أبحاث

التغيير الديموغرافي في سورية أثناء حكم آل الأسد/ خالد المطلق

مقدمة

التغيير الديموغرافي منذ تسلم حزب البعث السلطة في سورية

التغيير الديموغرافي في سورية في فترة حكم بشار الأسد

التغيير الديموغرافي من قبل التنظيمات والفصائل المسلحة أثناء الثورة السورية

الخاتمة

مقدمة:

برز مصطلح التغيير الديموغرافي في هذه الآونة كثيرًا، من خلال ما يحدث الآن في سورية، عبر كثير من الممارسات القمعية التي تعرّض لها السكان الأصليون بشكل منهجي، لمحاولة اقتلاعهم من بيوتهم وأراضيهم من قبل نظام الأسد والميليشيات الطائفية المتحالفة معه، وقد تجلى ذلك في تهجير أبناء كثير من المناطق، وإحلال عائلات عناصر الميليشيات الطائفية مكانهم، ويعدّ ذلك جريمة ضد الإنسانية، ووفق ما ورد في نظام روما الإنساني للمحكمة الجنائية الدّولية، فإنّ: إبعاد السّكان أو النقل القسري للسكان، إذا ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجَّه ضد أي مجموعة من السُّكان المدنيين، يشكّل جريمة ضد الإنسانية(1).

كما أنّ المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 حظرت النقل القسري الجماعي والفردي للأشخاص أو نفيهم من مناطق سكناهم إلى أراض أخرى، إلّا أن يكون هذا في صالحهم، بهدف تجنيبهم مخاطر النزاعات المسلحة (2)، وسنحاول في هذه الدراسة تسليط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة التي نفّذها بشكل مخفي نظام حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار الأسد، منذ تسلم حزب البعث السلطة في سورية عام 1963، ولعل هذه الظاهرة المدروسة هي أخطر ما تتعرض له المنطقة، لأسباب كثيرة منها ديمومة آثار هذه الأعمال والجرائم والفظائع التي ترافقها، إضافة إلى أن هذه التغييرات في بنية المجتمع نتجت عن جهود خارجية كبيرة، تهدف إلى تفتيت وتمزيق النسيج الاجتماعي السوري، وهو أحد أهم مرتكزات استقرارها، وسنتناول هذه الظاهرة في هذا البحث، من خلال مسائل دراسية نبدؤها من المرحلة الأولى لعملية التغيير الديموغرافي في سورية، التي أسس لها حافظ الأسد منذ تسلم حزب البعث السلطة في سورية، كما سندرس ماذا حدث في فترة حكم بشار الأسد السلطة من جرائم هدفها التغيير الديموغرافي في سورية، ومن ثم سنتطرق إلى التغيير الديموغرافي في مناطق سيطرة فصائل الثورة وتنظيم (داعش) و”قوات سوريا الديمقراطية”، وفي الخاتمة، سنعرّج على بعض الحلول التي يمكن أن تمنع وقوع هذا المخطط الإجرامي أو تخفف من تداعياته.

التغيير الديموغرافي منذ تسلم حزب البعث السلطة في سورية

تعدّ سورية من أكثر المناطق حيوية عبر التاريخ القديم، نظرًا لتمتعها بالتنوع العرقي والديني الكبير، وسورية هي من اكتُشف فيها آثار الإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ، ولعل منطقة معلولا التي ما زال سكانها حتى الآن يتكلمون الآرامية (لغة السيد المسيح عليه السلام) خير دليل على ذلك، وتعدّ سورية بعد الفتح الإسلامي عام 15هـ/636م مسرحًا رئيسيًا لمواجهة الغزوات الصليبية والمغولية، هذا كله أعطى لسورية أهمية كبرى من ناحية التمازج السكاني الديني الطائفي والمذهبي والعرقي.

وفي نظرة سريعة على التوزع السكاني والطائفي في سورية حتى بداية الثورة السورية عام 2011؛ نجد أن عدد سكان سورية -بحسب إحصائيات غير رسمية- يبلغ نحو 23 مليون نسمة، قسمت إداريًا ابتداءً من المحافظة، وقد احتلت محافظة حلب المركز الأول بعدد السكان البالغ 3,393000، ثم دمشق 3,175000 ثم حمص البالغ عدد سكانها 1,13114، وحماة 780.000 نسمة، واللاذقية 660.000 نسمة، دير الزور 416.600 نسمة، الحسكة 388.705 نسمة، الرقة 370.000 نسمة، إدلب 147.120 نسمة(3)، وتتفاوت أعداد باقي المحافظات، وذلك استنادًا إلى تقرير الأمم المتحدة الصادر عام 2008، بين 180,000 إلى 300,000 نسمة، يشكل العرب السنة الأغلبية العظمى من نسبة السكان، وبالأخص في المدن المركزية الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص واللاذقية وحماة ودير الزور والرقة، في حين تتمركز الأقلية العلوية في قرى جبال الساحل السوري، والدروز في جبل العرب جنوب سورية وفي الجولان وجبل السماق شمالي إدلب، والإسماعيليون في السلمية وبعض المناطق في قضائي القدموس ومصياف، والشيعة الاثني عشرية في بعض الأحياء الصغيرة في العاصمة دمشق، كالسيدة زينب، وأربع قرى في الشمال السوري هي كفريا والفوعة ونبل والزهراء، وينتشر المسيحيون على مساحة جغرافية سورية، وفي بعض المدن يتركزون في أحياء معينة، أو في قرى بأكملها كوادي النصارى غربي حمص، وهناك أعراق مختلفة من آشوريين وكلدان وسريان وأرمن، أما الأكراد فغالبيتهم من السنّة، ويتركزون في منطقة القامشلي وعفرين وعين العرب، وأيضًا التركمان، وهم مسلمون سنة، وأبرز تجمعاتهم في حلب ودمشق واللاذقية وحمص.

أما الخريطة الدينية والمذهبية في سورية، فيصعب الحصول عليها، لكن يمكن الاعتماد على بعض مذكرات بعض السياسيين وتقارير المخابرات الأميركية الخاصة بوزارة الخارجية للحريات الدينية في توثيق هذه الخريطة، حيث يتبيّن من تلك المصادر، وبحسب إحصاء عام 1985، أن 80% مسلمون سنّة، و 11% علويون، و 3% دروز، و 1% إسماعيليون، و 4.5% مسيحيون من طوائف مختلفة تتبع غالبيتها الكنيسة الشرقية، وتهيمن عليها الطائفة الأرثوذكسية، و 0.4% شيعة اثني عشرية، و0.1% أقليات دينية أخرى كاليزيدية في منطقة جبل سنجار القريبة من الحدود العراقية(4).

وبالعودة إلى بدايات التغيير الديموغرافي في سورية؛ نجد أنه بعيد الحرب العالمية الأولى قامت القوى الدولية بتقسيم الشرق الأوسط، ومن ضمنه الوطن العربي، إلى دويلات ضعيفة لا يتطابق فيها البعد الجغرافي مع البعد الديموغرافي، وكي تتحكم في هذه الكيانات أوجدت كثيرًا من التناقضات بين مكونات المجتمع، من خلال تبنيها لطوائف محددة من الأقليات، وإعطائها ميزات على حساب باقي المكونات المجتمعية، هذا أدى إلى تناقض كبير بالمصالح بين هذه المكونات، ولعل تجربة فرنسا، في إبّان انتدابها على سورية، في إنشاء الدويلات المذهبية وتشكيلها ما يعرف بفرق القوات الخاصة للشرق، وتنسيب أبناء الأقليات إليها، خيرُ دليل على اهتمام المحتل الفرنسي بالاعتماد على الأقليّات في التحكم في هذه الكيانات. وبعد الاستقلال وتأسيس دولة مركزية، تعاقب على حكم سورية أنظمة مدنية وعسكرية إلى أن حصلت الوحدة مع مصر، ومن ثم الانفصال وانقلاب حزب البعث عام 1963، ومن هنا بدأ الانقلابيون -وعلى رأسهم حافظ الأسد- الإعداد للتغيير الديموغرافي الذي يتلاءم مع مصالح الأسد وطائفته، لتوظيفه داخليًا وخارجيًا لتحقيق هذه المصالح، على الرغم من تماهي الأسد مع الأكثرية من خلال استقطاب المؤيدين له منهم، ووضعهم في الواجهة لإبعاد الشبهة عن طائفيته وعنصريته، كمصطفى طلاس وعبد الحليم خدام وحكمت الشهابي، ومع الأسف، نجح في ذلك في كثير من الأحيان، على الرغم من كثير من العقبات والصدامات التي واجهها، لكنه كان يتغلّب عليها جميعًا بفضل الدعم المطلق الذي كان يحظى به من قبل القوى العظمى، لم يعتمد حافظ الأسد إحداث تغيير ديموغرافي جدي، لكونه يدرك صعوبة ذلك، وإنما لجأ إلى إدارة الديموغرافيا بسياسات توازن حرجة، هدفها إضعاف الأكثرية السنية بالشكل الذي يضمن ترسيخ نظامه، وجاء ذلك من خلال إفقاد الأكثرية مقومات تأثيرها في المجتمع والدولة، عبر استهداف مراكزها القوية في مؤسستي الأمن والجيش، وتعزيز تواجد الأقليات وبخاصة العلويين في هذه المؤسسات، وقد بدأ العمل على تنفيذ هذا المخطط، منذ تسلم الأسد الأب وزيرًا للدفاع، بالتوازي مع التخلص من منافسيه خاصة المقربين منه بكل الطرق كالاعتقال والاغتيال، ومـن خلال هـذا المخطط بـدأت تتشـكل أحيـاء خاصـة بالعلوييـن فـي دمشـق، وبدرجـة أقـل فـي حمـص، ومـن أهـم هـذه الأحيـاء فـي دمشـق “عـش الـورور”، و”مـزة 86″، و”السـومرية” و”مسـاكن الحـرس” و”ضاحيـة الأسـد”، وغيرهـا الكثيـر، وبدأ نظـام الأسـد بمنـح الامتيـازات للطائفـة العلويـة وتقديـم حوافـز لتشـجيع الـزواج والإنجـاب فـي صفـوف الطائفـة من دون ضجة، وهـي السياسـة التـي دعمهـا رفعـت الأسـد فـي نهايـة السـبعينيات، فيمـا تولى شـقيقه جميـل الأسـد نشـر المذهـب الشيعي فـي المحافظـات الشـرقية وأريـاف حمـص، وحمـص المدينة، عبـر “جمعيـة المرتضـى” التـي تولـى رئاسـتها، كمـا تـم تقديـم تسـهيلات قانونيـة غير معلنة لدخول علويـي تركيـا ولبنـان، للإقامـة والتجنّس في سورية، وبدأ يظهر جليًا اعتماده على تكليف قيـادة أغلب وحـدات الجيـش للضبـاط العلويـين حصـرًا، فيمـا كانـت المؤسسـات الأمنيـة ذات أغلبيـة علويـة، حتـى بيـن صفـوف عناصرهـا الأقـل رتبـة، كمـا تـم إنشـاء وحـدات عسـكرية علويـة خالصـة، مثـل “سـرايا الدفـاع” و”سـرايا الصـراع” و”الحـرس الجمهـوري”، وبدأ أيضًا -بشكل سري وخبيث- إدمـاج مفاهيـم شـيعية فـي المذهـب العلـوي، تقربًا من النظام الإيراني، وأدت هـذه المقاربـة إلـى تعزيـز العلاقـة مـع النظـام الإيرانـي الباحـث عـن شـركاء إسـتراتيجيين فـي المنطقـة، كمـا أسـهمت فـي انفتـاح المجتمـع العلـوي علـى نظيـره الشـيعي، وخاصـة فـي لبنـان والعـراق، وهـو مـا ظهـر أثـره بوضوح بعـد عـام 2011، وسنأتي على ذكره بالتفصيل لاحقًا، وفـي إطار سـعيه لتحقيـق هـذا الاندماج، قـدّم نظـام الأسـد -بطريقة سرية للغاية- تسـهيلات واسـعة للحجـاج الشـيعة، كمـا قـدم تسـهيلات اقتصاديـة وقانونيـة ودينيـة للمؤسسـات والأفـراد الشـيعة، وتحولـت بعـض مناطـق دمشـق، مثـل جرمانـا والسـيدة زينـب، إلـى مناطـق ذات أغلبيـة شـيعية بسـرعة، وتمكنـت المؤسسـات الدينيـة الشـيعية مـن ممارسـة أنشـطة تبشـيرية، برعايـة مباشـرة مـن الملحقيـة الثقافيـة فـي السـفارة الإيرانيـة.

التغيير الديموغرافي في سورية أثناء فترة حكم بشار الأسد

تميز الأسد الأب بقبضته الحديدية على أرجاء سورية كافة، وبالعلاقة مع إيران ومراقبة تدخلاتها في الشأن الداخلي السوري، إذ كان حافظ الأسد يتحكم في هذه العلاقات بشكل متوازن وتحت أنظاره، حيث لم يسمح لإيران بالتوغل في مؤسسات الدولة حتى المؤسسات الاجتماعية منها، ولهذا كان الإيرانيون يعملون بحذر شديد، كي لا يُغضبوا الأسد الذي بنى توازنات اجتماعية تعتمد على عدم إظهار النزعة الطائفية في البلاد، لكن الأمور تغيرت،  في عهد ابنه بشار الأسد، نتيجة لسياساته وعدم قدرته على التحكم في جميع مجريات الأمور داخل الدولة، إذ انهارت هذه التوازنات التي بناها أبوه بسرعة، وبدأت تظهر معالم أزمة ديموغرافية ناتجة عن أسباب عدة أهمّها:

    نشر التشيع بشكل ملحوظ، وقد أدى إلى تغيير واضح في النسيج الاجتماعي السوري.

    الهجرة من الريف إلى المدينة خاصة في المنطقة الشرقية من البلاد، حيث أدت إلى نزوح عدد كبير من الأكراد وتمركزهم داخل المدن، وأيضًا هجرة المسيحيين إلى أوروبا.

    ازدياد أعداد السكان في أغلب المحافظات السورية، في ظل غياب الخطط الاقتصادية والتنموية المواكبة لهذا النمو السكاني.

    تدهور الوضع الاقتصادي وتراجع معدلات دخل الفرد، وزيادة أعداد المهاجرين خارج سورية.    

ترافقت هذه الأزمة مع جملة من الأزمات التنموية والاقتصادية والسياسية والأمنية التي كانت تعانيها سورية في مطلع 2011، والتي أدت إلى تفجر ثورة الشعب السوري، لتتطور بعد ذلك إلى صراع مسلح انخرط فيه أغلب دول العالم، وبدأت مرحلة القوة في تحقيق التغيير الديموغرافي الذي سعت إليه إيران، وهذه المرة بالقتل والتدمير والمذابح المنهجية للسكان الأصليين من أبناء السنّة، لإجبارهم على ترك أرضهم والهجرة إلى مناطق أكثر أمانًا داخل سورية وخارجها.

كيف حدث ذلك؟ وما هي الطرق والممارسات التي اتّبعها بشار الأسد وحليفه الإيراني، لإحداث التغيير الديموغرافي المنشود؟ سنتطرق إلى هذه المسألة من خلال تحليـل الواقع الميداني فـي سـورية منـذ بداية الثورة، الذي سيؤكد -بلا أدنى شك- وجـود خطـة منهجـية لتغييـر الواقـع الديموغرافـي فـي سـورية ككل، وفـي المناطـق المختلطـة علـى وجـه الخصـوص، خاصة إذا عرفنا أن هناك إحصائية أخيرة لعدد الشهداء في سورية قدرت العدد بنحو مليون مواطن سوري، وعدد اللاجئين خارج سورية بأكثر من 8 ملايين، إضافة إلى نحو 6 ملايين نازح داخل سـورية، بحسـب أقل التقديرات، ويمكن أن نجزم بأن المـدن التـي تعرضـت لأكبـر قـدر مـن التدميـر هي ريف دمشق وحمـص وحلـب ودرعـا وديـر الـزور، وينتمـي الغالبيـة المطلقـة مـن هـؤلاء إلى الغالبية السـنية، وتشـارك إيران علـى وجـه الخصـوص بـدور رئيـسي فـي هـذا المخطـط، مـن خـلال الدعـم العسـكري الكبيـر الـذي تقدمه عبر ميليشـياتها العراقيـة واللبنانيـة والأفغانية، كمـا أنها تسـهم، مـن خـلال تمويلهـا لعمليـات شـراء الأراضي والعقـارات، ومـن خـلال ترويـج الفكـر الطائفـي، فـي تشـجيع الشـيعة علـى القتـال وعلـى الإقامة فـي سـورية، ولا ننسـى تغاضي الأميركي والروسـي عن هذه الجريمة.

وإذا بحثنا في الوسائل والأدوات الاستخباراتية والعسكرية والاقتصادية والإدارية التي اتبعها نظام الأسد في تحقيق التهجير القسري، وصولًا إلى التغيير الديموغرافي؛ وجدنا أنه استخدم كثيرًا من الوسائل، ويمكن أن نذكر منها:

    حرق سـجلات المحاكم والنفوس، لطمس حقوق الأهالي السـنة غالبًا، كما حدث في حمص عام 2013، وفي مدينة دوما عام 2012.

    التوغل في تنفيذ المجازر التي طالت مناطق السنّة حصرًا، مع جرائم الاعتقال والتصفية والنهب والاغتصاب التي مارستها تلك الميليشيات على الحواجز العسكرية، وكانت سببًا في نزوح أبناء تلك المناطق إلى أماكن أكثر أمانًا، ومن الأمثلة على تلك المجازر: مجزرة الحولة في 25 أيار/ مايو 2012، مجزرة القبير في 6 أيار/ مايو 2012، مجزرة البيضا ورأس النبع في 2 أيار/ مايو2013، ومجزرة الكيمياوي في الغوطة الشرقية في 21 آب/ أغسطس 2013، ومجزرة التريمسة في 12 تموز/ يوليو 2012، مجزرة الزارة في 6 آذار/ مارس 2014، وكثير من المجازر التي ما تزال مستمرة حتى الآن.

    شـراء العقارات وهـدم المبانـي، كمـا فعـل النظـام فـي بسـاتين المزة عـام 2012، البالـغ عـدد سـكانها 125 ألـف نسـمة، ضمـن المرسـوم رقم 66 لعـام 2012 القاضـي بتهجيـر أهلهـا، بحجـة إحـداث منطقتيـن تنظيميتيـن فـي محيـط دمشـق (5)، وتلعـب الحـوزات دورًا كبيرًا في شراء العقارات واسـتبدالها بملكيات لشـيعة وعلويين، كمـا فـي أحياء العمـارة والشـاغور والصالحيـة فنـادق البتـراء وفينيسـيا وغيرهـا، التـي تـم شـراؤها وجعلهـا مقـار لميليشـيات أبـي الفضـل العبـاس.

    إجبـار أهالـي المـدن المحاصـرة علـى توقيـع هـدن، مقابـل وقـف القصـف عليهـا وإدخـال بعـض الطعـام إليهـا تمهيـدًا لإجبـار سـكانها علـى مغـادرة مدنهـم وقراهـم، تحـت ضغـط الجـوع والحصـار، وقد بـدأت تلك العمليات منـذ عـام 2013، كحصار الغوطة الشرقية والجنوبية والريف الغربي والشمالي لدمشق الزبداني، ووادي بردى، ودمّر، والهامة، وقدسيا، ومدينة حمص القديمة وحي الوعر والقصير وأحياء حلب الشرقية.

    التضييق الاستخباراتي، من خلال لجوء النظام عبر قواته الأمنية وكذلك الميليشيات الشيعية إلى التضييق الأمني على سكان المناطق المستهدفة بالتهجير القسري، وذلك إما بالتضييق على حركة تنقلهم من وإلى داخل هذه المناطق، وإما عبر اعتقال الشباب بذرائع أمنية أو بحجة السوق للخدمة الإلزامية، الأمر الذي يدفع السكان إلى ترك هذه المناطق (6).

كما تم التركيز على عدد من المناطق وتم اقتلاع سكانها وأهمها:

– لعلّ المنطقة الأهم بالنسبة إلى إيران هي العاصمة السورية دمشق، وذلك لدلالاتها الدينية والسياسية، وتعزز إيران نفوذها في دمشق عبر الدفع في إنشاء الحسينيات وتعظيم المظاهر الشيعية في المدينة التي تعرض سكان أريافها لعمليات تهجير منهجية، ومن ناحية ثانية، يظهر أن نظام الأسد يساعد المخطط الإيراني في تغيير التركيبة السكانية للأحياء الدمشقية، عبر بيع العقارات لعائلات المقاتلين الشيعة من العراقيين واللبنانيين بمبالغ كبيرة جدًا وصلت إلى أضعاف سعرها الحقيقي.

– “القُصَيـر” اجتاحتهـا ميليشـيات “حـزب الله” عـام 2013، وهجـرت أهلهـا، ودمـرت مسـاجدها، ومنعـت أهلهـا مـن العـودة إليهـا، ووطنـت مكانهـم شـيعة مـن ميليشـيات طائفيـة، أهمّهـا (لـواء الرضـا)، ولـم يخـفِ الحـزب نيتـه تحويلهـا إلى ملاذ آمـن للشـيعة.

– أحيـاء حمـص القديمة، بـدأ فيهـا تطبيـق سياسـة التغييـر الديموغرافـي، وقـد تعرضـت أحيـاء المدينـة لقصـف واسـع النطـاق انتهـى إلـى تدميرهـا تمامـًا، وأجبـر معظـم سـكانها علـى النـزوح واللجـوء، فيمـا خـرج مـن تبقـى منهـم فـي صفقـة تـم التوصـل إليهـا فـي عـام 2014، بعـد حصـار قـاس تعرضـت لـه هـذه الأحيـاء بالتـوازي مـع القصـف المكثـف والمستمر.

– الزبدانـي، حيـث عُقـد اتفـاقٌ أُجلـي بموجبـه بعـض سـكانها المحاصريـن، مقابـل إجـلاء جرحـى مـن كفريـا والفوعـة، وفـق اتفـاق تـم التوصـل إليـه بإشـراف إيرانـي عـام 2015، لكـن الاتفـاق لـم ينـه حالـة الحصـار.

– داريـّا التـي كان يقطن فيهـا نحو 400 ألـف مـن السـنة، ارتكـب فيهـا النظـام مجـزرة عـام 2012، راح ضحيتهـا قرابـة 600 مدنـي، بينهـم 61 امـرأة و10 أطفـال، ثـم حاصرهـا وبـدأ يرتكـب المجـازر عبـر القصـف، وفـي نهايـة شـهر آب/ أغسطس 2016، خـرج جميـع أهالـي داريـا منهـا فـي صفقـة مـع قـوات النظـام، وذكرت مصادر موثوقة في وقت لاحق أن 300 عائلة تنتمي إلى “حركة النجباء” الشيعية العراقية، قد وصلت إلى المدينة للإقامة فيها.

– جبـال التركمـان والأكـراد، حيـث يمتـد جبـل التركمـان علـى مسـاحة 530 كـم مربـع، وسـكانه أكثـر مـن 300 ألـف تـم تهجيرهـم بالكامـل واحتـلال بلداتهم.

– حلـب تـم تهجيـر أغلـب سـكانها تحـت القصـف الجوي والبراميـل والحصار، ويقدّر عدد المهجرين من حلب بنحو مليونين وستمئة ألف مواطن.

– ريف حماة، مثل قرى العشارنة وقبر فضة والرملة، حيث تم تهجير أهلها تحت القصف، وسكنتها عوائل من إشتبرق العلوية.

وهناك مدن ومناطق أخرى تمت محاصرتها وتدميرها والتنكيل بها وتهجير أهلها، من أبرزها المعضميـة التـي دخلـت فـي هدنـة منـذ 2013، بعـد حصـار دام سـنتين كاملـتين، ومن ثم تم تهجير أهلها البالغ عـددهم حوالـي 45 ألـف نسـمة، كذلك حيّ الوعر الحمصي الذي هجر أهله البالغ عددهم 40 ألف مواطن والمنطقة الأهم الغوطة الشرقية التي تمت محاصرتها والتنكيل بأهلها واستخدام كل أنواع الأسلحة المحرمة حتى السلاح الكيمياوي الذي استُخدم أكثر من مرة على هذه المنطقة، فقد تم تهجير عدد كبير من أهلها البالغ عددهم 850 ألف مواطن، ولم يتبق إلا القلة القليلة، ويقدر عددهم بأقل من 100 الف مواطن (7).

ولم يتوان بشار الأسد عن استخدم إعادة الإعمار لإحداث التغيير الديموغرافي، بمراسيم وقوانين رأسية إذ وقَّع في أيلول/ سبتمبر 2012 المرسوم التشريعي رقم 66، القاضي بـ “تنظيم وتحديث مناطق السكن العشوائي وغير المصرَّح به” (8)، أي توفير الأسس القانونية والمالية لمشروع إعادة الإعمار قانونيًا، وعلى أساس هذا المرسوم، أعلن النظام قراره بتدمير ومصادرة منطقتين كبيرتين في العاصمة دمشق معروفتين بمناصرتهما للمعارضة: الأولى خلف مستشفى الرازي على الطريق الرئيسي لأوتوستراد المزة؛ والثانية على الضفة الجنوبية من العاصمة السورية بجانب حي القدم، الجهات المسؤولة في دمشق برَّرت قرارها مدعية أن الهدف منه هو تحسين نوعية السكن، وأن المناطق الأخرى ستتبع الخطوات نفسها لتحديث مناطق السكن العشوائي في كل البلاد، بينما هناك مناطق سكن عشوائي أخرى يسكنها مؤيدون للنظام كـ (مزة 86) الملاصق لحي المزة في شمال غرب العاصمة و”عش الوروَر” في شمال شرق العاصمة، لم يشملها المخطط، ولا يدع هذا الأمر مجالًا للشك بالبُعد الأمني السياسي لهذا القرار، إلى جانب معاقبة السكان المعارضين، وكان المشروع يُعدّ عقابًا جماعيًّا وجزئًا من خطة أمنية أكبر للنظام، ترمي إلى فرضِ تغييرٍ ديموغرافي في العاصمة عبر إحاطتها بمناطق يملؤها بسكان من مؤيديه ومن الأقليات الدينية.

وهناك حالة أخرى، حصلت في مدينة حمص عندما وافقت البلدية عام 2015 على خطة إعادة إعمار حي “بابا عمرو”، وفي آذار/ مارس 2017 أنشأت البلدية شركتها القابضة الخاصة، لتمسك بالمشاريع العقارية في خطة إعادة الإعمار التي تضمنت 465 قطعة أرض مُعدَّة للسكن بشكل أساسي، إضافة إلى المساحات العامة والخدمات كالمدارس والمستشفيات، وبالمثل وُجِّهَت الاتهامات إلى التداعيات التي يمكن أن تنتج عن هذا المشروع لتحقيق التغيير الديموغرافي (9).

وما زال العمل مستمرًا لإحداث التغيير الديموغرافي في سورية، عبر طرق ينفذها نظام الأسد بدعم مطلق من إيران صاحبة هذه المشاريع التي امتدت من طهران إلى بغداد وإلى لبنان واليمن، والآن في سورية، والأهم أنها تنفذ بصمت مطبق ومباركة دولية عن هذه الجريمة التي تشبه ما حدث للهنود الحمر في أميركا، ولشعوب دول الاتحاد السوفييتي وللفلسطينيين في بداية القرن الماضي.

ويمكن أن نحدد أدوات التغيير الديموغرافي التي استخدمها الأسد الابن أثناء الثورة السورية بما يلي:

    أ – الأدوات القسرية: وتشمل:

    1 – القتل دون قيود قانونية: تمثلت في قتل مئات الآلاف من السوريين، عبر مئات المجازر في مناطق محددة لفئة محددة من الشعب السوري.

    2 – سياسة الأرض المحروقة: عمدت فيها قوات الأسد والميليشيات الطائفية والقوات الروسية إلى تدمير وحرق المناطق المحررة، عبر القصف الجوي والبري المركز بالأسلحة الثقيلة والطيران والبراميل المتفجرة، وعلى مناطق محددة يقطن فيها فئة محددة من الشعب السوري.

    3 – الاعتقال والإخفاء السري: منذ بداية الثورة السورية، ركزت أجهزة الأسد القمعية على الاعتقالات العشوائية والإخفاء القسري للمواطنين في المناطق الثائرة، من دون عرضهم على أي محاكم عادلة ودون معرفة ذويهم لمكان وجودهم أو أسباب اعتقالهم، وهذا استدعى نزوح كثير من السوريين إلى مناطق أكثر أمانًا من مناطقهم.

    4 – استهداف النساء: منذ بداية الثورة حتى نهاية عام 2013، شاع التحرش بالنساء واغتصابهن وكثيرًا من الأحيان أمام العامة وذويهم، كأحد أقسى أنواع الإذلال الذي مارسته أجهزة الأمن الأسدي وميليشياتها الطائفية، وقد أجبر ذلك كثيرًا من العائلات في المناطق التي يقترب منها هؤلاء الوحوش على النزوح إلى مناطق أكثر أمانًا.

    5 – حصار المناطق الثائرة: بدأ تطبيق سياسة حصار المناطق الثائرة، منذ الشهر الثاني من اندلاع الثورة السورية، حيث قامت الفرقة الرابعة بمحاصرة مدينة درعا، ثم مدينة المعظمية في الريف الجنوبي الغربي لمدينة دمشق، وتتابع ذلك إلى الغوطة الشرقية ووادي بردى والمناطق الأخرى في وسط سورية وجنوبها، ومن خلال هذا الحصار؛ تم منع وصول أي معونة غذائية أو غيرها للمنطقة، واستُثمر هذا على مدى الزمن، لفرض اتفاقيات هُجر على أساسها معظم أبناء هذه المناطق إلى الشمال السوري.

    ب – الأدوات المتفق عليها:

    وتتمثل في تنفيذ الاتفاقيات التي وقعها النظام السوري مع الفصائل أو الهيئات المدنية، لإجلاء كل أو جزء من أبناء المناطق إلى مناطق أخرى أكثر أمانًا، مقابل إجلاء أبناء مناطق موالية محاصرة إلى مناطق سيطرة النظام، كما حدث في اتفاقية المدن الأربعة الزبداني ومضايا، مقابل نبل والزهراء، وأيضًا اتفاقيات الغوطة الشرقية وحلب الشرقية وريف حمص الشمالي ومحافظتي درعا والقنيطرة، وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، فقد خرج من الغوطة الشرقية وحدها، من 9 آذار حتى 18 نيسان 2018، أكثر من 130 ألف شخص، أي نحو 40 % من سكان الغوطة الشرقية، وتم تفريغ بلدات ومناطق داريا ونبل والزهراء من كامل سكانها (10).

    ت – الأدوات القانونية:

    حاول نظام الأسد التغطية على جرائمه ضد الشعب السوري، من خلال إصدار العديد من القوانين والتشريعات، لإعطاء صفة قانونية لهذه الجرائم، ومن هذه القوانين المرسوم التشريعي الرقم 12 لعام 2016، القاضي باعتماد النسخ الرقمية للسجلات العقارية (11)، أي أنه سيكون من الممكن للسجلات العقارية أن تُقدّم صورًا إلكترونية للسجلات، كبديل عن تلك التي فُقدت لأي سبب، كحريق السجل العقاري في حمص عام 2013 ومدينة دوما عام 2012، وهو ما سيفتح بابًا كبيرًا أمام تزوير السجلات العقارية.

    ث – أدوات مختلفة:

    تمثلت هذه الأدوات في:

          – منع عودة اللاجئين إلى ديارهم.

          – نشر إيران للتشيع في المناطق التي سيطرت عليها.

          – تجنيس الشيعة الإيرانيين والعراقيين والأفغان. يأتي هذا كله لتثبيت الأمر الواقع الذي خلقته ممارسات الأسد وميليشياته الطائفية على الشعب السوري، ومحاولة لتنفيذ التغيير الديموغرافي على نطاق أوسع.

التغيير الديموغرافي من قبل التنظيمات والفصائل المسلحة أثناء الثورة السورية

يجب الفصل بين ممارسات الفصائل والتنظيمات التي تسيطر على المناطق المحررة، وممارسات نظام الأسد، ولهذا سنقسم هذه المسألة الدراسية إلى ثلاث فقرات: الأولى نتحدث فيها عن (داعش)، والثانية عن فصائل الأكراد الانفصالية، والثالثة عن فصائل الجيش الحر.

    أ – التغيير الديموغرافي في مناطق (داعش):

بداية، يمكن أن نعدّ أن ما قام به تنظيم (داعش)، في مناطق شرق وشمال ووسط سورية التي سيطر عليها، امتدادًا لعمليات التهجير القسري التي نفذها نظام الأسد والميليشيات الطائفية، بل كانت (داعش) هي الذراع الطويلة والمؤثرة التي استخدمها الأسد وحلفاؤه لقتل الشعب السوري، وتهجيره من منازله وإذلاله بفرض كثير من الخزعبلات والطقوس التي نسبوها إلى الإسلام، والإسلام منهم ومنها براء، وقد بدا واضحًا أنه بمجرد أن تسيطر (داعش) على أي منطقة، يقوم طيران الأسد وحلفائه بقصفها بكل أنواع الأسلحة، من دون التعرّض لمقار التنظيم، وهذا ما حدث بشكل واضح، عندما سيطر التنظيم على البادية السورية ومركزها الرئيسي مدينة تدمر والقرى المحيطة بها، كالسخنة وأرك والبيارات الغربية، وأدى ذلك إلى نزوح سكان هذه المناطق من منازلهم نهائيًا، ولم يعد أحد منهم حتى الآن إلى هذه المناطق، على الرغم من عودة سيطرة الأسد والميليشيات الطائفية إليها، هذا إضافة إلى الممارسات القمعية لعناصر التنظيم المتمثلة بالإرهاب المنظم من الإعدامات الميدانية وقطع الرؤوس وبتر الأطراف والاعتقال التعسفي وفرض الإتاوات و”الجزية”، كما يسمونها، مرورًا بحلقات الاستتابة والدورات الشرعية التي يقيمونها للأهالي، ومعسكرات تجنيد الأطفال، وسرقة ممتلكات المواطنين، كل هذا يهدف إلى مضايقة الأهالي وإجبارهم على النزوح أو القبول بالعيش تحت حكم هؤلاء، وقد دفع ذلك الغالبية العظمى من السكان المحليين إلى النزوح إلى مناطق النظام أو مناطق سيطرة فصائل الثورة، وقد قام التنظيم بتهجير عشرات الآلاف من الذين اعترضوا تقدمه، كما حصل في الشحيل وريف دير الزور الشرقي، وفي “أبو حمام”، والشعيطات، وغيرها من القرى والبلدات العربية في محافظة دير الزور والحسكة (12)، وبعد القضاء على جيوب المقاومة و”المرتدّين” على صعيد الجبهات الداخلية، تركّزت انتهاكات التنظيم ضد المكوّنات المحلية، على أطراف مناطق سيطرته، ويأتي ضمنها كرد شمال شرق سورية، ويمكن أن نذكر جرائم التهجير التي قام بها التنظيم، بحق الكرد في الحسكة، منطقة تل براك، إذ قام التنظيم عام 2015 بتهجير الأكراد من قراهم التي سيطر عليها، وأيضًا في الرقة منطقة تل أبيض، حيث تم تهجير عدد من القرى الكردية عام 2013، منها سوسك، يارقوي، قزعلي، ملوح القمر، تل فندر، وفي حزيران/ يونيو 2015، أصدر (داعش) قرارًا بخروج الكرد من مدينة الرقة، بتهمة مساندة “وحدات الحماية الشعبية” وقوات التحالف الدولي، وفي الريف الحلبي قام تنظيم (داعش) في تموز/ يوليو 2014، بالاستيلاء على منازل الأكراد، في قرى (أبي صرة وكورك والجبنة وعفدكه)، ونهبها ثم أحرقها، وأدى ذلك إلى نزوح سكان هذه القرى إلى المناطق الأكثر أمانًا، كما قام التنظيم في تموز/ يوليو عام 2015، باعتقال مئات الأكراد ومصادرة ممتلكاتهم في قرى (الشيخ جراح وتل بطال والكعيبة  وشاوى وتل جرجي)، وغيرها من القرى الكردية في ريف الباب، وسبّب ذلك أيضًا نزوح سكان هذه القرى إلى مناطق أكثر أمانًا في المناطق المحررة، ومنطقتي عفرين وتل أبيض.

    ب – التغيير الديمغرافي في مناطق “قوات سوريا الديمقراطية”:

يمكن تقسيم المناطق التي خضعت لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي، عبر “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد” إلى أربع مناطق: منطقة الجزيرة، ومنطقة عين العرب، ومنطقة عفرين، ومنطقة تل أبيض، ويمكن تقدير عدد السكان في هذه المناطق بنحو 2.5 مليون نسمة، وتولّت مهام حفظ الأمن داخل هذه المناطق قوات “الأسايش”، ويعدّ ملف التهجير القسري من أعقد الملفات بين العرب والأكراد في سورية؛ إذ تشير التقارير الصادرة عن (الشبكة السورية لحقوق الإنسان) إلى قيام “وحدات حماية الشعب” الكردية بحملات تهجير في قرى تل أبيض وتل حميس، طالت قرى الهلالية والبكارية والعشرة وتل مجدل والحسينية وتل الشوك وعكاظ والجزعة وأم كبير وأم كهيف وسلوك ورنين والحصوية الكبرى والصغرى وعبدي كوي وتل أبيض، وقامت هذه الوحدات بهدم وجرف منازل المدنيين في هذه المناطق، متهمة السكان العرب في هذه المناطق بأنهم حاضنة شعبية لـ (داعش).

تعامل حزب الاتحاد الديمقراطي مع هذه التهم، بتحفظه على الأدلة التي سيقت في التقارير، وبطعنه في أهلية شهود العيان، وبشكل رئيس من خلال تبريره هذه العمليات تحت بند “الأعمال العسكرية ضد تنظيم (داعش)”. وفي الوقت الذي تصر فيه “الإدارة الذاتية” على رفض هذه التهم، جملة وتفصيلًا، ثمّة ما يشير إلى أن تنفيذها جاء انتقامًا ممن افترضتهم حاضنة اجتماعية لـ (داعش)، الأمر الذي يضفي على هذه الممارسات طابع العقاب الجماعي، وهو ما يخالف أحكام القانون الإنساني الدولي، كما أن غياب آليات المحاسبة والرقابة يبقي الخوف من قيامه باستخدام ورقة التغيير الديموغرافي مشروعًا، خصوصًا أن “صالح مسلم” صرّح -في بداية أحداث الثورة- بأن “على العرب الذين استوطنوا أرضنا الرحيل”.

يلاحظ أن معظم هذه الممارسات حصلت في محيط مدينة الحسكة، حيث يشكّل ضعف الوجود الكردي فيها خطرًا على مشروع “الإدارة الذاتية”، الأمر الذي يفسّر اندفاع “وحدات حماية الشعب” إلى تعزيز وجودها العسكري فيها، إبعادًا لأي تهديد ديموغرافي سكّاني مستقبلي. وقد شهدت منطقة الخابور سياسة مشابهة في نزع سلاح ميليشيا Sootoro الآشورية، وكذلك مدينة الحسكة في طرد ميليشيا “الدفاع الوطني” الموالية للنظام، بالرغم من تعايشها مع “الإدارة الذاتية”. وتفيد القراءة السابقة لتحركات “وحدات حماية الشعب” بتبنيها سياسة تغليب قوتها في حيزها الحيوي، وبأن التهجير القسري لبعض القرى والبلدات العربية والتركمانية جاء نتيجة لهذه السياسات، وأنه ليس بالضرورة سياسة قائمة بحد ذاتها، فالهاجس الأول للاتحاد الديمقراطي هو بسط نفوذه في مناطق “الإدارة الذاتية” واحتكار القوة، ريثما ينتهي من التحكم في مفاصل النظام المحلي الذي يعمل على إنشائه.

ويجدر بالذكر أن “الإدارة الذاتية” قد سمحت بعودة جزئية لعدد من العرب الذي هُجّروا من قراهم في ريف الحسكة، كما حصل في منطقة الهول وتل براك في ريف الحسكة، وبلدة سلوك في ريف تل أبيض، كما أن مناطق سيطرتها تأوي ما يقارب 250 ألف نازح عربي.

ج- التهجير القسري في مناطق سيطرة فصائل الثورة:

لم يقتصر التهجير القسري على مناطق النظام والمناطق الأخرى المسيطر عليها من التنظيمات والأحزاب الوظيفية فقط، إنما شهدت مناطق سيطرة فصائل الثورة معدّلات نزوح أكبر، وذلك للأسباب التالية:

    أعمال القصف الجوي العنيف الذي تقوم بها قوات النظام والجيش الروسي.

    تراجع سُبل المعيشة وانعدامها في معظم الأحيان.

    تراجع الخدمات الأساسية كالطب، والتعليم، والطاقة وكثير من مقومات الحياة.

    تعذر وصول المساعدات الأممية للمحتاجين في المناطق المحاصرة.

    انعدام الأمن وتفشي الفصائلية لدى القوى المحلية.

وعلى الرغم من أن أغلب المهجرين قسريًا من المناطق المحررة هم من أبناء السنّة، فإن النظام كان يركز دائمًا على اتهام فصائل الثورة بممارسة التغيير الديموغرافي، من خلال ارتكابها لأعمال عدائية بحق الأقليات، مثل شن عمليات عسكرية في مناطق وجودهم (معان والكبّارية في أيلول 2016، قرى ريف اللاذقية آب 2013، معلولا أيلول 2013، الطليسية أيلول 2016، صدد تشرين الأول 2013 (13)، أو من خلال الترهيب الأمني الموجه ضد الأقليات الموجودة، في مناطق سيطرة هذه الفصائل، كما حصل في معرة مصرين وفي إدلب المدينة، بحسب ادعائه. ووفقًا لمصادر النظام، فإن المناطق التي تُتهم فصائل الثورة بتهجير سكّانها هي: معلولا وعدرا العمالية وقرية مغر المير في ريف دمشق، كفريا والفوعة وحلوز والقنية واشتبرق والجديدة واليعقوبية والغسانية وقرية زرزور في إدلب، نبل والزهراء في حلب، محردة وجدرين وكفربو وقسطل البرج وتل سكين والصفصافية وحي الميدان وجورين وشطحة وقرية الزيارة في حماة، قرية أبو مكة والبادروة والحمبوشية وعرامو والبلوطة وجب الأحمر والخوارات والخميلة وكسب وبج القصب والغسانية وصلنفة في اللاذقية، ربلة والغسانية وصدد في حمص، نامر وخربة وطيسيا ومعربة وشقرا في درعا. وعند التدقيق في توزع المناطق السابقة؛ يتضح أنها تتركز في منطقة الغاب وجسر الشغور وناحية القصير وفي المنطقة الواقعة بين الحدود الإدارية لدرعا والسويداء، أي أنها تتركز في نقاط التداخل بين النطاقات الجغرافية ذات الانتماءات المتباينة مذهبيًا، وثبت عدم صدقية رواية نظام الأسد، بعد انسحاب فصائل المعارضة من هذه المناطق.

 إن اتهام نظام الأسد لفصائل الثورة بممارسة عملية تغيير ديموغرافية قسرية بشكل منهجي، لا يوجد عليه دلائل كافية وذلك للأسباب التالية:

1- من قام بالأعمال الانتقامية التي أدت إلى النزوح القسري هي تنظيمات متطرفة ذات منشأ استخباراتي، كتنظيم (داعش) و”جبهة النصرة”.

2- في كثير من الأحيان، كان نزوح بعض سكان المناطق التي تحررها فصائل الثورة مؤقتًا، لخوف هؤلاء من انتقام هذه الفصائل، نتيجة تأييد هؤلاء السكان للأسد، لكن سرعان ما يعود هؤلاء إلى ديارهم بعد عودة سيطرة النظام عليها، الأمر الذي ينفي كونها عملية تغيير ديموغرافي مقصودة، ويمكن وضعها في إطار حركات النزوح الداخلي.

3- على الرغم من وجود بعض التجاوزات الفردية من عناصر فصائل الثورة بحق الأقليات، فإنها لا ترتقي إلى درجة التهجير القسري للسكان المحليين المنهجي، ولا يوجد أدلة على ذلك.

الخاتمة:

إنّ ما قام به حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار الأسد، منذ تسلّمهم السلطة في سورية، لإحداث التغيير الديموغرافي المنشود في سورية، لم يحقق أهدافه، على الرغم من بعض النجاحات التي رافقت تنفيذ هذا المخطط في مختلف مراحله، وخاصة مرحلة حكم بشار الأسد التي تميزت بالسيطرة شبه الكاملة للنظام الإيراني على كثير من مفاصل الحكم في سورية، خاصة أثناء الثورة السورية، واستطاع من خلالها تهجير كثير من أبناء الشعب السوري السني من مناطقهم، بالطرق التي ذكرناها في بحثنا، وعلى الرغم من هذه النجاحات فإنها يمكن أن تكون مرحلية، نظرًا لأن غالبية الشعب السوري هم من السنة، ومهما بلغت وتيرة تهجيرهم فلن تزداد الطائفة العلوية عددًا يمكن أن يفوق أعداد أبناء السنة، لهذا بدأ النظام الإيراني باستقدام مجموعات كبيرة من المرتزقة الشيعة، من كل أنحاء العالم، وتوطينهم في مناطق السنة، وأُعطيت الأوامر لنظام الأسد كي يتم إعطاء هؤلاء الجنسية السورية، لفرض أمر واقع جديد يختل فيه التوازن الطائفي السكاني.

إن حكاية التهجير القسري لم تنتهِ بخروجي من بيتي مرغمًا أجرُّ خلفي سوى عار الخذلان تاركًا بيتًا مليئًا بذكرياتٍ، لا تُسمن ولا تغني من جوع، إلّا أنّها تسمن بالغضب والكره والطمع بالعودة لا للذكريات لكن للثأر، واضعًا رحالي في مخيمات الذّل واللجوء في الشمال السوري أو في بلدان اللجوء، لا أحمل سوى حمم همومي أقتات من إغاثات منظمات تقتات بالشحادة على اسمي ناسيةً أنّنا شعبٌ بحاجةٍ إلى أكل العلم لا علف الدواب، نحتاج إلى عملٍ لنعيد بناء انكسار أنفسنا، أمام وسم النازح الذي لن يفارقنا يومًا، وسيذكرنا على الدّوام بالازدراء البشري المقيت الذي حوّل مصطلحًا عادلًا إلى وصمة عارٍ على جباهنا، دافعًا البعض إلى ركوب عرض الموت، باحثًا عن الذّل، وإن كان الذل لا محالةً ملاصقًا له، فليكن في بلاد بعيدةٍ عن الموت، ودافعًا البعض الآخر إلى الانجرار وراء (داعش) لعله بذلك يسعى للتنفيس عن غضبه المستعر بداخله، وبقي البعضُ حاملًا أحلامه والبندقية متناسيًا حدود السياسة غير ناسٍ أنّه هُجِرَ ليُسمى نازحًا على أرض الأمّة الإسلامية التي يقاتلُ باسمها. إنها ليست أزمة تهجير فقط بل أزمة هوية، وأزمة انتماء، وأزمة ثأر.   

يبدو أن الطريق الوحيد لإنقاذ سورية من مشاريع التغيير الديموغرافي التي تهدّدها يجب أن يمرّ عبر الوصول إلى توافق وطني، يعتمد على القطيعة مع الاستبداد والإرهاب والتطرّف بأشكاله كافة، وخطوة من هذا القبيل توجب على النخب الوطنية السورية، لدى كلّ الأطراف السياسية والمجتمعية، تحمّل المسؤولية بكل إقدام وثبات، والدخول في حوار وطني شامل يُغطي الجغرافية السورية بأسرها، حوار يُركّز على نقاط التوافق، ويعمل على تفكيك نقاط الخلاف، ويتعامل معها بعقلية وطنية إبداعية، تتجاوز العقبات والإشكالات لمصلحة مستقبل سورية وأجيالها المقبلة.

الهوامش

(1)- اللجنة الدولية للصليب الأحمر، نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما في 17تموز/ يوليو 1998، معاهدات، المادة السابعة https://bit.ly/2CXw8Sy

(2)- اللجنة الدولية للصليب الأحمر، اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12آب/ أغسطس 1949، معاهدات، المادة 49  http://www.lcrdye.org/5918/

 (3)- موقع الجزيرة، التركيبة السكانية في سورية، https://www.aljazeera.net/news/arabic/

(4)- ويكيبيديا، سكان سوريا https://ar.wikipedia.org/wiki/

(5)- موقع مجلس الشعب السوري،  المرسوم التشريعي 66 لعام 2012 إحداث منطقتين تنظيميتين في نطاق محافظة دمشق https://bit.ly/3aVKuzd

(6)- موقع قناة سوريا، المخطط الأمني للتغيير الديموغرافي في سوريا https://www.syria.tv/

(7) المرجع السابق.

(8)- المرجع الخامس

(9)- موقع الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا)، مجلس مدينة حمص يقر المخطط التنظيمي العام لمشروع إعادة إعمار بابا عمرو والسلطانية وجوبر https://www.sana.sy/?p=257736

(10)- موقع أخبار الأمم المتحدة، 130 ألف سوري يغادرون الغوطة الشرقية بسبب القتال https://news.un.org/ar/story/2018/04/1005451

(11)- موقع رئاسة مجلس الوزراء السورية، المرسوم التشريعي رقم /12/ http://pministry.gov.sy/contents/12656/

(12)- موقع شبكة شام الإخبارية، التغير الديموغرافي في سورية https://bit.ly/32lJOzq

(13)- موقع نصح، التغيير الديموغرافي في سوريا http://www.nusuh.org/45

طباعة

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى