وجها لوجه

الشاعر والناقد السوري محمد المطرود: الوقت ينفد وأحلمُ بالساعة الخامسة والعشرين

حاوره: محمد الأسعد

 لغة شفيفة تتجهُ إلى الدهشة وإحساس مرهف كجناح الفراشة، وعمق في الأفكار يتماشى مع عمقِ الفلسفة، بهذه الخلطة يكتب الشاعر والناقد محمد مطرود قصائده ونصوصه، وبعين الأب يتابع ما ينشره ال#شعراء من نصوص شعرية فينقد بعضهم متلمساً الجمال وبعض الهفوات التي تصححها رؤيته لها، ولا يتوانى عن القول بأن علاقته بالنقد، هي لتشييد علاقة صحية مع نفسه قبل نصّ الآخر.

يحمل وطنه في قلبه وفي يده يحمل جمر الغياب عن وطن غادره بُعيد حرب، ولكنه ظل ببياضه وشساعة حقوله ملتصقاً بضميره، لا يبرحه لحظة واحدة وإذا خانته الذاكرة برهة تجد همومه مكتوبة بعناية من خلال نتاجه.

صدرت له ثمانية كتب مطبوعة: “ثمار العاصفة” في العام 1997، و”سيرة بئر” في العام 2005، و”ما يقوله الولد الهاذي” في العام 2009، و”أسفل منتصف الحياة”، كتاب مشترك العام 2012، و”اسمه أحمد وظله النار” العام 2014، و”كتاب أرباب أرضيون” العام 2019، إضافة إلى كتاب “آلام ذئب الجنوب” العام 2019، وعدد من المخطوطات، أقربها إلى الطباعة” كائنٌ أقل/ من سيرة هدّار وسم البدو وكتاب نقدي بعنوان “مشاغل شعرية”.

ترجمت بعض نصوصه إلى الألمانية والإيطالية، يقيم في ألمانيا بعد أن حصل على منحة هاينريش بول، ويكاد المطرود أنْ يتفرّد بعلاقته مع اللغة والسرد الشعري، بانفتاحهِ على مناخات بيئية بدوية، تميزهُ عن غيره في المشهدين الثقافيين السوري والعربي.

حول مواضيعَ حياتية و#أدبية تفتتح “النهار” هذا الحوار معه:

* شاركت أخيراً في مهرجان شعري الكتروني، “المنصة الثقافية”، هل برأيك ستنوب هذه المنصات عن الأمسيات على أرض الواقع، وما مدى إمكانية استمرارها بعد كورونا وعودة الحياة الطبيعية؟

_ أعتقد بأنّ وجود منصات ثقافية سبق كورونا. مع الانفجار التقني، كانت طرق العرض تتعدّد، من باب التسويق، أمّا مع الجائحة، فصرنا نبحث عن بديل، بمعنى ما صرنا أسرى الحاجة والضرورة، وكما لي علاقة مع الورق، ولم تستطع اللغة الإلكترونية أن تبعدني عنه، فلا أجد المنصّة الثقافية عن بعد تُغني عن العلاقة الحميمية بينَ المنتج المبدع والمتلقي، ثمة علاقة تكاملية. وعن مدى استمرار هذه المنصّات أقولُ: كثر هم الذين وجدوا طريقة العرض هذه مناسبة لهم، وكسرت لصالحهم احتكار المنابر ومركزيتها حول أسماء بعينها.

* يقال إنّ الشعر العربي عندما يترجم يفقد موسيقاه، ألهذه الأسباب لم تترجم أعمالك الشعرية؟

_ الترجمة خيانة كما يقال، تواطؤ حميد بين لغتين، أو عملية تفاوض بين كيانين معرفيين ولغويين، كلّ منهما يدركُ بأنّه سيخسر شيئاً في مكان، ويكسبُ في مكانٍ آخر، بالنسبة لي نصوصي صعبة، لكنها ليست ملغّزة أو غامضة، قد تكون مفخخة بمقترحي في الكتابة الذي أعمل عليه منذ سنين طويلة، لا أخفيك بعدم نزاهة بعضهم عندما يتحدث عن كتابتي بأنّها غير قابلة للترجمة، أنا لا أدفع بالسهل إلى مترجم كسول أساساً، أراهن على كتابتي وعلى مترجم يدرك تلك الكيمياء أو “التواطؤ الحميد”. وعموماً ترجمة الشعر من العربية وإليها، يفقده الكثير من روحه وحيويته.

تميل لكتابة النصوص السردية أكثر من كتابة القصيدة ما السرّ؟

_ أنتمي جغرافياً إلى بيئة غنية بحكاياتها، خرافاتها، جنياتها، والشعر جزء من لغة هذا المكان، بالتأكيد ليس الشعر الذي أكتبه، عندما تكون الحكاية حاضرة، إضافة إلى خساراتي الشخصية، والسيرة الذاتية المتعبة جداً، منذ الطفولة والحرمان واليتم، إلى التعثر في الحياة مع الأهل والأصدقاء والخذلان بهم ومنهم، أجدّ بأنّ النصّ الشعري يضيقُ عليّ كثيراً، أبدو به كمن يلبسُ ثياب أخيه الأصغر، السرد يعطي فضفضة، بمعنى المتّسع وليس الهذر، ولهذا كل ما أفعلهُ هو مقدمات لكتابة رواية، هي روايتي، هي أنا داخل كلّ ما يحيط بي، ويضيقُ عليّ كتابوت. بالسرد الذي تسألُ عنه، أريد أن أفتحَ نافذة في تابوتي المجازي!

كثير من النقاد كتبوا عن “آلام ذئب الجنوب”، هل أنت راضٍ عما كتب عنه حتى الآن، أم بتصوّرك أن في بعض النقد محاباة لا تخدم عملك؟

_أنا راض عن كلّ الذي كتب، وهي كتابات انطباعية، تنمّ عن محبّة، إلّا أن الكتاب لم يقرأ نقدياً، بعضُ أصدقائي النقّاد أبدوا إعجاباً كبيراً، وعدوه مقترحاً جديداً في الكتابة_هذا على الخاص_ غير أنّهم لم يتطرقوا للكتابة عنه، وهذا أراه مرتبط بشخصيتي الحقيقة، فأنا لستُ من الذين يجيدون تسويق كتاباتهم، أو إحاطة الشخصية بهالة من الادعاء، الكذب، أحدُ الذين أعرفهم كان يشكو قلة العمل والفراغ الكبير، ومع هذا عندما يرسل له أحدهم سلاماً أو سؤالاً، يكتب له بأنّ مشاغله كثيرة، ولا وقت لديه للرد على الرسائل، هذه آلية صديقي، فكلّما بحكم طبيعتك توفرت للآخرين، يجدّ الآخرون أنّك” طبعة شعبية” علماً طبعة شعبية في الحياة، وليس في الكتابة. أحاول حالياً أنْ أنشغل بي كثيراً.

*في مجموعتك “اسمه أحمد وظله النار”، تحدثت عن القناص كشخص تائب، فقلت: “القنّاص المنشقُّ/ حدّثني أنه أصابَ الهدف في العين/ وبكى”. فهل هي محاولة منك لمواجهة الحرب بالحب، أم لك مآرب آخرى؟

_ فعلاً سمعتُ عن هذا القناص، ولا أدري ماذا كانت توبة، أو تكفيراً عن روح القتل الذي تملكتهُ، لكن لنعترف بأنّ هذا النموذج موجود، وعموماً الحرب، كلّ حرب ستنتهي، وسيجلسُ المتحاربون إلى طاولة واحدة، سيذرفون دمعاً كثيراً، وسيتسامحون، تركة الثأر والانتقام ثقيلة جداً جداً، أثقل بكثير من جعبة السلم، طبعاً لا أبرئ القتلة، ولا أطالب بمسامحتهم لمجرد اعتذارهم، غير أنيّ أحلم_ربّما_بوجود عدالة تقتّص منهم، وتريحُ المغبونين.

* لك قاموس لغوي خاص بك يختلف عن غيرك من الشعراء فما السر وراء امتلاكك هذا القاموس؟ أهو تأثير البيئة التي عايشتها أم من باب إثراء النصوص بطريقة متفردة؟

القاموس الذي اكتسبتهُ فيه شيء من البيئة، تلك البراري التي عرفتها، ذلك المدى المفتوح على الأسئلة الوجودية، كذلك توزعي على قوميتين، ومعرفتي لغتهما، لربّما” الهجنة” فعلت فعلها”، ولربّما حال الولد اليتيم الذي عاش جرحاً مبكراً، قادني إلى اكتشافٍ مختلفٍ، من حيث سوية القراءات، وقراءة الحياة من زاوية المكتشف لا من زاويةِ العادي أو العاطفي. أعيشُ مراناً يومياً مع اللغة، أشكّك بها، ولا أركنُ لليقين، أحاولُ دائماً أن أقطعَ علاقتي من السهل، أنجحُ أحيانا، وأفشلُ كـ” الآلهة التي تفشل دوما” وهذه مقاربة لعنونةِ ادوارد سعيد.

* كل من هبّ ودبّ يكتب الشعر، فهل تأثرت الأدوات الشعرية بوسائل التواصل الاجتماعي؟

_ لكلّ شاعر أداته الشعرية، وليس لكلّ” من هبّ ودبّ” أداة، التجاربُ الأصيلة، والمشاريع الحقيقية حسبها أنّها حقيقية ومستمرة، انظر في حال كثيرين قدّموا أنفسهم كشعراء، لكنّهم توقفوا في نقطة ما، ولا يمكن لك أن تقرأهم إلّا وهم يكررون أنفسهم بكتابات ممجوجة بدائية. الاتكاء على وسائل التواصل دون جهد، دون السؤال المعرفي المُقلق، يجعلُ الكثير من المنجز عالة على الكتابة. شخصياً كثرة هؤلاء لاتقلقني، بقدر ما أراها مهمة، لنعرف حجم الرديء الكبير والكثير، أمام حجم المختلف والمغاير والمدهش!

* في المراكز الثقافية السورية كانت بعض الأمسيات أحيانا بدون جمهور، هل يحتاج الشعر إلى جمهور؟

_ يحتاجُ الشعر إلى متلقين، يفككون النصّ، ويتذوقونه، كاذب من يقول: “أنني أكتب لنفسي”، ويترتّب على الشاعر تطوير قدراته ليكون جديراً بالمتلقي، بهذا الشكل تكتمل المعادلة، مرسل ومرسل إليه، حالياً شكل التلقي اختلف، هناك بدائل كثيرة لإيصال النص، ومسألة جمهور بالمعنى الشعبوي لم تعد ممكنة، بالنسبة للمراكز الثقافية في سوريا كانت وما زالت، تقدم قلّة من الشعراء إلى جمهورها، وكثير من الأمسيات كانت “تنفيعية” وليست شعرية، يوقع “الشاعر” بعد الأمسية المزعومة على إيصال بمبلغ 800 ليرة سورية، أعرف شاعرة كانت تأتي إلى محافظة الحسكة من العاصمة، تأكل وتشرب وتنام، وتأخذ استكتاباً عن عشر أمسيات، وجمهورها يكون مدير المركز الثقافي، وبعض أصدقاء المدير، الذين يذهبون بعد” الأمسية” مباشرة إلى أمسية الأكل.

* تكتب في الصحافة الثقافية، هل تعتبر الصحافة مهنة أم أنك تمارسها كنوع من الأدب؟

_ إلى حدّ ما مارستها كمهنة، ولا أخفيك أحبّها في جزئها الثقافي، وجود محررين ثقافيين أذكياء، يعدم المسافة والتوجس بين الصحافة والأدب، وعليه يمكن للكاتب أن ينفتح بالصحافة على ملاذات أكثر، ويصل أكثر، على ألّا يتخلى النّاص الإبداعي عن روحه ككاتب لصالح القليل الصحافي فيه.

* أكثر الشعراء تحولوا من الشعر إلى الرواية هل هي “موضة” أم أن الرواية تعبر أكثر؟

_ شخصياً قلت في أكثر من حوار: نصي الشعري، يضيق عليّ، ولعلّ السرد الذي أذهب إليه، يجعلني أكثر راحة، قراءاتي روائية أكثرها، ومع أنني أعيش مفاصل روايتي، بيني وبين نفسي، لم أجرؤ على كتابتها، بعضُ الشعراء الذين ذهبوا إلى الرواية، لم يكتبوا رواية بمعيار الرواية، بل هي خلطة (كوكتيل) مقالات ونصوص شعرية وهواجس، فلا حدثَ يتنامى ولا شخصيات تتفاعل، ولا رابط درامي أو دلالي يربط أول الرواية بآخرها، هذا من جهة، أيضاً النمطية التي تقول أن الشعر مات، أو لم يعد له قرّاء، أيضا ساهم في تعزيز هذه النزعة دور النشر التي بدورها صارت تتبنى الأعمال الروائية على رداءة بعضها، بحجة أنّ “القارئ عاوز كده”، أيضاً ومع كثرة الذين يعلنونَ أنفسهم كشعراء، يريدُ بعض الشعراء المستائين من هذه الكثرة استعراض عضلاتهم ودخول حلبة التحدي، باعتبار أنّ الرواية كجنس أدبي يحتاج إلى مراس طويل وتقنية لاتنوجدان في شعرية اليوم!

* التغريبة السورية أثرت بشكل كبير على الأدب السوري هل سنشهد لاحقا ما يسمى (أدب المهجر السوري)، وهل أنتجت التغريبة السورية أدب الشتات..

_ سؤال مهم، سئلت قبل سنوات سؤالاً يصبّ في هذا المعنى، وقلت وقتها وبما معناه: نجد حالات، مقاربات للتغريبة السورية لو جازت التسمية، وهي تنهل من موضوعة الحنين، والتقارب مع البلدان البديلة، والتعرض للقضايا الثقافية الجديدة إما بالتبعية أو الندية مع #ثقافة الآخر، إلّا أننا حتى هذه اللحظة_وحتى لا أكون متناقضاً مع نفسي_ لا يمكن النظر إلى المنجز باعتباره نسقاً ثقافياً، يمكن أن نطلق عليه “أدب الشتات” قد نحتاج إلى سنوات بعد أن تهدأ الحرب، وتهدأ الانفجارات في داخلنا لننظّر لهذا الأدب ونحدد ماهيته نقدياً.

* تكتب بمخاتلة، وتختبئ خلف اللغة في علاقتك مع المرأة، هل هو الحياء، أم هكذا تعلمتَ من معلميك، وخاصة سليم بركات، الذي ترتبط فيه من حيث المكان واللغة؟

أما عن سليم بركات، فأستطيع القول أنا لم أكن مريداً له، ولا متصوفاً في محراب كلمته، قرأته، أحببتُ قدرتهُ على اختراعِ اللغة، وكذلك مداورته لمواضيعهِ، وكتبت مرة بحثاً نقدياً عن أحد كتبه، تحدثت فيها عن فكرة: الضيف والمضيف، وكيف يمكن الضيف أنْ يبزّ المضيف. لي لغتي التي ترتبطُ بناسي، هو يكتب عن بيئة تخصهُ، شخصياتي غير شخصياته، هو يكتب عن شمالٍ حاضر فيه، وأنا أكتب عن جنوبٍ حاضر فيّ، أحدهم مرةً ألمح ما إذا كنت أكتبُ عن الجنوب نكاية بشمال سليم، الأمر مضحك حقّاً.

أما عن المرأة، فهي موجةُ الحرير التي أداروها دوماً، أغلبها أحياناً، وأحيانا تلتف حول عنقي كأفعى، هذه الضدية في فهمي لها تجعلني أؤمن بها كشريكة، لا أخدعها ولا تخدعني، وفي حال خروجها من حياتي، سأخرجُ من الكتابة والحياة معاً!

* ذكرت في مقال أن مهرجانات القصيدة الموزونة يقوم عليها مستحاثات وزارات الثقافة والرسمي، في حين يماثلهم في قصيدة النثر من يحملون عقلية” الشلة” العصاباتية، ألا ترى هذه الطرح متطرفاً، بحيث لم يسلم أحدٌ من توصيفك؟

قد يكون جريئاً أكثر من كونه متطرفاً، عندما تسمع عن مهرجانات، وتقلّب في الأسماء، فلا تجد اسماً واحداً، يكتب بمعيار الإبداع، سواء كتب الوزن أو النثر، لتفاجئ أنّ الموزونة نظمٌ سَمجٌ، والنثر لا يتجاوز الخاطرة، لتبقى المشاريع المتعوب عليها، وتجرّب، وتماحك، بعيدةً من هذه المنابر، وهو ما يعطي انطباعاً أقرب إلى الحقيقة، بأنّ معظم الذي يُسوّق له رديء وما دونهُ. أجزم أنّ كتاب “نظام التفاهة” لـ آلان دونو، يخدم فكرتي هذهِ.

* أخيراً هل أنت مغبون إعلاميا، وماذا تريد من الحياة؟

أبداً لست مغبوناً، بل ربّما أخذتُ أكثر مما أستحق، مقارنة مع غيري في هذا الاتجاه أنا محظوظ جداً، والذي أريده “الساعة الخامسة والعشرين” الوقت ينفد، ولعليّ ثبتت فكرة “ساعة حياة” في كتابي الجديد، إذ يدوّن بورخيس عن محكوم بالإعدام، يتمنىّ على رصاص فرقة الموت، أن يستغرقَ ساعةً في المسافةِ إلى جسده، لعلّه في هذه الساعة، يفعل الذي لم يفعله!

 النهار

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى