء العمل الفلسطيني، ودخلت في مواجهات مسلحة مع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وسعت إلى تفكيك الصف الفلسطيني في محطات عديدة، وانحازت صراحة إلى القوى الفلسطينية المعارضة لياسر عرفات، ورعت التنسيق بينها، وحوّلتها إلى أوراقٍ تضغط بها على خصومها السياسيين، ما أعطاها هامش مناورة في العلاقات الإقليمية والدولية.

في عهد الأسد الأب، استضاف النظام بعض معارضي صدّام حسين، ليعود الأسد الابن ويشجع المقاتلين ضد حكومة ما بعد صدّام في العراق التي شكلها معارضو الأخير الذين كانوا في دمشق وطهران، حتى أنه سمح للمتطرّفين الإسلاميين بالعمل في الأراضي السورية، والمرور منها إلى العراق. وعلى العموم، تبدو هذه الرغبة في القيام بدور تخريبي جزءًا أصيلًا في السياسة الخارجية السورية.

نجح النظام السوري في تثبيت دوره في المحيطين، الإقليمي والدولي، وفي تخفيف الضغوط الخارجية عليه باستخدامه أوراق الضغط التي يملكها في الملفات الإقليمية كافة، في لبنان والعراق وفلسطين، واللعب في ساحات الآخرين، وكفّ أيديهم عن التأثير في الأوضاع الداخلية في سورية، وساعده في ذلك وضع سورية التاريخي والجغرافي بوصفها بلدًا أساسيًا في المنطقة، ومرتبطًا بجميع أزماتها وملفاتها، بوجود نظام الأسد أو غيره، كما ساعده أيضًا فشل الحسابات الغربية في المنطقة، خصوصا الأميركية.

ربما انطلق النظام في وضع هذه المرتكزات للسياسة الخارجية انطلاقًا من قراءته لأوضاع سورية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حين كانت موضوع نزاع دائم بين الدول الأخرى، العربية والإقليمية والدولية، الأمر الذي جعلها بلدًا غير مستقر، وتكثر فيه الانقلابات السياسية، وتتبدل الأحوال بين ليلة وضحاها.

سياسة الانتظار وكسب الوقت؛ اعتاد النظام السوري، في محطاتٍ عديدة، مع اشتداد الضغوط الخارجية عليه، اللجوء إلى سياسة الانتظار وكسب الوقت إلى أن تتغير الأحوال، أحوال الضاغطين عليه، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، بحكم أن الانتخابات الدورية في هذه البلدان ستأتي كل مدة بأشخاص آخرين وطواقم عمل مختلفة، ما يعني أن الحكومات الجديدة ستحدِّد، بالضرورة، أولويات مختلفة، ومن ثمّ تحتاج إلى بعض الوقت لترتيب نفسها وجدول أعمالها، كما يمكن أن تتغير سياساتها تجاهه، على الرغم من عدم تغييره سياساته، وقد نجا النظام السوري بفعل سياسة الانتظار هذه من أزمات عديدة. فبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005 مثلًا، كان النظام محاصرًا وتحت ضغط شديد، لكن الحال تغيَّر بعد مدة من دون أن يُضطرّ إلى تغيير مواقفه.

السياسة الخارجية في مواجهة الثورة والمعارضة

تجسّدت آليات السياسة الخارجية ومرتكزاتها في مرحلة ما بعد مارس/ آذار 2011، واستخدم النظام أوراقه الإقليمية كافة في بلدان المنطقة، واستدعى حلفاءه جميعهم لمؤازرته ودعمه، لمواجهة الثورة والمعارضة والمجتمع الدولي، وما زال ثابتًا في موقعه، على الرغم من هشاشته، ومن تحوّل سورية إلى أسوأ بؤرة في العالم من حيث الفوضى والعنف، وزيادة التدخل الإقليمي والدولي، وسوء أوضاع شعبها الاقتصادية والحياتية، وتمزّق هويته إلى هويات عرقية وطائفية وعشائرية وجهوية.

عمل النظام على تغيير رؤية العالم وقسم من السوريين تجاه الثورة السورية، وكانت لديه وسائل عديدة في هذا الإطار؛ فقد استخدم مخاوف الأقليات أداةً، موحيًا بأن مصير العلويين والمسيحيين والدروز في سورية يتوقف على بقاء النظام، بينما كان، في الوقت نفسه، يحرِّض التوترات العرقية والطائفية على الأرض. كما استثمر قلق الجمهور الغربي وخوفه من الإسلاموية وتنظيم القاعدة وأمثاله إلى الحدّ الأقصى، ما أسهم في منع الدول الغربية من رمي كامل ثقلها لدعم الثورة في البدايات، قبل أن يصبح السلفيون جزءًا مهمًا من حركة التمرّد بمدة طويلة.

ولتسهيل عسكرة الثورة وأسلمتها، عمل على إطلاق جماعات متطرفة عنيفة ومساندتها، فركّز وجود قواته في المناطق الحيوية، في المدن الأساسية، وسحب قواته من الحدود، ما سهل كثيرًا دخول المقاتلين الأجانب إلى سورية تحت رايات جهادية، فيما كانت دول في الخليج تدعم، بقصر نظر على أقل تقدير، هذه الجماعات، على الرغم من وضوح أن أكثرية السوريين في صفّ الاعتدال. ولم يجد في ذلك خطرًا على نفسه، لأنه كان يعلم أيضًا أن الدول ستساعده في المآل في التخلص منها، ولن تسمح لمثل هذه التنظيمات بالوصول إلى حكم سورية أبدًا.

وفي بداية الثورة، استخدم النظام السوري حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وهو الفرع الكردي السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا؛ متيحًا له فرض سيطرته على أجزاء من شمال سورية في مواجهة القوى الكردية السورية الأخرى، والمعارضة وفصائلها، كما استخدمه أيضًا في إرباك وتهديد أنقرة وتغيير أولوياتها في ما يتعلق بالوضع السوري.

كما كانت إحدى استراتيجياته في المواجهة الاستمرار في القتل، ولو لم تكن هناك ضرورة له، لتعويد المجتمع الدولي على تقبل الأمر، وربما لإشعار المجتمع الدولي بأنه تنازل نوعًا ما عندما يمرّ يوم واحد بلا قتل. وكان الهجوم الكيماوي على الغوطة في أغسطس/ ىب 2013 أيضًا مدخلًا لعودته إلى الساحة، وتحوله إلى طرفٍ في اتفاق دولي، بعد أن كان معزولًا. في الحقيقة، كان النظام السوري قادرًا على تخطّي الخطوط الحمراء كلها التي فرضها المجتمع الدولي، وكان يشعر دائمًا بأنه قادر على الإفلات من المحاسبة، إلى درجة تجعلنا نطلق عليه صفة “النظام المدلَّل”، وعلى ما يبدو، لا يشبهه في هذه الصفة سوى إسرائيل.

حاول النظام استرضاء خصومه الإقليميين والدوليين، في بدايات الثورة، بالإعلان عن التزامه جهدَ الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، لإنهاء العنف، لكنه عمليًا لم ينفذ أيًا من المتطلبات والاتفاقات، وذلك كله كان لتأخير الإجراءات الدولية، بهدف كسب الوقت وإعداد نفسه جيدًا. وكما هو الحال في الأزمات السابقة، استخدم النظام السوري سياسة الانتظار في تعامله مع المجتمع الدولي، عندما بدأت مرحلة الضغوط الخارجية، واختار إدارة الظهر لها، وانتظار تغيّر القيادات في الدول الضاغطة، أو الانتظار إلى أن يتركّز الانتباه الدولي على أزمة أخرى أو صراع آخر، وقد آتت هذه السياسة أكلها مرّة أخرى، وظلّ النظام قائمًا، على الرغم من خساراته وتهشّمه خلال العقد الفائت.

كان تعقيد الوضع السوري، ووجود عددٍ كبير ومتداخل من المصالح الدولية والإقليمية، حجتين قويتين ضدّ التدخل الدولي في البدايات، لكن العامل الحاسم في منع التدخل كان عدم وجود رغبة أو مصلحة أميركية أصلًا في التدخل، فضلًا عن المقايضات التي دخلت فيها أميركا مع إيران في هذا الشأن، ورغبة أميركا في التوصل معها إلى اتفاقٍ يتعلق ببرنامجها النووي. ولا ينسى، بالطبع، كيف سارعت إسرائيل، في أوائل العام 2011، إلى إرسال إشاراتٍ باستعدادها للتوصل إلى اتفاق سلام مع سورية؛ مفترضةً أنه على الرغم من تصلب النظام، إلا أنه سيبقى مستقرًا وتحت السيطرة، وأعلنت في مناسباتٍ عدة تفضيلها التعامل مع “الشيطان الذي تعرفه” على القلق من خلفائه المحتملين أو “الشياطين الذين لا تعرفهم”.

كان النظام يدرك هذه المعادلات السياسية التي تمنع حصول تدخل دولي حاسم، ما أعطاه مزيدًا من القدرة على مواجهة الضغوط، والسير في سياسة الانتظار إلى أقصاها، فيما المعارضة، عمومًا، وضعت ثقلها كله في خانة انتظار التدخل الدولي، ولم تفعل شيئًا ذا وزن على مستوى بنيتها وخطابها وتنظيم نفسها. مع الزمن، تعسكرت الثورة و”تغيّرت نكهتها”، وتبعثرت قوى المعارضة السورية، وزادت مساحة القوى المتطرّفة فيها على حساب القوى الديمقراطية، ومن ثمّ بات المجتمع الدولي، شيئًا فشيئًا، أكثر تشككًا بشأن قدرة المعارضة على تولي المهمات وبسط السيطرة في بلدٍ مدمّر، فضلًا عن عجزها عن احتضان الشباب الذي قامت الاحتجاجات على عاتقه، على الرغم من أن المجتمع الدولي نفسه مسؤول أيضًا عن هذه الحال، بحكم موقفه غير الحاسم من النظام. لم يفعل شيئًا وازنًا من أجل سورية، واكتفى بمراقبة النظام متخطيًا الخطوط الحمر واحدًا تلو الآخر، ما أدى إلى تزايد نشاط الجماعات المتطرّفة، وتزايد التدخل الإقليمي، وتفسّخ المجتمع، وارتفاع حدّة الخذلان لدى الشعب السوري، وحوّل سورية في الحصيلة إلى معضلة إقليمية كبيرة. وفي هذه الأجواء المغلقة، دفع المجتمع الدولي باتجاه التفاوض بين النظام والمعارضة، وقد أدار النظام المفاوضات مع المعارضة، ومن خلفها الدول الداعمة، بالطريقة ذاتها التي تديرها إسرائيل مع العرب؛ فبحكم أوراق عديدة بين يديه، وإدراكه عدم وجود تدخل عسكري جدي ضده، لم يبدِ أي تنازل، وعمل على دفع الجميع (الدول والقوى) للتفاوض على النتائج الحاصلة في سورية بعد 2011، وليس التفاوض حول عدوانه على المجتمع السوري، وأسس الدولة ونظام الحكم والانتقال السياسي، أي التفاوض بهدف إعادة الإعمار وإعادة سورية إلى ما كانت عليه.

في مواجهة سياسة النظام، افتقرت المعارضة إلى رؤية مشتركة والتزام قيادة واستراتيجية واحدة، وكانت ولا تزال منقسمة على نفسها، وكان واضحًا للغرب أن غضّ النظر عن خلافاتها ومشكلاتها، وتأجيل أي أسئلة صعبة حتى انهيار نظام الأسد، سيكون خطأً. كان من المشروع والضروري أن تسأل المعارضة نفسها الأسئلة الجوهرية قبل أن يسألها أحد، بوصفها سلطةً بديلة أو محتملة، خصوصًا الأسئلة المقلقة للمجتمع السوري، وللغرب أيضًا؛ طبيعة النظام السياسي الجديد، حقوق الأقليات، السيطرة على العنف والسلاح… إلخ.

ولكن الغرب المعذور في رؤيته إلى المعارضة السورية، كان ينبغي له أيضًا أن يتوقع أنه من دون عمل المعارضة تحت أفق دعمٍ مضمون وحاسم لها في مواجهة النظام، وهذا ما لم يحصل، فإن إجاباتها وأعمالها لن يُكتب لها النجاح المشتهى في المآل، ما ترك المعارضة منفعلةً بالدول التي تقدِّم لها السلاح والمال، الأمر الذي أدّى تدريجًا إلى تغير بنيتها وخطابها بطريقة لا تخدم الأهداف الحقيقية للثورة، ولا المصلحة الوطنية السورية؛ فالاعتراف الغربي بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بوصفه “الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري” لم يتجاوز الاعتراف اللفظي، ولم يكن له أي تبعات قانونية أو عملية، وهذا أدّى، تدريجًا، من جهة أولى، إلى تمزّقه وهشاشته وسيطرة الشخصيات والمجموعات التي لا تجد حرجًا في تنفيذ التوجيهات الصادرة من تركيا وقطر أو السعودية والإمارات، حتى لو كانت لا تصبّ في خانة المصلحة الوطنية السورية، وأدّى، من جهة ثانية، إلى الاستمرار مثلًا بتوزيع كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية في المناطق التي يسيطر عليها النظام، ووفقًا لأولوياته وحاجاته، بوصفه المعترف به قانونيًا في الأمم المتحدة والهيئات الدولية.

أخطار ومخارج

لم يكن لدى النظام السوري، بدءًا من عام 2011، إلا استراتيجية واحدة؛ هزيمة الثورة والمعارضة. فقد عطّل كل الطرق والأدوات الأخرى الممكنة، وهذه نقطة ضعف أساسية في سياسته العامة. وفي سياق ذلك، اعتمد سياسة الانتظار التي حافظت على وجوده، ولكن ليس على الوجود الذي يشتهيه؛ إذ يُظهر الوضع الحالي أن التجربة السابقة ليست كفيلةً بتأكيد أن الأمور ستسير دائمًا بالطريقة نفسها، فقد أخفق في استخدام هذه المدة لوضع استراتيجية تمكّنه من الخروج من هذا الوضع بأقل خسائر ممكنة، ما يعني أن استراتيجية الانتظار انعكست عليه أيضًا بصورةٍ سلبية، إلى درجة أنه بات غير قادر على أداء وظائفه في الداخل، وتحول في المستوى الخارجي إلى جسمٍ منفعل، وغير قادر على العمل بالطريقة السابقة ذاتها، على الرغم من أنه ما زال يحتفظ بفائضٍ من القدرة على التخريب في الداخل والخارج.

اليوم، على أقل تقدير، يمكن أن تكون المرحلة السابقة محرِّضا للمجتمع الدولي، للانتباه إلى أن استمرار الوضع الحالي يعزِّز التوترات المباشرة وغير المباشرة في الدول المجاورة، ففي غياب التدخل الإيجابي الفاعل، ازداد الوضع في المنطقة كلها سوءًا، وحصل كل ما قيل عن مخاوف يمكن أن تحصل بحدوث التدخل، حصلت العواقب والمشكلات نفسها التي تخوّف مراقبون كثيرون من حصولها فيما لو حصل التدخل، وبطريقة أشد وأكثر رعبًا. ففي تركيا، مثلًا، يستمر التناغم بين حزب العمال الكردستاني والأتراك العلويين بإحداث حالةٍ من الاستقطاب لدى الشعب التركي، وإرباك السياسة التركية. كما أن على تركيا التعامل مع مئات آلاف من اللاجئين الذين فرّوا من سورية، ومن شأن اللاجئين السوريين في لبنان أيضًا التأثير في استقرار هذا البلد الذي يشبه سورية في تركيبته المجتمعية، وتزداد فيه حدّة الاستقطاب السياسي بين القوى الداعمة للنظام السوري والمعارضة له، فضلًا عن أن بيئة الفقر والمليشيات وغياب الدولة في سورية مستمرّة، وهي البيئة الملائمة والمثالية لإنتاج، وإعادة إنتاج، الفوضى والتطرّف في المنطقة والعالم.

ربما وصلنا أو سنصل قريبًا إلى الفصل الأصعب في سورية؛ كانت السنوات الخمس الأخيرة (2015-2020) فصلًا ضائعًا ومجانيًا إلا من قتل وتشريد مزيد من السوريين. الفصل الأصعب هو الفصل الذي يسبق المرحلة الانتقالية، وتتحدّد في ضوئه طبيعة المرحلة الانتقالية. وهنا، لا ينبغي لنا التفاؤل بسياسات الدول، ولا الاستهتار بقوة النظام السوري الذي ما زال يحمل في جعبته أوراقًا تطال المنطقة كلها، فضلًا عن دعم شركائه الوثيق، روسيا وإيران وحزب الله. ومع ذلك، تبقى هناك مفاجآت في حقل السياسة تخرق تحليلاتنا وفهمنا، خصوصًا أنه لا أحد قادر على إحاطة الواقع في كليته.

بالنسبة إلينا نحن السوريين، ليست المشكلة الأساسية حقًا في القوى الإقليمية والدولية التي تتصارع على الأرض السورية، بقدر ما هي في فهمنا سياساتها وتوازناتها ومصالحها وحدود قوتها وتأثيراتها والضغوط الواقعة عليها. نريد أن نفهمها، على ما يبدو، بحسب رغباتنا وأمنياتنا ومصالحنا فحسب، وكثيرًا ما نعتمد على التصريحات الإعلامية لمسؤوليها في توقعاتنا سياساتها، مع أن التصريحات هي آخر ما يُعتمد عليه في محاولة معرفة سياسات الآخرين، وتوقع مسارات المستقبل.

وفي سياق محاولة التعرّف إلى سياسات الآخر وتوجهاته، لا نحتاج أبدًا إلى ممارسة التأليه أو الشيطنة، ولا إلى التقديس أو التدنيس، ولا إلى الحب أو الكره، ولا إلى المديح أو الذم؛ فكل هذه المقاربات تنتمي إلى ما دون السياسة، أو إلى العصر القبلي، أو إلى عقلية الانتظار والكسل، أو إلى آلية الاتكال على ما تجود به علينا توافقات وصراعات الآخرين.

أيًا تكن السياقات الإقليمية والدولية، سلبًا أو إيجابًا، نحن في حاجةٍ إلى طرف سوري، أو في الأحرى لن يكون لنا مستقبل إيجابي محتمل أبدًا من دون وجود طرفٍ سوري: وطني، ديمقراطي، منظم، قوي، سياسي، غير أيديولوجي، صبور ومتّزن وعقلاني؛ لأن أهم قاعدة ما زالت غائبة لدينا هي الاقتناع والإيمان بأن هزيمة النظام سياسيًا، وثقافيًا وقانونيًا وإعلاميًا بالضرورة، أهم وأجدى وأسهل وأقل تكلفة من الطرق الوعرة الأخرى كلها، ولهذا المسار شروطه ومعاييره العديدة التي يجب أن تأخذ المساحة الأكبر من تفكيرنا جميعًا.

العربي الجديد

==============================

=======================

تحديث 25 آب 2020

———————————

التغيير الثوري بين سيادة الدول والتدخل الخارجي/ سحر حويجة

إنّ العريضة الإلكترونية التي وقّع عليها أكثر من سبعة وأربعين ألفاً من الشعب اللبناني، طالبوا فيها بوضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي، أثارت انقساماً وجدلا واسعاً، بين من برّر الدعوة إلى أنّ لبنان ليس مستقلّاً، فقد حوّل حزب الله لبنان إلى حقل تجارب لعملياته وأنشطته العابرة، يسيطر بالقوة على مؤسسات الدولة ومعابرها، ويدفع المواطن اللبناني ثمناً لمشروع إيران في لبنان، وبين من اعتبر أنّ هذا الطلب خيانة للوطن.

في المقابل، سوريا تعاني من سيطرة احتلالات عديدة، تتقاسم الأرض السورية، حيث يسيطر النظام شكلياً على مساحة 64 بالمائة من الأراضي السورية، لكن الثقل العسكري فيها لروسيا وإيران، حيث تحتلّ روسيا، وفق خريطة أصدرها مركز جسور للدراسات، على 23 قاعدة عسكرية تنتشر في محافظات دير الزور، الحسكة، الرقة، حلب، اللاذقية، طرطوس، حماة، حمص، ودمشق، وعلى 42 نقطة تواجد في محافظات دير الزور والحسكة وحلب والسويداء والقنيطرة، و10 نقاط مراقبة في محافظتي حماه وإدلب.

وتسيطر إيران على عدد من القواعد العسكرية أهمها: مطار دمشق الدولي ومطار التيفور، ويمتلك ضباط الحرس الثوري حضوراً بارزاً في أغلب القواعد العسكرية للنظام، الحضور العسكري الثاني لإيران، من خلال حضور المليشيات الإيرانية التي استقدمتها إيران للمشاركة في القتال من العراق، وحزب الله الذي يسيطر على عدة مناطق، ويدير عدة مواقع عسكرية كانت تابعة لقوات النظام في الجنوب السوري، حيث تسيطر عليها إيران من خلال حزب الله.

تسيطر تركيا على مناطق مع الجيش الوطني شمال شرقي سوريا، ومناطق في ريف حلب الشمالي والشمال الشرقي، وتسيطر فصائل المعارضة في محافظة إدلب، شمال غرب البلاد، وجزء من محافظة حلب الغربي، وجزء آخر من ريف محافظة اللاذقية الشمالي، وجزء من ريف حماة سهل الغاب. تركيا والمعارضة المسلحة تسيطران على 10 بالمائة من الأراضي السورية.

قوات سوريا الديمقراطية تسيطر في مناطق شمال شرق سوريا، على نسبة 25 بالمائة من الأراضي السورية، يتوزّع الوجود الأمريكي في سوريا على 22 قاعدة عسكرية، في محافظات الحسكة الرقة دير الزور وريف دمشق، وتسيطر قوات التحالف الدولي في منطقة التنف قرب الحدود السورية الأردنية، وما تزل الدعوات إلى زيادة الزخم العسكري سواء الأوروبي أو الأمريكي، إنّ الواقع السوري المقسّم، يشير إلى تحول كل القوى الفاعلة سواء من السلطة أو المعارضة إلى أجندات ترتبط بالخارج وتلقى الدعم، بل تستجديه، على حساب سيادة الدولة السورية.

يحتفل الشعبان، السوري واللبناني، في السابع عشر من نيسان، بعيد الاستقلال، وخروج آخر جندي فرنسي ونهاية الانتداب. ثار أغلبية الشعب السوري مطالباً بحقوقه، وبعد عشر سنوات فقد كل حقوقه، وفقدت السلطة شرعية وجودها، وما زالت مستمرة في غيّها وظلمها بعد أن استقوت بكل الحلفاء، واستقدمت العداوات لتحول سوريا إلى مسرح صراعات لن تنتهي إلا بقرار يفرضه الخارج حين تنضج طبخة التسوية، لتحقيق مصالح خارجية إقليميّة ودولية لها امتداد داخلي، لكن على حساب سيادة الدولة السورية، بعد أن سلبت إرادة الشعب وتهشّمت.

أيضا الشعب اللبناني ثار بأغلبيته ضد المحاصصة الطائفية في سبيل دولة عصرية مدنية وعلمانية، دولة حق وقانون، يكون الشعب فيها صاحب السيادة، ينتخب ممثليه المعبرين عنه لتحقيق آماله، جوبه الحراك بالتفاف السلطة على المطالب الشعبية، وانتهت بإجراءات شكلية حافظت فيها السلطة على مواقعها، وفشلت في تقديم أي حلّ، بل زادت الأزمة واستفحلت. في سوريا، وفي لبنان، فشل الشعبان في تحقيق آمال التغيير، والسبب الرئيسي يعود إلى ميزان القوى، بفعل التدخل الخارجي، الذي يستدعي تدخلاً خارجياً يقابله، يحوّل هذه الدول لمسرح من الصراعات، ويخلّ بالتوازنات الداخلية، ويحولها الى إقليمية ودولية. فهل الاستقواء بالخارج سواء من السلطة، أو من قوى المعارضة، مشروع وفق القانون الدولي، وما تأثيرها على سيادة الدولة؟ وهل الانتداب فكرة تتوافق مع القانون الدولي أم انتهت؟

مع نهاية الحرب العالمية الأولى، طوّر الاستعمار من وسائله، حيث أقدم على تنظيم مصير المستعمرات الألمانية والمقاطعات العثمانية، ومنها المناطق العربية، بتبنّي صيغة جديدة للاستعمار وردت في المادة 22 من عهد عصبة الأمم لتطبيقه على المستعمرات الألمانية والولايات العثمانية، تحت صيغة الانتداب، الذي قسم المستعمرات الى ثلاثة مراتب (أ- ب- ج)، وعرف هذا الانتداب بالمادة المذكورة كأنّها رسالة مقدسة لنمو للبشرية، والشعوب المتحررة من الاحتلال التركي والألماني، غير القادرة على تدبير شؤونها بذاتها، بل عليها أن تتلقّى نصائح ومساعدات دولة متطوّرة، تتدخل وتعمل لحساب عصية الأمم، أما أثر الانتداب، هو ممارسة توزيع السيادة بين الدولة المنتدبة والإقليم وعصبة الأمم توزيعاً يختلف حسب نوع الانتداب، ولكن يبقى الإقليم محتفظاً بكيانه القانوني ولا يعتبر سكانه رعايا، والدولة المنتدبة تتمتّع بحقّ الإدارة الذي يتّسع كلما تأخرت درجة مدنية الإقليم.

بعد الحرب العالمية الثانية، اعتبر ميثاق الأمم المتحدة الانتداب نظام مؤقت، وأدين التدخل الاستعماري بالقوة، لأنّه يعيق التطوّر الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للشعوب التابعة، ويعيق التعاون بين الدول ويؤدي إلى نزاعات، ويشكّل إنكاراً للحقوق الأساسية للإنسان، ولذلك ينبغي أن يرحل الاستعمار بدون قيد أو شرط. وجاء في المادة 87 من ميثاق الأمم المتحدة: إنّ نظام السيادة هو النظام الذي وضع ليحلّ محل الانتداب، ولا يطبق الانتداب على دول أصبحت أعضاء في الأمم المتحدة، بل يجب أن تقام العلاقات فيما بينها على مبدأ المساواة في السيادة، كانت سوريا ولبنان ضمن الدول التي دعيت إلى مؤتمر الأمم المتحدة، ووقعتا على الميثاق وأصبحتا أعضاء في هيئتها العامة.

السيادة وفق القانون الدولي: تتكوّن الدول من السكان وإقليم يقيمون عليه وسلطة تتمتع بالقوة لتقوم بدورها، هذه السلطة يعبر عنها بالسيادة، تؤكد الدساتير أنّ السيادة للشعب، السيادة التي تكمن بالشعب تظهر على مستويين: المستوى الداخلي، حق اختيار النظام السياسي والاقتصادي والثقافي بحرية، وعلى المستوى الخارجي تحقيق مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها.

التدخل في الصراعات الداخلية: إنّ الدولة التي تقبل التدخل في شؤونها تؤكد بعملها على عدم قدرتها لجعل سلطتها محترمة من قبل رعاياها، وهذه التدخلات قد تتحوّل الى احتلالات دائمة، والعكس صحيح، حالة دعم دولة ما لحزب معارض في صراعه مع الحكومة، أما المساعدات التي تقدّم للسلطات القائمة فهي منصوص عليها في كثير من المعاهدات والاتفاقات الثنائية والمتعددة الأطراف. هذه الممارسات قد تشكّل انتهاكاً لحق غير قابل للتصرّف للشعوب بممارسة سيادتها، ومن الواجب النص على إجراء لها، حول هذه النقطة قدّمت اتفافية فينا في 23 ـ 5 ـ 1969 بشأن قانون المعاهدات، عنصراً إيجابياً، وهي الاعتراف بحق الشعوب، حيث تنصّ في مادتها 53: تعتبر المعاهدة باطلة بطلاناً مطلقاً إذا كانت وقت إبرامها تتعارض مع قاعدة أمرة من قواعد القانون الدولي العام، وتعتبر من قواعد القانون الدولي العام التي لها هذه الصفة، القواعد التي تم الاعتراف بها من مجمل أعضاء الأمم المتحدة، منها منع استعمال القوة غير المشروع، وإدانة التدخل في شؤون الدول الداخلية، أو انتهاك حقوقها في المساواة، وعدم احترام مبدأ حق تقرير المصير.

التدخلات المشروعة من قبل الامم المتحدة: جاء في المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، على أنّه ليس في هذا الميثاق ما يجوز للأمم المتحدة أن تتدخل في شؤون دولة ما إذا كانت هذه الشؤون من مستلزمات السيادة الوطنية، على أنّ هذا المبدأ لا يخلّ بتطبيق التدابير الزجرية الواردة في الفصل السابع، وإن تدخل الأمم المتحدة يكون موافقاً للميثاق عندما يتعرّض السلام الدولي للخطر، هذا الخطر يبقى تقديره من صلاحيات مجلس الأمن، الذي كانت قراراته عرضة للتعطيل باستخدام حق الفيتو.

من المتفق عليه أنّ للدولة استناداً لسيادتها على إقليمها أن تختار نظام الحكم الذي يلائمها، وتضع لنفسها الدستور الذي يوافق ميولها، كما أنّ لها أن تغيّر نظامها وشكلها الحكومي، سواء بطريق سلمي أو عن طريق الثورة، دون أن يكون للدول الأجنبية أن تتعرّض لها في أي شأن من هذه الشؤون.

نستنتج أنّ التدخلات الخارجية تحت أي عنوان، سواء دعم الأنظمة أم دعم قوى المعارضة، أخلّت بموازين القوى بشكل كبير بين طرفي المعادلة، السلطة والشعب، وجردت الشعب من قدرته على التغيير وأشعرته بالعجز المطبق، وراح يستجدي القوة والدعم، وأنّ وجود قوى تمارس سلطتها بوصفها دولة داخل دولة، وتملي إرادتها على المكونات الأخرى بقوة السلاح، لا حلّ معها سوى تطبيق القانون الدولي وفق الفصل السابع لخطرها على السلم الدولي، وحق الشعوب باختيار سلطتها بالحرية اللازمة.

نعم انتهى زمن الانتداب والشرعية الوحيدة الموثوق بها دولياً، هي تدخل الأمم المتحدة وفق الفصل السابع، دفاعاً عن مبادئ القانون الدولي، وليس لاقتسام النفوذ كما يجري اليوم، والاستقطاب الدولي وتطويع مجلس الأمن وفق منطق القوة، ومصالح الدول الكبرى، على حساب الشعوب، وعلى حساب مبادئ القانون الدولي.

ليفانت – سحر حويجة

——————————-

حبوب مسكّنة لكن../ سمير العيطة

فى ظلّ جحيم جائحة الكوفيد ــ 19 تحوّلت جميع الاجتماعات الدوليّة إلى لقاءات افتراضيّة عبر الانترنت. رغم ذلك، ورغم تفشيّ كبير للوباء فى سوريا ودول جوارها، أصرّت الأمم المتحدة على عقد لقاء اللجنة الدستوريّة السوريّة «فيزيائيّا» فى جنيف هذه الأيّام. فما الداعى لهذه المخاطرة الصحيّة من قبلها وقبل الدولة السويسريّة والدول الراعيّة؟

صحيحٌ مرّت شهورٌ طويلة على الاجتماع الأخير، وبالتالى قد يبدو تأخير الاجتماع أكثر بمثابة غياب الاهتمام الدوليّ فى حلّ الصراع السوريّ. وصحيحٌ أيضا أنّ اجتماعا «فيزيائيّا» فى مثل هذه الظروف يقلّل من أعداد «الوفود المرافقة» للأطراف التى كانت تتعدّى غالبا أعداد المشاركين السوريين. لكن ما الجديد ليخلق الأمل فى تقدّمٍ ما؟

***

السلطة فى سوريا أجرَت «انتخابات» برلمانيّة كما هو مرسومٌ لها بمجلسٍ يتغنّى بأمجادها وتستعدّ للانتخابات الرئاسيّة العام القادم للتجديد إلى ما لا نهاية لـ«سوريا الأسد». بالمقابل تعانى هيئة التفاوض «المعارضة» من أزمات فى داخلها ومع جمهور كلّ من مكوّناتها ممّا أفقدها الحدّ الأدنى من الرصيد الشعبيّ. ووفد «المجتمع المدنيّ» ليس بأفضل حالا. ولا أحد فى جميع هذه الوفود يمثّل حقّا القوى المسلّحة المهيمنة على الأرض والدول الداعمة لها. فقط جاء «الوفد الحكومى» بضغطٍ من روسيا وإيران، ووفد «المعارضة» بضغطٍ من تركيا، فى حين عملت الولايات المتحدة على «تدريب» من تعتبرهم «معارضين» على التفاوض.

كلّ المواضيع يُمكن أن تؤدّى إلى انقسامات كبيرة بين الحاضرين، خاصّة وأنّ اهتمام أغلبهم الأساسيّ هو التصريحات للصحفيين أكثر من التفاوض. وكلّ القضايا العالقة، من التطوّرات الحاليّة على الأرض، من قضايا المعتقلين والمخطوفين، إلى الإجراءات الأحاديّة الجانب الأمريكيّة والأوروبيّة، بما فيها قانون قيصر، وإلى قطع المياه عن الحسكة، وإلى التعاقد بين «الإدارة الذاتية» وشركة أمريكيّة، وإلى خصخصة سدّ فى عفرين لصالح شركة تركيّة، يذهب باتجاه انقسامات أكثر. وكذلك الموقف من تصوّر المنظومة السياسيّة لسورية المستقبليّة بين جمهوريّة رئاسيّة أم برلمانيّة إلى الدولة المدنيّة ــ أى العلاقة بين الدولة والدين ــ إلى معنى اللا مركزيّة. وخاصّة الموقف من المرحلة الانتقاليّة المنصوص عليها فى القرار 2254 التى تأتى بـ«حكمٍ ذى مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية».

***

على الصعيد الإقليميّ والدوليّ، تبدو الأمور أفضل. إذ لم تتقوّض التفاهمات بين روسيا وتركيا وإيران التى تجسّدت فى الأستانة، رغم ما حدث فى ليبيا، بل برز انفراج فى الهدنة التى أُعلنت مؤخّرا. كما أنّ الولايات المتحدة عملت على تحييد دول الخليج حيال الملفّ السوريّ ووضع ورقة «المعارضة» شبه كليّا بيد تركيا. ومهما كان التهويل الإعلامى بقانون قيصر، واضحٌ أنّ قوائم «المعاقبين» لا تأتى حقّا بجديد، مثلها مثل إجراءات القانون بحدّ ذاته. ولا يبدو أنّ الولايات المتحدة ذاهبة فعليّا إلى تحويل سوريا إلى «مستنقع» لروسيا.

إنّ المسئولين فى الولايات المتحدة يعون جيّدا أنّ سوريا قادمة على كارثة إنسانيّة، بعد فقدانها أمنها الغذائى والصحيّ وأنّها ــ وجزئيّا الاتحاد الأوروبى ــ سيتمّ تحميلهما مسئوليّة ذلك، بقدر ما ستحمّل السلطة القائمة والحرب، من جرّاء الإجراءات الأحاديّة الجانب (العقوبات) وبعد فقدان سوريا إحدى رئتيّ تنفّسها فى لبنان (الرئة الأخرى هى تركيا).

والاهتمام الإقليميّ والدوليّ يصبّ اليوم فى اتجاه لبنان. ليس فقط من قبل فرنسا بل أيضا من قبل روسيا وتركيا وإيران؛ إذ أضحت الأوضاع فى هذا البلد كارثيّة، ولها امتدادات اجتماعيّة وسياسيّة واسعة فى الخارج من جراء مغتربيه، الذين يتجاوز عددهم أضعاف عدد المواطنين اللبنانيين المقيمين فى لبنان. فى الأفق اللبنانيّ، الانهيار الماليّ أسوأ من ذلك الذى حدث فى اليونان وخساراته تتخطّى ما يستطيع حتّى صندوق النقد الدوليّ أن يساعد على معالجتها، حتّى لو أجريت إصلاحاته المعهودة. والانهيار السياسيّ يوازى انفجار بيروت فى دويّه، لا حلّ له على مستوى المنظومة السياسيّة «التوافقيّة» القائمة، رغم تهديد الرئيس الفرنسيّ بضرورة ترسيخه فى «حكومة مهمّة إنقاذيّة» قبل الأوّل من سبتمبر القادم. بعيدا عن الطروحات الفارغة عن ضرورة «حياد» لبنان، وكأنّ الاستعصاء هو خارجيّ قبل أن يكون داخليّا، هناك مخاطر حقيقيّة فى أن تتّجه الأمور فى لبنان نحو تجدّد الحرب الأهليّة وتداعيات ذلك على اللاجئين السوريين الذين يشكّلون ثلث السكّان.

مخاطر هذا الانفجار الاجتماعى وكذلك مخاطر الكارثة الإنسانيّة فى لبنان بعد توضيح مصرفه المركزيّ أنّه لن يتمكّن من تمويل استيراد المواد الأساسيّة طويلا تشكّل فرصةً لتدخّلات خارجيّة تتخطّى ما كان يعيشه البلد فى ظلّ «النأى عن النفس». تدخّلات لكسب نفوذٍ أكبر قد تأخذ، كما فى سورية، إلى تأجيج الصراع وتحويله إلى السلاح، وتدخّلات قد تؤدّى إلى توافقات لهول ما سيؤدّى إليه انفجار الصراع على لبنان وسوريا.. وربّما أبعد من ذلك.

منظور هذه المخاطر ربمّا يدفع الدول اللاعبة الرئيسة إلى إيقاف الجنون القائم وإحداث انفراجٍ ما ولو بشكلٍ محدود على صعيد الصراع فى سوريا من خلال اجتماعات جنيف. وقد تتقدّم الأمور إجرائيّا أو أن تُفرَضَ على الجميع ورقة مبادئ، كما حدث بالنسبة للحالة اللبنانيّة عبر تفاهمات الطائف والدوحة. هكذا بانتظار إيجاد حلحلة للاستعصاء اللبنانى الحالى وتبيان نتائج الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة القادمة.

إلاّ أنّ هذا لن «يسكِّن» الأمور سوى لمدّة قصيرة. إذ إنّ الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة ستأخذ إلى تضاعف حجم المساعدات الإنسانيّة الضروريّة، للبنان ولسوريا فى الداخل وبلدان اللجوء على السواء، إلى مبالغ ستتخطّى كلف إعادة الإعمار الحقيقيّة. خاصّة إن بقى الاقتصادان فى حالة شللهما الحالى. فكم وإلى متى يمكن لأوروبا والولايات المتحدة وغيرها أن تقدّم مساعدات إنسانيّة بهذه الأحجام لاقتصادات جانحة (وفاسدة أيضا على كافّة الجهات) فى ظلّ أزماتها الاقتصاديّة الذاتيّة هى أيضا؟ وبما فى ذلك دول الخليج، التى بدأت تعيش فى ظلّ انخفاض أسعار النفط والأزمة الاقتصاديّة التى أدّت إليها الجائحة إلى عجوزاتٍ كبيرة فى ميزانيّاتها وجمودا فى مشاريعها واستنزافا لصناديقها السياديّة.

***

هكذا حتّى لو حدث انفراجٌ آنيّ فى الملفّ السوريّ على مستوى توافقات «دستوريّة» عامّة، تبقى هناك معضلة أساسيّة هى ذاتها التى تواجه لبنان اليوم. كيف الوصول إلى منظومة حكم انتقاليّة تعالج أزمات البلاد السياسيّة كما الاقتصاديّة؟ وكيف تكون هذه المنظومة ذات مصداقيّة وحياديّة تجاه جميع الأطراف الداخليّة قبل الخارجيّة وقادرة على إعادة بناء الحركة الاقتصاديّة والسلم الأهليّ والحياة السياسيّة كى يكون لأيّة تفاهمات حول دولة لها سيادة من معنى؟

فى مسارى سوريا ولبنان، المتلازمين أم لا، ولكن المترابطين بحكم الواقع، يبقى السؤال الحقيقيّ هو ما يريده الشعبان كل منهما لبلده ودولته.. وفى النهاية لمستقبله؟ ومن يحمل المسئوليّة فى كلّ منهما لتحقيق الكرامة.. إن لم تكن الطموحات؟

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

الشروق

———————————

التغيير الديموغرافي في سورية أثناء حكم آل الأسد/ خالد المطلق

مقدمة

التغيير الديموغرافي منذ تسلم حزب البعث السلطة في سورية

التغيير الديموغرافي في سورية في فترة حكم بشار الأسد

التغيير الديموغرافي من قبل التنظيمات والفصائل المسلحة أثناء الثورة السورية

الخاتمة

مقدمة:

برز مصطلح التغيير الديموغرافي في هذه الآونة كثيرًا، من خلال ما يحدث الآن في سورية، عبر كثير من الممارسات القمعية التي تعرّض لها السكان الأصليون بشكل منهجي، لمحاولة اقتلاعهم من بيوتهم وأراضيهم من قبل نظام الأسد والميليشيات الطائفية المتحالفة معه، وقد تجلى ذلك في تهجير أبناء كثير من المناطق، وإحلال عائلات عناصر الميليشيات الطائفية مكانهم، ويعدّ ذلك جريمة ضد الإنسانية، ووفق ما ورد في نظام روما الإنساني للمحكمة الجنائية الدّولية، فإنّ: إبعاد السّكان أو النقل القسري للسكان، إذا ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجَّه ضد أي مجموعة من السُّكان المدنيين، يشكّل جريمة ضد الإنسانية(1).

كما أنّ المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 حظرت النقل القسري الجماعي والفردي للأشخاص أو نفيهم من مناطق سكناهم إلى أراض أخرى، إلّا أن يكون هذا في صالحهم، بهدف تجنيبهم مخاطر النزاعات المسلحة (2)، وسنحاول في هذه الدراسة تسليط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة التي نفّذها بشكل مخفي نظام حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار الأسد، منذ تسلم حزب البعث السلطة في سورية عام 1963، ولعل هذه الظاهرة المدروسة هي أخطر ما تتعرض له المنطقة، لأسباب كثيرة منها ديمومة آثار هذه الأعمال والجرائم والفظائع التي ترافقها، إضافة إلى أن هذه التغييرات في بنية المجتمع نتجت عن جهود خارجية كبيرة، تهدف إلى تفتيت وتمزيق النسيج الاجتماعي السوري، وهو أحد أهم مرتكزات استقرارها، وسنتناول هذه الظاهرة في هذا البحث، من خلال مسائل دراسية نبدؤها من المرحلة الأولى لعملية التغيير الديموغرافي في سورية، التي أسس لها حافظ الأسد منذ تسلم حزب البعث السلطة في سورية، كما سندرس ماذا حدث في فترة حكم بشار الأسد السلطة من جرائم هدفها التغيير الديموغرافي في سورية، ومن ثم سنتطرق إلى التغيير الديموغرافي في مناطق سيطرة فصائل الثورة وتنظيم (داعش) و”قوات سوريا الديمقراطية”، وفي الخاتمة، سنعرّج على بعض الحلول التي يمكن أن تمنع وقوع هذا المخطط الإجرامي أو تخفف من تداعياته.

التغيير الديموغرافي منذ تسلم حزب البعث السلطة في سورية

تعدّ سورية من أكثر المناطق حيوية عبر التاريخ القديم، نظرًا لتمتعها بالتنوع العرقي والديني الكبير، وسورية هي من اكتُشف فيها آثار الإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ، ولعل منطقة معلولا التي ما زال سكانها حتى الآن يتكلمون الآرامية (لغة السيد المسيح عليه السلام) خير دليل على ذلك، وتعدّ سورية بعد الفتح الإسلامي عام 15هـ/636م مسرحًا رئيسيًا لمواجهة الغزوات الصليبية والمغولية، هذا كله أعطى لسورية أهمية كبرى من ناحية التمازج السكاني الديني الطائفي والمذهبي والعرقي.

وفي نظرة سريعة على التوزع السكاني والطائفي في سورية حتى بداية الثورة السورية عام 2011؛ نجد أن عدد سكان سورية -بحسب إحصائيات غير رسمية- يبلغ نحو 23 مليون نسمة، قسمت إداريًا ابتداءً من المحافظة، وقد احتلت محافظة حلب المركز الأول بعدد السكان البالغ 3,393000، ثم دمشق 3,175000 ثم حمص البالغ عدد سكانها 1,13114، وحماة 780.000 نسمة، واللاذقية 660.000 نسمة، دير الزور 416.600 نسمة، الحسكة 388.705 نسمة، الرقة 370.000 نسمة، إدلب 147.120 نسمة(3)، وتتفاوت أعداد باقي المحافظات، وذلك استنادًا إلى تقرير الأمم المتحدة الصادر عام 2008، بين 180,000 إلى 300,000 نسمة، يشكل العرب السنة الأغلبية العظمى من نسبة السكان، وبالأخص في المدن المركزية الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص واللاذقية وحماة ودير الزور والرقة، في حين تتمركز الأقلية العلوية في قرى جبال الساحل السوري، والدروز في جبل العرب جنوب سورية وفي الجولان وجبل السماق شمالي إدلب، والإسماعيليون في السلمية وبعض المناطق في قضائي القدموس ومصياف، والشيعة الاثني عشرية في بعض الأحياء الصغيرة في العاصمة دمشق، كالسيدة زينب، وأربع قرى في الشمال السوري هي كفريا والفوعة ونبل والزهراء، وينتشر المسيحيون على مساحة جغرافية سورية، وفي بعض المدن يتركزون في أحياء معينة، أو في قرى بأكملها كوادي النصارى غربي حمص، وهناك أعراق مختلفة من آشوريين وكلدان وسريان وأرمن، أما الأكراد فغالبيتهم من السنّة، ويتركزون في منطقة القامشلي وعفرين وعين العرب، وأيضًا التركمان، وهم مسلمون سنة، وأبرز تجمعاتهم في حلب ودمشق واللاذقية وحمص.

أما الخريطة الدينية والمذهبية في سورية، فيصعب الحصول عليها، لكن يمكن الاعتماد على بعض مذكرات بعض السياسيين وتقارير المخابرات الأميركية الخاصة بوزارة الخارجية للحريات الدينية في توثيق هذه الخريطة، حيث يتبيّن من تلك المصادر، وبحسب إحصاء عام 1985، أن 80% مسلمون سنّة، و 11% علويون، و 3% دروز، و 1% إسماعيليون، و 4.5% مسيحيون من طوائف مختلفة تتبع غالبيتها الكنيسة الشرقية، وتهيمن عليها الطائفة الأرثوذكسية، و 0.4% شيعة اثني عشرية، و0.1% أقليات دينية أخرى كاليزيدية في منطقة جبل سنجار القريبة من الحدود العراقية(4).

وبالعودة إلى بدايات التغيير الديموغرافي في سورية؛ نجد أنه بعيد الحرب العالمية الأولى قامت القوى الدولية بتقسيم الشرق الأوسط، ومن ضمنه الوطن العربي، إلى دويلات ضعيفة لا يتطابق فيها البعد الجغرافي مع البعد الديموغرافي، وكي تتحكم في هذه الكيانات أوجدت كثيرًا من التناقضات بين مكونات المجتمع، من خلال تبنيها لطوائف محددة من الأقليات، وإعطائها ميزات على حساب باقي المكونات المجتمعية، هذا أدى إلى تناقض كبير بالمصالح بين هذه المكونات، ولعل تجربة فرنسا، في إبّان انتدابها على سورية، في إنشاء الدويلات المذهبية وتشكيلها ما يعرف بفرق القوات الخاصة للشرق، وتنسيب أبناء الأقليات إليها، خيرُ دليل على اهتمام المحتل الفرنسي بالاعتماد على الأقليّات في التحكم في هذه الكيانات. وبعد الاستقلال وتأسيس دولة مركزية، تعاقب على حكم سورية أنظمة مدنية وعسكرية إلى أن حصلت الوحدة مع مصر، ومن ثم الانفصال وانقلاب حزب البعث عام 1963، ومن هنا بدأ الانقلابيون -وعلى رأسهم حافظ الأسد- الإعداد للتغيير الديموغرافي الذي يتلاءم مع مصالح الأسد وطائفته، لتوظيفه داخليًا وخارجيًا لتحقيق هذه المصالح، على الرغم من تماهي الأسد مع الأكثرية من خلال استقطاب المؤيدين له منهم، ووضعهم في الواجهة لإبعاد الشبهة عن طائفيته وعنصريته، كمصطفى طلاس وعبد الحليم خدام وحكمت الشهابي، ومع الأسف، نجح في ذلك في كثير من الأحيان، على الرغم من كثير من العقبات والصدامات التي واجهها، لكنه كان يتغلّب عليها جميعًا بفضل الدعم المطلق الذي كان يحظى به من قبل القوى العظمى، لم يعتمد حافظ الأسد إحداث تغيير ديموغرافي جدي، لكونه يدرك صعوبة ذلك، وإنما لجأ إلى إدارة الديموغرافيا بسياسات توازن حرجة، هدفها إضعاف الأكثرية السنية بالشكل الذي يضمن ترسيخ نظامه، وجاء ذلك من خلال إفقاد الأكثرية مقومات تأثيرها في المجتمع والدولة، عبر استهداف مراكزها القوية في مؤسستي الأمن والجيش، وتعزيز تواجد الأقليات وبخاصة العلويين في هذه المؤسسات، وقد بدأ العمل على تنفيذ هذا المخطط، منذ تسلم الأسد الأب وزيرًا للدفاع، بالتوازي مع التخلص من منافسيه خاصة المقربين منه بكل الطرق كالاعتقال والاغتيال، ومـن خلال هـذا المخطط بـدأت تتشـكل أحيـاء خاصـة بالعلوييـن فـي دمشـق، وبدرجـة أقـل فـي حمـص، ومـن أهـم هـذه الأحيـاء فـي دمشـق “عـش الـورور”، و”مـزة 86″، و”السـومرية” و”مسـاكن الحـرس” و”ضاحيـة الأسـد”، وغيرهـا الكثيـر، وبدأ نظـام الأسـد بمنـح الامتيـازات للطائفـة العلويـة وتقديـم حوافـز لتشـجيع الـزواج والإنجـاب فـي صفـوف الطائفـة من دون ضجة، وهـي السياسـة التـي دعمهـا رفعـت الأسـد فـي نهايـة السـبعينيات، فيمـا تولى شـقيقه جميـل الأسـد نشـر المذهـب الشيعي فـي المحافظـات الشـرقية وأريـاف حمـص، وحمـص المدينة، عبـر “جمعيـة المرتضـى” التـي تولـى رئاسـتها، كمـا تـم تقديـم تسـهيلات قانونيـة غير معلنة لدخول علويـي تركيـا ولبنـان، للإقامـة والتجنّس في سورية، وبدأ يظهر جليًا اعتماده على تكليف قيـادة أغلب وحـدات الجيـش للضبـاط العلويـين حصـرًا، فيمـا كانـت المؤسسـات الأمنيـة ذات أغلبيـة علويـة، حتـى بيـن صفـوف عناصرهـا الأقـل رتبـة، كمـا تـم إنشـاء وحـدات عسـكرية علويـة خالصـة، مثـل “سـرايا الدفـاع” و”سـرايا الصـراع” و”الحـرس الجمهـوري”، وبدأ أيضًا -بشكل سري وخبيث- إدمـاج مفاهيـم شـيعية فـي المذهـب العلـوي، تقربًا من النظام الإيراني، وأدت هـذه المقاربـة إلـى تعزيـز العلاقـة مـع النظـام الإيرانـي الباحـث عـن شـركاء إسـتراتيجيين فـي المنطقـة، كمـا أسـهمت فـي انفتـاح المجتمـع العلـوي علـى نظيـره الشـيعي، وخاصـة فـي لبنـان والعـراق، وهـو مـا ظهـر أثـره بوضوح بعـد عـام 2011، وسنأتي على ذكره بالتفصيل لاحقًا، وفـي إطار سـعيه لتحقيـق هـذا الاندماج، قـدّم نظـام الأسـد -بطريقة سرية للغاية- تسـهيلات واسـعة للحجـاج الشـيعة، كمـا قـدم تسـهيلات اقتصاديـة وقانونيـة ودينيـة للمؤسسـات والأفـراد الشـيعة، وتحولـت بعـض مناطـق دمشـق، مثـل جرمانـا والسـيدة زينـب، إلـى مناطـق ذات أغلبيـة شـيعية بسـرعة، وتمكنـت المؤسسـات الدينيـة الشـيعية مـن ممارسـة أنشـطة تبشـيرية، برعايـة مباشـرة مـن الملحقيـة الثقافيـة فـي السـفارة الإيرانيـة.

التغيير الديموغرافي في سورية أثناء فترة حكم بشار الأسد

تميز الأسد الأب بقبضته الحديدية على أرجاء سورية كافة، وبالعلاقة مع إيران ومراقبة تدخلاتها في الشأن الداخلي السوري، إذ كان حافظ الأسد يتحكم في هذه العلاقات بشكل متوازن وتحت أنظاره، حيث لم يسمح لإيران بالتوغل في مؤسسات الدولة حتى المؤسسات الاجتماعية منها، ولهذا كان الإيرانيون يعملون بحذر شديد، كي لا يُغضبوا الأسد الذي بنى توازنات اجتماعية تعتمد على عدم إظهار النزعة الطائفية في البلاد، لكن الأمور تغيرت،  في عهد ابنه بشار الأسد، نتيجة لسياساته وعدم قدرته على التحكم في جميع مجريات الأمور داخل الدولة، إذ انهارت هذه التوازنات التي بناها أبوه بسرعة، وبدأت تظهر معالم أزمة ديموغرافية ناتجة عن أسباب عدة أهمّها:

    نشر التشيع بشكل ملحوظ، وقد أدى إلى تغيير واضح في النسيج الاجتماعي السوري.

    الهجرة من الريف إلى المدينة خاصة في المنطقة الشرقية من البلاد، حيث أدت إلى نزوح عدد كبير من الأكراد وتمركزهم داخل المدن، وأيضًا هجرة المسيحيين إلى أوروبا.

    ازدياد أعداد السكان في أغلب المحافظات السورية، في ظل غياب الخطط الاقتصادية والتنموية المواكبة لهذا النمو السكاني.

    تدهور الوضع الاقتصادي وتراجع معدلات دخل الفرد، وزيادة أعداد المهاجرين خارج سورية.    

ترافقت هذه الأزمة مع جملة من الأزمات التنموية والاقتصادية والسياسية والأمنية التي كانت تعانيها سورية في مطلع 2011، والتي أدت إلى تفجر ثورة الشعب السوري، لتتطور بعد ذلك إلى صراع مسلح انخرط فيه أغلب دول العالم، وبدأت مرحلة القوة في تحقيق التغيير الديموغرافي الذي سعت إليه إيران، وهذه المرة بالقتل والتدمير والمذابح المنهجية للسكان الأصليين من أبناء السنّة، لإجبارهم على ترك أرضهم والهجرة إلى مناطق أكثر أمانًا داخل سورية وخارجها.

كيف حدث ذلك؟ وما هي الطرق والممارسات التي اتّبعها بشار الأسد وحليفه الإيراني، لإحداث التغيير الديموغرافي المنشود؟ سنتطرق إلى هذه المسألة من خلال تحليـل الواقع الميداني فـي سـورية منـذ بداية الثورة، الذي سيؤكد -بلا أدنى شك- وجـود خطـة منهجـية لتغييـر الواقـع الديموغرافـي فـي سـورية ككل، وفـي المناطـق المختلطـة علـى وجـه الخصـوص، خاصة إذا عرفنا أن هناك إحصائية أخيرة لعدد الشهداء في سورية قدرت العدد بنحو مليون مواطن سوري، وعدد اللاجئين خارج سورية بأكثر من 8 ملايين، إضافة إلى نحو 6 ملايين نازح داخل سـورية، بحسـب أقل التقديرات، ويمكن أن نجزم بأن المـدن التـي تعرضـت لأكبـر قـدر مـن التدميـر هي ريف دمشق وحمـص وحلـب ودرعـا وديـر الـزور، وينتمـي الغالبيـة المطلقـة مـن هـؤلاء إلى الغالبية السـنية، وتشـارك إيران علـى وجـه الخصـوص بـدور رئيـسي فـي هـذا المخطـط، مـن خـلال الدعـم العسـكري الكبيـر الـذي تقدمه عبر ميليشـياتها العراقيـة واللبنانيـة والأفغانية، كمـا أنها تسـهم، مـن خـلال تمويلهـا لعمليـات شـراء الأراضي والعقـارات، ومـن خـلال ترويـج الفكـر الطائفـي، فـي تشـجيع الشـيعة علـى القتـال وعلـى الإقامة فـي سـورية، ولا ننسـى تغاضي الأميركي والروسـي عن هذه الجريمة.

وإذا بحثنا في الوسائل والأدوات الاستخباراتية والعسكرية والاقتصادية والإدارية التي اتبعها نظام الأسد في تحقيق التهجير القسري، وصولًا إلى التغيير الديموغرافي؛ وجدنا أنه استخدم كثيرًا من الوسائل، ويمكن أن نذكر منها:

    حرق سـجلات المحاكم والنفوس، لطمس حقوق الأهالي السـنة غالبًا، كما حدث في حمص عام 2013، وفي مدينة دوما عام 2012.

    التوغل في تنفيذ المجازر التي طالت مناطق السنّة حصرًا، مع جرائم الاعتقال والتصفية والنهب والاغتصاب التي مارستها تلك الميليشيات على الحواجز العسكرية، وكانت سببًا في نزوح أبناء تلك المناطق إلى أماكن أكثر أمانًا، ومن الأمثلة على تلك المجازر: مجزرة الحولة في 25 أيار/ مايو 2012، مجزرة القبير في 6 أيار/ مايو 2012، مجزرة البيضا ورأس النبع في 2 أيار/ مايو2013، ومجزرة الكيمياوي في الغوطة الشرقية في 21 آب/ أغسطس 2013، ومجزرة التريمسة في 12 تموز/ يوليو 2012، مجزرة الزارة في 6 آذار/ مارس 2014، وكثير من المجازر التي ما تزال مستمرة حتى الآن.

    شـراء العقارات وهـدم المبانـي، كمـا فعـل النظـام فـي بسـاتين المزة عـام 2012، البالـغ عـدد سـكانها 125 ألـف نسـمة، ضمـن المرسـوم رقم 66 لعـام 2012 القاضـي بتهجيـر أهلهـا، بحجـة إحـداث منطقتيـن تنظيميتيـن فـي محيـط دمشـق (5)، وتلعـب الحـوزات دورًا كبيرًا في شراء العقارات واسـتبدالها بملكيات لشـيعة وعلويين، كمـا فـي أحياء العمـارة والشـاغور والصالحيـة فنـادق البتـراء وفينيسـيا وغيرهـا، التـي تـم شـراؤها وجعلهـا مقـار لميليشـيات أبـي الفضـل العبـاس.

    إجبـار أهالـي المـدن المحاصـرة علـى توقيـع هـدن، مقابـل وقـف القصـف عليهـا وإدخـال بعـض الطعـام إليهـا تمهيـدًا لإجبـار سـكانها علـى مغـادرة مدنهـم وقراهـم، تحـت ضغـط الجـوع والحصـار، وقد بـدأت تلك العمليات منـذ عـام 2013، كحصار الغوطة الشرقية والجنوبية والريف الغربي والشمالي لدمشق الزبداني، ووادي بردى، ودمّر، والهامة، وقدسيا، ومدينة حمص القديمة وحي الوعر والقصير وأحياء حلب الشرقية.

    التضييق الاستخباراتي، من خلال لجوء النظام عبر قواته الأمنية وكذلك الميليشيات الشيعية إلى التضييق الأمني على سكان المناطق المستهدفة بالتهجير القسري، وذلك إما بالتضييق على حركة تنقلهم من وإلى داخل هذه المناطق، وإما عبر اعتقال الشباب بذرائع أمنية أو بحجة السوق للخدمة الإلزامية، الأمر الذي يدفع السكان إلى ترك هذه المناطق (6).

كما تم التركيز على عدد من المناطق وتم اقتلاع سكانها وأهمها:

– لعلّ المنطقة الأهم بالنسبة إلى إيران هي العاصمة السورية دمشق، وذلك لدلالاتها الدينية والسياسية، وتعزز إيران نفوذها في دمشق عبر الدفع في إنشاء الحسينيات وتعظيم المظاهر الشيعية في المدينة التي تعرض سكان أريافها لعمليات تهجير منهجية، ومن ناحية ثانية، يظهر أن نظام الأسد يساعد المخطط الإيراني في تغيير التركيبة السكانية للأحياء الدمشقية، عبر بيع العقارات لعائلات المقاتلين الشيعة من العراقيين واللبنانيين بمبالغ كبيرة جدًا وصلت إلى أضعاف سعرها الحقيقي.

– “القُصَيـر” اجتاحتهـا ميليشـيات “حـزب الله” عـام 2013، وهجـرت أهلهـا، ودمـرت مسـاجدها، ومنعـت أهلهـا مـن العـودة إليهـا، ووطنـت مكانهـم شـيعة مـن ميليشـيات طائفيـة، أهمّهـا (لـواء الرضـا)، ولـم يخـفِ الحـزب نيتـه تحويلهـا إلى ملاذ آمـن للشـيعة.

– أحيـاء حمـص القديمة، بـدأ فيهـا تطبيـق سياسـة التغييـر الديموغرافـي، وقـد تعرضـت أحيـاء المدينـة لقصـف واسـع النطـاق انتهـى إلـى تدميرهـا تمامـًا، وأجبـر معظـم سـكانها علـى النـزوح واللجـوء، فيمـا خـرج مـن تبقـى منهـم فـي صفقـة تـم التوصـل إليهـا فـي عـام 2014، بعـد حصـار قـاس تعرضـت لـه هـذه الأحيـاء بالتـوازي مـع القصـف المكثـف والمستمر.

– الزبدانـي، حيـث عُقـد اتفـاقٌ أُجلـي بموجبـه بعـض سـكانها المحاصريـن، مقابـل إجـلاء جرحـى مـن كفريـا والفوعـة، وفـق اتفـاق تـم التوصـل إليـه بإشـراف إيرانـي عـام 2015، لكـن الاتفـاق لـم ينـه حالـة الحصـار.

– داريـّا التـي كان يقطن فيهـا نحو 400 ألـف مـن السـنة، ارتكـب فيهـا النظـام مجـزرة عـام 2012، راح ضحيتهـا قرابـة 600 مدنـي، بينهـم 61 امـرأة و10 أطفـال، ثـم حاصرهـا وبـدأ يرتكـب المجـازر عبـر القصـف، وفـي نهايـة شـهر آب/ أغسطس 2016، خـرج جميـع أهالـي داريـا منهـا فـي صفقـة مـع قـوات النظـام، وذكرت مصادر موثوقة في وقت لاحق أن 300 عائلة تنتمي إلى “حركة النجباء” الشيعية العراقية، قد وصلت إلى المدينة للإقامة فيها.

– جبـال التركمـان والأكـراد، حيـث يمتـد جبـل التركمـان علـى مسـاحة 530 كـم مربـع، وسـكانه أكثـر مـن 300 ألـف تـم تهجيرهـم بالكامـل واحتـلال بلداتهم.

– حلـب تـم تهجيـر أغلـب سـكانها تحـت القصـف الجوي والبراميـل والحصار، ويقدّر عدد المهجرين من حلب بنحو مليونين وستمئة ألف مواطن.

– ريف حماة، مثل قرى العشارنة وقبر فضة والرملة، حيث تم تهجير أهلها تحت القصف، وسكنتها عوائل من إشتبرق العلوية.

وهناك مدن ومناطق أخرى تمت محاصرتها وتدميرها والتنكيل بها وتهجير أهلها، من أبرزها المعضميـة التـي دخلـت فـي هدنـة منـذ 2013، بعـد حصـار دام سـنتين كاملـتين، ومن ثم تم تهجير أهلها البالغ عـددهم حوالـي 45 ألـف نسـمة، كذلك حيّ الوعر الحمصي الذي هجر أهله البالغ عددهم 40 ألف مواطن والمنطقة الأهم الغوطة الشرقية التي تمت محاصرتها والتنكيل بأهلها واستخدام كل أنواع الأسلحة المحرمة حتى السلاح الكيمياوي الذي استُخدم أكثر من مرة على هذه المنطقة، فقد تم تهجير عدد كبير من أهلها البالغ عددهم 850 ألف مواطن، ولم يتبق إلا القلة القليلة، ويقدر عددهم بأقل من 100 الف مواطن (7).

ولم يتوان بشار الأسد عن استخدم إعادة الإعمار لإحداث التغيير الديموغرافي، بمراسيم وقوانين رأسية إذ وقَّع في أيلول/ سبتمبر 2012 المرسوم التشريعي رقم 66، القاضي بـ “تنظيم وتحديث مناطق السكن العشوائي وغير المصرَّح به” (8)، أي توفير الأسس القانونية والمالية لمشروع إعادة الإعمار قانونيًا، وعلى أساس هذا المرسوم، أعلن النظام قراره بتدمير ومصادرة منطقتين كبيرتين في العاصمة دمشق معروفتين بمناصرتهما للمعارضة: الأولى خلف مستشفى الرازي على الطريق الرئيسي لأوتوستراد المزة؛ والثانية على الضفة الجنوبية من العاصمة السورية بجانب حي القدم، الجهات المسؤولة في دمشق برَّرت قرارها مدعية أن الهدف منه هو تحسين نوعية السكن، وأن المناطق الأخرى ستتبع الخطوات نفسها لتحديث مناطق السكن العشوائي في كل البلاد، بينما هناك مناطق سكن عشوائي أخرى يسكنها مؤيدون للنظام كـ (مزة 86) الملاصق لحي المزة في شمال غرب العاصمة و”عش الوروَر” في شمال شرق العاصمة، لم يشملها المخطط، ولا يدع هذا الأمر مجالًا للشك بالبُعد الأمني السياسي لهذا القرار، إلى جانب معاقبة السكان المعارضين، وكان المشروع يُعدّ عقابًا جماعيًّا وجزئًا من خطة أمنية أكبر للنظام، ترمي إلى فرضِ تغييرٍ ديموغرافي في العاصمة عبر إحاطتها بمناطق يملؤها بسكان من مؤيديه ومن الأقليات الدينية.

وهناك حالة أخرى، حصلت في مدينة حمص عندما وافقت البلدية عام 2015 على خطة إعادة إعمار حي “بابا عمرو”، وفي آذار/ مارس 2017 أنشأت البلدية شركتها القابضة الخاصة، لتمسك بالمشاريع العقارية في خطة إعادة الإعمار التي تضمنت 465 قطعة أرض مُعدَّة للسكن بشكل أساسي، إضافة إلى المساحات العامة والخدمات كالمدارس والمستشفيات، وبالمثل وُجِّهَت الاتهامات إلى التداعيات التي يمكن أن تنتج عن هذا المشروع لتحقيق التغيير الديموغرافي (9).

وما زال العمل مستمرًا لإحداث التغيير الديموغرافي في سورية، عبر طرق ينفذها نظام الأسد بدعم مطلق من إيران صاحبة هذه المشاريع التي امتدت من طهران إلى بغداد وإلى لبنان واليمن، والآن في سورية، والأهم أنها تنفذ بصمت مطبق ومباركة دولية عن هذه الجريمة التي تشبه ما حدث للهنود الحمر في أميركا، ولشعوب دول الاتحاد السوفييتي وللفلسطينيين في بداية القرن الماضي.

ويمكن أن نحدد أدوات التغيير الديموغرافي التي استخدمها الأسد الابن أثناء الثورة السورية بما يلي:

    أ – الأدوات القسرية: وتشمل:

    1 – القتل دون قيود قانونية: تمثلت في قتل مئات الآلاف من السوريين، عبر مئات المجازر في مناطق محددة لفئة محددة من الشعب السوري.

    2 – سياسة الأرض المحروقة: عمدت فيها قوات الأسد والميليشيات الطائفية والقوات الروسية إلى تدمير وحرق المناطق المحررة، عبر القصف الجوي والبري المركز بالأسلحة الثقيلة والطيران والبراميل المتفجرة، وعلى مناطق محددة يقطن فيها فئة محددة من الشعب السوري.

    3 – الاعتقال والإخفاء السري: منذ بداية الثورة السورية، ركزت أجهزة الأسد القمعية على الاعتقالات العشوائية والإخفاء القسري للمواطنين في المناطق الثائرة، من دون عرضهم على أي محاكم عادلة ودون معرفة ذويهم لمكان وجودهم أو أسباب اعتقالهم، وهذا استدعى نزوح كثير من السوريين إلى مناطق أكثر أمانًا من مناطقهم.

    4 – استهداف النساء: منذ بداية الثورة حتى نهاية عام 2013، شاع التحرش بالنساء واغتصابهن وكثيرًا من الأحيان أمام العامة وذويهم، كأحد أقسى أنواع الإذلال الذي مارسته أجهزة الأمن الأسدي وميليشياتها الطائفية، وقد أجبر ذلك كثيرًا من العائلات في المناطق التي يقترب منها هؤلاء الوحوش على النزوح إلى مناطق أكثر أمانًا.

    5 – حصار المناطق الثائرة: بدأ تطبيق سياسة حصار المناطق الثائرة، منذ الشهر الثاني من اندلاع الثورة السورية، حيث قامت الفرقة الرابعة بمحاصرة مدينة درعا، ثم مدينة المعظمية في الريف الجنوبي الغربي لمدينة دمشق، وتتابع ذلك إلى الغوطة الشرقية ووادي بردى والمناطق الأخرى في وسط سورية وجنوبها، ومن خلال هذا الحصار؛ تم منع وصول أي معونة غذائية أو غيرها للمنطقة، واستُثمر هذا على مدى الزمن، لفرض اتفاقيات هُجر على أساسها معظم أبناء هذه المناطق إلى الشمال السوري.

    ب – الأدوات المتفق عليها:

    وتتمثل في تنفيذ الاتفاقيات التي وقعها النظام السوري مع الفصائل أو الهيئات المدنية، لإجلاء كل أو جزء من أبناء المناطق إلى مناطق أخرى أكثر أمانًا، مقابل إجلاء أبناء مناطق موالية محاصرة إلى مناطق سيطرة النظام، كما حدث في اتفاقية المدن الأربعة الزبداني ومضايا، مقابل نبل والزهراء، وأيضًا اتفاقيات الغوطة الشرقية وحلب الشرقية وريف حمص الشمالي ومحافظتي درعا والقنيطرة، وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، فقد خرج من الغوطة الشرقية وحدها، من 9 آذار حتى 18 نيسان 2018، أكثر من 130 ألف شخص، أي نحو 40 % من سكان الغوطة الشرقية، وتم تفريغ بلدات ومناطق داريا ونبل والزهراء من كامل سكانها (10).

    ت – الأدوات القانونية:

    حاول نظام الأسد التغطية على جرائمه ضد الشعب السوري، من خلال إصدار العديد من القوانين والتشريعات، لإعطاء صفة قانونية لهذه الجرائم، ومن هذه القوانين المرسوم التشريعي الرقم 12 لعام 2016، القاضي باعتماد النسخ الرقمية للسجلات العقارية (11)، أي أنه سيكون من الممكن للسجلات العقارية أن تُقدّم صورًا إلكترونية للسجلات، كبديل عن تلك التي فُقدت لأي سبب، كحريق السجل العقاري في حمص عام 2013 ومدينة دوما عام 2012، وهو ما سيفتح بابًا كبيرًا أمام تزوير السجلات العقارية.

    ث – أدوات مختلفة:

    تمثلت هذه الأدوات في:

          – منع عودة اللاجئين إلى ديارهم.

          – نشر إيران للتشيع في المناطق التي سيطرت عليها.

          – تجنيس الشيعة الإيرانيين والعراقيين والأفغان. يأتي هذا كله لتثبيت الأمر الواقع الذي خلقته ممارسات الأسد وميليشياته الطائفية على الشعب السوري، ومحاولة لتنفيذ التغيير الديموغرافي على نطاق أوسع.

التغيير الديموغرافي من قبل التنظيمات والفصائل المسلحة أثناء الثورة السورية

يجب الفصل بين ممارسات الفصائل والتنظيمات التي تسيطر على المناطق المحررة، وممارسات نظام الأسد، ولهذا سنقسم هذه المسألة الدراسية إلى ثلاث فقرات: الأولى نتحدث فيها عن (داعش)، والثانية عن فصائل الأكراد الانفصالية، والثالثة عن فصائل الجيش الحر.

    أ – التغيير الديموغرافي في مناطق (داعش):

بداية، يمكن أن نعدّ أن ما قام به تنظيم (داعش)، في مناطق شرق وشمال ووسط سورية التي سيطر عليها، امتدادًا لعمليات التهجير القسري التي نفذها نظام الأسد والميليشيات الطائفية، بل كانت (داعش) هي الذراع الطويلة والمؤثرة التي استخدمها الأسد وحلفاؤه لقتل الشعب السوري، وتهجيره من منازله وإذلاله بفرض كثير من الخزعبلات والطقوس التي نسبوها إلى الإسلام، والإسلام منهم ومنها براء، وقد بدا واضحًا أنه بمجرد أن تسيطر (داعش) على أي منطقة، يقوم طيران الأسد وحلفائه بقصفها بكل أنواع الأسلحة، من دون التعرّض لمقار التنظيم، وهذا ما حدث بشكل واضح، عندما سيطر التنظيم على البادية السورية ومركزها الرئيسي مدينة تدمر والقرى المحيطة بها، كالسخنة وأرك والبيارات الغربية، وأدى ذلك إلى نزوح سكان هذه المناطق من منازلهم نهائيًا، ولم يعد أحد منهم حتى الآن إلى هذه المناطق، على الرغم من عودة سيطرة الأسد والميليشيات الطائفية إليها، هذا إضافة إلى الممارسات القمعية لعناصر التنظيم المتمثلة بالإرهاب المنظم من الإعدامات الميدانية وقطع الرؤوس وبتر الأطراف والاعتقال التعسفي وفرض الإتاوات و”الجزية”، كما يسمونها، مرورًا بحلقات الاستتابة والدورات الشرعية التي يقيمونها للأهالي، ومعسكرات تجنيد الأطفال، وسرقة ممتلكات المواطنين، كل هذا يهدف إلى مضايقة الأهالي وإجبارهم على النزوح أو القبول بالعيش تحت حكم هؤلاء، وقد دفع ذلك الغالبية العظمى من السكان المحليين إلى النزوح إلى مناطق النظام أو مناطق سيطرة فصائل الثورة، وقد قام التنظيم بتهجير عشرات الآلاف من الذين اعترضوا تقدمه، كما حصل في الشحيل وريف دير الزور الشرقي، وفي “أبو حمام”، والشعيطات، وغيرها من القرى والبلدات العربية في محافظة دير الزور والحسكة (12)، وبعد القضاء على جيوب المقاومة و”المرتدّين” على صعيد الجبهات الداخلية، تركّزت انتهاكات التنظيم ضد المكوّنات المحلية، على أطراف مناطق سيطرته، ويأتي ضمنها كرد شمال شرق سورية، ويمكن أن نذكر جرائم التهجير التي قام بها التنظيم، بحق الكرد في الحسكة، منطقة تل براك، إذ قام التنظيم عام 2015 بتهجير الأكراد من قراهم التي سيطر عليها، وأيضًا في الرقة منطقة تل أبيض، حيث تم تهجير عدد من القرى الكردية عام 2013، منها سوسك، يارقوي، قزعلي، ملوح القمر، تل فندر، وفي حزيران/ يونيو 2015، أصدر (داعش) قرارًا بخروج الكرد من مدينة الرقة، بتهمة مساندة “وحدات الحماية الشعبية” وقوات التحالف الدولي، وفي الريف الحلبي قام تنظيم (داعش) في تموز/ يوليو 2014، بالاستيلاء على منازل الأكراد، في قرى (أبي صرة وكورك والجبنة وعفدكه)، ونهبها ثم أحرقها، وأدى ذلك إلى نزوح سكان هذه القرى إلى المناطق الأكثر أمانًا، كما قام التنظيم في تموز/ يوليو عام 2015، باعتقال مئات الأكراد ومصادرة ممتلكاتهم في قرى (الشيخ جراح وتل بطال والكعيبة  وشاوى وتل جرجي)، وغيرها من القرى الكردية في ريف الباب، وسبّب ذلك أيضًا نزوح سكان هذه القرى إلى مناطق أكثر أمانًا في المناطق المحررة، ومنطقتي عفرين وتل أبيض.

    ب – التغيير الديمغرافي في مناطق “قوات سوريا الديمقراطية”:

يمكن تقسيم المناطق التي خضعت لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي، عبر “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد” إلى أربع مناطق: منطقة الجزيرة، ومنطقة عين العرب، ومنطقة عفرين، ومنطقة تل أبيض، ويمكن تقدير عدد السكان في هذه المناطق بنحو 2.5 مليون نسمة، وتولّت مهام حفظ الأمن داخل هذه المناطق قوات “الأسايش”، ويعدّ ملف التهجير القسري من أعقد الملفات بين العرب والأكراد في سورية؛ إذ تشير التقارير الصادرة عن (الشبكة السورية لحقوق الإنسان) إلى قيام “وحدات حماية الشعب” الكردية بحملات تهجير في قرى تل أبيض وتل حميس، طالت قرى الهلالية والبكارية والعشرة وتل مجدل والحسينية وتل الشوك وعكاظ والجزعة وأم كبير وأم كهيف وسلوك ورنين والحصوية الكبرى والصغرى وعبدي كوي وتل أبيض، وقامت هذه الوحدات بهدم وجرف منازل المدنيين في هذه المناطق، متهمة السكان العرب في هذه المناطق بأنهم حاضنة شعبية لـ (داعش).

تعامل حزب الاتحاد الديمقراطي مع هذه التهم، بتحفظه على الأدلة التي سيقت في التقارير، وبطعنه في أهلية شهود العيان، وبشكل رئيس من خلال تبريره هذه العمليات تحت بند “الأعمال العسكرية ضد تنظيم (داعش)”. وفي الوقت الذي تصر فيه “الإدارة الذاتية” على رفض هذه التهم، جملة وتفصيلًا، ثمّة ما يشير إلى أن تنفيذها جاء انتقامًا ممن افترضتهم حاضنة اجتماعية لـ (داعش)، الأمر الذي يضفي على هذه الممارسات طابع العقاب الجماعي، وهو ما يخالف أحكام القانون الإنساني الدولي، كما أن غياب آليات المحاسبة والرقابة يبقي الخوف من قيامه باستخدام ورقة التغيير الديموغرافي مشروعًا، خصوصًا أن “صالح مسلم” صرّح -في بداية أحداث الثورة- بأن “على العرب الذين استوطنوا أرضنا الرحيل”.

يلاحظ أن معظم هذه الممارسات حصلت في محيط مدينة الحسكة، حيث يشكّل ضعف الوجود الكردي فيها خطرًا على مشروع “الإدارة الذاتية”، الأمر الذي يفسّر اندفاع “وحدات حماية الشعب” إلى تعزيز وجودها العسكري فيها، إبعادًا لأي تهديد ديموغرافي سكّاني مستقبلي. وقد شهدت منطقة الخابور سياسة مشابهة في نزع سلاح ميليشيا Sootoro الآشورية، وكذلك مدينة الحسكة في طرد ميليشيا “الدفاع الوطني” الموالية للنظام، بالرغم من تعايشها مع “الإدارة الذاتية”. وتفيد القراءة السابقة لتحركات “وحدات حماية الشعب” بتبنيها سياسة تغليب قوتها في حيزها الحيوي، وبأن التهجير القسري لبعض القرى والبلدات العربية والتركمانية جاء نتيجة لهذه السياسات، وأنه ليس بالضرورة سياسة قائمة بحد ذاتها، فالهاجس الأول للاتحاد الديمقراطي هو بسط نفوذه في مناطق “الإدارة الذاتية” واحتكار القوة، ريثما ينتهي من التحكم في مفاصل النظام المحلي الذي يعمل على إنشائه.

ويجدر بالذكر أن “الإدارة الذاتية” قد سمحت بعودة جزئية لعدد من العرب الذي هُجّروا من قراهم في ريف الحسكة، كما حصل في منطقة الهول وتل براك في ريف الحسكة، وبلدة سلوك في ريف تل أبيض، كما أن مناطق سيطرتها تأوي ما يقارب 250 ألف نازح عربي.

ج- التهجير القسري في مناطق سيطرة فصائل الثورة:

لم يقتصر التهجير القسري على مناطق النظام والمناطق الأخرى المسيطر عليها من التنظيمات والأحزاب الوظيفية فقط، إنما شهدت مناطق سيطرة فصائل الثورة معدّلات نزوح أكبر، وذلك للأسباب التالية:

    أعمال القصف الجوي العنيف الذي تقوم بها قوات النظام والجيش الروسي.

    تراجع سُبل المعيشة وانعدامها في معظم الأحيان.

    تراجع الخدمات الأساسية كالطب، والتعليم، والطاقة وكثير من مقومات الحياة.

    تعذر وصول المساعدات الأممية للمحتاجين في المناطق المحاصرة.

    انعدام الأمن وتفشي الفصائلية لدى القوى المحلية.

وعلى الرغم من أن أغلب المهجرين قسريًا من المناطق المحررة هم من أبناء السنّة، فإن النظام كان يركز دائمًا على اتهام فصائل الثورة بممارسة التغيير الديموغرافي، من خلال ارتكابها لأعمال عدائية بحق الأقليات، مثل شن عمليات عسكرية في مناطق وجودهم (معان والكبّارية في أيلول 2016، قرى ريف اللاذقية آب 2013، معلولا أيلول 2013، الطليسية أيلول 2016، صدد تشرين الأول 2013 (13)، أو من خلال الترهيب الأمني الموجه ضد الأقليات الموجودة، في مناطق سيطرة هذه الفصائل، كما حصل في معرة مصرين وفي إدلب المدينة، بحسب ادعائه. ووفقًا لمصادر النظام، فإن المناطق التي تُتهم فصائل الثورة بتهجير سكّانها هي: معلولا وعدرا العمالية وقرية مغر المير في ريف دمشق، كفريا والفوعة وحلوز والقنية واشتبرق والجديدة واليعقوبية والغسانية وقرية زرزور في إدلب، نبل والزهراء في حلب، محردة وجدرين وكفربو وقسطل البرج وتل سكين والصفصافية وحي الميدان وجورين وشطحة وقرية الزيارة في حماة، قرية أبو مكة والبادروة والحمبوشية وعرامو والبلوطة وجب الأحمر والخوارات والخميلة وكسب وبج القصب والغسانية وصلنفة في اللاذقية، ربلة والغسانية وصدد في حمص، نامر وخربة وطيسيا ومعربة وشقرا في درعا. وعند التدقيق في توزع المناطق السابقة؛ يتضح أنها تتركز في منطقة الغاب وجسر الشغور وناحية القصير وفي المنطقة الواقعة بين الحدود الإدارية لدرعا والسويداء، أي أنها تتركز في نقاط التداخل بين النطاقات الجغرافية ذات الانتماءات المتباينة مذهبيًا، وثبت عدم صدقية رواية نظام الأسد، بعد انسحاب فصائل المعارضة من هذه المناطق.

 إن اتهام نظام الأسد لفصائل الثورة بممارسة عملية تغيير ديموغرافية قسرية بشكل منهجي، لا يوجد عليه دلائل كافية وذلك للأسباب التالية:

1- من قام بالأعمال الانتقامية التي أدت إلى النزوح القسري هي تنظيمات متطرفة ذات منشأ استخباراتي، كتنظيم (داعش) و”جبهة النصرة”.

2- في كثير من الأحيان، كان نزوح بعض سكان المناطق التي تحررها فصائل الثورة مؤقتًا، لخوف هؤلاء من انتقام هذه الفصائل، نتيجة تأييد هؤلاء السكان للأسد، لكن سرعان ما يعود هؤلاء إلى ديارهم بعد عودة سيطرة النظام عليها، الأمر الذي ينفي كونها عملية تغيير ديموغرافي مقصودة، ويمكن وضعها في إطار حركات النزوح الداخلي.

3- على الرغم من وجود بعض التجاوزات الفردية من عناصر فصائل الثورة بحق الأقليات، فإنها لا ترتقي إلى درجة التهجير القسري للسكان المحليين المنهجي، ولا يوجد أدلة على ذلك.

الخاتمة:

إنّ ما قام به حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار الأسد، منذ تسلّمهم السلطة في سورية، لإحداث التغيير الديموغرافي المنشود في سورية، لم يحقق أهدافه، على الرغم من بعض النجاحات التي رافقت تنفيذ هذا المخطط في مختلف مراحله، وخاصة مرحلة حكم بشار الأسد التي تميزت بالسيطرة شبه الكاملة للنظام الإيراني على كثير من مفاصل الحكم في سورية، خاصة أثناء الثورة السورية، واستطاع من خلالها تهجير كثير من أبناء الشعب السوري السني من مناطقهم، بالطرق التي ذكرناها في بحثنا، وعلى الرغم من هذه النجاحات فإنها يمكن أن تكون مرحلية، نظرًا لأن غالبية الشعب السوري هم من السنة، ومهما بلغت وتيرة تهجيرهم فلن تزداد الطائفة العلوية عددًا يمكن أن يفوق أعداد أبناء السنة، لهذا بدأ النظام الإيراني باستقدام مجموعات كبيرة من المرتزقة الشيعة، من كل أنحاء العالم، وتوطينهم في مناطق السنة، وأُعطيت الأوامر لنظام الأسد كي يتم إعطاء هؤلاء الجنسية السورية، لفرض أمر واقع جديد يختل فيه التوازن الطائفي السكاني.

إن حكاية التهجير القسري لم تنتهِ بخروجي من بيتي مرغمًا أجرُّ خلفي سوى عار الخذلان تاركًا بيتًا مليئًا بذكرياتٍ، لا تُسمن ولا تغني من جوع، إلّا أنّها تسمن بالغضب والكره والطمع بالعودة لا للذكريات لكن للثأر، واضعًا رحالي في مخيمات الذّل واللجوء في الشمال السوري أو في بلدان اللجوء، لا أحمل سوى حمم همومي أقتات من إغاثات منظمات تقتات بالشحادة على اسمي ناسيةً أنّنا شعبٌ بحاجةٍ إلى أكل العلم لا علف الدواب، نحتاج إلى عملٍ لنعيد بناء انكسار أنفسنا، أمام وسم النازح الذي لن يفارقنا يومًا، وسيذكرنا على الدّوام بالازدراء البشري المقيت الذي حوّل مصطلحًا عادلًا إلى وصمة عارٍ على جباهنا، دافعًا البعض إلى ركوب عرض الموت، باحثًا عن الذّل، وإن كان الذل لا محالةً ملاصقًا له، فليكن في بلاد بعيدةٍ عن الموت، ودافعًا البعض الآخر إلى الانجرار وراء (داعش) لعله بذلك يسعى للتنفيس عن غضبه المستعر بداخله، وبقي البعضُ حاملًا أحلامه والبندقية متناسيًا حدود السياسة غير ناسٍ أنّه هُجِرَ ليُسمى نازحًا على أرض الأمّة الإسلامية التي يقاتلُ باسمها. إنها ليست أزمة تهجير فقط بل أزمة هوية، وأزمة انتماء، وأزمة ثأر.   

يبدو أن الطريق الوحيد لإنقاذ سورية من مشاريع التغيير الديموغرافي التي تهدّدها يجب أن يمرّ عبر الوصول إلى توافق وطني، يعتمد على القطيعة مع الاستبداد والإرهاب والتطرّف بأشكاله كافة، وخطوة من هذا القبيل توجب على النخب الوطنية السورية، لدى كلّ الأطراف السياسية والمجتمعية، تحمّل المسؤولية بكل إقدام وثبات، والدخول في حوار وطني شامل يُغطي الجغرافية السورية بأسرها، حوار يُركّز على نقاط التوافق، ويعمل على تفكيك نقاط الخلاف، ويتعامل معها بعقلية وطنية إبداعية، تتجاوز العقبات والإشكالات لمصلحة مستقبل سورية وأجيالها المقبلة.

الهوامش

(1)- اللجنة الدولية للصليب الأحمر، نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما في 17تموز/ يوليو 1998، معاهدات، المادة السابعة https://bit.ly/2CXw8Sy

(2)- اللجنة الدولية للصليب الأحمر، اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12آب/ أغسطس 1949، معاهدات، المادة 49  http://www.lcrdye.org/5918/

 (3)- موقع الجزيرة، التركيبة السكانية في سورية، https://www.aljazeera.net/news/arabic/

(4)- ويكيبيديا، سكان سوريا https://ar.wikipedia.org/wiki/

(5)- موقع مجلس الشعب السوري،  المرسوم التشريعي 66 لعام 2012 إحداث منطقتين تنظيميتين في نطاق محافظة دمشق https://bit.ly/3aVKuzd

(6)- موقع قناة سوريا، المخطط الأمني للتغيير الديموغرافي في سوريا https://www.syria.tv/

(7) المرجع السابق.

(8)- المرجع الخامس

(9)- موقع الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا)، مجلس مدينة حمص يقر المخطط التنظيمي العام لمشروع إعادة إعمار بابا عمرو والسلطانية وجوبر https://www.sana.sy/?p=257736

(10)- موقع أخبار الأمم المتحدة، 130 ألف سوري يغادرون الغوطة الشرقية بسبب القتال https://news.un.org/ar/story/2018/04/1005451

(11)- موقع رئاسة مجلس الوزراء السورية، المرسوم التشريعي رقم /12/ http://pministry.gov.sy/contents/12656/

(12)- موقع شبكة شام الإخبارية، التغير الديموغرافي في سورية https://bit.ly/32lJOzq

(13)- موقع نصح، التغيير الديموغرافي في سوريا http://www.nusuh.org/45

طباعة

مركز حرمون

—————————————-

ليل سوريا الطويل/ بكر صدقي

الواقع أنه ليل طويل في الإقليم كله، وما تخصيص سوريا إلا لأنها بلدي. لا شيء يدعو للتفاؤل بالنسبة لجميع دول هذا الإقليم الذي وصف في أدبيات الإدارة الأمريكية في مطلع القرن بـ«الشرق الأوسط الموسع» الذي كان موعوداً وفقاً للمحافظين الجدد بمستقبل مشرق من الديمقراطية والازدهار وإذ به، بعد عقدين من السنوات، في ليل حالك عنوانه الموت والدمار وفقدان أي أفق مستقبلي.

يستسهل تيار عريض يضم اليسار واليمين، إسلاميين وعلمانيين، قوميين واشتراكيين، يستسهلون الأمر بإلقاء اللوم على «الشيطان الأمريكي» على رغم تغير الإدارات هناك، وعلى رغم الفرص الكبيرة التي أضاعتها دول المنطقة للخروج من مأزقها، وعلى رغم بروز «شياطين» أخرى، روسيا والصين بصورة رئيسية.

واقع الحال أن أنظمة الحكم الفاسدة والدموية المتمسكة بالسلطة إلى الأبد هي شيطاننا الأبرز الذي يتحمل كامل المسؤولية عما نحن فيه، بما في ذلك فتح الباب للشياطين الأخرى بالتدخل لتحديد مصائرنا، وإن لم يكن شيطاننا الوحيد. لنتخيل، فرضاً، أن تلك الطغم المتسلطة قد فكرت لحظة واحدة بمسؤولية وطنية في مواجهة ثورات الشعوب التي طالبت بإسقاطها. فالمسؤولية الوطنية تقتضي التخلي عن الحكم أمام موجة شعبية عارمة تطالب بذلك بعدما يئست تلك الشعوب من إمكانية إصلاحها. مؤكد أنه لا شيء يضمن أن تمشي الأمور نحو الأفضل ببساطة، فالواقع أكثر تعقيداً من توقعات مفرطة في التفاؤل. لكن التغيير السياسي كان من شأنه فتح الباب أمام مجتمعات بلداننا لتقوم بتحديد مصائرها، وقد يتطلب الأمر فترة قلقة غير قصيرة من البحث عن الخيارات الأفضل. وفي غضون ذلك كانت ستتغير حكومات ومعها سياسات، ويكتسب المجتمع خبرات سياسية كان محروماً منها طوال عقود.

لكن المؤكد، على أي حال، أن دماء مئات آلاف البشر كان سيتم توفيرها، وتجنيب البلاد خسائر اقتصادية تعد بمليارات الدولارات تكفي بذاتها لإجراء إصلاحات كبيرة تضع بلداننا على سكة التقدم والرفاه الاقتصادي، وكذا تجنب تدخلات الدول الأخرى التي لا تهمها آلامنا ولا تطلعاتنا، وكذا فيما يتعلق بالمنظمات الجهادية التي لها برنامجها الخاص وحساباتها الخاصة، فهي غير معنية بما تريده مجتمعات البلدان التي نشطت فيها.

هذه مجرد فرضيات لا علاقة لها بالواقع الذي نعرف مفرداته: هناك بلدان كسوريا وليبيا واليمن يمكن القول إنها لم تعد موجودة كدول، هي فلسطينيات جديدة تضاف إلى فلسطين التي نعرفها. وبلدان أخرى لا تقل ظلاماً عنها لكنها لم تبلغ درجة التفكك ذاتها، كالعراق ولبنان والسودان. وهذا لا يعني أن البلدان العربية الأخرى بخير. ولا البلدان غير العربية المجاورة بخير، بدءاً من الكرد في الدول الأربع التي يتوزعون عليها، ومروراً بتركيا وإيران وروسيا. قد يبدو غريباً إدراج روسيا في هذه القائمة، لكن هذه الدولة «العظمى» ربما تتفكك وتنهار انهيارها الثاني إذا واصلت السير على النهج ذاته تحت الظل الثقيل لدكتاتورها الذي يتوهم أنه يعيد لروسيا أمجادها الإمبراطورية بواسطة القوة العسكرية الفظة وحدها.

أما إيران وتركيا المبتليتان بدورهما بلوثة استعادة الأمجاد الإمبراطورية الغابرة بواسطة القوة العسكرية أيضاً، فحالهما أكثر انكشافاً بعد من شريكتهما روسيا. من زاوية نظر معينة يبدو كأن الولايات المتحدة هي المتحكمة بصراعات الإقليم من غير تورط عسكري مباشر كبير. باحتفاظها ببضع مئات فقط من الجنود على الأرض تستطيع تعطيل أي حل سياسي (روسي) في سوريا لا يأخذ مصالحها بعين الاعتبار. أي أن الولايات المتحدة هي التي ترسم حدود الفعل للقوى المتصارعة على الأراضي السورية. وبأعداد أكثر قليلاً من الجنود تفعل ما يشبه ذلك في العراق. هي لا تتدخل في ليبيا لكنها تراقب الصراع الدائر فيها بين تركيا والإمارات، وبين الأولى من جهة وفرنسا من جهة ثانية بشأن التوتر في بحري إيجة والمتوسط بسبب الصراع على الثروات الباطنية.

قد تغري هذه القراءة للدور الأمريكي بذلك الاستسهال المذكور فوق بشأن التهرب من المسؤولية وإلقاء اللوم على الشيطان الأمريكي. الواقع أن الولايات المتحدة هي دولة عظمى لا يمكن تجاهلها أو توقع سياسات منها تراعي مصالح الدول الأخرى. القوة العظمى الأمريكية، وعلى رغم كل ما ينتابها من حالات ضعف ظاهرة، هي جزء من واقع موضوعي لا يمكن بناء أي سياسات وطنية بتجاهلها أو بافتراضات قائمة على الرغبات والتمنيات والأوهام أو بمواجهتها بالضجيج اللفظي كحال محور «الممانعة» سيئ الصيت. ولا يعني هذا الكلام أي دعوة للتبعية لهذه القوة العظمى أو غيرها، بل هي دعوة للكف عن استخدامها غطاءً لفساد طغمنا الحاكمة أو عجز معارضاتنا وضيق أفقها، وذريعة للتهرب من مسؤولياتنا.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————————-

========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى