وجها لوجه

هادي البحرة: الحل الوحيد نحو سورية المستقبل هو التنفيذ الكامل للقرار 2254

غسان ناصر

برز اسم المعارض السوري هادي البحرة، الذي يشغل حاليًا منصب الرئيس المشترك للجنة الدستورية السورية، بعد اندلاع ثورة السوريين في آذار/ مارس عام 2011، وكان قد ساهم منذ بداياتها في توظيف علاقاته وخبراته التقنية في دعمها وإسنادها، من خلال المساعدة في دعم العمل الإغاثي والإعلامي.

ضيف (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) اليوم، من مواليد دمشق 1959، حاصل على شهادة في الهندسة الصناعية من جامعة “ويتشيتا” في الولايات المتحدة الأميركية.

انضم إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، بعد عملية التوسعة في 30 أيار/ مايو 2013، حيث اختير ضمن كتلة المستقلين، وانتُخب عضوًا في الهيئة السياسية للائتلاف التي صار أمين سرّها فيما بعد، وفي كانون الثاني/ يناير 2013 اختاره الائتلاف كبيرًا لمفاوضيه بمؤتمر (جنيف 2).

في تموز/ يوليو 2014، انتُخِب رئيسًا للائتلاف، واستمرت رئاسته للائتلاف إلى كانون الثاني/ يناير 2015، واستمر عضوًا في هيئته السياسية إلى تاريخه، ومنذ أواخر العام 2017، انتُخب عضوًا في هيئة التفاوض السورية كأحد ممثلي الائتلاف فيها.

كلفته هيئة التفاوض السورية في التاسع من أيلول/ سبتمبر 2019 برئاسة اللجنة الدستورية لقوى الثورة والمعارضة، وكرئيس مشترك من جهتها للجنة الدستورية، في اجتماعها الذي عُقد في مقرها في العاصمة السعودية الرياض.

هنا نص الحوار:

أمام مماطلة النظام، وعدم انعقاد الاجتماع الثالث للجنة الدستورية حتى الآن، هل هناك تهديد حقيقي ومخاوف على مصير اللجنة؟ ومن قبل ما الذي يعوق عقد الجلسة الثالثة من محادثات اللجنة الدستورية بجنيف؟ وذكرتم أخيرًا في تصريح صحفي، أنه تم “التوصل إلى توافق بخصوص جدول أعمال الجلسة القادمة للجنة الدستورية”، فما هي النقاط التي سيتم بحثها في هذه المرحلة مع وفد النظام؟

دعنا نكون واضحين في تقييمنا لوضع العملية السياسية، أولًا: النظام حتى هذه اللحظة لا يؤمن بالعملية السياسية ولا يسعى لحل سياسي، بالرغم من كل المعاناة والآلام التي يتكبدها الشعب السوري، بسبب سياسته وعدم حرصه على مصالحنا الوطنية واستخفافه بالظروف المعيشية المأسوية وعدم اهتمامه بالمحافظة على سيادة الشعب على أراضي دولتنا، كل ما يهمه هو كيفية التشبث بالسلطة وإطالة أمدها. فهو ما زال يؤمن بإمكانية تحقيق الحسم العسكري الموهوم، تمهيدًا للقضاء على العملية السياسية بكاملها، عبر فرض سياسة الأمر الواقع، وهذا ما حاول أن ينفذه هو والدول الداعمة له خلال ممارسته لسياسة التعطيل، بالتالي، لن ينخرط النظام إيجابيًا في العملية السياسية بما فيها سلة العملية الدستورية، دون وجود ضغط جاد من المجتمع الدولي ومن روسيا بالتحديد، وهذا لن يحدث إلى حين التوصل إلى توافقات دولية وإقليمية معقدة. نأتي عليها ضمن الإجابات على بقية الأسئلة.

ثانيًا: إن اللجنة الدستورية بحد ذاتها هي سلة من السلال الأربعة الأساسية في قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015)، ولم نصل إلى تشكيلها بسهولة، حيث استغرق تشكيلها ما يقارب العامين، كان النظام وداعموه يحاولون خلالها تحقيق الحسم العسكري، لتقوية موقفهم التفاوضي، وليصلوا إلى تشكيلها وفق شروطهم وتصورهم. نتيجة لمماطلتهم الطويلة واستمرارهم بالعمليات العسكرية، ارتفعت مستويات الضغوط الدولية الجادة ومن ضمنها الموقف التركي، ضمن “مجموعة آستانة”، وأصبحت تشير بشكل واضح إلى إمكانية التخلي عن تبني الاقتراح الروسي ببدء العملية السياسية التفاوضية، لتنفيذ قرار مجلس الأمن المذكور أعلاه من بوابة اللجنة الدستورية، فاضطرت روسيا إلى أن تمارس ضغطًا جديًا وفاعلًا على النظام، وتنتزع موافقته على الاتفاق على تشكيلها وفق ما تم التوصل إليه من مفاوضات مضنية أجراها المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، بين دول “مجموعة آستانة” ودول “المجموعة المصغرة” من ناحية، وبين هيئة التفاوض السورية وحكومة النظام من ناحية ثانية، اتفاق تشكيلها يعدّ أول اتفاق سياسي بين هيئة التفاوض السورية وحكومة النظام، تم إنجازه كجزء من تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015).

ثالثًا: على الرغم من إنجاز تشكيل اللجنة الدستورية نتيجة للضغوط الدولية، والضغط الروسي الجدي الذي أدى إلى تفاعل ممثلي حكومة النظام إيجابيًا في الجلسة الافتتاحية للجنة الدستورية الموسعة في جنيف، وإنجاز تشكيل لجنة الصياغة واختيار الرئيسين المشتركين، ومن ثم انعقاد أول اجتماع للجنة الصياغة وما تناولته من نقاشات جدية خلالها؛ فإننا لم نتوهم بأن النظام قد تخلى عن سياسة التعطيل وعن إيمانه هو والذين يدعمونه بضرورة تحقيق الحسم العسكري، قبل أي انخراط جدي في العملية السياسية، كي يتمكن إما من نسف العملية السياسية برمتها وإما من إملاء شروطه عبرها. كان باعتقادهم أن مجرد تمرير تشكيل اللجنة الدستورية والتعاطي الإيجابي “نسبيًا”، خلال جلستها الافتتاحية الأولى وفي الاجتماع الأول للجنة المصغرة، كافيًا لخرق نظام العقوبات الاقتصادية الدولية، والبدء بتخفيضها وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية وبعض الدول الأوروبية، وعاد النظام إلى سياسة المماطلة عبر وسائل عدة محاولًا إنجاز تلك الأهداف، إلا أن كل الجهود بذلك الاتجاه فشلت على الصعيدين الاقتصادي والدبلوماسي. ومن ثم عاد النظام إلى أسلوبه المعتاد، برفض أي مقترح جاد لجدول أعمال الدورة الثانية من الاجتماعات في جنيف قبل تاريخ انعقادها، وعلى الرغم من حضور ممثلي الأطراف كافة؛ لم يتم التوافق بين الرئيسين المشتركين على جدول أعمال، حيث رفض ممثلو هيئة التفاوض نقاش أي جدول أعمال خارج عن إطار تفويض اللجنة أو بدء الاجتماع دون الاتفاق على جدول أعمال محدد ضمن مهام وإطار تفويض اللجنة الدستورية، وقدموا اقتراحات في هذا المضمون، رفضها الرئيس المشترك من الطرف الآخر. وكنا قد صرحنا حينها وقُلنا: “قدّمنا خمس مقترحات تصبّ في إطار وسياق تفويض اللجنة الدستورية، تحدد أبوابه وفصوله، ومنها المقدمة والمبادئ الأساسية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسلطات وغيرها، وطالبنا بالاتفاق على هيكلة الدستور لتحديد إطار واضح، ومن ثم طرحنا نقاش المبادئ الأساسية والسياسية التي تحتوي الثوابت الوطنية التي يجمع عليها الشعب السوري”. ورفضها الرئيس المشترك للطرف الآخر، فاضطر المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، كميسر لعمل اللجنة وراع للعملية السياسية، إلى إعلان انتهاء الدورة الثانية بالفشل في انعقاد اجتماعها.

رابعًا: نتيجة لاستمرار النظام وداعميه بالإيمان بإمكانية الحسم العسكري، تم خرق “مذكرة تفاهم سوتشي” الموقعة بين روسيا وتركيا، واستئناف الأعمال العدائية في شمال غرب سورية، لكن قواعد الاشتباك قد تبدلت وقام النظام بتجاوز الخطوط التي رسمتها المذكرة، وفي مرات عدة نفذ اعتداءات على القوات التركية بشكل مقصود ومباشر، فاضطرت الأخيرة إلى الرد، وتصاعدت المخاطر إلى مستوى اشتباكات مباشرة بين تركيا والنظام، واستهداف روسي جوي لقطع عسكرية تركية (صرحت روسيا لاحقًا بأن ذلك قد تم عن طريق الخطأ)، فردت تركيا برفع عداد وعتاد قواها العسكرية داخل سورية، وبالرد على الهجوم باستهداف قوات وميليشيات النظام بشكل حاسم، وتصاعد الموقف إلى خطر وقوع اشتباكات روسية – تركية بشكل مباشر، فتسارعت الجهود الدبلوماسية بين البلدين، وتمّ إنجاز توقيع بروتوكول ملحق بـ “مذكرة تفاهم سوتشي”، يحقق وقف إطلاق نار على خطوط الاشتباك وفق تاريخ التوقيع عليه، والعودة لتفعيل “مذكرة تفاهم سوتشي”، وفق البروتوكول الملحق، وفشل النظام في تحقيق الحسم العسكري، وكانت رسالة تركية واضحة بأن حدود وقف إطلاق النار الحالية بلغت حدود أمنها الوطني، وصمدت بإبقاء نقاط مراقبتها التي أقامتها سابقًا، واستمرت في تعزيز قواتها العسكرية داخل سورية، واستمر وقف إطلاق النار بشكل جيد نسبيًا، مما أمن بيئة مناسبة لعودة المباحثات غير المباشرة بشكل جدي، بين الرئيسين المشتركين للجنة الدستورية، بتيسير من المبعوث الدولي الخاص، وقامت تركيا بجهود في ذلك الاتجاه مع روسيا وإيران، وأدى ذلك إلى عودة الجهد الروسي للتوصل إلى اتفاق حول انعقاد الدورة الثالثة (الاجتماع الثالث) للجنة الصياغة، وتقدم المبعوث الخاص للأمم المتحدة كميسر باقتراح جدول أعمال للدورة الثالثة لاجتماعات اللجنة الدستورية المصغرة (لجنة الصياغة) هو: “بناءً على ولاية اللجنة والمعايير المرجعية والعناصر الأساسية للائحة الداخلية للجنة الدستورية، مناقشة الأسس والمبادئ الوطنية”. وقد حاز هذا الجدول المقترح على موافقة الرئيسين المشتركين، ونظرًا لاستحالة عقد الاجتماع فيزيائيًا وإجراءات منع السفر، بسبب جائحة كورونا، تم الاتفاق مبدئيًا على انعقاده في النصف الثاني من شهر آب/ أغسطس القادم في جنيف.

العبرة مما ذُكر أن روسيا باتت مقتنعة بصعوبة تحقيق حسم عسكري في ظل الواقع الحالي على الأرض، وأن المجتمع الدولي جاد في استمرار العقوبات وتشديدها، وعدم إعادة تدوير النظام دبلوماسيًا، الرسالة الدولية باتت واضحة: لا تخفيف للعقوبات إلى أن تتحرك العملية السياسية بإنجازات غير قابلة للانعكاس، وأهمها تحقيق وقف إطلاق نار دائم وشامل، وإطلاق سراح المعتقلين ومعرفة مصير المغيبين قسريًا. كما أن اقتراح بدء العملية السياسية عبر بوابة اللجنة الدستورية هو اقتراح روسي، تبناه المجتمع الدولي كبداية لتنفيذ ما جاء في قرار مجلس الأمن 2254، بالتالي، هناك حرص روسي ودولي وإقليمي على استمرارية اللجنة الدستورية فهي الجسم الناتج عن أول اتفاق سياسي، سوري – سوري، بين هيئة التفاوض السورية وحكومة النظام، وهذا الاتفاق هو جزء مما نص عليه قرار مجلس الأمن المذكور أعلاه، وهو الجسم السياسي الوحيد الذي يجمع الأطراف السورية كافة (قوى الثورة والمعارضة – المجتمع المدني – حكومة النظام) في إطار تفاوضي واضح حدود التفويض والمهمة، وضمن العملية السياسية في جنيف التي ترعاها وتُيسرها الأمم المتحدة. بالتأكيد أي مماطلات قادمة، من قبل أي طرف كان، لن يرحب بها دوليًا، واستمرار تعطيل أعمال اللجنة سيعني فعليًا للمجتمع الدولي ضرورة النظر في آليات جديدة لتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254.

* مرحلة انتقالية مدتها ثمانية عشر شهرًا

ما هي التفاصيل التي أُنجزت حتى الآن بخصوص المسائل الدستورية أو لنقل الإجراءات الدستورية والانتخابية؟

 الإجابة عن هذا السؤال من شقين: الأول من قبل هيئة التفاوض وممثليها في اللجنة الدستورية، فهم قد حضروا تفاصيل المضامين الدستورية، وعملوا على نظام الانتخابات وصيغة القانون الناظم لها وكل ما يتعلق بها، لضمان نزاهتها وحريتها وحياديتها وحقوق المواطنين فيها للترشح والترشيح والانتخاب، وطرق الرقابة عليها لضمان عدم وجود تجاوزات، سواء في الانتخابات نفسها أو في الحملات الانتخابية التي تسبقها أو في نظام إحصاء النتائج، وضمان الفرص الإعلامية المتساوية للمرشحين، والكثير من التفاصيل وتفاصيل التفاصيل الأخرى، تم إعداد ذلك وفق سيناريوهات تفاوضية متعددة، تضمن جميعها تحقيق تطلعات الشعب السوري التي ثار من أجلها.

أما على صعيد اللجنة الدستورية المصغرة (لجنة الصياغة)، فقد تم الانتهاء من إعادة دراسة كلمات الأعضاء في الجلسة الافتتاحية، واستخلاص ما يصلح منها كمضامين دستورية أو عناوين لها، وما هو سياسي وما هو قانوني منها، حيث قدم كل طرف من الأطراف الثلاثة تقريرًا مكتوبًا عنها، وجرت مناقشة التقارير الثلاثة، وعلى ذلك انتهى الاجتماع الأول للجنة الصياغة. 

هل ترون أن سيناريو الانتقال السياسي سيكون في الأفق القريب؟ وهل المعارضة قادرة على توفير بديل لنظام الأسد؟ وهل استعدت لذلك على الصعيدين الداخلي والخارجي؟

نظرًا لتداخل الوضع السوري إقليميًا ودوليًا، لا. ولن يوجد أي حسم وحل عسكري ممكن لأي طرف كان، حيث إن الحرب التي دارت رحاها في سورية وحجم التضحيات التي قدمها الشعب السوري قد أحدثت شرخًا عميقًا في بنية المجتمع والعلاقات بين مكوناته، هذا الشرخ والهوة لا يمكن رأبهما بنصر عسكري متوهم، فهو سيعمقها، وسيكون من الاستحالة تحقيق الأمن والاستقرار المستدامان، كما أن أي عمل عسكري جديد سيؤدي إلى تسريع الانهيار الاقتصادي للدولة السورية وتفكك ما تبقى من مؤسساتها، لا يمكن لأي سوري بعقل سوي أن يدعي أي انتصار، بعد سقوط أكثر من مليون شهيد، وإعاقة ما لا يقل عن مليوني مواطن، وعشرات الآلاف من المعتقلات والمعتقلين ونزوح ولجوء ما يقارب نصف عدد سكان سورية من مدنهم وبلداتهم، وتدمير خمسة وستين بالمئة من البنية التحتية لبلدنا، والخسارة الكبيرة التي لن تعوض بعشرات السنوات هي الخسارة في الموارد البشرية، على سبيل المثال سبعون بالمئة من الكوادر الطبية والصحية قد فرت خارج الوطن، وانضمت إلى أفواج اللاجئين، إن من يرى ذلك إنجازًا ونصرًا يجب وضعه في مصح الأمراض العقلية.

إن الحل الوحيد الممكن هو سياسي، وبالتنفيذ الكامل والصارم لقرار مجلس الأمن رقم 2254، فهو ما سيضع القطار على السكة الصحيحة، نحو سورية المستقبل التي ضحى من أجلها كل مواطن، بدرجات متفاوتة. النصر في سورية هو كل شيء عن تحقيق العدل وكسب السلام، ليس الفوز في الحرب. هذا هو النصر الوحيد الذي يمكن لجميع السوريين مشاركته ويكونون جزءًا منه. وهو الذي يضمن استدامته. لذلك أقول، استنادًا إلى ما ذكرت سابقًا، إن الانتقال السياسي قادم لا محالة، وإن كان مخاضه مؤلمًا بسبب تعنت النظام وتشابك الوضع السوري إقليميًا ودوليًا، وبقسم كبير منه بقضايا لا علاقة لها بسورية.

ليس دور المعارضة ولا تطلّع الشعب أن يستبدل دكتاتورًا بدكتاتور جديد، تقزيم مظلومية الشعب السوري وقدراته وثورته وحجم تضحياته بالادعاء أن كل القضية متوقفة على إيجاد شخص كبديل عن الأسد أو نظامه، مُجحف جدًا، ومن يقوله ويكرره لا يدري فعليًا ماذا يقول، الصراع في سورية هو بين الشعب ونظام حكم دكتاتوري استبدادي، لا وجود لحكم ديمقراطي في سورية، ليكون هناك حزب حاكم وأحزاب معارضة، الحياة السياسية والممارسات الديمقراطية في سورية محظورة منذ أكثر من نصف قرن ، نحن لا نصارع على حصة في السلطة، ولا على أن نتقاسمها أو نستحوذ عليها لأنفسنا، الحل واضح المعالم وبخطوات مشروحة بالتفصيل في “بيان جنيف” (30/6/2012) وفي قرارات مجلس الأمن اللاحقة 2118 (2013) و2254 (2015)، يجب أن تكون هناك إجراءات وطنية مشتركة، تسبق تنفيذ أي عملية سياسية لتعزز الثقة فيها وبإمكانية استدامتها وعلى رأسها ثلاثة بنود: أولها تحقيق اتفاق شامل ودائم لوقف إطلاق النار، وثانيها إطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات السياسيين، وثالثها وضع آلية لتحقيق العدالة الانتقالية لمحاسبة مجرمي الحرب من الأطراف كافة. يجب أن تكون هناك مرحلة انتقالية من الحرب إلى السلم، من الاستبداد والدكتاتورية إلى العدالة والديمقراطية لا تتجاوز مدتها ثمانية عشر شهرًا، تحقق البيئة الآمنة والمحايدة اللازمة لتجري خلالها عملية الانتقال السياسي. يقود تلك المرحلة نظامُ حوكمة مكون من المعارضة والنظام، ولهما أن يشركا أطرافًا أخرى فيه، بحالة شبيهة لما حدث في تشكيل اللجنة الدستورية، نظام الحوكمة هذا قد يكون مكونًا من هيئات ومؤسسات عدة، منها الحكومة ومجلس للقضاء ومجلس عسكري وهيئة رئاسية وبرلمان مؤقت وغيره، وله مهمة واحدة -كما ذكرت- هي تحقيق البيئة الآمنة والمحايدة التي تمكن من الاستفتاء على الدستور الجديد وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وفق نوع نظام الحكم الذي سيحدده الدستور ويقره الشعب السوري (برلماني أو رئاسي أو مختلط)، عند إتمام تلك الانتخابات واستلام السلطات الثلاث لمهامها ومسؤولياتها؛ نكون قد حققنا عملية الانتقال السياسي المنظم. الهدف هو إعادة الحقوق الإنسانية والدستورية والقانونية المسلوبة من المواطن، وإعادة السلطة لهم أي للشعب، لا للمعارضة و لا لأي جهة أخرى، وتمكين الشعب من ممارسة هذه السلطة عبر صياغة مستقبله بدستور يصون كرامة المواطن ويكفل حرياته ويضمن دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، دولة القانون والعدالة ونظام حكم مدني، ديمقراطي، تعددي سياسيًا. نحن نريد قيادات نرشحها وننتخبها كشعب، وتعمل على خدمتنا، لا تجعل الشعب خادمًا لديها، قيادات نسائلها إن أخطأت ونحاسبها ونعزلها إن أجرمت، نحن نريد لكل طفلة وطفل سوري أن يكون له الحق بالحلم بأن يكون رئيسًا أو رئيسة لوطننا، ونكفل حقهم بالفرصة العادلة للسعي نحو تحقيق أحلامهم. تحقيق ذلك سيعيد السلام لوطننا والمحبة بين كل السوريات والسوريين، وتكون تضحيات شعبنا نالت ما تستحقه. إن تلك الهيئات والمؤسسات المؤقتة اللازمة لتحقيق الانتقال نحو سورية المستقبل سيتحمل مسؤوليتها ويتولى مناصبها السوريات والسوريين، وفق الكفاءة والتأهيل، ولن تكون حكرًا للأطراف السياسية، نظام الحوكمة الرشيدة سيحتاج إلى آلاف من الكفاءات السورية، منها الموجود في البلاد ومنها المهجر أو المغترب، ومنها من الجيل القادم الواعد من شابات وشباب سورية. أستطيع القول إننا -كممثلين لتطلعات شعبنا- نملك الرؤية والحكمة اللازمة لتحقيق ذلك، وقد أعدّينا له ما يلزم.

إلى أين ستأخذنا المرحلة المقبلة؟ ماذا تتوقعون أن يحل على سورية خلالها (على ضوء التطورات الميدانية، والظروف الدولية الأخيرة، وصراع النفوذ في الملف السوري)؟ هل يستمر الاستعصاء السياسي ويزداد التدهور الاقتصادي؟ ما هي الحلول التي تنظرون إلى أنها الخلاص لسورية؟

ما زلنا في مرحلة صراع النفوذ، وغالبًا في آخر مراحلها، أي في مرحلة رسم وتثبيت الخطوط النهائية الممكنة لمناطق النفوذ تلك، وبصورة مباشرة لكل دولة عبر تواجدها العسكري داخل سورية، فكل دولة تحاول تحسين وتعزيز مواقع قواتها والقوات المحلية التي تدعمها ضمن المنطقة التي هي فيها حاليًا، وفي بعض الحالات تحاول توسيع الرقعة الجغرافية لسيطرتها، ما يجمع كل هذه القوى الأجنبية هو أنها تريد تحقيق ذلك بأقل قدر ممكن من القوة البرية من قواتها، فجميعها في سباق لتهيئة وتجهيز قوى محلية تحت قيادتها، جميعها تتخوف من تحول الأوضاع في سورية إلى مستنقع يغرقها في صراع غير محسوب النتائج. ولا توجد اتفاقية وقف إطلاق نار شامل ومستدام في سورية، فكل التفاهمات الموقعة هي مؤقتة، وبالتالي لا يوجد استقرار وكل تلك التفاهمات عرضة للانهيار في أي وقت، دعنا نوضح الوضع الحالي:

أولًا: في جنوب سورية، حتى اللحظة، لم تتمكن روسيا من تنفيذ تعهداتها بإبعاد الميليشيات الإيرانية عن جنوب سورية، والآن تسعى لتنفيذ ذلك عبر خطة وآليات عمل معقدة وصعبة النجاح، مع القسم الموالي لها ضمن النظام ومع القوى المحلية التي تتبع لها، إضافة إلى قسم تنفذه إسرائيل بنفسها، حيث نشاهد الغارات الإسرائيلية التي تستهدف شحنات السلاح والميليشيات الإيرانية داخل كامل الجغرافيا السورية، وتحت مرأى روسيا والنظام، بالتالي، الجنوب ما زال تتنازعه قوى منقسمة، أي أن هناك تفاهم إسرائيلي – أميركي – روسي رتب التزامات على روسيا تتناقض مع المصالح الإيرانية المتحالفة مع روسيا ضمن منظومة آستانة، ومع مصالح القسم الخاضع لنفوذ إيران ضمن النظام، هذه خارطة معقدة من التحالفات المتضاربة المصالح وغير مضمونة النتائج، لن يصل الجنوب إلى حالة استقرار مستدام، إلى أن يكون هناك قوة عسكرية سورية واحدة (مشروع جيش الجنوب الموحد أو ما يسمى بـ”الفيلق السادس”) ومسيطرة على كامل جغرافية الجنوب بدعم وتبعية للقيادة الروسية، ويكون الجنوب منطقة نفوذ لروسيا، ومهمة ذلك الجيش أو الفيلق هي خلق بيئة تجبر إيران على سحب ميليشياتها إلى ما بعد الخط الذي تعهدت به روسيا للولايات المتحدة وإسرائيل.

ثانيًا: في الشمال الغربي، هناك برتوكول مؤقت لوقف إطلاق النار، وهو ملحق بـ”تفاهم سوتشي” المؤقت أيضًا الذي تم خرقه سابقًا، فنرى الانتهاكات اليومية، وإن كانت منخفضة حتى الآن، ولكن هناك مخاطر حقيقية لعودة المغامرات العسكرية للنظام في تلك المنطقة وانهيار البرتوكول، لذلك نرى تركيا تستمرّ في تدعيم قواتها في إدلب لغايات عدة أهمها جعل خيار أي عمل عسكري بالنسبة للنظام أو لروسيا مكلفًا، وبعيدًا عن أجندتهما، لكن روسيا وضعت بعض النقاط ضمن البرتوكول يقتضي تنفيذها داخل منطقة النفوذ التركية وباستطاعتها استخدامها لاحقًا كأسباب لعدم تجديد البروتوكول أو عدم الاستمرار بالالتزام فيه، ولا سيما ما يخص القضاء على التنظيمات الإرهابية، وفتح وتأمين الطريقين الدوليين (إم 4 و 5) بصورة مستدامة، ولذلك نقول إن منطقة الشمال أيضًا لم تدخل لمرحلة وقف إطلاق نار مستدام، ولا كمنطقة نفوذ مستقرة، والقوى المؤثرة في الشمال هي تركيا وروسيا بالمستوى الأعلى، وإيران على المستوى الأدنى، ولكل منهم قوة عسكرية سورية تدعمها، لكن الواضح أن قرار السلم والحرب في الشمال هو بيد روسيا، ومستقبل الشمال يعتمد على مدى الالتزام التركي بالدفاع عنه، وحتى اللحظة كل المؤشرات تدل على جدية تركيا في ذلك. أما الحجم الذي قد تخاطر فيه تركيا سيعتمد بشكلٍ ما على حجم الدعم الأميركي الذي ستناله، وهنا نتكلم على دعم سياسي وعسكري من قبل الناتو. بالتالي لن يصل الشمال الغربي إلى حالة استقرار مستدام إلى أن يتم إيجاد وتنفيذ حل نهائي لتواجد التنظيمات الإرهابية فيه، ووجود قوة عسكرية سورية واحدة منضبطة ومسيطرة على كامل جغرافية الشمال الغربي، بدعم وتبعية للقيادة العسكرية التركية ويكون منطقة نفوذ لتركيا.

ثالثًا: شمال شرق سورية، نرى ازدياد تعقيد المشهد هناك على عدة مستويات، أهمّها هو تعدد القوى العسكرية والأمنية الأجنبية والمحلية الموجودة فيه وتضارب مصالحها، مع بعضها البعض، فحتى اللحظة هذه المنطقة تخضع للنفوذ الأميركي بالنسبة الأكبر، لكن وفق ترتيبات واتفاقيات عسكرية وأمنية واقتصادية متعددة ومؤقتة وبين فرقاء مختلفي المصالح، التاريخ يقول إن السياسة الأميركية غير مستقرة، وهي على أبواب الانتخابات، وجميع القوى الأخرى تعلم أن الولايات المتحدة لن تقوم بأعمال عسكرية، من الآن حتى شباط/ فبراير من العام القادم، وهي تبني خططها على ذلك، جميع هذه القوى توجد على رقعة جغرافية صغيرة نسبيًا. وهذه المنطقة المتصلة مع باقي مناطق شرق سورية الغنية بالموارد الطبيعية (النفط والغاز والقمح والفوسفات وغيرها) ذات أهمية إستراتيجية، إضافة إلى وقوعها على خط الإمداد العسكري البري الذي تسعى إيران للسيطرة عليه، من طهران إلى لبنان وإلى المنفذ البحري على الساحل السوري، وتواصلها مع وسط وجنوب سورية ووجود بؤر سيطرة لدول متعددة فيها[HA2] ، وما تزال هناك بقايا لتنظيم “داعش” الإرهابي ولتنظيم PKK المصنف إرهابيًا من قبل تركيا والولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى، بالتالي؛ نجد لكل من اللاعبين الدوليين والإقليميين مصالح خاصة ومهمة فيه، وغالبًا متضاربة مع الأطراف الأخرى، فالدول ذات التأثير في تلك المنطقة حاليًا (الولايات المتحدة بوجود مباشر ونفوذ طاغي وقوات محلية مدعومة من قبلها، يليها روسيا وقسم من قوات النظام الموالية لها وبعض الميليشيات المحلية المدعومة من قبلها، وإيران عبر الميليشيات المحلية المدعومة من قبلها، وتركيا عبر الاتفاقيات التركية – الأميركية، والتركية – الروسية، مع القوى المحلية المدعومة من قبلها)، كما تعاني تلك المنطقة من انشقاقات مجتمعية إثنية وعشائرية وسياسية على الصعيد المحلي، وتُستغل هذه الانشقاقات من قبل القوى الأجنبية ومن قبل النظام، وفق تشابك المصالح أو تضاربها. بالتالي؛ لن يصل شمال شرق وباقي شرق سورية، إلى حالة استقرار مستدام إلى أن يتم إيجاد وتنفيذ حل نهائي لوجود التنظيمات الإرهابية فيه، وإيجاد توافق روسي – أميركي – تركي، بخصوص إنهاء الوجود الإيراني، وإنهاء سيطرته على الطريق البري، ونظام الحوكمة المحلي المؤقت، وتوزع مناطق النفوذ فيه، والترتيبات الأمنية والعسكرية المحلية. حتى اللحظة، الولايات المتحدة هي صاحبة الكلمة الأكثر نفوذًا في كل هذه المعادلات المعقدة، لكن ذلك سيعتمد على ما سيحدث خلال النافذة الزمنية التي تتيحها فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية والفراغ الذي ستتسبب فيه، الذي سيكون مغريًا لتحرك باقي القوى، إن كانت ستخاطر بالتحرك لتحسين مواقعها أم لا، وبعد ذلك سيتوقف الوضع على سياسات الإدارة الأميركية الجديدة.

رابعًا: مناطق النفوذ (الشكلي) للنظام، يجري ضمنها أنواع عدة من الصراع، منها الاقتصادي بين دوائر الفساد، ومنها الخفيّ للسيطرة على المؤسسات الأمنية والعسكرية ما بين المدعومين روسيًا والمدعومين إيرانيًا، إضافة إلى تسارع تدهور قيمة الليرة السورية، وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين وارتفاع مستويات معاناتهم، وسيستمر هذا التدهور الاقتصادي، نظرًا لغياب إيرادات الدولة من الموارد الطبيعية، وشبه توقف الصناعة واستمرار انخفاض الزراعة، والتجارة المحلية والخارجية، أي أن هناك شبه توقف للعجلة الاقتصادية، ومن ثمّ انخفاض الإيرادات الضريبية للدولة، وسيؤدي ذلك إلى تسارع في الانهيار الاقتصادي وإلى تفكك مؤسسات الدولة وعدم قدرتها على تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين، وهذا سيجعل الدولة أكثر اتكالًا على المعونات الأجنبية، ولا سيما من إيران (التي باتت تعاني نفسها) ومن روسيا، وهي غير مستعدة لأن تتحول سورية إلى مستنقع يغرقها بأعباء مالية وعسكرية.

لذلك لن نرى تحركًا سياسيًا جادًا نحو تنفيذ القرار 2254، قبل التوصل إلى إنهاء الملف العسكري بتثبيت مناطق النفوذ والقوى التي تسيطر على كل منها، بعد ذلك سيصبح من مصلحتها جميعًا التوصل إلى اتفاق لإعلان وقف إطلاق نار شامل ودائم، وهذا متوقع خلال الأشهر القادمة قبل نهاية هذا العام، وفق المعطيات التي ذكرتها وإرهاصاتها التي باتت محسوسة، فهناك خياران واحتمالان للتوصل إلى ذلك، إما عبر تفاهمات سياسية وعسكرية وأمنية بينية ومشتركة بين القوى الأجنبية الفاعلة، تبدأ بالدولي ثم بالإقليمي، ثم بالمحلي وإما عبر عمليات عسكرية محدودة في كل من تلك المناطق تنتهي بالتفاهمات وفق الواقع الجديد الذي سترسمه على الأرض. لكن تعدد اللاعبين الدوليين والإقليميين المؤثرين وخطر توسع الأعمال العسكرية، إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تلقيها جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي، ستشكل أيضًا عنصرًا ضاغطًا باتجاه ضرورة حسم الوضع السوري عن طريق خيار التفاهمات الدولية والإقليمية والتي قد تشمل بشكل أوسع وضع الإقليم، ولا سيما في لبنان والعراق، والتحدي أمام تركيا سيكمن في قدرتها على فك الترابط بين الملفين السوري والليبي في علاقاتها مع روسيا.

كل ما ذُكر أعلاه يضع الشعب السوري أمام واجبات وتحديات تقتضي الانتباه، ولا سيما في ظل حالة الإنهاك الدولي الحالية، التي قد تستغلها بعض الأطراف لفرض حلول تتجاوز القرارات الدولية، لتأخذ العملية السياسية إلى مسارات بعيدة عن الرعاية الأممية وقراراتها، لرسم وفرض حلّ يستجيب لمصالحها على حساب مصالحنا الوطنية. وهناك خطر أن يسعى طرفٌ ما لإفشال العملية السياسية الحالية، وإعلان وفاة ما اتخذ سابقًا من قرارات أممية بخصوص سورية، لا سيما القرار 2254، ومن ثم الدعوة لمداولات جديدة في مجلس الأمن تخرج بقرار مختلف المضمون، بسقف وشروط أدنى مما سبق من قرارات، وبما يستجيب لمصالح تلك الدول، ويكون مُجحفًا بحق الشعب السوري.  

ومن المهم جدًا للسوريين كافة المحافظةُ على قرار مجلس الأمن رقم 2254 وكل ما نتج عنه حتى الآن (على ضحالته) لأنه يحدد إطار الحل السياسي الذي يحافظ على سيادة سورية واستقلالها ووحدتها وسلامتها الإقليمية، كما يضمن وجود مرجعية أممية دولية تمنع انتقال مفاصل الحل إلى طرف واحد، يُملي شروطه على الشعب السوري وفق ما يتوافق مع مصالحه، إضافة إلى أنه “يكرر التأكيد على أنه ما من حل دائم للأزمة الراهنة في سورية إلا من خلال عملية سياسية جامعة بقيادة سورية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، بهدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف المؤرخ في 30/06/2012، الذي أيده القرار 2118“، كما وضع خارطة طريق لعملية سياسية واضحة المعالم وفترة انتقالية مدتها 18 شهرًا، ولا يمكن إبقاء هذا القرار حيًا إلا من خلال إبقاء العملية السياسية بمكوناتها وما أنتجته حتى الآن حيّةً، هناك من يسعى لتفكيك قوى الثورة والمعارضة السورية وكيانها التفاوضي الناتج عن هذا القرار الأممي، ليقول: “لا وجود لطرفين كي يتفاوضوا على تنفيذ القرار، ولا على إجراء أي عملية سياسية سورية – سورية”، وأوّل من سعى -وما زال يسعى- لذلك النظامُ الحالي في دمشق، إضافة إلى الأطراف التي لا ترى للسوريين دورًا في صياغة مستقبلهم، ولا ترى إلا مصالح دولها الخاصة، وترى أنها الأحق برسم مستقبل سورية وتحديد مصيرها.

لم يعُد خافيًا على أحد أن النظام في دمشق بات مفككًا وفاقدًا لقدرته على المحافظة على سيادة سورية واستقلالها ووحدتها وسلامتها الإقليمية، وعاجزًا عن تأمين الموارد الكافية لتمويل الخدمات الأساسية للشعب واحتياجاته المعيشية بالحدود الدنيا، فالجميع يلحظ استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية عامًا بعد عام، والجميع يعلم فداحة الثمن الذي يدفعه الشعب، نتيجة انجرار النظام خلف سياسات النظام الإيراني الساعي لتوسيع نفوذه وهيمنته على المنطقة، والجميع يعلم أن روسيا ليست مؤسسة خيرية تقدّم خدماتها من أجل فرد دون مقابل، وليست مستعدة لتبنّي مصاريف الدولة السورية ولا إعاشة شعبها، الحقيقة أن النظام فقد استقلالية قراره، وفقد حتى القدرة على تقرير مصيره، فهذا القرار بات بيد من يقوم بتمويل ودعم بقائه.

على الصعيد الوطني، لا يوجد مخرج يحافظ فيه الشعب السوري على سيادة سورية واستقلالها ووحدتها وسلامتها الإقليمية، ويضمن له الانتقال السياسي المنظم، إلا عبر التنفيذ الكامل والصارم لقرار مجلس الأمن رقم 2254، فهو القرار الأممي الذي توافقت عليه كل الدول ذات العلاقة بالوضع السوري، كما حاز على التأييد الدولي وفق الظروف حين إصداره. علينا أن نعي أن الظروف تتبدل وموازين القوى تتبدل، وباتت القوى الدولية والإقليمية موجودة على الأراضي السورية بشكل مباشر، لا عبر وكلاء محليين فقط كما كانت عليه الحال. لا بد لنا -السوريين- أن نعزز شراكاتنا مع الدول التي تتلاقى مصالحنا الوطنية مع مصالحها بالحد الأقصى، ويجب علينا أن نسعى بأقصى جهودنا لأن ندعم مطالب الشعب السوري، وأن نُحيّد الملف السوري عن الملفات الخلافية بين الدول، ونجعله في المنطقة الرمادية التي يتلاقوا فيها، كما يجب أن نضمن المصالح الوطنية لدول الإقليم، بما يتلاقى مع مصالحنا الوطنية، وأن نزيل مخاوفها الأمنية ونقدم الضمانات في سبيل ذلك، وننسج أفضل العلاقات معها، ويجب ألا نهمش الدور العربي، فهو محيطنا الطبيعي، وعلينا العمل على تعزيزه وضمان مصالحه التي تتلاقى مع مصالحنا الوطنية والعمل على بناء الجسور لا على تعميق الهوة، علينا أن نطمئنهم بأن مصالحهم الوطنية هي في أمان وضمن رؤيتنا وتوجهاتنا، وفق ما نعتقد أن تكون مكانة مصالحنا الوطنية لديهم، فكما أننا لا نقبل تهميش مصالح أشقائنا العرب وشركائنا في الإقليم وشركائنا الدوليين، لا نقبل أيضًا أن تهمِّش أي دولةٍ المصالحَ الوطنية للشعب السوري التي ضحى من أجلها بأغلى ما لديه.

بانتهاء مرحلة تثبيت النفوذ وإعلان اتفاق وقف إطلاق النار الشامل والدائم، ستبدأ العملية السياسية بالتحرك الجاد والمتسارع، ونظرًا لتعدد القوى الأجنبية في سورية، والتضارب في مصالحها بالقسم الأكبر منها، ونظرًا لمستويات المخاطر المرتفعة لوجودها في رقعة جغرافية صغيرة، وتعقيد تشابكات مصالحها مع من تدعمهم محليًا، هذه التعقيدات والمخاطر ستخلق ظروفًا تفرض سرعة إتمام العملية السياسية، ومن ثم الانسحاب المتزامن للقوات الأجنبية خارج سورية، وغالبًا أن يعهد بدور لأحدها مع وجود أممي لتكون القوة الضامنة لتنفيذ ذلك الاتفاق برعاية وشروط أممية.

* “قانون قيصر” لا يمثل الوصفة السحرية

بعد أن شهدت السويداء ودرعا وبعض البلدات والمدن الخاضعة لسيطرة قوات الأسد أخيرًا، احتجاجات شعبية سلمية. أسألكم: هل من مؤشرات على إمكانية أن ينتفض السوريون مرة ثانية في كامل مناطق سيطرة النظام؟

وفق الظروف الصعبة التي يعيشها السوريون في الداخل والمعطيات الحالية؛ أستطيع القول نعم. وبدايات ذلك شاهدناها في السويداء وفي درعا، السؤال الأصحّ ليس هو “هل سينتفضون أم لا”، بل متى سينتفضون؟ وما هي العوامل التي ستدفعهم إلى ذلك؟ لقد عادت سورية من حيث بدأت في 2011، كان المتظاهرون في الجنوب يهتفون بشعارات مناهضة للنظام، “الله.. سورية.. حرية وبس”، الآن في 2020 عادوا إليها، لا يزال معظم السوريين يشكون من الاستبداد والفقر والفساد وعدم المساواة الاجتماعية. إن المظالم التي أشعلت الثورة أصبحت أكثر وضوحًا اليوم، وخلقت انقسامات أفقية وشاقولية في بنية النظام، وفق عوامل عديدة، على سبيل المثال، هناك انقسام بين من يوالي إيران، ومن يوالي روسيا، ضمن النظام، حتى على صعيد المؤسسات نفسها، ونظرًا لشح الموارد التي لم تعُد كافية لتقسم على أعضاء شبكة الفساد وتشبع جشعهم، بات هناك صراع حقيقي بينهم على ما تبقى من عقود ومناقصات وصفقات. لكن في ظل تلك الانقسامات هناك عنصران أساسيان باتا يوحّدان غالبية الشعب: أولهما المعاناة المعيشية، وثانيهما الرغبة في الخلاص، وعلى الرغم من اختلاف نسب المعاناة وظروفها، لم يبقَ مواطن سوري لا يعاني، ومعظم الأسر السورية دفعت أثمانًا باهظة، بفقدان حياة أفراد منها، أو اعتقال أحدهم، أو تغييب بعضهم قسريًا، أو إصابة بعضهم بإعاقة جسدية، عدا من هُجّروا أو نزحوا منهم أو من اضطروا إلى اللجوء. هذا الثمن الباهظ، مع جلف الحياة داخل سورية، خلقَ حالة ثورة مكتُومة بداخل كل مواطن، ورغبة دفينة في الخلاص السريع والانتقال إلى سورية المستقبل التي يستحقونها، كل هذه العوامل مجتمعة مثل حالة البركان الذي يزداد غليانًا ويقترب كل يوم من لحظة انفجار وثوران بركاني جامع.

 برأيكم، كيف لـ “قانون قيصر” وقد دخل حيز التنفيذ، أن يرفع المعاناة عن الشعب السوري، ويعيد حقوقه الضائعة وأمواله التي نهبتها العصابة الأسدية في العقود الخمسة الماضية؟

“قانون قيصر” يشكل إضافة نوعية إلى نظام العقوبات الاقتصادية الموجود منذ سنوات، لكنه يزيد من صرامتها، ويعطي فسحة للجهاز التنفيذي في الحكومات التي تفرضها ليجعل العقوبات أكثر دقة، وتستهدف كل من له علاقة بدعم نظام الاستبداد وحكومته وأجهزته، أي كل من له دور في تمويل ودعم عمليات القمع وجرائم الحرب والعمليات العسكرية، أو كل من يساهم في الالتفاف على نظام العقوبات ومنها “قانون قيصر”، سواء أكان سوريًا أم أجنبيًا، أفرادًا أو شركات، كما يزيد القيود على مسؤولي تلك الدول وجهاتها الحكومية ليمنعها عن أي تعامل مع النظام، كما يتيح للضحايا وأسرهم رفع القضايا القانونية على تلك الجهات في المحاكم الفدرالية في الولايات المتحدة الأميركية. وعلى ذلك؛ فهو يضيف عنصرًا ضاغطًا على النظام للتحرك إيجابيًا نحو حل سياسي يؤدي إلى تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات العلاقة. ولكنه بحد ذاته لا يمثل الوصفة السحرية، وإنما هو إجراء من سلسلة إجراءات متنوعة ستؤدي بمجموعها إلى تحقيق ذلك.

ما تقديركم للآثار الجانبية لتطبيق “قانون قيصر” على السوريين في الداخل؟ وكيف يمكن حماية المدنيين فعليًا من آثار الحصار الاقتصادي الخانق وتدهور الليرة السورية؟

القانون يستثني كلّ المواد الغذائية والطبية وكل المساعدات الإغاثية والإنسانية، بل إن من شروطه على النظام، للتخفيف من العقوبات أو تعليق جزء منها لفترة لا تتجاوز 180 يومًا، أن يقوم بتسهيل مرور ووصول المعونات الإغاثية والإنسانية لمن يحتاج إليها داخل سورية، ووقف القصف الجوي للمؤسسات الطبية والعامة والمدنيين ووقف العنف، وإطلاق سراح المعتقلين ومعرفة مصير المغيبين قسريًا، من ضمن شروط أخرى. القانون يستهدف الشركات والأفراد الذين يساهمون في تمويل عمليات العنف وجرائم الحرب. إن المعاناة الاقتصادية الحالية لم تنتج بسبب “قانون قيصر”، كما ذكرت سابقًا. إن أهمّ مسببات الانهيار الاقتصادي هو سيطرة دائرة الفساد على مفاصل ما تبقّى من الاقتصاد الوطني، وشح موارد الدولة بل انعدامها في كثير من المجالات، والسبب الرئيس هو استمرار المغامرات العسكرية للنظام التي تستهلك القسم الأكبر من الموارد الشحيحة. بالتأكيد، يوجد بعض الآثار الجانبية، وتتمثل في غالبيتها بتعقيد الإجراءات المصرفية وعمليات الاستيراد والتصدير، ولكن يمكن تجاوزها، إذا تمّت ضمن الأنشطة المسموح بها، ووفق الإجراءات المعلنة للتقدم بطلبات السماح بشكل منظم، وقبل فترة زمنية من الحاجة لهذه العمليات. وإن دور المعارضة ومنظمات المجتمع المدني أن تتابع الأوضاع المعيشية والإنسانية داخل سورية، وتتأكد من عدم تأثر المواد الغذائية والطبية والاحتياجات المعيشية الأساسية بسبب هذا القانون، وذلك عبر تقارير شهرية ترسلها إلى الأمم المتحدة والجهات ذات العلاقة في الدول التي تفرض نظام العقوبات. لكن الواقع هو أن المعاناة الحالية ليست بسبب تلك العقوبات.

* شرعية البقاء الروسي في سورية من شرعية بقاء الأسد

كيف تقيّمون أداء القوى السياسية المتنوعة في الثورة؟ تحديدًا، “الائتلاف الوطني”، “المجلس الوطني”، “المنبر الديمقراطي السوري”، “حزب الشعب”، “الناصريين”، “هيئة التنسيق الوطنية”، المثقفين المستقلين، و”الفصائل الجهادية”؟

سؤالك يخلط بين السياسي والعسكري الجهادي، ويضعهم على نسق واحد، وهذا غير منطقي، ولا يوجد ما يجمعهم، لا بالتصنيف ولا بالاختصاص، علينا ألا نضيع البوصلة، وألا ننسى تاريخ الثورة ومسبباتها الجذرية. الثورة لم تقم في سورية لأسباب دينية ولا طائفية ولا عقائدية، كما أنها ليست صراعًا بين حزبين سياسيين على السلطة، إنها ثورة شعب ضد نظام حكم دكتاتوري استبدادي، إنها ثورة شعب يريد استرداد حقوقه الإنسانية والدستورية والقانونية المسلوبة منه. ولا أعتقد أن أيًا من التنظيمات والأحزاب والهيئات والشخصيات السياسية التي ذكرتها لديها أي علاقة بانطلاقة العمل العسكري الجهادي أو التنظيمات المتطرفة التي أسس لها واستورد قسمًا منها النظام وهيّأ البيئة المناسبة لوجودها واستخدمها لمصالحه إلى يومنا هذا. كما لا يمكن تصنيف القوى السياسية التي ذكرتها على أساس أو معيار موحد، فمنهم ما هو ائتلاف قوى وشخصيات سياسية ومجتمعية وحراك ثوري من تيارات أيديولوجية مختلفة، من اليمين إلى الوسط واليسار، أي أنها ليست حزبًا سياسيًا واحدًا، مثل “المجلس الوطني” الذي انتهى باستمرار جزء منه في “الائتلاف الوطني”، الذي تجمع أعضاءَه -على اختلاف توجهاتهم- وثيقةٌ سياسيةٌ ائتلفوا بوفقها، تلتزم بتحقيق الانتقال السياسي الجذري والشامل، وقواه موزعة ما بين الداخل والخارج.

أما “هيئة التنسيق الوطنية” فهي أيضًا تجمّعٌ وتحالف سياسي من أحزاب عدة وقوًى وشخصيات سياسية تعمل على التنسيق فيما بينها على أسس تؤمن بالانتقال السياسي الجذري والشامل، ولكنها ليست على عقيدة سياسية واحدة، وغالبية أعضائها في الداخل، ويخضعون للتهديد المباشر من قوى القمع والاستبداد.

“المنبر الديمقراطي” هو حالة شبيهة، لكن ثقله في بداياته كان بانضمام عدد كبير من الشخصيات السياسية المستقلة إليه ومجموعة من أفضل شباب الحراك الثوري وشكّلوا نواة تأسيسه، ولكونه لم يكن يمتلك الإمكانات الكافية لمأسسة عمله، لم يستطع أن ينمو إلى تيار سياسي له وزن شعبيًا، أو مؤثر على الفعل السياسي، وقد أدى ذلك إلى انسحاب العديد من الشخصيات السياسية المستقلة ومن شباب الحراك الثوري منه.

أما “حزب الشعب”، فهو حزب سياسي كان موجودًا في سورية منذ ما قبل الثورة وما زال، وله تاريخه السياسي وأيديولوجية معروفة، وانضم إلى الثورة ومؤسساتها منذ بداياتها، وما زالت له جذور في سورية. وكذلك “الناصريين” في حزبهم (الاتحاد الاشتراكي) وغيرهم. لكن علينا أن نرى الواقع السوري بتجرد، فنحن نعاني، منذ أكثر من نصف قرن، انعدام الحياة السياسية الطبيعية، ولم يكن هناك نشاط سياسي واسع وشعبي ضمن أجواء نظام ديمقراطي، لم يُسمح بولادة أحزاب سياسية جديدة أو نمو الموجودة، فكلها عانت القمع، وبالتالي؛ لا وجود لأحزاب سياسية معارضة ذات عضوية كبيرة (عشرات الآلاف) في سورية، وما أنشأه النظام منها أو سمح بتأسيسه ما بعد الثورة، يعمل بظله وتحت رقابته، وبعضها تحت إدارته.

أعتقد أن كل القوى السياسية التي ذكرتها، من أحزاب وتيارات وشخصيات، قد أعطت للثورة وفق رؤيتها لها، وبالسبل التي وجدتها الأنسب لتحقيق الانتقال السياسي، جميعها آمنت بوجوبه، ولكنها اختلفت بينها في سبل تحقيق ذلك. لستُ في موقع انتقاد أو تقييم عمل الآخرين، فلكل منهم ظروفه، وثمة أطرٌ حدت من عطائه، أما بالنسبة إلى الائتلاف الذي أنتمي إليه، فهو يتحمل مسؤوليات أكبر، وهو مؤتمن على تحقيق تطلعات الشعب السوري، وقد منحَه المجتمع الدولي اعترافًا بشرعية هذا التمثيل، وهو -من هذا المنطلق- يحمل مسؤوليات كبيرة، ولكنه أيضًا يخوض معترك العمل السياسي، إقليميًا ودوليًا، لتمثيل الشعب وتطلعاته، وكونه يعمل فهو يخطئ ويصيب، وهناك كثير من الأخطاء التي ينبغي تصويبها، وعملية الإصلاح باتت مستحقة. المهم أنني أعلم أن قيادة الائتلاف تعي ذلك تمامًا، وستعمل على تحقيقه، ويجب على الائتلاف أن يكون العنصر الجامع والداعم للقوى السورية، من نقابات ومنظمات وأحزاب وجاليات، وبالطبع لا ينبغي له السعي لإلغاء دورها أو تهميشها، بل على العكس عليه تشجيعها ودفعها إلى تقوية إمكاناتها ودفع عملها قدمًا، والاستفادة من مقدراتها. علينا أن نتعلم ونؤمن بأنه لا يمكن لتنظيم واحد منفردًا أن يتحمل أعباء الثورة، ولا القيام بما تقتضيه من مهام وواجبات، لكن ذلك يتحقق فقط بالاتفاق على الرؤية والأهداف ومبادئ العمل والخطة، وبالتنسيق في توزيع المهام والأعباء، كل في مجاله بين هذه القوى، ومن ثم يتحقق تكامل الجهود وتنفيذ الخطة وتحقيق الأهداف، علينا أن نتعامل مع الواقع، ونحوّل كل شخص أو مؤسسة أو منظمة إلى ينبوع، ليكون لدينا مئات وآلاف الينابيع المتنوعة، ولكنها جميعًا تصب في مجرى سيل واحد، لتصبح سيلًا جارفًا قادرًا على الإنجاز. كما أن على الائتلاف أن يمارس صلاحيات تمثيله لتطلعات الشعب وأهدافه، ويقف في وجه كل من يستغل الثورة، بأي شكل كان، ويتسبب في الفوضى والفساد داخل سورية، ولا سيما في المناطق التي تخضع لإدارة مؤسسات الثورة، يجب أن يعمل الائتلاف بجد وجهد ليخلق البيئة المناسبة والآمنة للقوى المدنية لتنمو وترقى بمناطقها، وتصبح مثالًا يحتذى. لكن أتأمل أن يتفهّم أهلنا أن الائتلاف، لكونه الممثل الشرعي، يتعرض لضغوط وتحديات ومواجهات لا تصادفها المؤسسات الأخرى، والائتلاف لا يملك موارد مالية ذاتية، ولا يتلقى معونات مالية كبيرة، وإنما بالحدود الدنيا التي تلزم مصاريفه المباشرة، ووفق نظام مالي خاضع للتدقيق من داخله ومن المانح. وأؤكد أن الائتلاف واجه تحديات كبيرة بخصوص استقلالية القرار السوري، واستطاع أن يحافظ عليها حتى يومنا هذا. ولهذا السبب، ولكي تُضرب شرعية تمثيله، فهو مستهدف بشكل دائم بحملات إعلامية مدفوعة من قبل جهات عدة. ومع الأسف، ينخرط بعض الناشطين في هذه الحملات، عن حسن نية، أرجو أن يكون أهلنا واعين لذلك، وألا يساهموا في إضعافه، بل أن يكونوا دافعًا لتصويب عمله وداعمين لعمليات الإصلاح فيه ولاستقلالية قراره، فهم من يقويه، وهم من يضعفه، ولن تمنح الفرصة لتشكيل أي جسم بديل يُمنح درجة الاعتراف ذاتها، إذا تم تحطيمه.

كيف يمكن للمعارضة السورية اليوم صياغة إستراتيجية لمواجهة تناقص الدعم الدولي للثورة، في الآونة الأخيرة؟

أولًا: يجب أن تكون رؤيتنا ورسالتنا وأهدافنا واضحةً للرأي العام السوري والإقليمي والعربي والدولي، وأن تترجم قيمها قولًا وفعلًا، ثانيًا: تحسين أداء مؤسسات الثورة والمعارضة وتنسيق عملها وتعزيز استقلاليتها ومواقعها داخل سورية، وخلق موارد ذاتية لتمويل عملها؛ ثالثًا: استثمار كل الطاقات السورية والكفاءات خارج سورية وداخلها، لتنسيق جهودها والتكامل بعملها ورفد قوى الثورة والمعارضة بما يلزم من كفاءات؛ رابعًا: كما ذكرت سابقًا، تعزيز شراكاتنا مع الدول التي تتلاقى مصالحنا الوطنية مع مصالحها بالحد الأقصى؛ خامسًا: السعي بأقصى جهد لتحييد الملف السوري عن الملفات الخلافية بين الدول، وجعله في المنطقة الرمادية التي يتلاقوا فيها؛ سادسًا: يجب أن نضمن المصالح الوطنية لدول الإقليم، بما يتلاقى مع مصالحنا الوطنية وأن نزيل مخاوفها الأمنية ونقدم الضمانات في سبيل ذلك، وننسج أفضل العلاقات معها؛ سابعًا: يجب ألا نهمش الدور العربي فهو محيطنا الطبيعي، وعلينا العمل على تعزيزه وضمان مصالحه التي تتلاقى مع مصالحنا الوطنية والعمل على بناء الجسور لا على تعميق الهوة، علينا أن نطمئنهم بأن مصالحهم الوطنية هي في أمان وضمن رؤيتنا وتوجهاتنا، كما نعتقد أن تكون مكانة مصالحنا الوطنية لديهم. علينا أن نكون واضحين بأننا كما لا نقبل تهميش مصالح أشقائنا العرب وشركائنا في الإقليم وشركاؤنا الدوليين، لا نقبل أن تهمّش أي دولة المصالحَ الوطنية للشعب السوري التي ضحى من أجلها بأغلى ما لديه.

يلوح في الأفق أن الإعلام الروسي كأنه يمهّد لتغيير بشار الأسد من خلال التشكيك بقدرته على الاستمرار في قيادة سورية، وأن الروس أخذوا يستغلون أي مناسبة للتأكيد بأنه لولا تدخلهم منذ عام 2015 لكان النظام قد سقط، ماذا يعني ذلك؟

تستخدم الدول أسلوب الرسائل غير المباشرة، عبر الوسائل الإعلامية غير الرسمية، لتحقيق أهداف عدة، وبوسائل لا ترتب عليها التزامات، ولا تصدر مواقف رسمية عنها، كي يسهل نفيها. لفهم تلك الرسائل وغاياتها يجب قراءة تزامنها مع ما يجري من أحداث داخل سورية، مع صدورها وفي المرحلة السابقة له، كما يجب معرفة الجهات المالكة لهذه الوسائل الإعلامية أو صاحبة النفوذ عليها، وتحديد الجهة المستهدفة بهذه الرسائل، ومن ثم يجب مراجعة ما يجري أو سيجري من استحقاقات إقليمية ودولية بالتاريخ القريب بعد إصدارها. كل ذلك يُبقي ما نتوصل إليه تحليلًا، يجب ألا ينسينا الواقع والحقائق التالية: الحقيقة الأولى أن الوجود الروسي المباشر في سورية يستمد شرعيته من شرعية النظام الذي دعاه إلى أراضي سورية، ومنحه السيادة على الأجواء والأراضي السورية، بموجب اتفاق رسمي، ومن هنا فإن أي انتزاع لشرعية النظام هو انتزاع لشرعية ذلك الوجود، ولذلك لا يمكن لروسيا أن تكون عنصرًا داعمًا لنزع شرعية النظام، وإن قبلت فلن تقبل إلا بعملية انتقال سياسي شرعي “شكلًا” ومنظم، وعبر آليات قانونية تضمن استمرار ما تم توقيعه من اتفاقات وتفاهمات بين النظام (الحكومة) وبينها، ولذلك سمعنا بعد هذه الحملة مباشرة تصريحات رسمية داعمة للنظام؛ الحقيقة الثانية أن روسيا ليست جمعية خيرية جاءت إلى سورية وقبلت بالتدخل ودعم النظام وإبقائه من أجل مصالحه، وإنما لمصالحها الوطنية؛ الحقيقة الثالثة أن روسيا ليست بيتًا من بيوت التمويل الدولية بموارد مالية تخاطر بها لتنفق على بقاء النظام وتمويل مؤسسات الدولة لسدّ الاحتياجات والخدمات الأساسية اللازمة لمعيشة الشعب من غذاء ودواء وغيره، فضلًا عن تمويل العمليات العسكرية لأجل غير مُسمى أو حتى مُسمى، مع سابق علمها أنّ هذه الدولة قد أفلست، ولن تستطيع سداد أي قروض لعشرات السنوات القادمة؛ الحقيقة الرابعة أن روسيا تسعى للوصول بسورية إلى حالة استقرار نسبية، تسمح بتخفيف القيود والعقوبات الدولية والإقليمية والعربية عنها، ويسهل ذلك مساعيها لإعادة تدوير النظام لتخفيف الضغوط الاقتصادية والسياسية عليه، كي يتمكن من سد قسط من احتياجات الشعب والدولة ويمنع انهياره، وغرق روسيا في المستنقع السوري -وفق وصف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما– وهذا يقتضي تغيير سلوك النظام وعلاقاته مع إيران، كما يقتضي الانخراط “الشكلي” في العملية السياسية، وهو حتى اللحظة لم يتفاعل إيجابيًا مع هذين المطلبين، وهذا يتجلى بوضوح من خلال توقيعه اتفاقية التعاون العسكري الأخيرة مع إيران؛ الحقيقة الخامسة ترتبت على روسيا التزامات في اجتماع هلسنكي 16 تموز/ يوليو 2018، بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين،ولاحقًا في الاجتماع الثلاثي لمستشاري الأمن القومي الروسي والأميركي والإسرائيلي، بخصوص سحب القوات الإيرانية بعيدًا عن حدود الجولان المحتل، وهي حتى اللحظة لم تتمكن من تحقيق ذلك بسبب تعنت النظام.

من يحلّل أهداف تلك التصريحات، وفق المنهجية أعلاه، سيتوصل إلى أن الغاية الرئيسة هي تعديل سلوك النظام ودفعه إلى تنفيذ تعهداته وتعديل سياساته التي لا تخدم ما ذكر من أهداف أعلاه، فقد تزامنت الحملة مع ما يسمى “الحملة على الفساد”، وغايتها الرئيسة دفع النظام إلى إيجاد موارد لتمويل احتياجات الدولة، ودفع تكاليف المغامرات العسكرية، بأي شكل كان، وإن اقتضى المجابهة بين إخوة الدم. وهذه نقطة تسجل لصالح روسيا على حساب النظام، بما يتوافق مع مصالحها، لكنها فشلت على صعيد تغيير سياسات النظام تجاه إيران. وفي تغيير السياسات الإيرانية نفسها بخصوص وجودها في سورية، وما زال سلوك النظام غير متوافق مع المصالح الروسية وعصيًا عليها. وسيدفعها ذلك إلى اتخاذ خطوات إضافية، ولكن في إطار الحقائق المذكورة أعلاه، فضلًا عن كون هذه الحملة قد أرسلت رسائل غير مباشرة إلى الولايات المتحدة وحلفائها، بإمكانية فتح النقاش بخصوص مستقبل رأس النظام.

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى