ثقافة وفكر

الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان/حازم صاغية


(1)

قبل موسى الصدر لم يكن هناك فاعل سياسيّ اسمه “الطائفة” الشيعيّة. كان هناك زعماء شيعيّو المذهب، ما يقسّمهم أكثر كثيراً ممّا يوحّدهم. انقسامهم الأكبر كان بين شيعة الجنوب وشيعة البقاع الذين تتحكّم “العشيرة” بتنظيمهم الاجتماعيّ، ومعهم طيور ثلاثة تغرّد خارج السربين: في بيروت وجبيل والضاحية الجنوبيّة من العاصمة.

في 1960، مع قيام العهد الشهابيّ، انتُخب الزعيم الجنوبيّ الأبرز أحمد الأسعد نائباً عن بنت جبيل، فيما رسب نجله كامل في قضاء مرجعيون. كذلك انتُخب زعيم بارز آخر هو يوسف الزين عن النبطيّة، ونائبان من آل عسيران هما عادل في الزهراني، وسميح في النبطيّة. ما أوحى به نجاح عسيرانيَّين اثنين من دورٍ للعائلات، بدّده حدث آخر أبلغ دلالةً على تصدّع تلك العائلات: فحين توفّي يوسف الزين في 1962، تنافس على مقعده نجلاه الأخوان عبد اللطيف وعزّت، وفاز الأوّل. قبل عام واحد، في 1961، توفّي أحمد الأسعد فحلّ في مقعده الشاغر نجله كامل. بعد ذاك، ولسنوات طويلة، بقي أسعد الأسعد، قريب كامل وصهره، ينافسه على مقعده النيابيّ في مرجعيون. أمّا معارك كامل اللاحقة لتسنّم رئاسة المجلس النيابيّ فكانت المنافسة فيها مع صهره الآخر، الزعيم البقاعيّ صبري حمادة.

العائلات السياسيّة في الجنوب كانت قد وصلت إلى العام 1960 وهي مقطوعة الأنفاس. فمنذ 1952، تعرّضت أعرق تلك العائلات، آل الأسعد، لنزاع حول الزعامة بين أحمد وأبناء عمّه محمود خليل الأسعد، تأدّى عنه سقوط قتلى وجرحى. في النصف الثاني من الخمسينات، أُنهك أحمد الأسعد جرّاء معارضته للعهد الشمعونيّ الذي أسقطه، عام 1957، في صور. بعد ثلاث رئاسات للمجلس في أوائل الخمسينات، حلّ عادل عسيران محلّه في هذا المنصب.

العهد الشهابيّ الجديد التقط تلك البيوت بتخبّطها وبالقليل المتبقّي من تماسكها. حيّز التعايش بدا عريضاً ومستقرّاً. وحدهم آل الخليل، من بين العائلات السياسيّة الأساسيّة، لم يجدوا مكاناً لهم في الوضع الجديد. ووحده زعيمهم كاظم الخليل رسب في صور عام 1960، وظلّ يرسب حتّى 1972. أمره بدا للكثيرين عقاباً على شمعونيّته التي كافحها العهد الجديد بكلّ ما أوتي من عزم. كاظم، الزعيم الساحليّ مثله مثل عادل عسيران، كان قد استعار من الزعيم الجبليّ أحمد الأسعد جمود الجبال وأعطاه سيولة الشواطىء.

بدوره فإنّ نفوذ الزعامة الأسعديّة كان قد تراجع لأسباب شتّى. ففضلاً عن تفتّت الملكيّات الزراعيّة الكبرى، الذي عصف بها وبمثيلاتها، كفّ الجنوب عن أن يكون دائرة انتخابيّة واحدة كما كان في الأربعينات. وبعد كلّ حساب، فشيعة الجنوب، على عكس سنّة الشمال الذين يدورون حول المحور الطرابلسيّ، يتوزّعون على محاور ثلاثة هي صور والنبطيّة وبنت جبيل. ولئن كانت صور الأولى فإنّها أولى بين متساوين.

هكذا فإنّ رسوب أحمد في صور عام 1957 لم يحصل فقط لأنّ العهد الشمعونيّ زوّر الانتخابات، وهو ما فعله بالطبع، بل أيضاً بسبب تفرّع الزعامات وتمثيل كلّ منها لعصبيّة مناطقيّة ناشئة. بالمعنى نفسه، رسب نجله كامل عام 1960، من دون أيّ تدخّل رسميّ ضدّه. فحين فاز في انتخابات 1964 ثلاثة أخوة من آل الزين، هم عبد اللطيف عن النبطيّة وعبد الكريم عن الزهراني وعبد المجيد عن بيروت، بدت الدلالة السياسيّة – العائليّة للحدث هذا ضامرة وطفيفة. لقد بدا الحدث المذكور أقرب إلى المزاح والأحاجي أو الأسئلة التلفزيونيّة التي تُسأل لـ “المتفوّقين”.

إلى تفتّت الزعامة الجنوبيّة الذي يريح السلطة المركزيّة ويطمئنها، امتلكت كلّ واحدة من الزعامات “المقبولة” ما يعزّز مقبوليّتها: زعامة أحمد وجدت ما يؤصّلها في “الهويّة العامليّة”، أقلّه منذ ناصيف النصّار في القرن الثامن عشر. عبد اللطيف، والد أحمد، توفّي وهو “وطنيّ”، أي على خصومة مع الفرنسيّين. أحمد الشابّ كان مناهضاً لهم. نزاعه مع شمعون حمله في 1959 على التوجّه إلى دمشق على رأس أضخم الوفود اللبنانيّة للترحيب بجمال عبد الناصر. نجله المحامي كامل، الذي درس في “الحكمة” ثمّ في باريس، أوحى أنّه سيجدّد الزعامة القديمة.

عادل عسيران الذي انتُقد على شمعونيّته، لم يكن متطرّفاً ككاظم الخليل. كان شمعونيّاً معتدلاً لم تحل صفته هذه دون أوصاف أخرى أسبق منها: مناضل ضدّ الفرنسيّين الذين اعتقلوه في 1936، ثمّ واحد من مساجين الاستقلال في راشيّا. في المقابل، فـ “العمالة للفرنسيّين” التي أخذها البعض على يوسف الزين لا تثير أيّ استياء عند الضابط ذي النشأة والتكوين الفرنسيّين، فؤاد شهاب، خصوصاً أنّ علاقة الزين بمسيحيّي الجنوب كانت وبقيت ممتازة. لقد اعتبروه أحد حُماتهم القليلين في أيّام ضائقتهم. كاظم الخليل بقي وحده خروفاً أسود. لقد بدا مستفزّاً لصُوِريّين كثيرين أحرقوا بيته إبّان “ثورة 58″، وكان مستفزّاً لشهاب نفسه. هكذا مُثّلت صور في 1960 و1964 و1968 بمحمّد صفيّ الدين وجعفر شرف الدين وسليمان عرب، ثمّ أخيه علي.

زعيم بنت جبيل علي بزّي، الذي لا ينحدر في مراتب الزعامة إلاّ قليلاً عن عادل عسيران وكاظم الخليل، كان صديقاً لفؤاد شهاب، من خلال صداقة الاثنين لتقيّ الدين الصلح. في 1960 دخل البرلمان متحالفاً مع خالد شهاب، قريب رئيس الجمهوريّة.

الأسعديّون كانوا يرفعون صور عبد الناصر نكايةً بشمعون. العسيرانيّون كانوا يرفعون صور الملك حسين نكاية بعبد الناصر. الشهابيّة تستوعب الصورتين. المهمّ ألاّ تُرفع بعد اليوم صورة كميل شمعون.

في البقاع كُرّست زعامة صبري حمادة، رئيس المجلس النيابيّ منذ الاستقلال وإن انقطعت تلك الرئاسة إبّان العهد الشمعونيّ. لقد حظي حمادة بالرعاية الرسميّة لأسباب عدّة بينها النفور المتبادل الذي ربطه بشمعون، تماماً كما عوقب الخليل في صور بسبب الكيمياء التي جمعته بالرئيس السابق وجعلته لاحقاً نائباً له في حزبه “حزب الوطنيّين الأحرار”.

صبري الذي درس في صباه في عينطورة، عُرف بدماثة تدوّر الزوايا وتنأى بنفسها عن الاستفزاز. عائلته اتُّهمت بالتعاون مع الفرنسيّين، وأحياناً ضدّ باقي العشائر. هذا ما نظّم خصومته لشمعون وأدرجها في نطاق لبنانيّ. أهمّ من ذلك أنّه ليس سليل الجبّ الأهمّ في عشيرته، التي هي أصلاً صغيرة قياساً بعشائر شمص وعلّوه وناصر الدين ودندش وجعفر. والده سعدون كان قبضاياً، وكسياسيّ ناجح وابن قبضاي اقترن بابنة أحمد الأسعد. إنّه، لا بدّ، مكسب لأيّ عهد.

لكنّ البقاع، تلك المنطقة الحدوديّة التي تقطنها كتل عشائريّة كبرى، كان أمره أبسط من الجنوب كما كان، في الوقت نفسه، أعقد. أبسط: بمعنى أنّ روابطه الدمويّة تغلّف فوارقه الطبقيّة وتموّهها. فالمالك والفلاّح، وربّ العمل والعامل، قد يكونون من عشيرة واحدة تجمع بينهم القرابة والدم. لكنّه أعقد تبعاً لموقعه الحدوديّ مع سوريّا، فيما كان اتّفاق الهدنة يلغي التبعات السياسيّة التي قد تترتّب جنوبيّاً على مجاورة إسرائيل. هكذا فُرض على زعامة حمادة نوع من الرقابة الوديعة تمثّلت في تحكيم ضبّاط “المكتب الثاني” بأمور تلك المحافظة، كبيرها وصغيرها، وفي تمتين قوّة النائب فضل الله دندش، سليل العشيرة التي تعاطفت مع أنطون سعادة إبّان سعيه لإزالة الحدود بين لبنان وسوريّا. لقد كانت الحكمة الشهابيّة تقول إنّ العشائر، التي ربطتها تقليديّاً علاقة سيّئة بالمركز، هي التي يتولّى “المكتب الثاني” أمرها: عبر الخدمات والتأطير، يصار إلى جذبها من حمص إلى بيروت.

الرئيس بشارة الخوري، الأمير اليمني سيف الإسلام عبدالله، رئيس مجلس النواب صبري حمادة، ورئيس الحكومة سامي الصلح

لخدمة هذا المبدأ، تمّ تفريخ زعامات باتت مرآة للتفتّت البقاعيّ. فوق هذا، شُجّع طامحون كالصحافيّ رياض طه على مقارعة “الإقطاع”. والأهمّ، في هذا التخليط العجائبيّ، إضعاف الزعامة المدينيّة البعلبكيّة ممثّلةً بسليم حيدر وبالكاثوليكيّ حبيب مطران – اللذين أُخذت عليهما، هما أيضاً، شمعونيّتهما – لصالح الريف والعشائر في الهرمل.

بدورهم بقي شيعة جبيل ملحقين بالزعامة المارونيّة لذاك القضاء. هكذا مثّلهم أحمد إسبر بوصفه إدّويّاً، كما مثّلهم علي الحسيني بوصفه دستوريّاً ينتمي إلى خصوم ريمون إدّه الموارنة. الشيء نفسه يصحّ في الضاحية الجنوبيّة التي أُلحقت سياسيّاً بجبل لبنان وبموارنة بعبدا والمتن الجنوبيّ. شيعتها، بسبب التعليم والوظيفة الرسميّة، باتوا يشبهون جيرانهم الموارنة اجتماعيّاً، لكنّهم آثروا ألاّ يشبهوهم سياسيّاً. أكثريّتهم الساحقة كانت تقترع للدستوريّ عبد الكريم فرحات، ومن بعده للدستوريّ ثمّ الشهابيّ – الناصريّ خضر حركة، إلاّ أنّ الفائز المؤكّد كان الشمعونيّ محمود عمّار. لقد وُصف عمّار، بين ما وُصف به، بالمداومة على الصلاة كلّ أحدٍ في الكنيسة.

شيعة بيروت طمحوا، من خلال رشيد بيضون، إلى إنشاء شيعيّة بيروتيّة مستقلّة عن أصولها في الجنوب. في أواخر الثلاثينات، أسّس بيضون “الكلّيّة العامليّة” التي لعبت في تاريخ التعليم الشيعيّ دوراً مماثلاً للّذي لعبته “الكلية الجعفريّة” في صور. أموال التجّار الشيعة ومهاجري المهجر الأفريقيّ رعت هذا المشروع وضمنت دوامه. رشيد بيضون، كي يرسّم حدوده حيال الشيعيّة الجنوبيّة، أنشأ “حزب الطلائع” الذي قابله “حزب النهضة اللبنانيّ” التابع لأحمد الأسعد، والذي ضمّ مهاجرين أحدث هجرةً وأقلّ اندماجاً في نسيج العاصمة. احتكاكات الحزبين لم تخل من عنف أسقط بضعة قتلى وجرحى.

مؤسّس “العامليّة”، الذي جمع بين تمثيل مدينيّ تجاريّ ونفور من الناصريّة وما توصف به من سنّيّة، كان يشبه عادل عسيران في موقعه المتعادل: صلة بشمعون من دون إيغال في الشمعونيّة. هذا رشّحه، من حيث المبدأ، لأن يكون شهابيّاً مقبولاً. وبالفعل فقد تحالف في انتخابات 1960 مع صديق شهاب، تقيّ الدين الصلح. لكنّ صداقة الصلح لشهاب لا تعوّض الأخير ضعفه الشعبيّ الفائق.

في مواجهة لائحة قويّة ضمّت عدنان الحكيم وفريد جبران ومحسن سليم، ودعمها صائب سلام وكمال جنبلاط، فيما صبّت لمصلحتها أصوات الأكثريّات السنّيّة والكرديّة والدرزيّة، رسب بيضون بفارق 600 صوت أمام المحامي الصاعد محسن سليم. بعد أربع سنوات، وكان سليم قد تحوّل إلى أحد أعلى الأصوات في معارضة الشهابيّة، عاد بيضون ليحتلّ مقعده في المجلس النيابيّ.

(2)

وصل موسى الصدر إلى لبنان على دفعات:
قبل وفاته في 1957، كان الإمام عبد الحسين شرف الدين، المرجع الشيعيّ المقيم في مدينة صور، والذي أسّس فيها “الكلّيّة الجعفريّة”، قد اختار قريبه الإمام موسى الصدر للحلول محلّه في مدينته. هكذا عاد رجل الدين الشابّ من إيران، التي انتقل إليها أجداده، إلى مسقط رأس العائلة في جنوب لبنان.
لم يكن الكثير معروفاً عن الوافد الجديد. سلوكه كان كافياً للقطع بعدم انتمائه إلى التقاليد الجذريّة والمتعصّبة التي عُرف بها بعض رجال الدين الشيعة الإيرانيّين. لقد شابهَ تقاليد أخرى لرجال دين آخرين تراوحت آراؤهم بين تجنّب السياسة ونصح الحاكم لما فيه “إصلاح الحكم” و”خير المحكومين”.
وتبعاً لقلّة المعرفة به، راحت الألسنة تتداول أخبار الصدر في صوْر، بالقليل منها الذي يُدينه حتّى الفضائحيّة، والكثير الذي يمدحه حتّى التمجيد. هناك بدأ يبني قاعدة ترافقَ بناؤها مع بناء صورة له، صورةٍ داخلتْها أفعالٌ متسامحة دينيّاً وطائفيّاً، وأخرى هدفها إيواء المتسوّلين والمشرّدين في المدينة، كما شابَتْها مبالغاتٌ، في الإيجاب وفي السلب، تهمّ أن تصير أساطير.
وضع الزعامات الشيعيّة المُزري كان يحضّ الشيعة على التبرّك بهذا العائد إلى أهله نقيّاً مُبرّأً من أفعالهم. والآتون من أمكنة مجهولة وبعيدة غالباً ما يتسلّحون ببُعدهم، فيرتفعون فوق النزاعات، لابسين وجه الحياديّ المتعالي على المتنازعين إبّان “جاهليّةٍ” ما. هذا ما يمنحهم منصّة تحكيم لا يملكها المقيمون المتورّطون في الوضع القائم. ثمّ إنّ الشهابيّة، ببعثة إيرفد واهتمامها بالأطراف والأجواء التنمويّة التي أثارتها، شجّعت على الجديد والعادل والإنجازيّ حتّى لو جاءت من رجل دين.
هكذا بدأت رحلة الصدر الثانية من صور إلى عموم الطائفة، ومنها إلى لبنان. المدينة الساحليّة التي استقرّ فيها ضاقت عليه، وما دام لبنان ينطق بألسنة الطوائف، بات رجل الدين أقرب إلى خبير مُحلّف في هذا العالم الجديد. ذكاؤه ودقّة ملاحظته وقلّة ثوابته الإيديولوجيّة سرّعت استيعابه لتركيبة طائفيّة تمرّدت على استيعاب الكثيرين.
السحر والواقع
لقد لاح الصدر لجمهوره الصوريّ ساحراً، ثمّ وسّعت الأعوام اللاحقة نطاق سحره ورقعة اشتغاله. فإلى غموض المصدر الإيرانيّ، انضاف غموضٌ متعدّد المصادر تأتّى عن لكنته الفارسيّة، وعن خصلة الشعر المُغوية التي تظهر من تحت العمامة، فضلاً عن الهيبة التي يُضفيها طول جسده الملفوف باللون الأسود. لكنّ الساحر، بفعل مهنة السحر نفسها، قد يُعلن ما لا يُضمر، وقد يُظهر ما يُخفي، وهذا ما حرّض الكثيرين على الإمعان في التكهّن بصدد الصدر، حذراً منه أو اطمئناناً إليه.
البيئة السنّيّة لم تتأخّر في إبداء الحذر. لقد تردّد أنّ المفتي حسن خالد مستاء ممّا يتبدّى صحوة شيعيّة يُحدثها الصدر: ذاك أنّ دار الفتوى والمجلس الشرعيّ الإسلاميّ الذي يرأسه المفتي، فيما تقتصر عضويّته على وجوه سنّيّة، إنّما يحتكران سلطة البتّ في الأمور الدينيّة والمذهبيّة للشيعة اللبنانيّين. الاستياء شمل أيضاً السفير المصريّ عبد الحميد غالب، ربّما بسبب إيرانيّة الصدر إبّان احتدام الخلاف بين القاهرة الناصريّة وطهران البهلويّة.
مقابل هذا الموقف الذي يتراوح بين التحفّظ والعداء، فتح المسيحيّون أذرعهم للصدر الذي بادلهم الودّ بالودّ. جريدة “النهار” ساهمت مبكراً في ترويجه. “الندوة اللبنانيّة” راحت تستضيفه كمُحاضر دائم. خصوم الشهابيّة والناصريّة رأوا فيه حليفاً احتياطيّاً لهم قد يُخرج الشيعة من تحت المظلّة السنّيّة التي رأوها موصولةً بمصر. يومذاك كان التنافس المسيحيّ – السنّيّ هو العنوان الأوّل والمعنى الأبرز للطائفيّة. الشيعة كانوا غير محسوبين.
تعزّزت الوجهة هذه مع نهاية العهد الشهابيّ في 1964 وقيام العهد الهجين، شبه الشهابيّ، لشارل حلو. لقد راح الصدر ينتقل تدريجاً إلى صفوف المعارضين المسيحيّين، لا سيّما منهم ريمون إدّه وغسّان تويني. المفارقة كانت أنّ كامل الأسعد، الذي بات لاحقاً خصمه الأوّل والأبرز، كان يسلك طريقاً موازية لطريقه: في 1964 تحديداً بات، للمرّة الأولى، رئيساً لمجلس النوّاب، مُقصياً الشهابيّ صبري حمادة. الأخير، بدوره، صار أكثر تخفّفاً من التزاماته الشهابيّة بعدما اعتكف فؤاد شهاب.
في هذه الغضون، كانت أجواء الشيوعيّين تنافس بيئة الناصريّين على التشكيك بهذا الضيف الذي استثقلوه: “الصدر عميل الشاه”. “الصدر سي أي آي”. “الصدر رأس حربة لكبح النموّ اليساريّ”…، هذه بعض التّهم التي أحاطه بها المفتونون بالمؤامرات، وإن راحت بالتدريج تنكفىء إلى الغرف المغلقة وتصير همساً يُستحسن ألاّ يسمعه المعجبون المتكاثرون.
واقع الحال أنّ ما كان يبنيه “السيّد موسى” إنّما نهض على أسس صلبة: الهجرة كانت قد أنتجت أثرياء شيعة في أفريقيا، زارهم الصدر في أواسط الستينات أسوةً بما سبقه إليه رشيد بيضون وجعفر شرف الدين في جمع التبرّعات لـ “العامليّة” و”الجعفريّة”. الشهابيّة، بدورها، وسّعت الإدارة التي تستوعب كوادر شيعيّة فيما وثّقتْ ربط الأطراف بالمدن عبر تحسين البنى التحتيّة. الجامعة اللبنانيّة بدأت تطرح في سوق العمل أفواجاً شيعيّة من المتعلّمين الجدد…
تعبير “الحرمان” الذي استخدمه الصدر لم يكن دقيقاً إذاً. الأدقُّ كان الخروجَ الشيعيّ من “الحرمان” الذي يتطلّب تمثيلاً سياسيّاً جديداً يشبهه ويواكبه. ذاك أنّ زعماء الشيعة، وخصوصاً أبرزهم كامل الأسعد وصبري حمادة، لم يروا ما يحصل في الإدارة والجامعة والهجرة والبنى التحتيّة، ولا توقّعوا نتائجه الضخمة. لقد ظلّ التمثيل السياسيّ في مكان آخر، يستمدّ ذاته من ذاته. هذا ما ينبغي أن يتغيّر. هكذا تحدّث “السيّد موسى”.
مجلس للطائفة
الخطوة التي كان لا بدّ منها إنشاء مجلس مذهبيّ يرعى شؤون الشيعة ويستقلّون به عن السنّة. إنّها البداية الحتميّة لكلّ مسار لاحق. صحيح أنّ تلك البداية عزّزت لدى المفتي خالد والمحيطين به أسوأ مخاوفهم حيال الصدر، إلاّ أنّها كانت تملك من الحجج ما يصعب مقاومته في بلد تشكّل الطوائف وحداته الاجتماعيّة والسياسيّة. وبعد كلّ حساب، فإنّ الطائفة الدرزيّة، التي تعدّ جزءاً صغيراً من مثيلتها الشيعيّة، حظيت بمجلس كهذا منذ 1963.
في سعيه ذاك، حاول الصدر أن يجتذب إليه سياسيّي الطائفة وأغنياءها ووجهاءها وطامحيها، لكنّه حاول أيضاً أن يستقطب مثقّفيها وصحافيّيها ومتعلّميها والمحبطين بتجاربهم الحزبيّة السابقة، لا سيّما منهم القوميّين السوريّين الذين تحطّمت آمالهم مع الانقلاب الفاشل في 1961 – 1962، ولم يجدوا ما يخاطبهم في أحزاب اليسار وجماعاته. لقد كان مشروعاً يهجس بالعضويّة.
المجموعة الأولى من “الأنصار” بدأت تتجمّع حول “السيّد موسى” في أوائل الستينات، ضامّةً جنوبيّين وبقاعيّين، في عدادهم رئيس بلديّة شمسطار حسين الحسيني والتاجر والمستورد أحمد اسماعيل والمحامي أحمد قبيسي والمحامي والشاعر نجيب جمال الدين والصحافيّ حسين قطيش. وفي أواسط الستينات انضمّ إليهم المحامي نبيه برّي والمفوّض في الأمن العامّ مصطفى الحاجّ وسواهما، وكان دائماً الشيخ عبد الأمير قبلان على مقربة ممّا يجري.
وبالفعل، وفي وجه معارضة لا تعوزها الشراسة، أُقرّ، في 15 آب (أغسطس) 1967 القانون الذي قضى بإنشاء مجلس للشيعة هو “المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى”. رئيس الجمهوريّة شارل حلو ما لبث أن أضاف تصديقه. المجلس الذي اختار مقرّه في الحازميّة، “المسيحيّة”، وُلد بعد شهرين على هزيمة حزيران (يونيو) الشهيرة، وتصدّع هيبة جمال عبد الناصر. نقّاد المجلس الجديد أغراهم الربط بين الحدثين والتحذير من أنّ هزائم صغرى كثيرة تنتظرنا بسبب تلك الهزيمة الكبرى. الصدر، المهتمّ بنزع الألغام من طريقه، زار القاهرة في 1969 بذريعة انعقاد المؤتمر الخامس لـ “مجمّع البحوث الإسلاميّة”. هناك التقى عبد الناصر، لكنّ اللقاء انتهى صورةً في الصحف أكثر منه حدثاً. الزعيم المصريّ ما لبث أن توفّي، فأقام المجلس الشيعيّ “مجلس فاتحة” عن روحه، ثمّ زار الصدر القاهرة مرّة أخرى للمشاركة في جنازته.

(3)

في لبنان، سعى الإمام موسى الصدر، بدأب وجدّيّة، إلى توحيد الطائفة على شتّى المستويات: من وقف التقاتُل في برج حمّود بين شبّان مهاجرين من الجنوب وبعلبك، وبعضُ التقاتل كان دامياً، وبعضُه حرّكه سياسيّون ومُغرضون، إلى محاولات التقريب بين زعماء الشيعة وقادتهم، كما بينهم وبين التجّار والمدراء والمتعلّمين.
لكنّ المعارضة له ولمجلسه كانت جدّيّة ودؤوبة أيضاً. على رأس تلك المعارضة وقف كامل الأسعد، المشهور بصلَفه وتجاهُل كلّ جديد يتهدّد زعامته القديمة.
المقارنة لم تكن لصالح “الزعيم الوائليّ”: فقراء الشيعة الذين تعوّد الأسعد أن يخاطبهم من برج سامٍ، من دون أن يُخفي قرفه منهم وبرمه بهم، كسب الإمامُ قلوبَهم بأدبه وتواضعه. الأوّل، الذي يُفترض أنّه أرضيّ، كان يتصرّف على نحو سماويّ. الثاني، الذي يُفترض أنّه موصول بالسماء، كان أرضيّاً جدّاً. المثقّفون الذين انحازوا إلى “السيّد موسى” رأوا أنّه يردّ إلى الشيعة التمكين والقوّة اللذين حرمهم منهما “عطوفة الرئيس” وضمّهما إلى نفسه. غير المثقّفين رأوا فيه وريثاً شرعيّاً لبساطة الراحل أحمد الأسعد و”شعبيّته” اللتين تنكّرت لهما عجرفة نجله.
إنّه، في الأحوال كافّة، الغد مقابل الأمس. على هذا النحو ارتسمت المواجهة في أنظار الكثيرين.
تلك المقارنة بين رجل الدين الذي كانه الإمام، ورجل السياسة الذي كانه البك، أحدثت أثراً ضخماً في الوعي والتصوّر، أثراً سوف ينحرف بعد حين، وسوف تسجّل السنوات اللاحقة بعض أسوأ نتائجه. ففي وقت يرقى إلى 1959، سنة وصول الصدر إلى لبنان، طاف رجلُ دين محترم هو محمّد جواد مغنيّة بعض قرى الجنوب وسجّل مدى كراهية الجنوبيّين لرجال الدين ومدى عزوفهم عنهم. هذا ما شرع الصدر يغيّره، مضيفاً إلى كاريزماه التي استمدّها من الدين كاريزما استمدّها من الإنجاز والعمل.
مع ذلك، وُجد بين زملائه المشايخ مَن يعارضه ويعارض مجلسه لأسباب عدّة. رجال دين، بعضهم بعلبكيّ كحسين الخطيب وسليمان اليحفوفي، وقفوا هذا الموقف، لكنّ الإمام نجح، على نحو أو آخر، في تحييدهما. الأمر نفسه يقال عن الشيخ محمّد مهدي شمس الدين الذي آثر في البداية أن يتحفّظ، إلى أن سُمّي، بطلب مُلحّ من رئيس المجلس الجديد، نائباً له. المعارضة كانت أصلب عند رجال الدين الأسعديّين كأحمد شوقي الأمين، وبعض مشايخٍ شبّانٍ على صلة بأحزاب اليسار أو بالتنظيمات الفلسطينيّة الناشئة، كمحمّد حسن الأمين، فضلاً عن مشايخ آل صادق المعروفين بمحافظتهم.
محمّد حسين فضل الله، من جهة أخرى، مثّل حالة اعتراض مختلفة. فهذا السيّد والشيخ الذي شارك في تأسيس “حزب الدعوة” في العراق، إلى جانب محمّد باقر الصدر ومحمّد مهدي شمس الدين، عاد في 1966 من النجف ليستقرّ في منطقة النبعة، وسط المهاجرين الجنوبيّين إلى الضاحية الشرقيّة من بيروت. لقد تحفّظ فضل الله على “اعتدال” الصدر و”لبنانيّته غير الإسلاميّة”، وفي تحفّظه هذا، كان أكثر أدلجةً وجذريّةً من الباقين.
السياسيّون، باستثناء الأسعد، وقفوا بين بين. صبري حمادة ربطه احترام متبادل بالصدر، لكنّه خشي الانقلابَ على المألوف اللبنانيّ كما تمرّن عليه وأجاده قبل عشرات السنين. زعماء الصفّ الأوّل، بمن فيهم حمادة نفسه، اختاروا البرودة والترقّب: لقد تركوا للأسعد احتكار العداء، مؤثرين التودّد للصدر وانتظار ما سينجم عن حركته. حمادة، كرئيس للبرلمان في 1967، دعم بقوّة مشروع المجلس الشيعيّ الأعلى، وهو ما فعله نوّاب شيعة آخرون كان من المستحيل، أقلّه حيال جمهورهم، أن يعارضوه.
عهد فرنجيّة – الأسعد
الطامة الكبرى كانت انتخاب سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهوريّة في 1970. كامل الأسعد كان حليفه وصديقه وشريك انتصاره بفعل انتساب الاثنين، ومعهما صائب سلام، إلى “تكتّل الوسط”. حرصُ فرنجيّة على إرضاء الأسعد، معطوفاً على وعيه المناهض لكلّ إصلاح، أحكم إغلاق الباب في وجه الإمام وفي وجه مشروع الليطاني لريّ الجنوب وحزمة مطالب إنمائيّة بسيطة، إن لم تكن بديهيّة.
حادثةٌ أخرى أضافت الغضب الشخصيّ إلى التنافر السياسيّ. ففي 1970، حين انتُخب كامل الأسعد، مرّة أخرى، رئيسا للمجلس النيابيّ، جاء الصدر لتهنئته. الأسعد استقبله ثمّ ودّعه وهو جالس وراء مكتبه لا يتزحزح. في اليوم التالي، نشرت الصحف صورة لرئيس المجلس، وهو متأهّب منتصب القامة، في استقبال واحد من المطارنة المهنّئين.
لا فرنجيّة ولا الأسعد كانا على بيّنة ممّا يحصل على الأرض أو يموج تحتها. فهجرة الجنوبيّين، ومنذ الخمسينات البعلبكيّين، إلى العاصمة، وفّرت جمهوراً للصدر، ولاحقاً لـ “حزب الله”. ذاك أنّ النزوح الريفيّ إلى بيروت، على عكسه في طرابلس، ذو لون مذهبيّ يغاير لون سكّان المدينة “الأصليّين”. لكنّ هذا التطوّر الكبير والمتعاظم رتّب مشكلات لم يكن من السهل تذليلها، لا سيّما بعد ظهور المقاومة الفلسطينيّة وفصائلها السخيّة في توزيع السلاح.
فمنذ 1969 شرعت تظهر تنظيمات شيعيّة صغرى كـ “فتيان عليّ”، وقبضاياتٌ سبق لبعضهم أن تبادلوا الخدمات مع “المكتب الثاني”. لم يكن واضحاً ما إذا كان الصدر مَن أوعز بظهور هؤلاء وأولئك في استعراض قوّةٍ أراده مضبوطاً ومحدوداً، أو إذا كان مصدرَ استلهامٍ لهم في أزمنة مضطربة تستدرج الزعماء الحُماة. في الحالات جميعاً، تململ نطاقٌ شيعيّ عريض شكّله الحِرَفيّون وأصحاب الدكاكين الصغيرة وبائعو الخضار المتجوّلون والثابتون، وتجّار الأدوات المنزليّة البسيطة، المهاجرون من قضائي صور وبنت جبيل. هؤلاء، ممّن أقاموا في النبعة وبرج حمود، ربطتهم بالتجمّعات الفلسطينيّة المقيمة في تل الزعتر علاقات جيرة متفاوتة المعاني، التعاطفُ والتضامن فيها يتاخمان التنافس والعداء واليقظة على التباين المذهبيّ. المؤكّد أنّ السلاح كان مادّة التبادل وجسر التأثّر والتأثير.
يومذاك شاع البحث عن هويّات تمكّن الجماعات المهاجرة والقلقة وتحميها في مواجهة جماعات قلقة أخرى، أو تطرد تفتّتها وجهل واحدتها بسواها عبر استنباط لحمة عقائديّة توحي بتوحيدها وتقيم التعارف بينها. وفي زمن كذاك، زمنٍ كان ينضح بترهّل الدولة وعقم السياسة وتفاهة السياسيّين، بات السلاح الشرط الشارط للهويّة الصاخبة. فإذا كان السلاح من دون هويّة يشبه العمى، فإنّ الهويّة من دون سلاح تشبه الشلل.
من ناحية أخرى، تأدّى عن الأزمة الاجتماعيّة، مصحوبةً بالتخلّي عن الخطط الشهابيّة في ما خصّ المناطق الحدوديّة والعشائر، توسُّعُ ظاهرة “الطفّار” في البقاع. التنظيمات الفلسطينيّة المسلّحة، خصوصاً منها تلك المدعومة من سوريّا، شرعت تسدّ بعض تلك الفراغات استقطاباً وتسليحاً. التقاطع الإيديولوجيّ بين التنظيمات الفلسطينيّة وأحزاب اليسار اللبنانيّ كان يدفع الأولى إلى استيراد الرواية السلبيّة عن الصدر كما صدّرتها الثانية.
الانطباع الخاطىء
انتخابات 1972 أعطت انطباعاً ما لبث أن تبيّن خطؤه في وقت لاحق: اليسار وحلفاء المسلّحين الفلسطينيّين يستولون على الأفق. يومها، وفي مواجهة كامل الأسعد الذي فاز بـ 15 ألف صوت، استطاع صديق الشيوعيّين حبيب صادق أن ينال أكثر من عشرة آلاف صوت. البعثيّ السابق علي الخليل انتُخب نائباً عن صور. لدى الطوائف والمناطق الأخرى، بدت الأمور مشابهة: ألبير منصور، صديق الشيوعيّين بعد ماضٍ بعثيّ، انتُخب في بعلبك. البعثيّ عبد المجيد الرافعي في طرابلس. الناصريّ نجاح واكيم في بيروت الثالثة. كذلك رُشّح عن طرابلس، ونال أرقاماً معقولة، الأمين العامّ للحزب الشيوعيّ نقولا الشاوي. خالد صاغيّة، صديق البعثيّين، شكّل في عكّار أوّل لائحة في تاريخها لم يتمثّل فيها البكوات المراعبة فيما ضمّت السوريّ القوميّ فؤاد عوض. صديق الشيوعيّين علي سعد والبعثيّ فايز قزّي اختيرا على لائحة كمال جنبلاط في الشوف. القوميّ العربيّ مصطفى صيداوي رُشّح في طرابلس، النقابيّ الشيوعيّ الياس بواري في كسروان، يساريّون وقوميّون على نحو أو آخر، كمعين حمّود وأسامة فاخوري ومحمّد زكريّا عيتاني، رُشّحوا في بيروت. كذلك فعل محمود طبّو في الضنّيّة. السوريّان القوميّان أسد الأشقر وعبد الله سعادة خاضا معركتي المتن الشماليّ والكورة. هؤلاء كلّهم أحرزوا أرقاماً جيّدة.
بطبيعة الحال كان ردّ هذه النتائج إلى إقبال إيديولوجيّ على العقائد القوميّة واليساريّة ضرباً من السذاجة، سيّما وأنّ معظم المرشّحين المذكورين تحالفوا انتخابيّاً مع “تقليديّين” و”رجعيّين”، أو أخفوا وجوههم العقائديّة حين خاضوا انتخاباتهم. لكنّ هذه السذاجة الاحتفاليّة في تأويل الحاضر ورسم طريق المستقبل قابلَها الغباء الاحتفاليّ لزعماء عالقين في ماضٍ لا يمضي. هؤلاء كان التاريخ يطويهم بطرقه العجيبة والكثيرة فيما هم غافلون تماماً، يستغرقهم استئناف ألعاب دمويّة وغير دمويّة لعبوها قبل عشرات السنين: في ذاك العام نفسه، 1972، اغتال شابّ من آل الزين عبد الله عسيران، نجل عادل الذي هزم عبد الكريم الزين في انتخابات دائرة الزهراني عامذاك. فـ “للناس عالمهم ولنا عالمنا”، هذه كانت حكمة العائلات السياسيّة الهرمة.
درج

(4)

لم يكن واضحاً في 1972 ما إذا كان الإمام الصدر قد حسم أمره في صدد السياسة المباشرة. تجربته في 1969 و1970 ربّما أقنعته بأنّ النزاعات يمكن حلّها سلماً، ولو بعد قدر من الشدّ والتصلّب: في 1969 نجح في إنشاء “المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى”. في 1970 نجح إضراب اليوم الواحد من أجل الجنوب. المناطق اللبنانيّة تضامنت معه، وأقيم “مجلس الجنوب” في النهاية.
لكنْ في 1973 بدأت مرحلة جديدة في لبنان وفي المنطقة لم يكن الصدر مهيّأً لها. هكذا رأيناه في العامين التاليين يترجّح بين السياسة والعنف فيما تتراجع سيطرته على ضبط التوازن بينهما: لقد فضّل السياسة، وكان يعرف أنّها الوسيلة التي قد تُكسبه ما يسعى إلى كسبه، إلاّ أنّه عرف أيضاً أنّ النظام في تخبّطه وانسداده يقلّص احتمالاتها. النظام كان له في إعدام السياسة شركاء كثيرون، من خصومه وخصوم الصدر، يتشوّقون إلى حمل السلاح أو إلى إخضاع “عدوّ” ما. بدوره راح العنف يضغط بإلحاح وتواتُر: مواجهة أيّار 1973 بين الجيش اللبنانيّ والمقاومة الفلسطينيّة، ثمّ حرب تشرين العربيّة – الإسرائيليّة بعد أشهر قليلة، أضافا مزيداً من الاحتقان إلى احتقان قائم أصلاً بين الإمام وثنائيّ فرنجيّة والأسعد.
إلى ذلك كانت إسرائيل، بضرباتها الموجعة في الجنوب منذ 1968، وخصوصاً بعد اتّفاق القاهرة في 1969، تهدم قرى وتهجّر أعداداً متعاظمة من الجنوبيّين إلى العراء البيروتيّ. “العلاج” المارونيّ كان التخلّص من المقاومة الفلسطينيّة التي تتسبّب أعمالها بالمأساة. “العلاج” الدرزيّ – اليساريّ كان الالتحام بها. السنّة في أكثريّتهم مالوا إلى الاقتراح الأخير، فيما مالت بورجوازيّتهم المدينيّة إلى المواربة. الشيعة بدوا ضائعين حيال العلاجات، يأخذون شيئاً من هذا ويلصقونه بشيء من ذاك.
على العموم، صيرَ إلى توليف خلطة عجيبة من المطالب جمعت بين إنماء قرى الجنوب بما يعزّز صمودها على أرضها، وبين تحصينها وتسليحها اللذين يستدعيهما التصدّي لإسرائيل. هذا ما كان بمثابة دعوة غريبة للجنوبيّين: تمتّعوا بالإنماء فيما أنتم مكدّسون في أنفاقكم مقطوعو الأنفاس. الكلام المتناقض هذا نفى بعضُه بعضَه وتحوّل إلى تهافت في القول وفي السلوك.
طور السياسة
لقد بدا أنّ لسان الصدر في موضوع الجنوب، الذي هو موضوعه، مؤلّفٌ من ألسنةٍ عدّة لا يقوى على رفض أيٍّ منها، خصوصاً “المقاومة” التي اصطلح الجميع، وهو في عدادهم، على وصفها بالقداسة. ومن لسانه المرتبك جُرّ الإمام إلى مواقف مرتبكة كثيرة. لكنّ شيئاً آخر كان يضغط إذّاك ويحزّ في نفسه: ففي الانقسام العريض الذي استدعته مسألة المقاومة الفلسطينيّة، ومعها تصدّع الأمن وانتشار الفوضى على نطاق وطنيّ، لُخّص الوضع اللبنانيّ إلى طرفين، واحد درزيّ – يساريّ مقرّب من الفلسطينيّين، يفاوِض ويُفاوَض نيابةً عن الجنوب، وآخر مسيحيّ يتزعّمه حزب الكتائب وحلفاؤه. أهل المعاناة المباشرون سُرق صوتهم وغُيّب تمثيلهم.
أغلب الظنّ أنّ قرار الدخول المباشر في السياسة اتُّخذ حينذاك، في مطالع 1974: في آذار، أقيم مهرجان شعبيّ غير مسبوق في بعلبك، ذكّر فيه الإمام بمطالب “المحرومين” ونطق بعبارته الشهيرة: “السلاح زينة الرجال”. المهرجان كان ودستوك الطائفة الشيعيّة في البقاع، لكنّ عشرات آلاف الحاضرين لم يغنّوا ولم يلحّنوا، وطبعاً لم يمارسوا الحبّ، بل لوّحوا بالبنادق غاضبين. في أيّار، كان مهرجان مماثل في صور لشيعة الجنوب، حيث تجلّى السحر الإماميّ في مظهره الأشدّ سطوعاً، راسماً الطريق إلى خلاص لم يشكّ أصحابه بانبلاجه.
اختيار المدينتين هاتين لم يكن عشوائيّاً: فيهما يقيم التجمّعان الأكبر للشيعة اللبنانيّين، لكنّهما أيضاً مدينتا نزوح ريفيّ انتقل بفعله النازحون إلى جوار مسيحيّ وسنّيّ عريق تاريخيّاً. إذاً، من بعلبك الداخليّة ومن صور الساحليّة، خوطب الشيعة وخوطب سواهم أيضاً، لا سيّما طائفتي رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة.
حدث آخر مهمّ خُتم به ذاك العام: ففي 8 تشرين الأوّل توفّي نائب النبطيّة فهمي شاهين، الذي كان قد انتُخب قبل سنتين على لائحةٍ تحالف فيها كامل الأسعد وعبد اللطيف الزين. هكذا حُدّد الثامن من كانون الأوّل موعداً لاختيار خلف للراحل. الأسعد استعدّ للمواجهة مُرشِّحاً المهاجر كامل علي أحمد. كمال جنبلاط، بوصفه بطريرك اليسار، حاول جمع فصائل ذاك اليسار المتحالفة مع المقاومة الفلسطينيّة حول مرشّح واحد، لكنّ محاولته باءت بالفشل. الشيوعيّون رشّحوا عادل الصبّاح. البعثيّون (العراقيّون) موسى شعيب. الصدر رشّح نائباً ووزيراً سابقاً، وأحد تقليديّي الصفّ الثاني الطامحين للارتقاء إلى الصفّ الأوّل: رفيق شاهين. النتيجة جاءت صاعقة: مرشّح الصدر فاز بـ 11633 صوتاً. مرشّح الأسعد انهزم بـ 6416 صوتاً. مرشّح الشيوعيّين نال 1974 صوتاً. مرشّح البعث 1200 صوت. الانتماء الحزبيّ والهوى العقائديّ في تلك المعركة كانا صارخين لا يقبلان التمويه. الصدر أنهى اللعب في الوقت الضائع. بكفّه صفع الأسعد وبقدمه ركل اليسار. “الأمر لي في الجنوب”، قال “السيّد موسى”. الأمر كان له حقّاً.
زمن الحيرة والارتباك
شيئان دلّ إليهما ذاك الحدث الانتخابيّ في النبطيّة: أنّ صوت الطائفة ممثّلاً بالإمام بات يعلو فوق كلّ صوت آخر في الطائفة، وأنّ الإمام يستطيع أن يكسب معاركه بالسياسة حيث يفضّل أن يكسب. لكنّ النتيجتين قد تنطويان على شيء من التناقض. فالطائفة، كلّ طائفة، أفقُها مُشرَع، في أزمنة التوتّر، على العنف. هذا ما يحول تعريفاً دون السياسة، وهو من طبيعة الطوائف بالتعريف. الصدر لم يكن غافلاً عن ذلك، سيّما وأنّ أحوال الدولة والمجتمع اللبنانيّين ومواقف الرئيسين فرنجيّة والأسعد كانت كلّها تدفع في الوجهة هذه.
هكذا، ومن قبيل الاحتياط، وضع رِجلاً في السلم ورِجلاً في الحرب، والتزاماً بنصيحة إمامه الأكبر، عمل لدنياه كأنّه يعيش أبداً ولآخرته كأنّه يموت غداً.
هذا النهج كان يستدعي توثيق العلاقة بآلهتي الحرب السوريّة والفلسطينيّة في لبنان، وهما حتّى ذاك الحين لم تكونا متخاصمتين، وإن تبادلتا التوجّس. لقد طالبه حافظ الأسد، فيما كان يستعدّ لحرب تشرين، بـ “خدمة” هي فتوى تفيد أنّ العلويّين فرع من فروع الشيعة الإماميّة. الصدر أسدى له هذه “الخدمة” في تمّوز 1973، مستعيناً بسابقة حصلت عام 1959. حينذاك، ومع احتدام الصراع القوميّ – الشيوعيّ في العراق، وبهدف محاصرة الشيوعيّين ونفوذهم بين شيعته، أصدر شيخ الأزهر محمود شلتوت فتوى تجيز التعبّد على المذهبين الإثني عشريّ والزيديّ، كما تسمح بتدريس المذهب الشيعيّ في الأزهر.
“خدمة” الصدر للأسد أسّست صداقة سوف تتحوّل لاحقاً عنصر تنغيص للبنانيّين وسوريّين كثيرين.
فلسطينيّاً، طُوّرت العلاقة مع حركة “فتح” وقائدها ياسر عرفات. فهي أكبر الفصائل المسلّحة الفلسطينيّة، كما أنّها، بفعل الأصول الدينيّة لمؤسّسيها، أوثقُها صلة بالمؤمنين واحتراماً لهم. لكنّها، فوق ذلك، تتمتّع بميزتين لا تتمتّع بهما باقي الفصائل الفلسطينيّة، لا سيّما تلك التي تنسب نفسها إلى يسار ما: فـ “فتح” تعلن أنّها “لا تتدخّل في الشؤون اللبنانيّة”، وهي، من خلال شبّان ماويّين وشعبويّين انضمّوا إليها عبر قطبها الثاني خليل الوزير (أبو جهاد)، تُعنى بالأديان والطوائف أكثر ممّا بالطبقات الاجتماعيّة، وبـ “الشعب” أكثر ممّا بـ “الأفكار الغربيّة المستوردة”. لقد بدا العداء للشيوعيّة جامعاً بين الطرفين.
كائناً ما كان الأمر فإنّ ما يحسم هو السلاح والتدريب. هذا هو الطلب الشيعيّ، وهذا ما تتشوّق دمشق و”فتح” إلى عرضه.
75: الاستحقاق الصعب
عام 1975 كان عام الاستحقاق. لقد انفجر الوضع في 23 نيسان فيما الصدر لا يزال حائراً بين استعداده المفضّل للسلام واستعداده الاضطراريّ للحرب. قبل شهرين على الانفجار نقلت الصحف في صفحاتها الأولى صورة له صدمت كثيرين: لقد ألقى محاضرة في إحدى كنائس بيروت حيث ظهر جالساً تحت صليب الكنيسة الكبير. ومع الانفجار، بدأ صيامَه احتجاجاً على العنف، معلناً أنّه سيموت إن لم يتوقّف، وإن لم تتشكّل “حكومة وحدة وطنيّة” تتولّى “إنقاذ الوطن”. زعماء لبنانيّون وقادة فلسطينيّون جعلوا يتوافدون إلى العامليّة، حيث اعتكف، طالبين إليه وقف صيامه. وفود شعبيّة، شيعيّة وغير شيعيّة، زارته كذلك. في 1 تمّوز أنهى إضرابه إثر تشكيل “حكومة الوحدة الوطنيّة”.
الصيام، الذي أُريد له أن يبدو موقفاً لاعنفيّاً، كانت تخرقه إشارات مُربكة وغير مشجّعة: فبعض الذين زاروا العامليّة متضامنين كانوا هم أنفسهم مدجّجين بالسلاح، وبعضهم اضطُرّ الصدر لأن يطالبهم بالمغادرة لأنّ “سلاحنا هو اللاعنف وكلام الله”. الأسوأ كان يحصل خارج العامليّة: جريدة “السفير” ذكّرتْه بعبارته “السلاح زينة الرجال”، مضيفةً أنّ هذا الوقت وقتها، لا وقت الصيام واللاعنف. كمال جنبلاط و”الحركة الوطنيّة” طرحا ردّاً على مقتلة عين الرمّانة شعار “عزل الكتائب” الذي فُهم عزلاً للمسيحيّين. حسين القوّتلي، المدير العامّ لدار الفتوى، ما لبث أن نشر مقالة في “السفير” اعتُبرت صياغة لموقف الإفتاء السنّيّ. تقول المقالة بالحرف: “إمّا أن يكون الحاكم مسلماً والحكم إسلاميّاً فيرضى عنه [المسلم] ويؤيّده، وإمّا أن يكون الحاكم غير مسلم والحكم غير إسلاميّ فيرفضه ويعارضه ويعمل على إلغائه باللين أو بالقوّة، بالعلن أو بالسرّ. هذا موقف واضح (…) في أساس عقيدة المسلم، وإنّ أيّ تنازل من المسلم عن هذا الموقف أو عن جزء منه، إنّما هو بالضرورة تنازل عن إسلامه ومعتقده”.
الضغط لامتشاق السلاح كان هائلاً، ترفده حقيقة مُرّة هي أنّ معظم المقاتلين في صفوف التنظيمات الناصريّة واليساريّة كانوا من شبّان الطائفة الشيعيّة. هؤلاء، الذين صنعتهم الهجرة والتهجير وقلق الانتقال واضطرابه، تسرّبوا من بين أصابع الإمام الذي راح يحاول أن يواكب ويفرمل. لقد بدا بوضوح أنّ ما يكسبه في السياسة قد يخسره في الحرب إن لم يحارب. الأحزاب، التي أهينتْ في النبطيّة، وجدت فرصتها سانحة للردّ: من خلال التصعيد العنفيّ ضدّ “المارونيّة السياسيّة” التي توالي الهبوط، نقضي أيضاً على “الشيعيّة السياسيّة” التي توالي الصعود.
لكنْ في هذه الغضون اتّخذت الحيرة الصدريّة شكل الفضيحة: في 5 تمّوز، أي بعد أربعة أيّام على إنهاء الصيام والاعتصام اللاعنفيّ، انفجر لغم في مخزن للسلاح في قرية عين البنية البقاعيّة، فقُتل قرابة الثلاثين وجُرح نحو من خمسين. تبيّن أنّ هؤلاء الشبّان يتبعون الإمام. تبيّن أيضاً، بجريرة المناسبة إيّاها، أنّ “فتح” وتنظيمات موالية لدمشق تدرّب شبّاناً شيعة منذ منتصف 1974. كان لا بدّ حينذاك، وسط حرج كبير، من إعلان الصدر عن تأسيس “أفواج المقاومة اللبنانيّة” أو “أمل”. لكنّه فيما كان يعلن ذلك، دعا اللبنانيّين “كافّة” إلى الانضواء في تنظيمه هذا.
لقد حاول “السيّد موسى” أن يلوّح بالسلاح كي لا يستعمله. لكنّ كثيرين، ممّن اجتمعت فيهم طفولة شريرة وكهولة متخشّبة، راحوا يشدّونه من ثوبه إلى الحرب. أمّا الزمن فكانت تحتشد في سمائه غيوم كثيرة كما تهبّ عواصف سوداء لا يقوى الحالمون على مواجهتها. الحسم، لا الحيرة، بدا سيّد المواقف.

(5)

لم تنخرط “أمل” في “حرب السنتين” بصفتها هذه. لقد صدّت الإغراء وبرّرتْ صَدّها بعناوين وشعارات جمعت بين تعاليم الحسين، وحبّ المحرومين، ورفض العنف، والحرص على لبنان، وأولويّة العيش المشترك، وحوار الأديان، والعروبة ذات الهوى السوريّ، ومعاداة إسرائيل التي هي “شرّ مطلق”، والتعلّق الصوفيّ بفلسطين. الفيل نام مع الفأر في سرير واحد، ونبذُ “التطرّف” بدا الغالب.
الإمام الصدر تحرّك يومذاك في رقعة الوسط العريض، مصحوباً بوعظ يدين المغالاة. قال ما معناه إنّ كلّ إيجابيّ نسبيّ وكذلك كلّ سلبيّ: فحتّى القمر له طرف مُعتم، وحتّى سمّ الأفاعي قد يصير دواء. لكنّ الوسط كان يتشقّق من جهة ويلتبس من جهة أخرى، فيما الوعظ، وهو غير مُستساغ عموماً، من أكثر ما يكرهه فِتيان يحسمون أمرهم ويزّيتون البنادق.
في جبّة الإمام
هكذا لم تحلْ “الحكمة” الصدريّة دون مشاركة شبّان أَمليّين في الحرب، هنا أو هناك. كتلٌ أهليّة شيعيّة، لا سيّما في البقاع، تنظر إلى الصدر بوصفه القائد والمرجع، فعلت ذلك أيضاً. وفي كونها خارج الحرب وداخلها، تكشّفتْ “أمل” مبكراً عن تعدّد الأجسام المقيمة في جسمها وعن تعدّد الرؤوس التي تصنع رأسها. فهي، في وقت واحد، طبقات اجتماعيّة متنافرة ومناطق متباعدة الهموم ووجهاء كثيرون متنافسون، ضُغطوا على عجل بما يسهّل حشرهم في جبّة الإمام.
الأخير التزم، بعد الحرب، الموقف الرسميّ لـ “سوريّا الأسد”، وانضمّ تنظيمُه الجديد إلى “الجبهات” الحزبيّة التي كانت تهندسها دمشق بين وقت وآخر. موقعه هذا وقاهُ الراديكاليّتين المسيحيّة والدرزيّة – اليساريّة – الفلسطينيّة: الأولى كان يتمنّى أن يطول شهر العسل بينها وبين “بطل تشرين”، إذ احتمالٌ كهذا حالةٌ مثلى للصدر ولسعيه وراء التوازنات الوسطيّة. هذا، لسوء حظّه، ما قضت عليه “مبادرة” أنور السادات والمصالحة السوريّة – الفلسطينيّة التي أعقبتها. الراديكاليّة الثانية تراءت له ثعلباً جائعاً يحوم حول دجاجه. لقد اعتبرها محاولة لخطف قضيّة الجنوب ولإبقاء الجنوبيّين في نزاع مدمّر ودائم يستحيل فيه الانتصار ولا يحضر إلاّ الموت المُعمّم. هكذا بدا له “الحلّ” السوريّ مخرجَاً نظريّاً من صراع الأقصيين المسيحيّ والفلسطينيّ، والنظريّة كانت سهلة: السوريّون دخلوا لبنان في 1976 بموجب تسوية إقليميّة قد تهدّىء الأوضاع المضطربة في الجنوب، أمّا في البقاع فالعلاقة الجيّدة بدمشق مطلب بقاعيّ ثابت لألف سبب وسبب. إذاً، إكسير الحياة يؤتى به من وراء المصنع.
في هذه الغضون، لجم النظام السوريّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة وحلفاءها اللبنانيّين، كما اغتال كمال جنبلاط. أمّا الزعماء الشيعة التقليديّون، ككامل الأسعد وعادل عسيران وعبد اللطيف الزين، فلزموا بيوتهم: الأسعد على مضض. عسيران عن تعب… الأكبر سنّاً بينهم رحلوا عن عالمنا: صبري حمادة توفّي في 1976.
لكنّ “عمليّة الليطاني” في آذار 1978، والتي تأدّى عنها احتلال صغير، بالقياس إلى احتلال 1982، برهنت أنّ الأماني الجديدة لن تكون أوفر حظّاً ممّا كانت عليه في 1976. بعد أشهر، وكانت الجزائر قد نقلت له دعوة ليبيّة، حطّ الصدر في ليبيا. زعيمها معمّر القذّافي كان أحد أكثر المتشدّقين بالعداء لإسرائيل والتضامن مع ضحاياها العرب. الشيخ محمّد يعقوب والصحافيّ عبّاس بدر الدين رافقاه في رحلته.
أغلب الظنّ أنّ “السيّد موسى” كان يبحث عن دعم عربيّ للجنوب فيما “الأخ العقيد” كان يبحث عن شيء آخر. في الحالات كافّة، اختفى الإمام ورفيقاه هناك.
إنّه بهشتي…
لقد شاعت لاحقاً روايات كثيرة عن اختفائه، أكثرها ترجيحاً لا علاقة له بفلسطين وإسرائيل، ولا حتّى بلبنان أو ليبيا. فما أراده القذّافي من دعوة الصدر كان جَمْعَه برجل دين شيعيّ آخر هو الإيرانيّ محمّد بهشتي، ومصالحة الاثنين. بهشتي كان يومذاك إمام مسجد في ألمانيا يوالي روح الله الخمينيّ المنفيّ في فرنسا. كان، فوق هذا، أحد أكثر رجال الخميني تزمّتاً والتزاماً بصراطه المستقيم. تاريخه اللاحق، بعد انتصار الثورة، أكّد ذلك: لقد بات قائدَ الجناح الأشدّ تطرّفاً في السلطة الجديدة، على رأس حزب أسّسه وسُمّي “الحزب الجمهوريّ الإسلاميّ”. بهشتي بات أشرس مَن ناهضوا المهدي بازركان بعد تولّيه رئاسة الحكومة الجمهوريّة الأولى، وأشرس مَن ناهضوا أبو الحسن بني صدر بعد تولّيه رئاسة الجمهوريّة الأولى. إنّ إسلامهما غير كافٍ، في نظره، وعداءهما للغرب غير كافٍ أيضاً. منظّمة “مجاهدي خلق” ما لبثت أن اغتالت بهشتي في عمليّة إرهابيّة ضخمة نفّذتها في أواسط 1981.
الإمامان، الإيرانيّ المتشدّد في ولائه لـ “ولاية الفقيه”، واللبنانيّ الواقف في الوسط بين الشاه والخميني، كان ينبغي لهما، وفق العقيد، أن يتصالحا. مصالحتهما، إبّان الإعداد للثورة الإيرانيّة، تخاطب فيه وَلَعَه بدعم الثورات وتمويل “حركات التحرّر” من كلّ نوع، مثلما تداعب حرصه على الظهور بمظهر الراعي لفاعلِين سياسيّين في لبنان.
الصدر حضر إلى طرابلس لكنّ بهشتي لم يحضر. لقد أحسّ الأوّل بالإهانة، خصوصاً وقد طال انتظاره هناك من غير أن ينجح في مقابلة العقيد. حزم حقائبه وتوجّه إلى المطار بهدف السفر إلى إيطاليا، لكنّ القذّافي تلقّى في تلك الغضون تحذيراً من بهشتي ينبّهه من “عمالة” الصدر. أزلام العقيد توجّهوا إلى المطار لمنعه من السفر. حقائبه وحقائب رفيقيه وصلت فعلاً إلى روما لكنّ أصحابها لم يصلوا. أمنيّو ليبيا هؤلاء تصرّفوا، على ما يبدو، بكثير من الخشونة مع الإمام. سيّد طرابلس استاء حين علم بتجاوزهم تعليماته، إلاّ أنّ حرجه بانكشاف ما جرى منعه من إطلاق سراح “ضيفه”. كان لا بدّ إذاً من “إخفائه” تلافياً للفضيحة.
يعزّز هذه الرواية علاقات الصدر بالإيرانيّين. فأصحاب الأسماء الذين ذُكروا بوصفهم على صلة به، أو صداقة معه، كانوا كلّهم من معارضي الشاه، لكنْ أيضاً من كارهي التطرّف الإسلاميّ الذي كان بهشتي أحد أبرز رموزه. لقد جاؤوا من البيئة المُصدّقيّة لـ “الجبهة الوطنيّة” ثمّ “حركة حريّة إيران” التي تولّى بازركان قيادتها. كلّهم كانوا من نجوم ثورة 1979 في طورها الأوّل، لكنّهم كلّهم واجهوا مصائر مأساويّة وشبه مأساويّة على يدها ويد المتتلمذين على “الشهيد” بهشتي: صادق قطب زادة تولّى عدداً من المناصب بينها النطق بلسان الخمينيّ، ثمّ وزارة الخارجيّة، لكنّه أعدم رمياً بالرصاص في 1982 بتهمة “التآمر على النظام”. تردّد أنّ شريكه في “التآمر” لم يكن أقلّ من آية الله شريعتمداري، رجل الدين الكبير المتحفّظ على “ولاية الفقيه”. ابراهيم يزدي، أوّل وزراء خارجيّة الثورة، استقال مع أزمة الرهائن الأميركيّين ونشط كمعارض معتدل على رأس “حركة حرّيّة إيران”. اتُّهم بـ “تهديد الأمن القوميّ” في 2011 وحُكم عليه بالسجن ثماني سنوات. صادق طباطبائي، ابن شقيقة الصدر، كان نائب بازركان في رئاسة الحكومة. انتقل إلى ألمانيا لاحقاً وهناك توفّي. مصطفى شمران تولّى وزارة الدفاع في حكومة بازركان. توفّي بعد إصابته بشظيّة في 1981 إبّان الحرب العراقيّة – الإيرانيّة. تلك الشظيّة وُصفت بـ “الغامضة المصدر”.
شمران وقطب زادة سُمّيا، في الأيّام الأولى للثورة، “المافيا السوريّة” في بلاط الخميني. أغلب الظنّ أنّ الصدر هو مَن بنى هذا الجسر بين الطرفين. هو، مثلاً، مَن وفّر لمعارض الشاه، قطب زادة، بطاقة عملٍ كمراسل في باريس لجريدة “البعث” السوريّة، وهو من استقدم شمران في السبعينات إلى لبنان ليكون “المسؤول التنظيميّ” الأوّل لحركة “أمل” ومن أوائل مدرِّبيها.
الطامحون في بيروت كانوا كثيرين، لكنّ اثنين منهم كانا الأبرز: حسين الحسيني بدا الوجه الأكثر تأهيلاً للحلول على رأس “أمل”، وهذا ما حصل: في أواخر أيلول 1978 انتخب الحسيني أميناً عامّاً “لمقتضيات المرحلة الطارئة في غياب سماحة الإمام القائد”. بعد سبعة أشهر انتُخب برّي أميناً عامّاً مساعداً.
الحسيني كان من أوائل الذين اعتنقوا الدعوة والتفّوا حول الإمام. وهو، فضلاً عن رئاسته بلديّة شمسطار، فاز في انتخابات 1972 نائباً عن بعلبك الهرمل. إلى ذلك، هو نجل وجيهٍ محلّيّ وملاّك أراضٍ (علي الحسيني) كان على صلة تجاريّة وعقاريّة وثيقة بآل السكاف في زحلة. عبر الحركة الجديدة، راح يتدرّج من زعامة صفّ ثانٍ في قضائه إلى زعامة صفّ أوّل في طائفته. لكنّ إحدى نقاط قوّة الحسيني هي التي غدت لاحقاً إحدى نقاط ضعفه: ذاك أنّ من أبرز أدواره في “أمل” توطيد الصداقات مع البيئة المسيحيّة، خصوصاً ريمون إدّه وجريدة “النهار”: فـ “السيّد حسين”، فضلاً عن صلته بالطاقم السياسيّ التقليديّ، ينتسب إلى منطقة كانت جزءاً من متصرّفيّة جبل لبنان، عائلاتُها، بما فيها عائلته، موصولة بأقارب لها في الجبل. لقد كان هادئاً، ومع أنّه ذو تكوين صلب فهو ليس من طبيعة نضاليّة. عالمه عالم السياسة اللبنانيّة التقليديّة، لا عالم التنظيمات والفصائل والسلاح. التحالف الشيعيّ – المسيحيّ هو الماء الذي يجيد السباحة فيه قبل أن ينضاف إليه التعايش المسيحيّ – السوريّ.
أصغر منه بعام واحد كان نبيه برّي، المحامي الصاعد في الحركة. بعثيّ في شبابه، ثمّ طامح إلى زعامة أوصدها في وجهه كامل الأسعد، علماً بأنّ آل فوّاز هم زعماء قريته، تبنين، وأكبر عائلاتها. رغم ذلك اصطحب الأسعد على لائحته، في 1964، محامياً من تبنين عائلتُه أصغر من آل برّي الصغيرة. المحامي، واسمه عبد الله الغطيمي، وصل عامذاك إلى البرلمان. تلك القرية تتمتّع برمزيّة أبعد تمنحها معنى التحدّي لمن يريد أن يتحدّى: قلعتها كانت مقرّ ناصيف النصّار، جدّ الأسعديّين.
لكنْ لئن كان الحسيني صلة الوصل مع الجوّ التقليديّ المسيحيّ، الذي أفل نجمه بعد “حرب السنتين”، فإنّ برّي كان صلة الوصل مع المقاومة الفلسطينيّة و”الحركة الوطنيّة” وأحزابها. صحيح أنّ تلك القوى لم يصعد نجمها بعد تلك الحرب، إلاّ أنّ تعلّم السياسة والمكائد على يدها، أنفع وأشدّ فائدة، في الزمن الجديد، من تعلّمه على يد ريمون إدّه وغسّان تويني.
وبرّي ليس ضابطاً، وبالتأكيد ليس سوريّاً، لكنّ سيرته وصعوده يشبهان سِيَر الضبّاط السوريّين في صعودهم. هذا ما مهّد للبعثيّ السابق الطريق إلى قلوب “الزملاء” المؤثّرين في دمشق. إلى ذلك اتّصف “الأستاذ نبيه” بفصاحة مؤكّدة يُعرف بها بعض أعيان القرى ومتكلّميهم. وهو، على ما يبدو، سمع أخبار أحمد الأسعد “الشعبيّة” التي كان يأسر بها بسطاء الريف، فحفظها وطعّمها بقصائد لشعراء مجّدوا الجنوب والصمود والمقاومة والتبغ. هكذا بات كامل الأوصاف، ما أتاح له أن يبيع السجّاد لبيوتٍ بلا أرضيّة.
لقد مثّل الحسيني استئناف الحيرة الصدريّة في زمن يتطلّب الحسم، أيّاً كان الحسم. ومنذ القرن الرابع عشر، اكتشف الفرنسيّ جان بوريدان أنّ طول الحيرة والضياع بين الخيارات قد يقضيان بالموت جوعاً على الحائر. برّي، الذي اختار منذ بداياته أن يكون حاسماً، لا يريد إلاّ أن يأكل.

(6)

بدت سَنتا 1978 – 1980، وهما “عهد” حسين الحسيني في قيادة “أمل”، سنتين عاصفتين تستأنفان “حرب السنتين” بأسماء وعناوين أخرى. خلال تلك الفترة القصيرة، وفي ظلّ اختفاء الإمام الصدر في ليبيا، انتصرت ثورة الإمام الخميني في إيران، فيما بدأت الطائفة الشيعيّة اللبنانيّة تتبلور كقوّة عسكريّة. هكذا هبّ العنف مجدّداً من كلّ صوب، في الأفعال لكنْ أيضاً في الكلام والكتابة والمخاطبات العامّة.
القرابات، من جهتها، حالت دون التعيين الدقيق لمرتكبي ذاك العنف، وباتت حدود “التنظيم” أوهى من أن تصدّ العائلات والعشائر المتداخلة فيه، جاعلةً القرار المركزيّ الواحد شيئاً يتراوح بين الطوبى المُشتهاة والدعاية الرخيصة. لقد باتت العائلة والعشيرة تبادران باسم “التنظيم” الطائفيّ بأكثر ممّا يستطيع “التنظيم” تمثيلهما أو التنصّل منهما.
ذاك أنّ الطائفة، التي نامت طويلاً، استيقظت بقوّة على نفسها وعلى محيطها المباشر، وجاءت يقظتها مُتخَمَة بالكوابيس. وفي الجنوب خصوصاً، لكنْ في ضاحية بيروت الجنوبيّة ومناطق أخرى كذلك، كان من تحصيل الحاصل اصطدام تلك اليقظة بالسلطة القائمة، سلطةِ المقاومة الفلسطينيّة وتابِعتِها “الحركة الوطنيّة”. فلسنواتٍ أبدى الأخيرون تجبّراً وقلّة اكتراث بالسكّان المحلّيّين كانت ذروتهما عمليّات لم تنجح إلاّ في استدراج الردود المدمّرة من إسرائيل.
هكذا بدا أنّ الائتلاف العريض الذي قاتل المسيحيّين وقاتلوه في 1975 – 1976، كان ينتظر بلهفة انتهاء “حرب السنتين” كي يباشر بعضُه ذبح بعضه الآخر.
الثورة الإيرانيّة، من ناحيتها، وفّرت للشيعة القوّة والتمكين، خصوصاً وقد أُسبغت عليها الفرادة في التاريخ. فهي، وفقاً للرواية التي سادت، لم تُسقط عرش الشاه فحسب، بل زعزعت أركان أميركا والغرب وإسرائيل، كما أسّست نموذجاً كامل الجدّة والاستثنائيّة. لكنّ الثورة وفّرت للشيعة شيئاً آخر أيضاً. فهي حرّرتْهم من كلّ شعور بالذنب جرّاء صدامهم بالفلسطينيّين، أصحاب “القضيّة” الذين كانوا حينذاك، مثلهم مثل خصومهم المسيحيّين، يضمّدون جراح “حرب السنتين”: أوليس الإمام الخمينيّ ألدَّ أعداء “الكيان الصهيونيّ”، هو الذي جعل سفارته في طهران سفارةً لفلسطين، وأكّد، مرّة بعد مرّة، عزمه على الصلاة في القدس؟
أمّا الإمام الآخر فصار غيابه في ليبيا حجّةً على الظلم لا تقبل الجدال، حجّةً تعزِّز تلك الهويّة التي لم تكفّ عن استعادة مأساة المظلوم الأكبر الحسين بن عليّ. هكذا جاء الدعم المعنويّ من حضور أحد الإمامين بقدر مجيئه من غياب الثاني.
شيوعيّون وبعثيّون…
في معارك “أمل” أواخر السبعينات، خفقت أعلام المظلوميّة في مواجهة ظالمٍ هو الفلسطينيّ – الشيوعيّ، كما تضامن الكثير من الدين والكثير من الفساد والجريمة والطائفيّة، وهذا كلّه من مضامين الطائفة، أيّة طائفة، حين تتحسّس قوّتها وتضعها موضع التنفيذ. لقد بدا التلوّث والرثاثة يومذاك قاسماً مشتركاً بين لبنانيّة وفلسطينيّة صقليّتي الأخلاق، لا تتحقّقان إلاّ بالتآمر والضديّة وسفك الدم. هكذا راح كلٌّ من الطرفين ينبش الصفحات القديمة عن الخيانة والغدر في تاريخ الآخر كي يستمدّ منها المبرّر والحافز للانقضاض عليه: البيئة الفلسطينيّة والشيوعيّة استعادت روايتها عن أنّ “أمل” هي التي سلّمت النبعة في 1976، وارتفعت مجدّداً أصواتها التي تحيط ماضي الصدر وأصوله وارتباطاته بعلامات استفهام كثيرة. البيئة الشيعيّة لم تفتقر، بدورها، إلى رواية تآمريّة عن توافق فلسطينيّ – إسرائيليّ على تفريغ الجنوب، فيما البرهانُ الذي يقطع الشكَّ باليقين ما يحصل على الأرض من تجبّر وانتهاك.
أمّا الجهتان الأكثر استهدافاً، بالإجلاء عن مناطق وقرى معيّنة، كما باغتيالات نُفّذت هنا وهناك، فكانتا الشيوعيّين اللبنانيّين وبعثيّي العراق وجبهتهم “جبهة التحرير العربيّة” التي خصّتها بغداد بالشأن الفلسطينيّ. ذاك أنّ الشيوعيّين ذوو حضور تاريخيّ بين شيعة الجنوب، فضلاً عن كونهم أبرز الغطاءات المحلّيّة التي تغطّى بها العمل الفلسطينيّ المسلّح. وبدورهم، كان البعثيّون والأمليّون يتشاركون في استيراد نزاع عراقيّ طرفاه صدّام حسين ومراجع الشيعة في النجف وكربلاء. الشيعة العراقيّون الذين كانوا يتدفّقون على لبنان، هرباً من طاغية بغداد، باتوا الزيت الذي يُصبّ على تلك النار.
وما بين الضاحية الجنوبيّة وقرى جنوبيّة كحناويه في قضاء صور والسكسكيّة في قضاء صيدا، سال دم كثير، واستعرضت المنظّمات، التي نشأت بذريعة “تحرير فلسطين”، قسوة هائلة حيال قرويّين قُصفوا من دون رحمة. أمّا دمشق، وكانت ترعى الوضع اللبنانيّ يومذاك، فلم تجد ما يدعوها إلى وقف النزف ما دام يصيب موالين لصدّام حسين وياسر عرفات، ولو كلّف الأمر التضحية بمدنيّين من الجنوب، أو بشيوعيّين لا يحفل بهم أحد، فضلاً عن أنّهم، هم أنفسهم، لا يحفلون بأحد. وإذ أُخرج الأخيرون كلّيّاً من الضاحية، فقد تدخّل حافظ الأسد مرّة واحدة حين اتّصل بعرفات، طالباً وقف الهجوم المضادّ على “أمل” في السكسكيّة. ذاك أنّ انهيار التوافق الإقليميّ الذي تمّ التوصّل إليه في 1976 رشّح الحركة الصدريّة لدور الرقيب الذي تطمئنّ إليه سوريّا في المناطق الحدوديّة، وهو ما لا تؤتَمن عليه منظّمة التحرير الفلسطينيّة.
وفي ظلّ الاستباحة التي رزح لبنان تحتها يومذاك، استحسن عقل حميّة، أحد أبرز الكوادر العسكريّة في “أمل”، خطف طائرة متوجّهة من بيروت إلى عَمّان. العمليّة تلك، التي حصلت في 16/1/1979، “ردّاً على” اختطاف الصدر في ليبيا، كانت الأولى في عمليّات خطف متلاحقة نفّذها حميّة. لقد عاث الفساد في الجوّ أيضاً.
تبدّل في القيادة
لم يكن حسين الحسيني ممّن يكنّون عواطف خاصّة للشيوعيّين والبعثيّين، ولا لشاه إيران في المقابل، إلاّ أنّه لم يكن من دعاة العنف المفتوح والفوضى المجنونة. لقد أيّد الثورة الإيرانيّة بشيء من الفتور والمسافة، كما انضبط عداؤه لأحزابٍ كالشيوعيّ والبعث بحدوده السياسيّة. صداقته لألبير منصور، زميله في البرلمان عن القضاء نفسه، وصديق الشيوعيّين أيضاً، قوّت عنده نوازع اللين والرأفة.
لكنّ الأهمّ أنّ الحسيني كان يقيم في واجهة “أمل” فيما نبيه برّي، المتتلمذ على خصومه في المقاومة الفلسطينيّة و”الحركة الوطنيّة”، هو مَن يتغلغل في قواعدها. هكذا، وتحديداً يوم 4 نيسان 1980، استقال الأوّل من قيادة الحركة، مقترحاً في استقالته “اختيار نجل الإمام الصدر السيّد صدر الدين لهذه المهمّة”. برّي هو من حلّ في القيادة. صدر الدين غاب عن السمع والنظر.
والحال أنّ الحسيني ربّما حدس بأنّ الآتي من الجوار سيكون أعظم، وأنّ المطر اللبنانيّ المسموم سوف يلتحم بمطر إقليميّ أشدّ سمّيّةً وحموضة. وبالفعل فبعد خمسة أيّام على استقالته، أعدم صدّام حسين زعيم “حزب الدعوة” الشيعيّ العراقيّ محمّد باقر الصدر وأخته بنت الهدى، وفي أواخر تمّوز من العام نفسه، اغتيل في بيروت موسى شعيب، الشاعر البعثيّ العائد من بغداد بعد إلقائه قصيدة تهجو الخميني في حضرة صدّام. لكنّ الزلزال ما لبث أن ضرب ضربته في أيلول، حين باشر العراق هجومه على إيران، ما فجّر حرب الثمانينات المدمّرة على ضفّتي الخليج.
في 1981، وحرصاً على بقاء الثنائيّ الجنوبيّ – البقاعيّ في قيادة “أمل”، بات حسين الموسويّ، البقاعيّ، نائباً لبرّي، الجنوبيّ، بعدما كان الأخير نائباً للحسيني، البقاعيّ. لكنْ بينما كانت تتواصل المواجهات المتقطّعة، في بيروت وفي الأطراف، بين المسلّحين الفلسطينيّين والشيعة، وهو ما استمرّ حتّى اجتياح 1982 الإسرائيليّ، بدأت تظهر أسماء جديدة لتنظيمات شيعيّة على علاقة ملتبسة بـ “أمل”. الحدث الهيوليّ الذي سجّله ذاك العام كان تفجير السفارة العراقيّة في بيروت التي غدت أثراً بعد عين. التفجير ذاك وُجد من ينسبه إلى قياديّ لاحق في “حزب الله” اللاحق، اسمه عماد مغنيّة.
لقد بدا واضحاً أنّ “الصعود الشيعيّ” بين 1978 و1980، كما مثّلته “أمل”، موجّه أساساً ضدّ الفلسطينيّين. الأخيرون الذين هُزموا في “حرب السنتين” ينبغي استكمال هزيمتهم بما يستجيب حاجتين متطابقتين: حاجة الشيعة إلى التحرّر من سلطتهم وحاجة حافظ الأسد إلى توسيع نفوذه لبنانيّاً، وخصوصاً جنوبيّاً. لكنْ منذ 1980، بدأ طرف شيعيّ آخر بالظهور، طرفٌ ينوي وضع “الصعود الشيعيّ” في مواجهة العراق الصدّاميّ. إسرائيل كانت تفصيلاً. إيران هي الأولويّة.

(7)

في 1982، وكان توماس فريدمان يراسل “نيويورك تايمز” من بيروت، أخبره غسّان تويني، بعد وصول قوّات المارينز إلى لبنان، بأنّ “حقبة تشي غيفارا في السياسة اللبنانيّة ولّتْ، والناس انقضت متعتُهم مع الراديكاليّة. اللحى وبنطلونات الجينز تخرج. ربطات العنق تدخل”.
لم يكن في وسع المحلّل، ولو تعمّد الخطأ، أن يخطىء أكثر. الحداثويّة المبسّطة، التي عبّر تويني عنها، بدت لزوم ما لا يلزم.
فـ “اللحى وبنطلونات الجينز” كانت يومذاك تؤسّس العالم الجديد وتكتب قصّةً باتت بدايتها معروفة، وإن ظلّت نهايتها مجهولة حتّى اليوم.
لقد تأخّر الإعلان عن الولادة الرسميّة لـ “حزب الله” حتّى 1985. المهمّة أوكلت إلى ابراهيم أمين السيّد الذي سُمّي ناطقاً بلسان الحزب، ربّما تقليداً للّقب الذي أعطي لياسر عرفات في السنوات الأولى لحركة “فتح” الفلسطينيّة. في 1989، بُعيد اتّفاق الطائف، أصبح للحزب أمين عامّ معلن هو صبحي الطفيلي.
كان واضحاً، منذ أوائل الثمانينات، أنّ تنظيماً سياسيّاً جديداً، يقوده رجال دين شيعة، رأى النور. ما بدأه موسى الصدر، بإعادته الاعتبار إلى الشيوخ، من دون أن يرشّحهم للحكم والسلطة، بلغ، مع الحزب الناشىء، خلاصاته المنطقيّة القصوى. نظريّة “ولاية الفقيه”، التي نشرتْها الثورة الإيرانيّة، صبّت أيضاً في الوجهة هذه: من يؤمّ الناس في الصلاة يؤمّهم في السياسة.
في وقت لاحق، تردّدت رواية تفيد أنّ الحزب تأسّس في أحد أيّام 1982 في السفارة الإيرانيّة بدمشق، حين كان السفير حجّةَ الإسلام علي أكبر محتشمي. مذّاك، شرع المدرّبون الإيرانيّون يتقاطرون، عبر دمشق، إلى مدينة بعلبك. الشبّان اللبنانيّون كانوا ينتظرون مَن يعلّمهم، في وقت واحد، القتال والتديّن على الطريقة الإيرانيّة: هذه أجسادنا وعقولنا فاصنعوها.
في البداية، بدا الاسم مثيراً لسخرية البعض، إذ لم يكن مألوفاً التعاملُ مع الله بوصفه مؤسّس حزب أو رئيساً له أو أميناً عامّاً. الحزب نبّه هؤلاء، عبر شعاره المكتوب على عَلَمه، إلى آية في “سورة المائدة” تقول: “إنّ حزب الله هم الغالبون”. آخرون تذكّروا فجر الثورة الإيرانيّة، حين أسّس حجّة الإسلام هادي غفاري “حزب الله” الذي تولّى، إبّان “الثورة الثقافيّة” في 1980، “تطهير” الأكاديميا الإيرانيّة من “التأثيرات الغربيّة” وإرهاب الأساتذة والطلبة المستقلّين والليبراليّين واليساريّين.
الانقلاب الكبير
بالطبع كان الاجتياح الإسرائيليّ وما أعقبه من احتلالٍ ما وفّر “القضيّة” وعلّة الوجود لـ “حزب الله”. وبدوره، راح الأخير يتصرّف كما لو أنّه يفتتح، كلّ يوم، عصراً للبطولة. لكنّ الافتراق عن “طريقة الحياة اللبنانيّة”، التي أودعت البطولات في الأساطير وكتب التاريخ السحيق، راح يتكشّف تباعاً. ثمّ إنّ اللبنانيّين عرفوا، قبل الحزب المذكور، أحزاباً طائفيّة كثيرة وأحزاباً دينيّة قليلة، لكنّهم معه شرعوا يتعرّفون إلى حزب دينيّ وطائفيّ في آن معاً. والأهمّ، في محاكمة تطال مسار الحزب المديد، كان انقلابه المتنامي على طقوس الشيعة اللبنانيّين عبر استدخال طقوس إيرانيّة، والتغييرات التي أحدثها على معاني الحياة والموت والشهادة، فضلاً عن إقحامه عاداتٍ وتقاليد جديدة على سيولة الحياة السياسيّة والاجتماعيّة: هنا بِتنا أمام تشكيل يصحّ فيه الكثير من مواصفات التنظيم التوتاليتاريّ في ما خصّ العقيدة والقائد وتكريس النفس لخدمتهما حتّى الموت.
بنتيجة هذا الجهد الدؤوب، الذي عزّزه المال الإيرانيّ معطوفاً على التسليح والتدريب، قبل أن ترفده التسهيلات السوريّة، تحوّل الحزب قوّةً لا تملك مثلها الدولة والجيش اللبنانيّان، والأخيران مُعرّضان أصلاً للانشقاق في أيّة لحظة. أمّا القوّة هنا فلا تقتصر على المعنى العسكريّ، إذ تشمل المؤسّسات – الاجتماعيّة والطبّيّة والإعلاميّة والتعليميّة والكشفيّة وسواها – بوصفها مصدراً هائلاً لفرص العمل، ومصدراً آخر لتقديم الخدمات والرعاية، ناهيك عن كونها مصنعاً لصهر العقول وصبّ السلوك والأفعال في نمط وقالب.
الحزب، في بداياته، دعا إلى إنشاء “جمهوريّة إسلاميّة في لبنان”. مُحازبوه رشّوا موادّ حارقة على فتيات في بعلبك لبسن تنانير وفساتين “غير محتشمة”. الشعار الذي يَهدي السلوك كان: “حجابكِ أغلى من دمي”.
إذاً، كان الحزب، في الخلاصة، انقلاباً كاملاً على كلّ ما ألفه اللبنانيّون.
لكنّ الطريق إلى “حزب الله” شهدت تعرّجات عدّة. الذين يعرفون بعض الأسماء البارزة في قيادته لاحظوا أنّ مصادره ثلاثة: فهم إمّا منشقّون عن “أمل”، أو منتسبون سابقون إلى “فتح”، أو مناصرون لـ “حزب الدعوة” الإسلاميّ الشيعيّ في العراق. كذلك فالصيغ التي سبقت التأسيس الرسميّ عديدة، الكثيرُ منها كان شراكةً مع “أمل” عبر جسر القرابات العائليّة وتداخل الهويّتين. كانت هناك “منظّمة الجهاد الإسلاميّ” التي نفّذت عمليّات إرهابيّة كبرى تستهدف كلّ ما هو أميركيّ وفرنسيّ، و”المقاومة المؤمنة” التي كانت أهدافها داخليّة أهمّها، في أغلب الظنّ، الشيوعيّون، و”اتّحاد الطلبة المسلمين” ممّن تأثّروا بمحمّد حسين فضل الله وتعاليمه. وبعد الغزو الإسرائيليّ مباشرة، انشقّ عن “أمل” حسين الموسوي، نائب نبيه برّي الذي تولّى نيابته قبل أشهر فقط، لينشىء “أمل الإسلاميّة” التي ما لبثت أن صبّت في حزب ولاية الفقيه.
هؤلاء، منذ 1982، نفّذوا عملّيّات كبرى أسموها استشهاديّة، وأسماها سواهم إرهابيّة وانتحاريّة. الأهداف الأبرز كانت السفارتين الفرنسيّة والأميركيّة في بيروت، والقوّات الأميركيّة والفرنسيّة العاملة ضمن نطاق متعدّدي الجنسيّة في لبنان. القتلى والجرحى كانوا بالمئات. كذلك اختُطف وقُتل أميركيّون وفرنسيّون وعرب، واختُطف ديبلوماسيّون سوفيات وقنصل سعوديّ وأساتذة جامعيّون وباحثون أجانب.
الضربات لم تقتصر على لبنان. امتدّت إلى بلدان كالكويت وتركيّا، وفي وقت لاحق إلى الأرجنتين. هكذا ولأوّل مرّة أصبح لبنان فعلاً في قلب الكون، لكنْ بغير المعنى الذي قصده الفولكلور المسيحيّ الجبليّ: ثمّة لبنانيّون باتوا يتصدّرون أخبار العالم، بعضهم قاتلٌ وبعضهم قتيلٌ، بعضهم يهرّب وبعضهم يصلّي.
ربطاً بإيران
في تلك العمليّات كان واضحاً، أقلّه حتّى أواسط الثمانينات، أنّ التداخل بين “الحزب” و”الحركة” أقوى من الانفصال. في 1985، خطّط القياديّ الأمليّ عقل حميّة لخطف طائرة تي دبليو أي، كان على متنها المطرب اليونانيّ ديميس روسّوس. الشبّان الذين نفّذوا الخطف كانوا من “حزب الله”، سمّوا أنفسهم “منظّمة المضطهَدين في الأرض”. في 1986، أسرت “أمل” الطيّار الإسرائيليّ رون أراد الذي سقطت طائرته في الجنوب. الرواية التي شاعت تقول إنّ أراد انتهى في إيران…
لوحظ أيضاً أنّ المخطوفين الذين يُطلق سراحهم يبادرون إلى شكر الرئيس السوريّ حافظ الأسد، وأحياناً القيادة الإيرانيّة، تماماً كما أنّ الكثيرين ممّن ينوون تنفيذ عمليّات انتحاريّة يُهدون عمليّاتهم إلى أولئك القادة أنفسهم.
الملاحظة الأهمّ، على أيّة حال، كانت ارتباط الخطف ومعظم التفجيرات الكبرى بالحرب العراقيّة – الإيرانيّة التي وقفت فيها دمشق إلى جانب طهران. من خلال الضغط، بالرهائن وبالتفجيرات، تُدفَع الولايات المتّحدة إلى موقف أقلّ انحيازاً للعراق، أو تُدفع فرنسا إلى التوقّف عن مدّه بالسلاح… في أواخر 1986، مع انكشاف إيران – غيت، تبدّى أنّ المعركة التي تُخاض ذات أغراض إيرانيّة تتقدّم كلّ غرض آخر. ما كان يُحسَم من صورة لبنان وأمنه واقتصاده وسمعته كان يضاف إلى الموقع التفاوضيّ الإيرانيّ.
نبيه برّي كان لا بدّ أن يرسّم الحدود بينه وبين “حزب الله”، خصوصاً أنّ سوريّا، في ظلّ حافظ الأسد، شاءت أن تستضيف الإيرانيّين في لبنان، لا أن تكون رهينتهم فيه.
والحال أنّ رئيس “أمل”، المولع بـ “الحِكَم” والأمثال الريفيّة، يحبّ أن يأكل العنب، لا أن يقتل الناطور. والعنب لبنانيّ تعريفاً، فإذا زال لبنان زال العنب. أمّا “حزب الله” فيذهب بعيداً في دينيّته وبعيداً في إيرانيّته، ما قد لا يُبقي عنباً يؤكل. ولئن كان الحزب، منذ إبصاره النور، مشروعاً إيديولوجيّاً متطرّفاً، فإنّ براغماتيّة برّي يمكن أن تتطرّف في اتّجاه معاكس وتجعل صاحبها رجلاً من طبيعتين. فهو حتّى هواه السوريّ شابَهُ بعض الفتور حين بدا، مع الاجتياح الإسرائيليّ، أنّ دمشق قد لا تستطيع إعطاءه الكثير. هكذا جاءت مشاركته في “هيئة الإنقاذ”، التي شكّلها الرئيس الياس سركيس وضمّت بشير الجميّل في مَن ضمّت، نوعاً من استكشاف طَموح للاحتمالات كلّها. هذا التطوّر جاء مرفقاً بتكهّنات عن “حلف مارونيّ – شيعيّ” يكون رمزاه الجميّل وبرّي “الشابّان”، كما يكون بديلاً عن الثنائيّة القديمة المارونيّة – السنّيّة الموصوفة بالهرم.
انشقاق الموسوي عنه، اعتراضاً على مشاركته تلك في “هيئة الإنقاذ”، لم يكن غير إيذان مبكر بتضارب المنطلقات بين التنظيمين. فالحزب قدّم نفسه، منذ نعومة أظفاره، رديفاً لـ “المقاومة” وقدّم “المقاومة” رديفاً له. أمّا قيادة “أمل” فأصيبت بشيء من الضياع والارتباك حيال الغزو الإسرائيليّ، تاركةً للظروف والمناطق والاعتبارات الأهليّة أن تتحكّم بالقرار: هنا نقاوم وهناك نرفع أعلاماً بيضاء. هنا نبارك الأهالي وهم يرشّون زهراً وأرُزّاً على الإسرائيليّين، معبّرين عن فرحهم بالخلاص من السلطة الفلسطينيّة السابقة، وهناك نباركهم وهم يبادرونهم بالرصاص والزيت المغليّ والعمليّات الانتحاريّة، تعبيراً عن مقاومتهم للغزاة. ولئن وُلد الحزب إيرانيّاً خالصاً، فإنّ سوريّةَ الحركة لم ترتقِ إلى تطابق كامل إلاّ بعد أحداث وتطوّرات بعينها: فوهمُ الخلاص الجنوبيّ قلّصته العنجهيّة الإسرائيليّة التي تُذلّ قرية بكاملها كي لا تعرّض أحد جنودها للخطر، تماماً كما قضى اغتيال بشير على وهم الخلاص المسيحيّ. وإذ ضغطت المزايدات الإسلاميّة والراديكاليّة، خصوصاً منها تلك الإيرانيّة المصدر، فإنّ سوريّا ضغطت بدورها، خصوصاً بعد 17 أيّار. لسان حالها كان يقول: إمّا معنا أو ضدّنا.
على العموم، اختلف التنظيمان في النشأة والمسار والهدف، ووُضع حصر الإرث وفرز الأملاك على جدول الأعمال.

(8)

على مدى الثمانينات، بقي “برنامج” حزب الله محكوماً بحرب الخليج. هنا تكمن القضيّة التي لأجلها قاتلَ وقتلَ ودفع أكلافاً باهظة، بما فيها متفجّرة بئر العبد، عام 1985. المُستهدَف الأوّل بالمتفجّرة كان محمّد حسين فضل الله الذي درج الإعلام الغربيّ على وصفه بـ “المرشد الروحيّ لحزب الله”.
العمليّات ضدّ إسرائيل عزّزت صورة الحزب كمقاومة للغزاة على حساب صورته الأخرى كأداة لتوسيع رقعة النفوذ الإيرانيّ في لبنان وعلى حدوده. إلى ذلك، بدت تلك المقاومة ربحاً خالصاً لسوريّا التي استأنفت تصدير نزاعها مع الإسرائيليّين إلى “الساحة اللبنانيّة”، فيما كانت تخوض، في “الساحة” نفسها، حربها على الفلسطينيّين والمسيحيّين والسلطة المركزيّة في بيروت. الحروب كلّها كانت تُخاض بأيدي لبنانيّين لا تنقصهم الحماسة للقتال. الاحتلال الإسرائيليّ بدا هديّة من السماء لمُقاوميه الكثيرين.
“برنامج” “أمل” اختلف: لا بأس بشيء من المقاومة بين وقت وآخر، وبشهيد هنا وشهيد هناك، إلاّ أنّ الأهمّ انعكاس ذلك على الموقع السلطويّ في بيروت. هنا يكمن الموضوع الأساس وعنوانه الأبرز أمين الجميّل و17 أيّار، أمّا ذروته فكانت “انتفاضة” 6 شباط 1984. في حكومة ما بعد إلغاء 17 أيّار الكراميّة، حلّ برّي وزيراً ولم يعد يغادر الوزارة.
بندٌ آخر كان أساسيّاً في “برنامج” برّي و”أمل”: حرب المخيّمات التي اندلعت أواسط 1985 ولم تتوقّف إلاّ في صيف 1988. هذه كانت من أقسى حروب لبنان ما بين 1975 و1989، ومن أشدّها إيلاماً للفلسطينيّين المحاصَرين. لقد نفّستْ مشاعرَ شيعيّة متراكمة لم تعرف الإشباع لكنّها، في آخر المطاف، كانت جزءاً من مواجهة سوريّة – فلسطينيّة سمّتْها دمشق استئصالاً للعرفاتيّة.
في موازاة حرب المخيّمات، تعاونت “أمل” الشيعيّة مع “الاشتراكيّ” الدرزيّ ضدّ “المرابطون” السنّة، فأُخضع الأخيرون. وبسبب اجتماع الحرب على المخيّمات وحرب صغرى على ميليشيا سنّيّة، وجد القائلون بتهميش السنّة كنزاً من الحجج. لقد أريدَ تلخيص الساحة البيروتيّة وحصر القوى المستفيدة من طرد “سلطة أمين الجميّل”. بيد أن المنتصرَين الشيعيّ والدرزيّ ما لبثا، في 1987، أن انخرطا في حرب طاحنة أخرى استدعت دعوة القوّات السوريّة مجدّداً إلى بيروت. العاصمة اللبنانيّة اكتمل سقوطها، والحال هذه، في يد حافظ الأسد. إذاً، وفي حساب المنتصرين الجدد، لفظَ غزو 1982 الإسرائيليّ آخر أنفاسه، علماً بأنّ الرئيس السوريّ امتنع، مرّة أخرى، عن التقدّم جنوباً.
“حزب الله” نأى بنفسه عن حرب المخيّمات، لكنْ ظلّ المشترك بين الطرفين الشيعيّين تقليم أظافر الشيوعيّين وما عُرف بـ “جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة” ذات الجدوى العسكريّة المحدودة في مواجهة إسرائيل. هنا أيضاً فعلت الصلات القرابيّة فعلها وخطّتْ آخر فصول التعاون بين “الأخوين” قبل حلول القطيعة. فعند الحزب، قد يجوز الإقرار بحصّة سوريّة في مناطق الحدود تساكن الحصّة الإيرانيّة الكبرى. الأمر الواقع والتحالفات وتوازنات القوى تفرض ذلك. أمّا السماح للشيوعيّين ببعض هذا المجد فسخاءٌ مجّانيّ ليس من شيم الأحزاب التوتاليتاريّة. فوق هذا، فالصراع مع “الشيطان” الإسرائيليّ يستدعي في مواجهته قوى إلهيّة، فيما القوى العلمانيّة أطرافها مبلولة بالشيطان. حضورها يشوّه صورة المعركة ويسيء إلى صفائها. ألم يتعامل المعلّم الإيرانيّ الأكبر مع شيوعيّيه بوصفهم جوقة شياطين حُمر صغار؟
عند “أمل”، وفضلاً عن الأحقاد الشيعيّة – الفلسطينيّة/ الشيوعيّة، التي تعود إلى أواخر الستينات، أُخذ على الشيوعيّين امتناعهم عن خوض حرب المخيّمات التي باتت معياراً للحكم والمحاكمة. كماليّات عدم المشاركة قد تجوز لـ “حزب الله”، بسبب قوّته وعلاقته بإيران، لكنّها حكماً لا تجوز لغيره. الشيوعيّ تحديداً مُطالَب دائماً بإظهار وفائه للطوائف القويّة، وكلُّ تمايزٍ عنها، في الرأي والسلوك، يردّه صعلوكاً طريداً.
وبالطبع كانت سوريّا الأسد هناك: إنّها، منذ 1976، ترى أنّ الحدود، والتماسّ مع إسرائيل، أثمن من أن تُترك للشيوعيّين، فكيف وأنّهم لم يعلنوا تبرُّؤهم من عدوّها ياسر عرفات؟
هكذا، وفي تلخيص آخر للساحتين الشيعيّة والجنوبيّة، اغتيل في 1986 و1987 رموز شيوعيّون كخليل نعوس وسهيل الطويلة وحسين مروّة وحسن حمدان وسواهم، ودارت في غير منطقة معارك بين “مسلّحين شيوعيّين” و”مسلّحين شيعة”. في الوقت نفسه تقريباً كان “حزب الله” يُجلي السوريّين القوميّين عن مشغرة في البقاع.
لقد كان للحرب على “العرفاتيّة”، مصحوبة بتحويل “المقاومة” من ملكيّة حصريّة للسنّة، أكانوا فلسطينيّين أم لبنانيّين، إلى ملكيّة حصريّة للشيعة، أن أسّست مبكراً إحدى خلفيّات الصراع السنّيّ – الشيعيّ الذي سينتشر، بعد سنوات قليلة، في المنطقة كلّها.
الحرب الشيعيّة – الشيعيّة
بطن الحرب بدا بالغ الخصوبة، والقوّتان الشيعيّتان أثبتتا أنّهما تستطيعان خوض معارك عدّة في وقت واحد. أمّا ترسيم الحدود بينهما، وبين النفوذين الإيرانيّ والسوريّ، فكان يرتفع بإيقاع يوميّ إلى سويّة الأمر المُلحّ والمباشَر. انسحاب إسرائيل في 1985 إلى الشريط الحدوديّ عزّز التنازع على المناطق المحرّرة الممنوعة على “سلطة أمين الجميّل”.
“حزب الله” استخدم في الحرب الحجّة التي استخدمها في وقت لاحق ميشال عون إبّان حربه على “القوّات اللبنانيّة”: “أمل” ميليشيا مكروهة من السكّان فيما نحن مقاومة السكّان. الحرمان كذبتُهم لكنّه حقيقتنا. “أمل”، بدورها، لم تقتصد في التهجّم على نوايا إيرانيّة توسّعيّة، واجهتْها بخلطة من الوطنيّة اللبنانيّة والعروبة. نبيه برّي صار فخر الدين المعنيّ مدموجاً بسعد بن أبي وقّاص.
لقد شملت الحرب معظم مناطق السكن الشيعيّ، لكنّ كلفتها الإنسانيّة والعمرانيّة بلغت مداها في الضاحية الجنوبيّة. ذاك أنّ أعمال التهجير السابقة ثمّ نشأة المناطق المُستحدَثة، كحيّي السلّم وماضي وبير العبد والرمل العالي، والتي أقبل أبناؤها على الحزب والحركة سواء بسواء، ضخّمتْ ذاك التجمّع المدينيّ ووفّرت للقذائف أهدافاً بشريّة ومادّيّة جاهزة. قليلةً كانت القذائف التي لم تعثر على رأس أو على مبنى سكنيّ تقع عليه.
في تلك الحرب، وفي 1987 تحديداً، جدّ الحدث الكاشف بدلالاته القرابيّة والتنظيميّة. فبعدما سقطت الضاحية في يد الحزب، أقدمت الحركة على طرد قائدها العسكريّ عقل حميّة من صفوفها. لقد اتُّهم حميّة بتسليم الضاحية لحزب الله. في الوقت نفسه، كان الفلسطينيّون يعرّفون عنه بـ “جلاّد المخيّمات”.
قادةٌ آخرون كانت حظوظهم أسوأ: في 22 أيلول 1988، وعلى طريق الأوزاعي، اغتيل ثلاثة من قادة “أمل” هم داوود داوود ومحمود فقيه وحسن سبيتي. نبيه برّي هاجم النفوذ الإيرانيّ وقال إنّ مُدّعي المقاومة يقتلون القادة بأكثر ممّا تفعل إسرائيل. هناك مَن ذهب أبعد وإن في اتّجاهات معاكسة من التأويل والتكهّن. قيل، مثلاً، إنّ داوود ورفيقيه بات همّهم الأوحد أن يضمنوا جنوباً خالياً تماماً من حزب الله، وأنّهم مستعدّون للتعامل مع أيّ عدوّ لهذا الغرض. قيل أيضاً إنّ داوود منافس قويّ على زعامة “أمل”.
في الحالات جميعاً، برهنت الحرب الشيعيّة – الشيعيّة أنّ الحرب المارونيّة – المارونيّة التي أعقبت اغتيال توني فرنجيّة لعبُ أطفال كانوا يقلّدون الكبار. وحْلُ الكلام والتّهم لم يكن أقلّ من الدم الكثير المُهدَر.
البعد الإقليميّ لتلك الحرب جَلاه حدث آخر أسماه حزب الله “مجزرة ثكنة فتح الله”. هناك، وبعد الدخول السوريّ إلى بيروت الذي اقتصد الحزب في الاحتفال به، أقدم الضابط السوريّ جامع جامع على تنفيذ الإعدام رمياً بالرصاص بـ 22 من مقاتليه. حصل ذلك في 25 شباط 1987. المشهد والعقاب كانا مُرعبين للبنانيّين لم يعهدوا هذين الجبروت والرعونة في سلطتهم. حزب الله طالب بـ “محاكمة المسؤولين” ثمّ سمّى قتلاه “الشهداء المظلومين”، مُذكّراً بالشيوعيّين الذين اتّهموا “القوى الظلاميّة” بقتل رموزهم. ما من أحد يسمّي أحداً في هذا “العصر الجديد” وما من أحد يعيّن. بعد أقلّ من عقدين سيظهر من يقرن اسمي حزب الله وجامع جامع في عمليّة واحدة جبّارة اسمها اغتيال رفيق الحريري.
لقد تنقّلت الحرب من منطقة إلى أخرى، وتقاسم طرفاها الانتصارات والهزائم، لكنّ ختامها الرهيب حطّ في إقليم التفّاح عام 1990 حيث سقط ما بين ألفي قتيل وثلاثة آلاف. اتّفاق الطائف كان قد وُقّع فاتحاً الباب لتوزيع حصص المرحلة المقبلة، أمّا الطرفان المحلّيّان والطرفان الإقليميّان فقنعوا بنهائيّة حصصهما وعرفوا ما يمكن وما لا يمكن: إنّ “أمل” جزء راسخ من النظام ومن المنظومة السوريّة الوصيّة على البلد، فيما حزب الله الميليشيا الوحيدة التي استثناها الطائف من تجريد السلاح. على هذه القواعد رعى “الأخوة” السوريّون والإيرانيّون مصالحة “الأخوة” في “أمل و”حزب الله”، ووُلدت بالتالي “الثنائيّة الشيعيّة” التي كوفئت على حروبها.
ميّت لا يموت
جهةٌ وحيدة ظلّت تشاغب على هذه الثنائيّة. إنّها البرلمان ممثّلاً بكامل الأسعد ثمّ بحسين الحسيني. لقد ظُنّ، إبّان الحروب الكثيرة التي كان يخوضها الحزب والحركة، أنّ ذاك الموقع المؤسّسيّ تحوّل إلى مجرّد مبنى مهجور في ساحة النجمة. لكنّ أمر البرلمان بدا أعقد قليلاً: نقطة قوّته هي الشرعيّةُ الدستوريّة التي يمثّلها، ونقطة ضعفه أنّه انتُخب في 1972، وعاش بفعل التمديد المتواصل، ما أدّى إلى تآكل شرعيّته تلك وأنهى زمن صلاحها.
كامل الأسعد تمكّن، بفضل رئاسته هذا المجلس حتّى 1984، أن يرعى انتخاب رئيسي جمهوريّة كتائبيّين. لقد مثّل بصلفه وعجرفته وتعلّقه بعالم بائد، ولكنْ أيضاً بشجاعته وضرب من الوطنيّة الرجعيّة تحلّى به، المقاومةَ الشيعيّة الضعيفة للنفوذين السوريّ والإيرانيّ. بالطبع لم يُعيَّن الأسعد للنيابة في 1991، واستمرّ في 1992 و1996 و2000 يخوض الانتخابات وسط غابات من السلاح المعادي، و”المقدّس” أيضاً. أوضاعه الصحّيّة تدهورت وانعزل في بيته حتّى وفاته في 2010.
حسين الحسيني حلّ في رئاسة المجلس عام 1984. كان لا بدّ لتوازنات القوى التي ألغت 17 أيّار أن تنعكس على البرلمان وتطيح الأسعد الذي هو أحد أهمّ رموز الاتّفاقيّة المذكورة. الحسيني ليس مرفوضاً من قوى الأمر الواقع كالأسعد. إنّه من أصول صدريّة، وكان القائد الأوّل لـ “امل” بعد اختفاء الصدر. أمّا دوره النشط في اتّفاق الطائف فضمنَ تمديد رئاسة المجلس، أي المنصب الشيعيّ الأوّل، إلى أربع سنوات. في هذه الغضون، عارض 17 أيّار وأيّد الاتّفاق الثلاثيّ، فسجّل شرعيّة انتمائه إلى مؤسّسات التوافق مع سوريّا الأسد.
مع هذا، أظهر الحسيني أنّه أقلّ قدرة على التحمّل من سواه: بعد مقتل رشيد كرامي وتسلّم سليم الحصّ رئاسة الحكومة، ضدّاً على الرغبة السوريّة في إدامة الفراغ، قدّم استقالة تراجع عنها لاحقاً، فيما ألمّت وعكة بالحصّ أودت به إلى المستشفى. حصل ذلك بعد لقاء جمع عبد الحليم خدّام بالاثنين.
بُعيد الطائف، تردّد أنّ رينيه معوّض والحسيني سوف يشكّلان ثنائيّة أكثر حزماً وسياديّةً في تطبيق الاتّفاق. معوّض أودى به الانفجار الشهير.
في السنوات اللاحقة تحوّل “السيّد حسين” ناقداً شرساً للحريريّة، وكان مُحقّاً في معظم نقده، لكنّ نقديّته للقوى الأخرى في المُركّب السلطويّ بدت شديدة اللطف والمواربة. رئاسته المجلس كانت محطّة للعبور من كامل الأسعد إلى نبيه برّي. كان ذلك في 1992، حين كُتبت آخر نهايات الحيرة والتسوويّة الصدريّتين. لاحقاً، تصرّف الحسيني بوذيّاً فأحرق نفسه في مواجهة وضع سيّء: في 2008 استقال من البرلمان. في 2018 استقال من خوض الانتخابات النيابيّة جملةً وتفصيلاً.
المَدافع سكتت نهائيّاً مع فوز برّي برئاسة المجلس بعد فوز حزب الله بالاستثناء السلاحيّ.

(9)

قدّمت “أمل” و”حزب الله”، بصعودهما وانتصارهما، أكثر الانقلابات الطبقيّة داخل الطوائف اللبنانيّة جذريّة. لكنّ الانقلاب هذا ربّما كان أيضاً الأقلّ إقناعاً بأنّ الانقلابات أفضل ممّا تنقلب عليه. مثل هذه الحصيلة المُرّة غالباً ما تنتجها الأحداث الكبرى حين تتأخّر في الزمن ثمّ تتّسم بالاحتقان وبكثرة المتدخّلين وتشعّبهم.
لقد كانت الكلفة الدمويّة للتحوّل الشيعيّ فادحة، وكذلك مدى التأثّر بأوضاع خارجيّة هي التي كان لها اليد الطولى في المنعطفات الأهمّ. أمّا القيم التي انقُلِب عليها فلم تحلّ محلّها قيمٌ أشدّ تقدّماً أو أكثر حضّاً على التقدّم: من جانب، فساد واستعمار للإدارة واستعداد للتوريث، ومن جانب آخر، نضاليّة دينيّة وطائفيّة متورّمة.
عجز الدولة اللبنانيّة وتهاوي الوطنيّة اللبنانيّة في الثمانينات كانا مهدين لذاك التحوّل. الاحتلال الإسرائيليّ والثورة الإيرانيّة كانا مهدين آخرين.
لقد صعدت إلى الواجهة الشيعيّة قيادات جديدة ينتمي معظمها، خصوصاً في حالة الحزب، إلى عائلات صغرى في قرى صغرى. رفد هؤلاء، لا سيّما في حالة “أمل”، أثرياء من المهاجر وأعيان متوسّطون ووجهاء صغار. وبفعل موقع الحركة في السلطة، وموقع نبيه برّي في الترويكا التي حكمت بعد الطائف، لم تبق مؤسّسة بمنأى عن آثار الانقلاب، والانقلاباتُ غالباً ما تتجاوز تصحيح الماضي وظلاماته إلى تغليط الحاضر والمستقبل.
التسعينات أطلقت تلك التحوّلات وثبّتتها: في 1993 مثلاً، تولّى القاضي الشيعيّ أسعد دياب رئاسة الجامعة اللبنانيّة. في 1998، عُيّن الضابط الشيعيّ جميل السيّد مديراً عامّاً للأمن العامّ. الموقعان كانا، وفق نظام “الحصص” السابق على الطائف، من “حصّة” الموارنة. في مستويات أعلى وأدنى سادت نزعة الاستبدال نفسها.
الصلة بالمؤسّسة البرلمانيّة لم تطرد عقليّة الميليشيا وتصرّفها، بل أدخلت إليها معاييرها وطرق اشتغالها: ذاك ما بلغ الذروة في 2006 و2007 حين أقفل نبيه برّي المجلس النيابيّ للحؤول دون إقرار المحكمة الدوليّة التي تنظر في اغتيال رفيق الحريري. هكذا مُرّرت تلك الخطوة بالتحايل على البرلمان، عبر مجلس الأمن وقراره 1757. أمّا نوّاب حزب الله الذين نادراً ما أبدوا اعتناءً بالتشريع، فتصرّفوا في المجلس كمن يدافع عن حزبه وصورة حزبه، مع إشعار الزملاء المُستَضعفين بغلبة فظّة. تلك المهمّة لاحت بوصفها أولى مهمّات العمل البرلمانيّ. لقد شابَهَ نائبُ الحزب مَن يضع المسدّس أمامه على الطاولة، لا يستخدمه لكنّه يواصل ملاعبته بأصابع متوتّرة.
الوجهة العامّة وطنيّاً
بين 1992 و2018 خاضت الثنائيّة الشيعيّة معاركها الانتخابيّة على لوائح موحّدة، مع أنّ طرفيها تَواجَها ويتواجهان في معارك بلديّة عزّ فيها التوافق الأهليّ. التفاوت هذا نمّ عن التباين الصلب والمستمرّ بين الأدنى العائليّ المُفتّت والأعلى الوطنيّ المتجانس. فباستثناءت قليلة جدّاً، راحت الأكثريّات الكاسحة في الطائفة تقترع نيابيّاً لتلك اللوائح، موصلةً إلى البرلمان كتلتين مُعتبَرتين، واحدة للحركة هي “التنمية والتحرير”، وأخرى للحزب هي “الوفاء للمقاومة”. اللوائح المشتركة بينهما أُسميت “محادل” تعبيراً عن أنّها تحدل كلّ شيء ولا يقف شيء في وجهها.
في هذه الدورة الانتخابيّة أو تلك كان التنظيمان يتركان موقعاً لحليف غالباً ما يكون الوصيُّ السوريّ قد أوصى به، كمحسن دلّول وعاصم قانصوه وجميل السيّد في البقاع، لكنّ هذا لا يطال الوجهة العامّة لتوسّعهما. وإذا صحّ أنّ الوجهة هذه تلكّأت في بيروت والضاحية عنها في الجنوب والبقاع، فإنّها انتهت إلى النتيجة ذاتها. في العاصمة مثلاً، كان انتخاب محمّد يوسف بيضون في 1996، آخر حضور سياسيّ لتلك العائلة. التنظيمان استوليا على التمثيل. المساومات الانتخابيّة حين كانت تُعقد مع الحريري الأب كانت تتيح الفرصة لنوّاب حريريّين كباسم السبع في الضاحية. أمّا غازي يوسف الذي فاز عن بيروت في 2005 و2009 فبات فوزه اليوم، بعد انفجار الاستقطاب السنّيّ – الشيعيّ، مستحيلاً. نائب حزب الله أمين شرّي غدا الأقوى بلا منازع. نائبا الحزب والحركة، علي عمّار وفادي علامة، صارا، منذ 2018، يتقاسمان تمثيل شيعة الضاحية في دائرة المتن الجنوبيّ – بعبدا. حتّى في جبيل، عمق الجبل المارونيّ، انضمّ مصطفى الحسيني، الذي انتُخب نائباً في 2018، إلى “كتلة التنمية والتحرير” لبرّي.
العائلات التقليديّة لم تغب عن حسابات الأخير: على لوائحه اصطحب عن آل عسيران علي عسيران، نجل عادل. المعروف عن علي أنّ تعلّقه بالزراعة والمواشي يفوق حبّه للسياسة. عبد اللطيف الزين أيضاً بقي ثابتاً على لوائح “أمل”، لكنّ الزين، وهو من مواليد 1932، لم يقوَ على الترشّح في 2018. عائلته كفّت عن الحضور السياسيّ. آل الخليل المتّهمون بممالأة الإسرائيليّين استُبعدوا كلّيّاً. زعيمهم كاظم توفّي في 1990، ومحاولات نجله السفير خليل الخليل لم تُقلع. برّي اصطحب على لوائحه البعثيّ السابق علي الخليل، لكنّ علي توفّي في 2005. نجلا الراحلين محمّد صفيّ الدين وجعفر شرف الدين لم يُدعيا إلى الوليمة، وباتت صور تتمثّل بأربعة هم من أبناء القرى المحيطة بها. علي بزّي، الذي بات يمثّل “أمل” في بنت جبيل، ليس من الفرع السياسيّ التقليديّ في آل بزّي. الشيء نفسه يصحّ في علي حسن خليل في الخيام، الذي لا يتفرّع عن البيوت السياسيّة في آل العبد الله. التجربة ذات الدلالة كانت مع رجل يحظى بالاحترام هو حبيب صادق: لقد انتُخب في 1992 على لائحة “التنمية والتحرير” لينسحب من الكتلة، بعد انتخابه، ويتحوّل نائباً مستقلاًّ. الرجل الذي قضى معظم عمره يكافح كامل الأسعد لم يُبدِ الاستعداد المطلوب لمبايعة كامل الأسعد آخر. باب البرلمان أُغلق في وجهه.
جنوب – بقاع
لقد واجه تنظيما الثنائيّة الشيعيّة معارضة عدد من أبناء السياسيّين القدامى، ومن أبناء رجال دين لم يكونوا في صفّهما. وظهر في وجههما رجال شجعان كغالب ياغي في بعلبك، كما عبّرت عائلات في النبطيّة عن تذمّرها منهما، وكتب مثقّفون وُلدوا شيعةً ضدّهما، وتململ شيوعيّون سابقون لم يحتملوا التديين السياسيّ ولا “الإقطاع” في حلّة جديدة، كما ضاق ذرع قلّة من الأغنياء والمتعلّمين بطرَفٍ يحول دون طموحهم ويتبدّى لهم أقلّ استحقاقاً وجدارةً. وقد تؤخذ على هؤلاء المعارضين مآخذ: بعضهم بالغ في التماهي مع 14 آذار التي لم تكترث بمخاطبة الشيعة فتُركوا معلّقين في الهواء. بعضهم بالغ في التعويل على ماضٍ مضى لآبائهم وعائلاتهم، فشابهوا نجل الشاه الذي يظنّ أنّ إيران تنتظره راكباً حصاناً أبيض… في الحالات جميعاً، أعلنت انتخابات 2018 هزال المعارضة لسبب يكاد يستحيل التدخّل فيه: ذاك أنّ الثنائيّ، في ما بين طرفيه، يملك السلاح والمال و”القضيّة” والدولة معاً.
مع هذا، هناك أكثر من إشارة إلى ثنائيّة أخرى داخل كلّ من التنظيمين المؤتلفين. إنّها ثنائيّة البقاع – الجنوب. البقاعيّون الذين رحّبوا بإعلان بعلبك – الهرمل محافظة في 2004، يتذمّرون من أنّ الإنفاق الرسميّ على الجنوب يفوق أضعافاً الإنفاق على البقاع. هذا فضلاً عن أنّهم لا يملكون ما يملكه الجنوبيّون من مواقع في الإدارة، ومن تراث في الهجرة أو توسّع في التعليم. بيد أنّ البقاعيّين يتذمّرون أيضاً من ضعفهم في صناعة القرار السياسيّ للتنظيمين.
في الحركة، وبعد استقالة حسين الحسيني من قيادتها، حلّ في نيابة القيادة حسين الموسوي الذي انشقّ وانعطف نحو حزب الله يوم كان يقوده البقاعيّ صبحي الطفيلي. بعد ذاك حلّ في نيابة القيادة العقيد البقاعيّ المتقاعد عاكف حيدر. في 1992 استقال عاكف واعتكف. جيء ببقاعيّ آخر هو المحامي هيثم جمعة الذي عُرف، حتّى تقاعده في 2018، بوصفه مدير عامّ لوزارة الخارجيّة والمغتربين أكثر كثيراً منه كسياسيّ.
في الحزب، انتقلت القيادة في 1991 من صبحي الطفيلي إلى بقاعيّ آخر هو عبّاس الموسوي. لكنّ طائرة إسرائيليّة قصفت موكب الموسويّ في 1992، فحلّ محلّه في القيادة الجنوبيّ حسن نصر الله. البقاعيّان ابراهيم أمين السيّد، أوّل الناطقين بلسان الحزب، وحسين الموسويّ، الذي عزّزه بانشقاقه عن “أمل”، صارا وجهين ثانويّين فيه. نائب الأمين العامّ نعيم قاسم جنوبيّ أيضاً. رئيس كتلة الحزب البرلمانيّة، محمّد رعد، جنوبيّ كذلك. حسين الخليل، معاون الأمين العامّ، من الضاحية.
لكنّ “مسألة الطفيلي” ما لبثت أن كبرت. منذ 1991 بدأت تظهر اعتراضاته على سياسات حزبه، ابتداء بقرار المشاركة في انتخابات العام التالي. بعد ذاك اعترض على أمور كثيرة ومهمّة أخرى في عدادها “شخصَنة” الحزب وقيادته. في 1997، أعلن “ثورة الجياع” على السلطة، وبعد عام فصلَه الحزب رسميّاً، ما تلتْه اشتباكات في قرية عين بورضاي حيث أقام حوزته. الاشتباكات تلك، التي شارك فيها الجيش إلى جانب الحزب وقُتل فيها النائب خضر طليس، طُوّقت رغم كثرة ضحاياها. الطفيلي ما لبث أن صار أعلى صوتاً في نقد حزب الله وإيران وسياساتها. استمالتْه بطريقتها 14 آذار ثمّ أيّد الثورة السوريّة.
تحويل برّي ونصر الله إلى زعامتين خالدتين صادرَ كلّ طموح في تنظيميهما، بقاعيّاً كان أو غير بقاعيّ. لوحظ، في المعمعة هذه، أنّ الظاهرتين الحزبيّتين جنوبيّتان في النهاية، وثمّة من استرعتْه الحماسة الفائقة لدى بعض البقاعيّين للمشاركة في الحرب السوريّة: لقد قيل إنّهم يبحثون عن “قضيّة” يوازنون بها “قضيّة” الجنوبيّين حيال إسرائيل. مراقبون آخرون استوقفهم دور جميل السيّد: ضابط الأمن الطموح الذي سُجن ثمّ خاض انتخابات 2018 مدعوماً من حزب الله. السيّد، الذي لا يجمعه الودّ ببرّي و”أمل”، قد يتحوّل ناطقاً بلسان المعاناة البقاعيّة. ثمّة من يذهب أبعد: ربّما كان واحداً من أبرز الساعين إلى دور سياسيّ كبير في طائفته، خصوصاً إن لم تعثر “أمل” على وريث لبرّي المولود في 1938. في هذه الحال، قد تتناثر الحركة: “الشارع” يرث بعضها وحزب الله بعضها الآخر.

(10 من 10)

في هذه الغضون، وفي 1992 تحديداً، انشقّ الحدث الصاخب عن اسم جديد. إنّه حسن نصر الله.
ابن الثانية والثلاثين، الذي تولّى الأمانة العامّة لحزب الله، لم يُعرَف عنه الكثير يومذاك، كما لم يُوحِ بالكثير. سيّدٌ وشيخٌ شابٌّ من قرية البازوريّة في قضاء صور، عاش طفولته في ضاحية بيروت الشرقيّة، ومع الحرب انتقل مع عائلته إلى قريته. انتسب إلى “أمل” وشارك في مواجهاتها الدمويّة مع التنظيمات اليساريّة والفلسطينيّة حيث تجاورَ القتلُ الصريح والاغتيالُ الموارب. توجّه إلى النجف لتحصيل علوم دينيّة. هناك تعرّف إلى عبّاس الموسوي الذي سيسبقه بعد سنوات في الأمانة العامّة للحزب، كما سيرعى خطواته الأولى. تعرّف أيضاً إلى مؤسّس حزب الدعوة العراقيّ محمّد باقر الصدر. بعد عودته إلى بلده، بات واحداً من المنشقّين عن “أمل” ممّن أسّسوا الحزب الجديد وتولّوا مهامّ أمنيّة فيه.
أسرتُه متواضعة اجتماعيّاً، وهو خجول وإن كان من صنف حماسيّ. الخطابة بدت الوسيلة إلى احتواء الخجل فيه، مصحوبةً بتغليب نوع من الغضب ذي الصوت المرتفع.
قراراتٌ كبرى ومآسٍ عدّةٌ سجّلتها التسعينات صنعت لنصر الله كاريزماه. بنتيجتها صار ذاك “الساحرَ” الذي رآه ماكس فيبر شرطاً لزعامة الزعيم: في العقد المذكور دخل الحزبُ الحياة السياسيّة، فيما انفجر الصراع، بعد مؤتمري مدريد وأوسلو، حول السلام في المنطقة، وكالعادة استقرّ الجزء الوازن من هذا الصراع في جنوب لبنان. التحوّلات تلك رافقها عنصر راسخٌ في النفوس صبّ كسباً صافياً في رصيد المولود الجديد: إنّه قدسيّة المقاومة. قاومْ وبعدذاك افعلْ ما تشاء…، هذه هي الحكمة الضمنيّة التي رسّختْها عشرات السنين العربيّة بخطابتها وتعليمها وأحزابها وصلواتها وأغانيها وأدبها، ولكنْ أيضاً بالكثير من المكائد والموت والزنازين.
الداخل والخارج
منذ البدايات الأولى، بدا أنّ نصر الله يملك الاستعداد المطلوب. هو بالتأكيد ليس القائد إذا كانت القيادة تعني تغيير قناعات موروثة، لكنّه القائد، بألف ولام التعريف، بمعنى تثبيت تلك القناعات ورفعها إلى سويّة الخرافة التي تتفرّع حُججاً يُدجَّج بها الجمهور. سحره ليس مصنوعاً لنزع السحر عن العالم بل لتوسيع قاعدة المسحورين.
التجديد المتواصل لنصر الله على رأس حزبه، وعبادة الشخصيّة التي صُنعت له، وابتكار هتافات خاصّة به، وتنزيهه عن العاديّ واليوميّ…، هذه كلّها تعابير أكّدت موقعه الممتاز. إنّه الأوّل في حزبه وهو أيضاً الأخير. بهذا كان يستأنف كلّ التقاليد المعروفة في الحياة السياسيّة العربيّة ويرفعها إلى سويّةٍ – مثال. تقبيله يد المرجع الإيرانيّ علي خامنئي، وقوله إنّه جنديّ في جيش ولاية الفقيه، لم يحدّا من ذلك. لقد بات في وسعه، بالاعتماد على القوّة التي تجمّعت في يديه والتقاليد التي غرف منها، أن يحوّل طاعته لإمامه سلطةً له على آخرين، وأن يوسّع نفوذَه ومكانته كلّما تواضعَ شخصُه.
1992 كان زاخراً بالأحداث: لقد شارك الحزب في الانتخابات النيابيّة بعد فتوى خامنئي التي أجازت ذلك. حظي بكتلة ضمّت 12 مقعداً. إنّها بشائر “لبننة الحزب”، بحسب بعض المتسرّعين وبعض الرغبويّين. بعد 12 سنة سيشارك في الحكومة للمرّة الأولى مُكرّساً نهجه الجديد. لكنّ نهايات 1992 شهدت تطوّراً من نوع آخر، تطوّراً سجّل مدى ارتباط الحزب بالخارجيّ والحدوديّ: لقد أبعدت إسرائيل 400 ناشط من حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلاميّ” الفلسطينيّتين إلى مرج الزهور في الجنوب. هناك توثّقت العلاقة بين التنظيم اللبنانيّ والتنظيمين الفلسطينيّين وتمّ تبادل للخبرات المفيدة. حزب الله، مسلّحاً بضرباته الانتحاريّة في الثمانينات، التي طالت سفارات ومراكز عسكريّة، كان صاحب الخبرات الأهمّ والأغنى. إنّه إذاً المعلّم الإقليميّ والاستثمارُ الإيرانيّ الأنجح في الخارج.
عام 1993 عمّق الحزبُ، كما عمّقت إسرائيل، هذا المنحى: إطلاق صواريخ كاتيوشا من الجنوب ردّت عليه الدولة العبريّة بعدوانيّتها المعتادة وعقابها الجماعيّ. سبعة أيّام من القتال أعقبها تفاهم غير مكتوب على وقف الكاتيوشا ووقف الردود. الحزب، الذي “تتفاهم” معه إسرائيل، تزداد هيبته ويُحمَل على محمل الجدّ. في أيلول، مع توقيع اتّفاق أوسلو الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، دعا الحزب إلى تظاهرة في الضاحية الجنوبيّة احتجاجاً على الاتّفاق المذكور. المتظاهرون، بحسب الرواية الرسميّة، أطلقوا النار على الجيش. الجيش، بحسب رواية الحزب، أطلق النار على المتظاهرين. الدولة قالت: سقط 5 قتلى. الحزب قال: 13.
الواضح أنّ تلك الحادثة جاءت من خارج كلّ سياق، وأغلب الظنّ أنّها نجمت عن نقص في التنسيق بين حلفاء: وزير الداخليّة يومذاك، بشارة مرهج، مقرّب جدّاً من الحزب ومن دمشق. مع هذا أكّدت الحادثة إيّاها أنّ حزب الله أكثر جذريّة من حلفائه السوريّين في معارضة التسوية الفلسطينيّة – الإسرائيليّة.
إسقاط أوسلو استدعى نشاطاً يفوق ما استدعاه الاعتراض عليه. هذه القناعة هي ما انطوت عليه الإرادة السوريّة – الإيرانيّة، فبات تصعيدُ الحزب أمر اليوم: “عناقيد الغضب” في 1996 ومجزرة قانا التي تأدّت عنها مطّتْ قامتَه. الرأي العام العالميّ الذي هاله ما نقلته شاشات التلفزيون ساهم في ذلك. براءة الأطفال الذين قتلتهم إسرائيل أُعيد تدويرها براءةً لحزب الله. في الحالات كافّة، جُدّد اتّفاق 1993 في “تفاهم نيسان” المكتوب هذه المرّة. “التفاهم” ذاك حظي برعاية أميركيّة وفرنسيّة وسوريّة وإيرانيّة. رفيق الحريري كان لولب هندسته الديبلوماسيّة.
هذا لم يكن أوّل احتكاك بين الحزب والحريري، لكنّه كان الأكبر حتّى ذاك الحين. مشروع التعويل على المقاومة ومشروع التعويل على السلام الإقليميّ تعايشا بصعوبة، وإن تعاونا أحياناً. ما كان مشتركاً بينهما أنّ كلاًّ منهما يتجاوز لبنان ويُدرجه في مشروع إقليميّ ناجز، مشروعٍ قليل الحفول بالمشاريع الأخرى. بيد أنّ الانتصاف والتعادل شملا كلّ شيء تقريباً ولاحا إنذاراً بالاستقطاب الأخطر: نصر الله مقابل الحريري. الحزب مقابل تيّار المستقبل. الضاحية مقابل بيروت. المنار مقابل تلفزيون المستقبل. الحرب مقابل السلام. “الشهادة” مقابل “النجاح”. وقبل هذا وبعده، إيران مقابل السعوديّة.
العام 1997، أضاف مأساة شخصيّة وعائليّة إلى سيرة نصر الله. نجله هادي، ابن الـ 18 سنة، قضى في عمليّة عسكريّة ضدّ الإسرائيليّين. خصوم “السيّد” على اختلافهم احترموا ألمه وتعاطفوا مع حزنه. مأساةٌ شخصيّة كهذه تمنح صاحبها صدقيّة غير معهودة في السياسيّين اللبنانيّين.
داخل البيت الواحد
النصف الثاني من التسعينات أظهر تصدّعات في داخل البيت الواحد. فقبل حركة صبحي الطفيلي التي كادت، في 1997 – 1998، تهدّد وحدة الحزب، نشب الخلاف مع محمّد حسين فضل الله، “المرشد الروحيّ لحزب الله”. الأزمة بدأت حين طرح فضل الله نفسه مرجع تقليد، نافياً جدارة خامنئي بالمرجعيّة. والحال أنّ فضل الله لم يكن أصلاً من المؤمنين بـ “ولاية الفقيه”، مفضّلاً عليها نظريّة “شورى الفقهاء”. كُفّر “المرشد الروحيّ” وأطلقت النار على منزله واضطُهد مؤيّدوه، كما وُزّعت الكتب والمنشورات التي تُدينه وتشهّر به في قم والنجف والضاحية. فضل الله شرع يتمايز سياسيّاً وفقهيّاً مُتبنّياً آراء أكثر رحابة في التأويل، وأشدّ انسجاماً مع واقع التعدّد اللبنانيّ. في بعض الحالات، كما في دفاعه عن الطفيلي بوصفه “مظلوماً”، ارتكب ما اعتبره الحزبيّون هرطقات لا تُغتَفَر.
محمّد مهدي شمس الدين، نائب رئيس المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى، ثمّ رئيسه، كان مصدر إزعاج آخر. فتاواه وآراؤه كانت توحي بسجال ضمنيّ دائم يُجريه مع الحزب. “الدولة” كانت فكرة محوريّة لديه، فيها تصبّ “المقاومة” التي هي عمل “الشعب اللبنانيّ كلّه”، لا عمل طائفة أو منطقة بعينهما. عند شمس الدين، بدت “الدولة” غاية، و”المقاومةُ”، في أحسن أحوالها، وسيلة.
وعلى رغم العداء الإيديولوجيّ والفقهيّ المديد بينهما، بدا موقفا شمس الدين وفضل الله إحراجاً لحزب دينيّ يفتقر إلى غطاء الدين كما يمثّله أبرز علمائه.
حال الأخوة لم تكن أفضل من حال الآباء: في 1998 حلّت الانتخابات البلديّة الأولى بعد الطائف، ليتبيّن أنّ معظم المواجهات التي يخوضها حزب الله، في الجنوب والضاحية، مواجهاتٌ مع “أمل”. إذاً “الأُخوَّة” المُدّعاة محصورة في بيروت، لا تتعدّاها إلى عائلات الأطراف المفجوعة بحروب الأمس والمسكونة بعصبيّات ضاربة في تربة التاريخ المحلّيّ.
لكنّ الرصيد الذي كانت تُنقصه تلك التطوّرات كانت تعوّضه الصواريخ التي مضت تتدفّق مصحوبةً بمعونات شتّى ماليّة وخدَميّة. الرعايتان الإيرانيّة والسوريّة كمّلت إحداهما الأخرى تصديراً للسِلَع المرغوبة وتوصيلاً وحمايةً. الطاقة الصاروخيّة لم تتوقّف عن التنامي. الكثير من التصدّع الأهليّ كان سبباً آخر في استدعاء الكثير من الصواريخ.
مع التصاعد في العنف، لم يعد نصر الله قائد عمليّات. صار قائد حروب. الذين قالوا إنّ حزبه ليس ميليشيا من النوع الذي اعتاده اللبنانيّون في حروبهم الأهليّة، عثروا على دليلهم الساطع. لكنّ الذين قالوا إنّ هذا الحزب يقودنا تعريفاً إلى حروب بلا نهاية، عثروا أيضاً على دليل لا يقلّ سطوعاً.
رؤساء الجمهوريّة والحكومة الذين تعاقبوا بعد الطائف بات رضا نصر الله عليهم شرطاً شارطاً لنجاحهم في الرئاسة. محازبوه وجدوا في تكريم “عليّة القوم” له تكريماً لهم. أخبار شبكات الحزب في الخارج أقنعتهم بأنّه بات يشبه الدول العظمى. الخدمات التي يوفّرها جسّرت الهوّة بين أفعال غير مَرئيّة تحصل في أمكنة بعيدة وأفعال ملموسة ومَرئيّة جدّاً يرونها في أحيائهم ومدارسهم وبيوتهم ومشافيهم.
بعد الانسحاب الإسرائيليّ
في 2000 انسحب الإسرائيليّون من طرف واحد. ولأنّ الحرب كان ينبغي لها أن تستمرّ إيرانيّاً وسوريّاً، وقع الانسحاب وقع الكارثة على طالبيه. مسألة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا سريعاً ما اختُرعت بوصفها مانعاً لنزع السلاح. لكنّ الاختراع جاء مشفوعاً بالاستدراكات: حتّى لو تحرّرت هذه المزارع والتلال، فذلك لا يعني نهاية القتال. أدبيّات الحزب وخطابات أمينه العامّ وكلّ ما يصدر عنهما بدت قاطعة في لزوم الحرب لهذا المولود الحربيّ. أحياناً كان بناء الدولة القويّة والجيش القويّ يردان كشرط لنزع السلاح. أحياناً أخرى كان يُذكر تحرير فلسطين والصلاة في القدس.
في دمشق زاد الإعجاب بنصر الله مع رحيل حافظ الأسد ووراثة نجله بشّار. الأخير لم يعد يرى فيه الحليف الأصغر الذي رآه والدُه، بل شيئاً أقرب إلى الأب البديل. فوق هذا، وفّر “السيّد” المشهديّة الدراميّة المتواصلة التي كفّ حافظ الأسد عن توفيرها منذ حرب 1973، حين كان بشّار في الثامنة. الأمر لم يبدُ للرئيس الشابّ لعباً بالنار، إذ اتّفاق فصل القوّات يحمي سلطته في دمشق. إذاً هي نار تندلع في الذهب: تُطهّر من غير أن تحرق.
مع هذا كان الحريق يحاصر دمشق وطهران من جهة بغداد التي حلّ فيها الأميركيّون عام 2003. تصاعد المطالبة برحيل القوّات السوريّة ثمّ معركة التجديد لإميل لحّود وصدور القرار 1559، أحداث جعلت حزب الله يضع يده على الزناد. رفيق الحريري الموصوف في بيئة الحزب العريضة بالعمالة و”الهرولة” إلى السلام مع إسرائيل، ما لبث أن اغتيل. السياسة في لبنان بدأت تشبه الأطوار الجيولوجيّة: الجيش والأمن السوريّان انسحبا من لبنان، بعد أن تلقّى قائدهما رستم غزالة هديّة رمزيّة من نصر الله هي “بندقيّة المقاومة”. الحزب، الذي نظّم تظاهرة ضخمة لـ “شكر سوريّا”، حلّ محلّ القوّات السوريّة في لبنان. لقد بات هو قائد الجبهة الممانعة. حركة 14 آذار، في تجاهلها الشيعة وامتناعها عن مخاطبتهم، أوحت أنّها تستهدفهم بالعزل والتهميش. هذا ما صلّب الطائفة حول نصر الله وحزبه. التأويل الذي أشاعه الأخيران ولفيفهما مفاده أنّ إسرائيل هي التي اغتالت “عميلها” الحريري. المسحورون بالساحر “اقتنعوا”. في وقت لاحق، اتّهمت المحكمة الدوليّة – التي حاول نصر الله بما أوتي من قوّة الحؤول دونها – عناصرَ من حزبه.
كان لا بدّ من كارثة لنقل مواضع التركيز في وجهة أخرى. استعداداً للكارثة، وبهدف توفير غطاء لبنانيّ واسع لها، كان “تفاهم مار مخايل” مع ميشال عون وتيّاره. أشهرٌ قليلة فصلت بين “تفاهم” شباط وحرب تمّوز. الإسرائيليّون الذين قالوا إنّهم لم ينتصروا لأنّهم، في ردّهم على خطف الجنديّين، لم يجتثّوا حزب الله، وضعوا لأنفسهم مهمّة مستحيلة أتاحت للحزب أن يعلن انتصاره. ذاك أنّ ما صحّ في العلاقة بمقاتلي منظّمة التحرير الفلسطينيّة في 1982 لا يصحّ في مقاتلين من أبناء البلد نفسه.
إسرائيل إذاً هُزمت لأنّها لم تنتصر انتصاراً ساحقاً. الحزب انتصر لأنّه لم يُهزَم هزيمة ماحقة. الانتصار هذا ما لبث أن صار “إلهيّاً”، رغم اعتراف نصر الله بأنّه لو علم بالنتيجة لما أقدم على شنّ الحرب. الحاسم، على أيّ حال، لم يكن هذا الكلام أو ذاك، بل القرار الدوليّ 1701 الذي أنهى القتال على الجبهة اللبنانيّة – الإسرائيليّة. ما تبقّى من رصيد ديبلوماسيّ وعلاقات دوليّة للبنان استُنجد به لبلوغ هذه النتيجة.
إلى سوريّا…
حرب 2006 بروايتها الانتصاريّة أدّت إلى رفع صور نصر الله في مدن العالم الإسلاميّ. لكنّ الهجوم على بيروت في 2008 أدّى إلى نزع معظم الصور. زعامته انكمشت إلى حدود شيعيّة واجهتها الأكثريّات السنّيّة بموقف يتفاوت بين التحفّظ والعداء. بعد اتّفاق الدوحة، زاد وزن نصر الله الداخليّ، إلاّ أنّ الكراهية له ولحزبه زادت أيضاً.
انتخابات 2009، كما انتخابات 2005 قبلها، كانت هزيمة للحلف الذي يقوده حزب الله، لكنّ الأخير فعل كلّ ما يوحي بأنّ نتائج الانتخابات آخر ما يهمّه. السلطة، عنده، لا تنبع إلاّ من فوهة البندقيّة.
مع الثورة السوريّة بدأ تأليف الحجج التي تبرّر التدخّل. بعدذاك حصل التدخّل ولم تعد الحجج مطلوبة. الحزب الذي قال إنّ علّة وجوده مقاومة الاحتلال صار احتلاليّاً. سوريّا حلّت محلّ إسرائيل. “التكفيريّون” تصدّروا قائمة المطلوبين. “حلف الأقليّات” الذي ولد مع “تفاهم مار مخايل”، صارت أسنانه الحليبيّة أنياباً تُغرَز في اللحم السوريّ.
فوق هذا، انقلبت الأدوار: نصر الله هو الذي ينقذ بشار الأسد. لبنان نفسه تحوّل إلى وظيفة استراتيجيّة مفادها “حماية ظهر المقاومة” التي ساد الظنّ أنّها وُجدت لحماية ظهر الوطن.
لقد تمكّن الحزب من إنشاء محيط “إمبراطوريّ” حوله، يضمّ دروزاً وسنّة من الأرياف ومسيحيّين ويساريّين على أنواعهم. لكنْ من جرّاء هذه العمليّة قضى آلاف الشبّان على جبهات الشرق وفي العمق السوريّ، بعد آلاف من إخوتهم الأكبر سنّاً الذين قضوا على جبهات الجنوب. الموت بات موضوعة مركزيّة في ثقافة تؤسّس لمجتمع مضادّ، مجتمعٍ يقسّم البشر ويدفع الكثيرين، سرّاً أو علناً، إلى التفكير بتقسيم للأرض. هذا الموت المُعمّم قد يكون النتيجة المنطقيّة للزعامة الطائفيّة المدفوعة إلى الأقصى، بل للنظام الطائفيّ حين يلغي التسوية ويُحلّ التنازع المصحوب بفرض النظرة الواحدة والحقيقة الواحدة.
ونصر الله، في هذه الحدود، حقّق نجاحات باهرة: فإذا كان موسى الصدر “السيّد موسى”، فهو “السيّد” من دون حاجة إلى أيّة إضافة. وإذا كانت الأحزاب تستدعي نعتها بالقوميّة أو الشيوعيّة أو اللبنانيّة أو الديمقراطيّة، فإنّ حزبه هو “الحزب”. وألف ولام التعريف هنا يشيان بنهاية كلّ الأحزاب، وربّما بنهاية كلّ شيء آخر.
درج


درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى