الناس

شهادة حفار القبور السوري

=================================

———————————

مقابر جماعية تحيط بدمشق.. وضحايا تُقدر بالملايين/ لونا وطفة

في جلستي المحكمة الثلاثين والواحدة والثلاثين وافقت المحكمة لأول مرة على استجواب شاهدٍ محمي الهوية بالكامل، حيث وافقت على تغطية وجهه بكمامة ولم تُذكر معلوماته الشخصية بالمطلق حرصاً على سلامة أهله وأقربائه في سوريا. حيث كانت شهادةً صادمةً بتفاصيلها التي تُذكر للمرة الأولى.

بدأ الشاهد الذي أطلق عليه رمز (Z 30.07.2019) شهادته بعد إعلان بداية الجلسة الأولى من جلستيه المقررتين بتاريخ 09.09 و 10.09 لعام 2020، بما يقارب الساعة والنصف أي تمام الساعة الحادية عشر صباحاً، لأن محاميي الدفاع رفضوا فكرة تغطية وجهه، ودارت مداولات كثيرة بين القضاة والمحاميين إلى حين قرار المحكمة ختاماً، أن من حق الشاهد إبقاء الكمامة على وجهه. أدت هذه البداية لتوترٍ إضافيٍ لدى الشاهد الذي يعاني من أمراض الضغط والسكري الَّذَين سببا له سابقاً انهياراً أثناء تحقيق الشرطة الجنائية معه عام 2019، ما اضطرهم ذلك حينها لنقله إلى المستشفى، وفي الجلسة الأولى من جلساته في المحكمة انهت القاضي الجلسة بشكلٍ مفاجئٍ بسبب ارتفاع ضغط الشاهد وعدم قدرته على الوقوف.

من يكون الشاهد؟

بدأت أسئلة القضاة عن عمل الشاهد اليومي حين كان في سوريا، فأخبرهم أنه كان عاملاً مدنياً في مجال دفن الموتى قبل بداية الثورة السورية. في الشهر العاشر تقريباً من عام 2011، أُرسِل لهم اثنين من الضباط، الذين جمعوا عدداً من العمال المدنيين قرابة العشر أشخاص، وعينوا الشاهد مشرفاً عليهم وأصبحوا يجبرونهم على الذهاب معهم إلى المشافي العسكرية، وهناك يجدون شاحنة براد كبيرة او اثنتين بانتظارهم، يقومون بعدها بمرافقة هذه البرادات إلى أماكن معينة ودفن الجثث الموجودة فيها ضمن مقابر جماعية. أخبر الشاهد المحكمة أنه عَمِل مع هؤلاء الضباط منذ عام 2011 وحتى عام 2017 دون السماح لهم بأخذ أي إجازة خلال تلك السنوات، وأن كل عملية دفن كانت تبدأ قرابة الساعة الرابعة صباحاً وتنتهي قرابة الساعة التاسعة صباحاً.

لم يكتفِ الشاهد بالحديث عن المشافي العسكرية بل تحدث أيضاً عن المشافي المدنية، وأيضاً عن سجن صيدنايا.

قال الشاهد أن الشاحنة/البراد الواحدة أطول من 11 متر، وأن الجثث فيها قد تصل من 500 إلى 700 جثة وأحياناً أقل، الأمر الذي كانوا يعرفونه من الضباط عندما يأمرونهم بتسجيل عدد الجثث من كل فرع أمني، ومن ثم إحصاء العدد الكلي، وضرب مثالاً: فرع فلسطين 100 جثة، فرع الأربعين 50 جثة. لم يستطع الشاهد تحديد أي فرع أمني مسؤول عن أكبر عدد من الجثث، ولكنه سمع الضباط كثيراً ما يتحدثون فيما بينهم عن نشاط أفرع أمنية في أيام معينة والتنافس فيما بينهم، فيقولون مثلاً (أفرع أمن الدولة نشطة اليوم)، الأمر الذي يعني أن الجثث القادمة منها أكثر من الجثث القادمة من الأفرع الأمنية الأخرى.

أثناء عمله معهم مُنع الشاهد وباقي العمال من الحديث فيما بينهم أو استخدام هواتفهم الجوالة، وقال أنه لم يعلم بدايةً أي شيء عن مهامه، لأن الضباط تكتموا على كل المعلومات، لكن وبعد خمسة أشهر تقريباً وَثِقَ الضباط بهم فأصبحوا يخبرونهم أكثر عن هذه المهام.

وحدد الشاهد المستشفيات التي تم نقل الجثث منها، مستشفيي حرستا وتشرين العسكريين، (مشفى تشرين، كما قال يتضمن جثث مشفى المزة 601 العسكري، لأنه مشفى صغير ولا يتسع لتجميع الجثث)، ومستشفيي المواساة والمجتهد المدنيين. وعن المشافي المدنية قال بأن هناك من أخبره من داخل مشفى المجتهد، أنهم لا يقومون فقط باستقبال الجثث من الأفرع، بل يقومون بعمليات قتل داخل المشفى أيضاً. وعن عدد مرات نقل الجثث قال أن هناك ثلاث أو أربع عمليات دفن خلال الأسبوع الواحد، مرة أو مرتين في الأسبوع للمشافي العسكرية، مرتين أو ثلاث منهم في الشهر لصالح المشافي المدنية، ومرتين أخريين أسبوعياً لصالح سجن صيدنايا بمقدار سيارتين إلى ثلاث لكل عملية نقل منه.

مدافن جماعية في كل مكان

ثم تحدث الشاهد عن أماكن الدفن والتي حددها بمكانين هما نجها، البعيدة عن دمشق حوالي 15 كم -والتي ذكرها سابقاً شاهدٌ آخر، ووردت معلومات المقابر مع رسوم توضيحية للمقابر الجماعية في تقريرنا عن الجلستين الثالثة والرابعة عشر، بتاريخ الرابع والخامس والعشرين من الشهر السادس-، والقطيفة -التي تُذكر لأول مرة خلال هذه المحاكمة- وتبعد عن دمشق حوالي 35 كم، وهما أراضٍ عسكرية يُمنع المدنيون من دخولها، وأنهم كمدنيون احتاجوا لمهمة رسمية، وسيارة تستطيع المرور على جميع الحواجز العسكرية دون توقيفها، وقال بأن جميع الأفرع الأمنية كانت ترسل جثثها إلى هذه الأماكن، عدا فرعين اثنين هما الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، حيث تدفن الجثث في مطار المزة العسكري تحت مدرج الطيران، وفرع المخابرات الجوية تُدفن الجثث داخل الفرع نفسه، ولا يسمح للعمال المدنيين بالدخول إلى هذين المكانين، بل فقط عاملٌ مدنيٌ واحدٌ يقوم بحفر القبور، وكان هذا العامل صديقاً للشاهد وهو من أخبره عن الأمر.

أما عن حجم المقابر الجماعية في منطقتي نجها والقطيفة، فقال الشاهد أن مساحة الحفرة الواحدة قد تصل لـ 5000 م² بعمق يصل لستة أمتار. لا يتم إغلاق الحفرة مرة واحدة وإنما على دفعات، حيث يُردَمُ جزء منها بحسب عدد الجثث في الدفعة الواحدة، وهكذا حتى تُردم بالكامل مع استمرار تدفق دفعات الجثث القادمة من الأفرع. كانوا يُسمون الحفرة “الخط”. بعض الخطوط كانت تمتلئ بعد عشرين عملية دفن وأخرى تحتاج لخمسين أو ستين عملية دفن، وهذا يعتمد على حجم الخط كما أوضح.

“عندما يُفتح باب البراد، وبسبب تراكم الجثث لمدة طويلة داخل البراد تنبعث الرائحة كقنبلة غاز قوية جداً، إذ أنهم يقومون بتكديسها على دفعات ريثما تمتلئ الشاحنة بالكامل” بهذا السبب برر الشاهد عدم قيامه بدفن الجثث القادمة من الأفرع بشكل شخصي، بل الاكتفاء بالوقوف بعيداً قرابة العشرين متراً، ومراقبة العمال وهم يقومون برمي الجثث من البراد إلى الحفرة حتى يصلوا إلى الجثث المكدسة بنهاية البراد، والتي غالباً ماتكون مليئة بالمواد المخاطية نتيجة التحلل أو بالديدان، بسبب انعدام الهواء داخل البراد والتخزين لمدة طويلة. مقابر جماعية

لكن الشاهد قام بدفن جثث سجن صيدنايا بنفسه مع العمال، وعن هذه الجثث قال: “لم تنبعث منها رائحة لأنها جثثٌ حديثة، أخبرنا الضباط أنهم أعدموا في اليوم نفسه. غالباً يبدأ الإعدام الساعة الثانية عشر ليلاً، ويتم الدفن الساعة الرابعة صباحاً، ولكنني رأيتُ آثار الحبل الملتف على رقابهم وآثار التعذيب أيضاً، وعموماً كانوا يأتون مكبلي الأيدي مع أرقام ورموز مكتوبة على ملصقات وُضِعت على جبهات وصدور الجثث، وقد حدث ذات مرة أن أحدهم لم يكن ميتاً بعد بل كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، فأمر الضابط أن تمر الجرافة فوقه”. وعن الحالة التي سببتها له رؤية هذه المناظر لأعوامٍ طويلة أضاف الشاهد: “سكنت الرائحة في أنوفنا كل هذه السنوات، وكنا نتحسسها حتى لو كنا في منازلنا أو أي مكان آخر، وأما مناظر الجثث فقد كانت كفيلة أن تبقيني دون طعام أو شراب لعدة أيام متواصلة، ولازالت تزورني ككوابيس وتمنعني من النوم، بل وتسبب لي رُعباً واضطرابات في السكر والضغط دائمين”. أضاف الشاهد.

جثث لنساء وأطفال..ولا مدافن مخصصة للنساء

تحدث أيضاً عن إخبار العمال له بوجود جثث نساءٍ وأطفالٍ -من الذكور والإناث أيضاً- وعن رفض الضباط السماح لهم دفن النساء بأماكن مخصصة، بل تعدى الأمر رفض الطلب إلى التهديد بالاعتقال والتعذيب. وأخبر المحكمة عن رؤيته شخصياً لجثة امرأة مقتولة تحضن رضيعها المذبوح بين يديها، الأمر الذي أدى لانهياره حينها.

وعن شكل الجثث القادمة من الأفرع قال الشاهد، أن العمال أخبروه بأن ملامح الوجوه غائبة تقريباً والذي كان برأيهم نتيجة استخدام مواد كيميائية لإذابتها كالأسيد، لاستحالة تآكلها بطريقة طبيعية أو نتيجة تعذيب، وأخبروه أيضاً عن علامات التعذيب المنتشرة على كافة أنحاء الجسد وعلامات الازرقاق والاحمرار والاسوداد على الجثث، وقلع أظافر اليدين والقدمين بل وفي إحدى الحالات قطع العضو الذكري.

وأخبر الشاهد القضاة أيضاً عن عمليات دفن أخرى اُخذوا إليها وكانت سريَّة وخالية من الوثائق والأرقام تبدأ الساعة الثانية عشر ليلاً، ويتواجد خلالها ضباط من رتبة عميد وأعلى وعساكر مسلحون.

سُئل الشاهد عن عمله الإداري بما يخص الوثائق، فقال أنه يتم عد الجثث والأفرع على لوائح أثناء عمليات النقل والدفن، ويقومون هم بتسجيل ما يخبرهم به الضباط، وبعد الدفن يأخذ ضابطٌ منهم هذه اللوائح إلى مقر عمله في الجهة المدنية، حيث يتقاسم المكتب مع الشاهد فيقوم بإملاء الشاهد رموزاً وأرقاماً، حيث تشير الرموز إلى الفرع المعني والمعروف من جهتهم فقط والأرقام لعدد الجثث منه، ويقوم الشاهد بكتابة هذه التفاصيل بسجل الوفيات، ومن ثم يقوم الضابط بوضع السجل ضمن خزنة مقفلة، ويقوم بأخذ اللوائح وطباعتها لتسليمها إما لمديره في العمل أو للضابط المسؤول الأعلى رتبة.

وتحدث الشاهد أيضاً أن الضباط لم يُوفروا أي حماية للعمال المدنيين بل مجرد قفازات ومريولة وكمامات عادية، الأمر الذي تسبب بإصابة البعض منهم بأمراض خطيرة وأدى لوفاة اثنين منهم. مقابر جماعية

وعن سؤال القضاة عن فرع الخطيب تحديداً، إن كان يُرسل جثثاً أيضاً، قال الشاهد أن الأفرع الأمنية جميعها أرسلت جثثاً ويبلغ عددها تقريباً خمسة عشر فرعاً أمنياً وأن الخطيب كان من بينها. وقال أن عدد الجثث خلال الست أعوام التي عمل فيها بلغ بتقديره الشخصي مليون، لـ مليون ونصف جثة، ثم قال: “ربما 2 أو 3 أو حتى 4 مليون جثة، لا أدري ولكن العدد كبير جداً”.

أما حصة فروع أمن الدولة (فرع الأربعين والخطيب وإدارة المخابرات العامة)، بحسب تقديره فقد بلغت من الشهر العاشر 2011 حتى نهاية عام 2012 لـ 50.000 جثة، وأن العدد بعد ذلك أصبح سنوياً 25.000 جثة من أفرع أمن الدولة موزعة على الشكل التالي: الخطيب 10.000 جثة، فرع الأربعين 10.000 جثة وإدارة المخابرات العامة 5.000 جثة، وقال بأن فرع الخطيب كان يُرسل الجثث للمشافي المدنية والعسكرية على حد سواء.

خلال الجلسة الثانية تم عرض عدة صور من خرائط غوغل لمنطقتي القطيفة ونجها، لكن الشاهد لم يستطع تحديد أماكن المقابر فيها لخلوها من أي معالم ولعدم توفرها باللغة العربية، بيد أنه قال أنه كان يستطيع رؤية فندق إيبلا من مقبرة نجها الجنوبية.

حاول محامو الدفاع خلال الجلسة الثانية معرفة عدة معلومات شخصية عن الشاهد من خلال طرحهم لأسئلة تتعلق به، بيد أن محامي الشاهد اعترض عدة مرات على تلك الأسئلة، وتخلل الأمر عدة استراحات ومداولات، بعض من تلك الأسئلة تمت الإجابة عنها لعدم تأثيرها على كشف هوية الشاهد، وبعضها الآخر تم قبول الامتناع عن الجواب فيها. مقابر جماعية

جدير بالذكر أنه وخلال هاتين الجلستين تواجد صحفيٌ سوريٌ يدعى طارق خلو كان قد حضر سابقاً الجلسة الافتتاحية من هذه المحاكمة ولديه اعتماد صحفيٌ من المحكمة، الأمر الذي أتاح له هذه المرة الحصول على خدمة الترجمة الفورية، ليكون بذلك أول صحفيٍ سوريٍ يحظى بها بعد الاعتراض الذي قدمه السيدان، الصحفي المستقل منصور العمري، والسيد حسان قنصو ممثلاً للمركز السوري للعدالة والمساءلة، والقرار الذي تَبِعَه من المحكمة الدستورية العليا في هذا الشأن.

ستستأنف المحكمة جلساتها بتاريخ 15 و16 من الشهر الحالي مع الشاهد السيد مازن درويش رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير.

—————————-

شهادة مروعة:دمشق محاطة بالمقابر الجماعية..والجثث تفوق المليون

استئانفت محكمة كوبلنز جلساتها في محاكمة الضابط السوري السابق أنور رسلان وإياد الغريب وتم الاستماع الى شاهد شارك بدفن آلاف الجثث في نجها والقطيفة.

في جلستي المحكمة الثلاثين والحادية والثلاثين وافقت المحكمة لأول مرة على استجواب شاهد محمي الهوية بالكامل، حيث وافقت على تغطية وجهه بكمامة ولم تُذكر معلوماته الشخصية بالمطلق حرصاً على سلامة أهله وأقربائه في سوريا.

بدأ الشاهد، بحسب ما ذكرت صحيفة “ليفانت” التي تنقل الأحداث من قلب المحكمة، بالقول أنه كان عاملاً مدنياً في مجال دفن الموتى قبل بداية الثورة السورية. وفي الشهر العاشر تقريباً من عام 2011، أُرسل لهم اثنان من الضباط، الذين جمعوا عدداً من العمال المدنيين قرابة العشرة أشخاص، وعينوا الشاهد مشرفاً عليهم وأصبحوا يجبرونهم على الذهاب معهم إلى المشافي العسكرية، وهناك يجدون شاحنة براد كبيرة او اثنتين بانتظارهم، يقومون بعدها بمرافقة هذه البرادات إلى أماكن معينة ودفن الجثث الموجودة فيها ضمن مقابر جماعية.

أخبر الشاهد الذي أطلق عليه رمز (Z 30.07.2019)، المحكمة أنه عَمِل مع هؤلاء الضباط منذ عام 2011 وحتى عام 2017 دون السماح لهم بأخذ أي إجازة خلال تلك السنوات، وأن كل عملية دفن كانت تبدأ قرابة الساعة الرابعة صباحاً وتنتهي قرابة الساعة التاسعة صباحاً.

لم يكتفِ الشاهد بالحديث عن المشافي العسكرية بل تحدث أيضاً عن المشافي المدنية، وأيضاً عن سجن صيدنايا. وقال إن عدد الجثث في كل شاحنة براد قد يصل من 500 إلى 700 جثة، الأمر الذي كانوا يعرفونه من الضباط عندما يأمرونهم بتسجيل عدد الجثث من كل فرع أمني، ومن ثم إحصاء العدد الكلي.

لم يستطِع الشاهد تحديد أي فرع أمني مسؤول عن أكبر عدد من الجثث، ولكنه سمع الضباط كثيراً ما يتحدثون في ما بينهم عن نشاط أفرع أمنية في أيام معينة والتنافس في ما بينهم، فيقولون مثلاً (أفرع أمن الدولة نشطة اليوم)، الأمر الذي يعني أن الجثث القادمة منها أكثر من الجثث القادمة من الأفرع الأمنية الأخرى.

وحدد الشاهد المستشفيات التي تم نقل الجثث منها، مستشفيا حرستا وتشرين العسكريين، ومستشفيا المواساة والمجتهد المدنيين. وعن المشافي المدنية قال إن هناك من أخبره من داخل مشفى المجتهد، أنهم لا يقومون فقط باستقبال الجثث من الأفرع، بل يقومون بعمليات قتل داخل المشفى أيضاً.

وعن عدد مرات نقل الجثث، قال إن هناك ثلاث أو أربع عمليات دفن خلال الأسبوع الواحد، مرة أو مرتين في الأسبوع للمشافي العسكرية، مرتين أو ثلاث منهم في الشهر لصالح المشافي المدنية، ومرتين أخريين أسبوعياً لصالح سجن صيدنايا بمقدار سيارتين إلى ثلاث لكل عملية نقل منه.

وتحدث الشاهد عن أماكن الدفن والتي حددها بمكانين هما نجها، البعيدة عن دمشق حوالي 15 كم، والتي ذكرها سابقاً شاهد آخر، والقطيفة، التي تُذكر لأول مرة خلال هذه المحاكمة، وتبعد عن دمشق حوالي 35 كم، وهما أراضٍ عسكرية يُمنع المدنيون من دخولها.

وأضاف أن جميع الأفرع الأمنية كانت ترسل جثثها إلى هذه الأماكن، عدا فرعين اثنين هما الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، حيث تدفن الجثث في مطار المزة العسكري تحت مدرج الطيران، وفرع المخابرات الجوية التي تدفن الجثث داخل الفرع نفسه.

أما عن حجم المقابر الجماعية في منطقتي نجها والقطيفة، فقال الشاهد إن مساحة الحفرة الواحدة قد تصل ل5000 م² بعمق يصل لستة أمتار. لا يتم إغلاق الحفرة مرة واحدة وإنما على دفعات، حيث يُردم جزء منها بحسب عدد الجثث في الدفعة الواحدة.

وشرح الشاهد أنه أثناء مشاركته في دفن جثث سجن صيدنايا “لم تنبعث منها رائحة لأنها جثث حديثة، أخبرنا الضباط أنهم أُعدموا في اليوم نفسه. غالباً يبدأ الإعدام الساعة 12 ليلاً، ويتم الدفن الساعة 4 صباحاً، ولكنني رأيتُ آثار الحبل الملتف على رقابهم وآثار التعذيب أيضاً، وعموماً كانوا يأتون مكبلي الأيدي مع أرقام ورموز مكتوبة على ملصقات وُضِعت على جبهات وصدور الجثث، وقد حدث ذات مرة أن أحدهم لم يكن ميتاً بعد بل كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، فأمر الضابط أن تمر الجرافة فوقه”.

وتحدث أيضاً عن إخبار العمال له بوجود جثث نساءٍ وأطفالٍ، من الذكور والإناث أيضاً، وعن رفض الضباط السماح لهم بدفن النساء بأماكن مخصصة، بل تعدى الأمر رفض الطلب إلى التهديد بالاعتقال والتعذيب. وأخبر المحكمة عن رؤيته شخصياً لجثة امرأة مقتولة تحضن رضيعها المذبوح بين يديها، الأمر الذي أدى لانهياره حينها.

وعن شكل الجثث القادمة من الأفرع قال الشاهد، أن العمال أخبروه بأن ملامح الوجوه غائبة تقريباً والذي كان برأيهم نتيجة استخدام مواد كيميائية لإذابتها كالأسيد، لاستحالة تآكلها بطريقة طبيعية أو نتيجة تعذيب.

وأخبر الشاهد القضاة أيضاً عن عمليات دفن أخرى أُخذوا إليها وكانت سريَّة وخالية من الوثائق والأرقام تبدأ الساعة 12 ليلاً، ويتواجد خلالها ضباط من رتبة عميد وأعلى وعساكر مسلحون.

ولدى سؤال القضاة عن فرع الخطيب تحديداً، إن كان يُرسل جثثاً أيضاً، قال الشاهد أن الأفرع الأمنية جميعها أرسلت جثثاً ويبلغ عددها تقريباً خمسة عشر فرعاً أمنياً وأن الخطيب كان من بينها. وقال إن عدد الجثث خلال الأعوام الست التي عمل فيها بلغ بتقديره الشخصي مليون، لمليون ونصف جثة، ثم قال: “ربما 2 أو 3 أو حتى 4 مليون جثة، لا أدري ولكن العدد كبير جداً”.

أما حصة فروع أمن الدولة (فرع الأربعين والخطيب وإدارة المخابرات العامة)، بحسب تقديره فقد بلغت من الشهر العاشر 2011 حتى نهاية عام 2012 50 ألف جثة، وأن العدد بعد ذلك أصبح سنوياً 25 ألف جثة من أفرع أمن الدولة.

——————————–

 شهادة «حفار القبور» السوري في ألمانيا تستعيد صور جرائم النازية

لم تكشف محكمة جرائم الحرب عن اسمه ولا هويته… ودخل القاعة متنكراً

برلين: راغدة بهنام

أثارت شهادة «حفار القبور» التي أدلى بها في الجلسة 31 الأخيرة الأسبوع الماضي، لمحاكمة مسؤولين سوريين على جرائم حرب، في مدينة كوبلنز غرب ألمانيا، كثيراً من الصدمة داخل قاعة المحكمة ولدى الصحافيين الألمان الذين كانوا يستمعون لشهادته، وأعادت إلى أذهانهم كثيراً من الصور المألوفة هنا، في بلد ما زال يعيش وصمة جرائم النازيين.

من الصور التي تأبى أن تغادر ذاكرة «حفار القبور» السوري، جثة امرأة كانت في أسفل ردمة الجثث التي كان ينقلها لدفنها في مقبرة جماعية في دمشق، فالمرأة كانت لا تزال تعانق طفلها الميت بين ذراعيها. يتذكر «حفار القبور» الذي كان حتى تلك اللحظة يتمالك نفسه، تلك الصورة، وينهار بالبكاء. تطلب القاضية الألمانية في محكمة كوبلنز التي تستمع لشهادة الرجل، استراحة ريثما يستعيد أنفاسه ويتابع. صور أخرى، يقول إنها ما زالت عالقة في ذهنه أكثر من غيرها. مثل تلك اللحظة التي شاهد فيها رجلاً بين كومة من مئات أو آلاف الجثث، ما زال يتنفس، حتى أمر الضابط السوري المسؤول، بسير المجرفة التي كانت تحفر القبور الجماعية، فوق جسده، لتحوله جثة بين كومة من الجثث. فالرجل الذي لم تكشف المحكمة عن اسمه ولا هويته، دخل القاعة متنكراً، مخبئاً وجهه خلف قناع لم ينزعه طوال 3 ساعات هي مدة إدلائه بشهادته.

والمحاكمة المقصودة هي تلك التي يحاكم فيها الضابط السوري السابق أنور رسلان والمجند السابق أياد الغريب، عن جرائم ضد الإنسانية ارتكبوها في سوريا بعد الثورة عام 2011. فهذه المحاكمة التي انطلقت قبل أربعة أشهر تقريباً، هي أول محاكمة لمسؤولين أمنيين في النظام السوري يحاكمون بجرائم حرب. المتهمان، أنور رسلان وأياد الغريب، هما الوحيدان حتى الآن اللذان نجح محامون وناشطون سوريون وأوروبيون، في جمع ملفات كافية عنهما، لوضعهما في قصف الاتهام. رسلان متهم بالمسؤولية عن تعذيب نحو 4 آلاف شخص، وقتل 58 آخرين في فرع الخطيب بدمشق، أما الغريب فمتهم بالقبض على متظاهرين وتسليمهم لفرع الخطيب حيث كانوا يتعرضون للتعذيب والقتل أحياناً.

ومنذ انطلاق المحاكمة في مدينة كوبلنز الألمانية في 23 أبريل (نيسان) الماضي، والعالم يستمع للمرة الأولى، بصدمة شديدة، لما يعيشه السوريون منذ سنوات: اعتقالات تعسفية، عمليات تعذيب لا تطاق، ومقابر جماعية يديرها النظام السوري. المحامي السوري أنور البني الذي يجمع الشهود في هذه المحاكمة، وقدم هو نفسه شهادته أمامه بصفته معتقلاً سابقاً، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن الصدمة التي شعر بها الألمان «لم تحدثها فقط معرفتهم بأن هذه الجرائم حصلت في سوريا، بل لأن عدداً منهم قارنها بما حدث أيام النازيين ومحاكمات أوشفيتز»، في ألمانيا. ويضيف أن «الصدمة الكبرى، هي في حقيقة أن هذه الجرائم ما زالت تحدث في سوريا حتى الآن». ويشير البني إلى أن الشاهد «حفار القبور» كان ما زال يعمل على دفن المعتقلين حتى عام 2017، حين غادر البلاد ما يؤكد أن هذه الجرائم ما زالت تجري في معتقلات سوريا حتى الآن. ولكن بالنسبة للبني، فإن أهم ما كشفته شهادة «حفار القبور»، هو «الحلقة المفقودة»، والسؤال الأزلي حول «أين تذهب جثث المعتقلين؟»، أو ماذا يحدث للمعتقلين المفقودين الذين يدخلون الأفرع الأمنية ثم يختفون. ويقول: «الآن بتنا نعرف». ولكن الأهم في شهادة الرجل، كانت بالنسبة للبني، أنها تربط منهجية القتل الجماعي بكل الأفرع الأمنية في سوريا، وتؤكد أن النظام بأكمله متورط.

والواقع أن عدداً من عائلات مفقودين سوريين، اكتشفوا مصير أبنائهم بعد أن شاهدوا صور جثثهم بين مجموعات صور قيصر، المصور العسكري السوري الذي هرب وهرّب معه آلاف الصور التي تظهر جثث معتقلين وعليه آثار التعذيب. وهذه الصور تشكل جزءاً من الأدلة التي استخدمها الادعاء في محاكمة كوبلنز الجارية.

مقابر جماعية

وأكثر من هذا، فإن «حفار القبور» تحدث بالفعل عن جثث كان تحمل بشاحنات مبردة تأتي من كل الأفرع الأمنية والمستشفيات العسكرية، ولكن أيضاً مستشفيات مدنية. وروى كيف «جنده» أحد عناصر المخابرات في عام 2011، وطلب منه أن يعد فريقاً من 10 إلى 15 رجلاً، يكونون مسؤولين عن مرافقة شاحنات محملة بجثث، أربع مرات أسبوعياً، باتجاه مقابر جماعية. وروى أن المخابرات أمنت له شاحنة صغيرة من دون لوحة وعليها صور بشار الأسد. في كل نقلة، قال إن عدد الشاحنات كان يتراوح بين واحدة وثلاثة، تنقل مئات الجثث المكدسة فوق بعضها. وكل شحنة كانت ترافقها لائحة بأسماء المراكز الأمنية التي جاءت منها الجثث، وكان من بينها مركز الخطيب.

أما الجثث فلم يكن لها أسماء. بعضها حتى كانت وجوهها مشوهة. ربما بالأسيد. كانت الجثث مجرد أرقام. أرقام ورموز محفورة على الجبين أو الصدر. بعضها كانت يداه لا تزال مقيدة خلف ظهره. وجميعها ملطخة بالكدمات أو الدماء بأظافر مقلعة. قدر «حفار القبور»، عدد الجثث التي كانت تنقل إلى المقابر الجماعية في كل نقلة، بين 300 و700 جثة. وحدد كذلك مسار الشاحنات التي كانت تنطلق إلى المقابر الجماعية، فجراً، بين الرابعة والخامسة. من مستشفيات تشرين وحرستا ومزة العسكرية، إلى مقبرتين جماعيتين في القطيفة شمال دمشق، والنجها جنوب دمشق. وهناك، تفرّغ الجثث عشوائياً في الحفرة العملاقة بعمق 6 أمتار وطول مائة متر. وقد يستغرق ملء كل حفرة قرابة 150 نقلة.

استمر «حفار القبور» يؤدي هذه الوظيفة منذ عام 2011 حتى عام 2017. لم تكشف تفاصيل أكثر عن هوية هذا الشاهد، رغم طلب محامي الدفاع، خوفاً على عائلته التي لا تزال في سوريا. وقد انتهت معه الجلسة 31 من جلسات هذه المحاكمة التي استمعت لعدد كبير من الشهود حتى الآن، كان من بينهم خمسة معتقلين سابقين.

صوت رسلان ووجهه

ورغم أن أياً من المعتقلين لم يتعرف على رسلان بالشكل، كونهم كانوا معصوبي الأعين وقت استجوابهم في معتقل الخطيب، فإن أدلة أخرى ظهرت تثبت أن رسلان كان محققاً في الفرع 251، كما كان يعرف ذاك المركز، وكان يعطي أوامر التعذيب. فالمتهم رسلان الذي يرفض الحديث في المحكمة ويتحدث فقط عبر محاميه، كان قد اعترف في استجواب سابق مع محقق ألماني قبل أن تبدأ المحاكمة، بأنه استجوب أحد الشهود الأساسيين في المحكمة، وهو وسيم المقداد، العازف السوري المشهور الذي وصل لاجئاً إلى ألمانيا. ورغم أن رواية رسلان للمحقق الألماني حول استجوابه للمقداد كانت مختلفة عما تحدث به الشاهد، فإنها كانت اعترافاً ضمنياً منه بأنه هو المحقق والآمر بالتعذيب. ذلك أن المقداد بشهادته أمام المحكمة، قال إن محققاً واحداً هو من استجوبه طيلة فترة اعتقاله في فرع الخطيب، وإنه لو سمع صوته فبإمكانه التعرف عليه فوراً. ولكنه لم يرَ وجهه لأن عينيه كانتا معصوبتين، كما حال كل المعتقلين السوريين الذين تعصب أعينهم كي لا يتمكنوا من التعرف على المحقق. وطلب المقداد، وشهود غيره، عينة صوتية من رسلان للتأكد بأنه هو نفسه المحقق الذي أعطى أوامر تعذيبهم. ولكن محاميه رفض الأمر بشكل قاطع.

ورغم أن الشهود حتى الآن لم يتعرفوا على وجه رسلان، فإن البني يؤكد لـ«الشرق الأوسط»، أن الجلسات المقبلة ستشهد مثول شهود يمكنهم التعرف على وجه رسلان، لأنهم كانوا قد شاهدوه في السجن بسوريا. على أي حال، الجلسات المجدولة حتى الآن لغاية مايو (أيار) المقبل، قد تمدد في حال الحاجة، وستستمع لمزيد من الشهود الذين طلبهم الادعاء والدفاع. فالدفاع حتى الآن لم يقدم إلا شاهداً واحداً، هو المعارض السوري المعروف رياض سيف، المقيم في برلين. وحتى شاهد الدفاع الأول، لم يشهد لصالح رسلان في النهاية. فسيف، المعارض السوري المعروف والعضو السابق في الائتلاف الوطني المعارض، نفى معرفته الشخصية المسبقة برسلان، رغم تأكيده أنه أوصى به لدى الخارجية الألمانية عندما قدم رسلان طلب لجوئه إلى ألمانيا من تركيا. وبرر سيف هذه التوصية التي أرسلها، بأنها جاءت بناء على توصية أخرى من صهره ورغبة منه بمساعدة منشق، أملاً في الحصول منه على معلومات عن مصير المعتقلين. وأكد سيف أنه رغم لقائه برسلان مرتين في برلين، فهو لم يتمكن من أن يحصل منه على أي معلومة تتعلق بالمعتقلين.

وكشف سيف، كذلك، أن رسلان كان من ضمن أوائل الوفود المعارضة المشاركة في مؤتمرات جنيف للحوار مع النظام. واعترف سيف بخطأ توصيته برسلان من دون التأكد والتدقيق بخلفيته. وبحسب المحامي أنور البني، فإن شهادة سيف جاءت لصالح المدعين، وأن رسلان نفسه تفاجأ بالكلام الذي أدلى به سيف.

وكان رسلان قد وصل لاجئاً إلى ألمانيا عام 2015 بعد أن انشق عن النظام ولجأ إلى تركيا في البداية، ثم منها وصل إلى ألمانيا حاملاً تأشيرة دخول من السفارة الألمانية في عمّان. وقدم في برلين طلب لجوء، ساعده فيه رياض سيف بتوصية مكتوبة للخارجية الألمانية.

ويرفض رسلان الاتهامات الموجهة إليه، وقال عبر محاميه في رسالة وجهها للمحكمة في الأسبوع الثاني من المحاكمة تلاها محاموه، إنه لا علم له بعمليات تعذيب كانت تجري في فرع الخطيب، وزعم حتى أنه كان يساعد بعض المعتقلين. واعتقل رسلان بعد أن لجأ للشرطة في برلين ليبلغ عن مخاوف من تعرضه للملاحقة والمراقبة من قبل سوريين. واعترف أثناء بلاغه للشرطة، بأنه كان ضابطاً في الجيش السوري، ما دفع بالشرطة لتحويل ملفه للشرطة الجنائية لفتح تحقيق في مدى إمكانية ارتكابه لجرائم.

أما أياد الغريب الذي وصل إلى ألمانيا عام 2018، فقد اعتقل بعد أن أدلى بشهادتة أمام دائرة الهجرة في ألمانيا واعترف بأنه كان يعمل مع المخابرات السورية. وهو يرفض التهم الموجهة إليه كذلك. وفي الجلسة الأخيرة من المحاكمة المشتركة مع رسلان، أعلنت القاضية أن ملف الغريب سيتم فصله عن محاكمة رسلان في الأشهر المقبلة. والجرائم التي يتهم بها الغريب ليست بالمستوى نفسه، مقارنة بالتهم الموجهة لرسلان التي تعد عقوبتها أشد بكثير.

—————————————

الجرائم ضد الإنسانية لا عقوبة عادلة لها”… محاكمة أنور رسلان مستمرة/ نورا المقداد بورجار

تستمر محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب أمام المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز الألمانية، بمعدل ثلاثة أيام في الأسبوع، وقد أصبحت الترجمة الفورية لوقائع المحكمة متوفرة باللغة العربية لممثلي وسائل الإعلام المعتمدين لدى المحكمة، والذين لهم صلة بالصراع السوري، كما يؤكد التحديث عن وقائع المحكمة الذي ينشره المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR.

وثائق  تُعرض كدليل أمام المحكمة

في اليوم الثامن والعشرين من محاكمة كوبلنز، المعروفة أيضاً بفرع الخطيب أو الفرع 251، قامت المحكمة باستجواب شاهدين من الشرطة الجنائية الاتحادية الألمانية في ميكنهايم، أحدهما هو رئيس التحقيق في قضية الخطيب.

طلبت القاضية من الشاهديْن في 4 أيلول/ سبتمبر أن يشرحا مصدر الوثائق والمعلومات التي قاما بمراجعتها لصالح الشرطة الجنائية الاتحادية، واستخدامها كإثباتات في الدعوى ضد كل من رسلان والغريب.

تم ذكر تفاصيل وصول تقارير الأمم المتحدة عن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا في العامين 2011 و2012، بالإضافة لتقارير منظمات هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، ولفت الشاهد الى أهمية العمل الذي تساهم به لجنة العدل والمساءلة الدولية CIJA، التي أخذت على عاتقها تجميع وتوثيق معلومات تخص المتهميْن بالقضية وببنية فرع الخطيب، وإتاحتها للقضاء الجنائي الدولي والشرطة الجنائية الاتحادية في ألمانيا.

في هذه الجلسات ظهر عدة شهود أمام المحكمة، منهم رياض سيف في 26 و27 آب/ أغسطس، وحسين غرير، المدعي المشترك الذي يدعمه المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR.

كما مثل في 24 آب/ أغسطس الموسيقي السوري وسيم مقداد، كمدعي مشترك ويدعمه المركز نفسه، وهو الشاهد الوحيد الذي أدلى بشهادته باللغة الألمانية حتى اليوم بحسب تقرير ECCHR.

وسيم مقداد يشهد أمام المحكمة

يقول وسيم مقداد، المولود في مدينة لايبزيغ الألمانية لوالدين سوريين لرصيف22: “نفسياً تبقى لايبزيغ مسقط رأسي ومرت بثورة سلمية في العام 1989 من جمهورية ألمانيا الديمقراطية وعبرت الى الحرية والديمقراطية. هذه الثورة في مسقط رأسي تعطيني أملاً أنه أيضاً في بلدي سوريا التي كبرت فيها، أن تنجح الثورة السلمية بالانتقال ببلدي من مرحلة الظلام والدكتاتورية لمرحلة من الحرية، وإمكانية تعبير الناس عن أنفسهم بدون الخوف من آلة القمع”.

بعد إدلائه بشهادته أمام المحكمة، صرّح وسيم مقداد لرصيف22 أنه ترك سوريا في العام 2016، وأنه تعرض في سوريا لأربعة اعتقالات، ثلاثة لدى النظام وواحد لدى تنظيم القاعدة، جبهة النصرة. والاعتقال موضوع المحاكمة في كوبلنز هو الاعتقال الثاني لدى النظام السوري في 30 أيلول/ سبتمبر 2011، من مدينة دوما.

يروي مقداد أنه كان هناك حظر تجول غير معلن، وكان هناك جيش. كانوا قد قطعوا خدمات الإنترنت والاتصالات من أجل منع التظاهرات، لأن يوم الثلاثين من الشهر كان جمعة: “مع ذلك حاولنا أنا وبعض الشباب أصدقائي أن ننزل ونبحث إذا كان هناك مظاهرة فاكتشفنا واعتقلنا”.

يضيف مقداد بأنهم ألقوا القبض عليهم فقط لأنهم كانوا موجودين في الشارع، وتم نقلهم الى فرع الخطيب بدمشق، وفي الطريق تعرضوا للتعنيف والتعذيب، وبالفرع أثناء التحقيق كان هناك تعذيب بالإضافة إلى ظروف الاعتقال السيئة من غرف ضيقة، أكل قليل وظروف مزرية.

لا يستطيع وسيم مقداد أن يجزم فيما لو كان الضابط الذي قام بالتحقيق معه هو أنور رسلان أم لا، وذلك لأنه كان معصوب العينين خارج الزنزانة: “وعيي للمحيط كان وعياً سمعياً فقط وفي المرات الثلاث التي تم فيها التحقيق معي كان المحقق هو نفسه”. وأضاف مقداد أنه عرف لاحقاً أن أنور رسلان نفسه صرّح بأنه هو من كان يحقق معه.

بالنسبة لمقداد هذه المحاكمة هي خطوة أولى على طريق طويل لتحقيق العدالة ومحاولة لرد الكرامة لضحايا التعذيب بسوريا، الذين توفوا والذين ما زالوا قابعين في المعتقلات ويعذبون الآن والناجين: “هذه المحاكمة برأيي هي اعتراف بمعاناتهم وعدالة قضيتهم. هي خطوة أولى على طريق طويل أتمنى ألا ينتهي إلا ببشار الأسد خلف القضبان”.

للمشككين من السوريين بجدوى هذه المحاكمة في تحقيق العدالة للضحايا، يرى مقداد أن لا عدالة بالمعنى المطلق للكلمة: “لا أستطيع استعادة حق شخص توفي، من توفي لا يرجع حقه، لكن العدالة بهذا المعنى هي مسار قانوني لمحاسبة المجرمين وردع للمستقبل. هذا مفهومي أنا للعدالة، من ارتكب جريمة يُحاسب عليها والحساب يجب أن يكون رادعاً للآخرين حتى لا يرتكبوا جرائم التعذيب وجرائم الحرب وضد الإنسانية”.

برأيه هذه المحكمة هي خطوة أولى مهمة وليست خطوة نهائية، فمحكمة لاهاي معطلة بسبب الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن، وبالتالي أي محكمة تابعة للأمم المتحدة غير قادرة على العمل الحقوقي بالقضية السورية، والمحاكم السورية تابعة بالكامل لنظام الأسد، وبالتالي نحن بحاجة لمحكمة خارج سوريا وخارج نظام الأمم المتحدة، حتى تبادر بالتحقيق بجرائم التعذيب والحرب والجرائم ضد الانسانية التي ترتكب هناك.

السجون السورية واللبنانية تشهد على صدق الضحايا

أما بالنسبة لبعض الأصوات التي ظهرت مؤخراً، وهي تشكك بصدقية المدعين والضحايا في هذه المحكمة، ممن اعتقلوا وعذبوا في سجن الخطيب، فيقول مقداد لرصيف22، إن الموضوع حساس وهو لا يستغرب أن يكون هناك ناس يعملون لمصلحة النظام، إن كان بشكل مباشر أو غير مباشر، واع أو غير واع.

 النظام خبيث ولديه شبكات علاقات عامة، ومنذ العام 2012 قام النظام بتوظيف شركة علاقات عامة بريطانية، حسب تعبير وسيم مقداد، وبالتالي لا يستغرب وجود هكذا جهد، إن كان بشكل منسق ومباشر لمصلحة النظام أو غير مباشر. ويضيف: “هذا برأيي لا يغير شيئاً من الجريمة التي حصلت. حتى لو خرج بشار الأسد وقال نحن لا نعذب في السجون، السجون السورية واللبنانية تشهد أن النظام السوري قائم منذ أكثر من خمسين عاماً على مبدأ التعذيب بالسجون، وعلى مبدأ إرهاب المواطنين من الحديث في السياسة ومن التفكير بشكل مستقل عن إرادة الحزب الحاكم والرئيس القائد”.

أما الشاعر السوري فادي جومر المقيم في برلين، فله وجهة نظر أخرى بالنسبة لمحاكمة كوبلنز ومبدأ المحاكمة كاملة عن الجرائم ضد الإنسانية. يقول جومر في حديث لرصيف22: “إن المحكمات قد تكون الحل الوحيد المتاح لهذه المشكلة طالما أن البشرية لم تستطع أن تسترد كامل الحقوق، ويجب أن تحاكم هؤلاء الناس وتعاقبهم، والحياة تتجه نحو نمط حضاري أكثر، وبالتالي لا يمكنك أن تعاملهم بهمجية تناسب جرائمهم”. وقد أشار إلى أنه يعترض على فكرة هذه المحكمة واعتبارها إنجازاً باتجاه العدالة.

يوضح فادي جومر لرصيف22 رأيه بمحاكمة كوبلنز ومحاكمات مرتكبي جرائم التعذيب والجرائم الإنسانية بشكل عام، فهو ضد ادعاء أن ما يحدث هو تحقيق العدالةللضحايا السوريين أو لأي ضحايا في العالم. بالإضافة إلى ذلك لا يرى جومر أن هذه المحاكمة قد تردع المرتكبين عن اقتراف أعمال التعذيب مستقبلاً.

يشرح جومر لرصيف22 فكرته بأن المحاكمات للمجرمين بالعموم والعقاب بالسجن أو بالغرامات المادية هي الطريقة الوحيدة المتاحة الى هذه اللحظة، ليس فقط لمعاقبة المجرم بل للحفاظ على كرامة وإنسانية الضحايا أنفسهم والمجتمع نفسه. هذا الطريق الوحيد المتاح، بحسب جومر، يفتقد لفكرة العدالة الحقيقية.

 أما النقطة الثانية التي أراد فادي جومر إيضاحها فهي “أنه عندما يكون هناك ضحية تم سلبها حقها بالكرامة والحياة والحقوق الإنسانية كلها، عندما يُسلب منها هذا الحق، وتقوم جهة ما بإرجاع جزء من هذا الحق وليس كله، وتقول لها: هذه عدالة! هذا يُعد ممارسة ظلم بحق هذه الضحية”.

وفادي جومر كان قد اعتقل من قبل النظام السوري في أواخر العام 2013 لمدة ثلاثة أشهر: “تم تغييبي قسراً والإفراج عني أيضاً بدون أي تهمة أو محاكمة أو شهادة براءة”، وظروف اعتقاله يجدها جومر كظروف اعتقال كل السوريين الذين اعتقلوا لدى أجهزة الأمن في سوريا، مفضلاً عدم الخوض بالتفاصيل.

ويوضح فادي جومر موقفه من محكمة كوبلنز أكثر قائلاً: “أنا هنا أتكلم عن المحاكمات المتعلقة بالجرائم الشديدة البشاعة، كالتعذيب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. إذا حدا سرق مني ألف ورجعها للألف، بيكون وصل لي حقي، بيكون في عدالة. لكن الجرائم ضد الإنسانية، أو حتى قمع مظاهرة، لا عقوبة عادلة لها”.

وتستمر المحاكمة الأربعاء في 16 أيلول/ سبتمبر الجاري، حيث سيمثل السيد مازن درويش، رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، كشاهد أمام المحكمة.

رصيف 22


——————————————

إلى من يهمّه الأمر/ ميشيل كيلو

شهد الأسبوع الفائت حدثاً استثنائياً وخطيراً في الشأن السوري، من شأن توظيفه أن ينتج أثراً لا يقلّ عمّا ترتّب على صور قيصر من آثار دولية مهمة. بما أن المعارضة “الرسمية” لم توله ما يستحقه من اهتمام، والإفادة منه واجب وطني، فإن القانونيين السوريين الذين وقفوا وراء الحدث الجلل مطالبون بوضع خطة عمل دولية، للإفادة من شهادة المسؤول عن دفن ضحايا كورونا، والذي أدلى بشهادته المرعبة أمام محكمة كوبلنز في ألمانيا، وهتك أسرار الإبادة الجماعية التي مارسها الأسد وعصاباته ضد المواطنين السوريين، فإنْ وظف القانونيون الوطنيون ما لديهم من خبرة وصلات، ترك نشاطهم بصمته على مواقف الدول المنخرطة في الصراع على وطننا، وخصوصاً منها روسيا التي قرّرت إلحاق الهزيمة بشعبنا، وعبّرت عن تصميمها على هدفها خلال زيارة وفدين رسميين، قاد أحدهما وزير خارجيتها الذي طمأن “اللجنة الدستورية” إلى أن بشار الأسد سيُنتخب رئيساً في العام المقبل، وأخبرها بأن “ملهاة التفاوض” العبثية ستستمر إلى سنوات كثيرة مقبلة.

سرد شاهد كوبلنز المقنّع وقائع تقشعر لها الأبدان، تتخطّى فظاعتها كل ما عرفه تاريخ العالم الحديث من جرائم، وتؤكد أن سياسات الأسدية تجاه كورونا ليست غير إحدى تنويعات خطة الإبادة الشاملة التي وضعها حافظ الأسد منذ ثمانينيات القرن الماضي، وطوّرتها دولته العميقة باضطراد، وطبّقتها بعد الثورة التزاماً بما كان قد أورده أمام قيادة حزبه القُطرية، وملخصه أن رد فعل الأجهزة والجيش على أي تمرّد شعبي لا بد أن يفضي إلى إخماد أنفاس السوريين فترة مئتي عام. وقد أكدت شهادة المقنّع هذا بما أورده من معلوماتٍ عن عمليات دفنٍ شارك فيها، طاولت عدداً لا حصر له من السوريين، يثبت وقوعها وجود الخطة الأسدية التي استخدمت جائحة كورونا لإبادة من نجوا من القتل قصفاً وتعذيباً وتجويعاً في مناطقها، امتثالاً لأمر مؤسّس نظامها الذي أقامه على مبدأ “إما نحن أو هم”، ولا سبيل إلى صيغة أخرى للوجود معاً، ما دامت “نحن” تعني انتفاء حق السوريين في الوجود السياسي والإنساني، وفي وجودهم الجسدي أفراداً وجماعات، إن هم تمرّدوا، فإن نالوا هذا الحق، كان هدفهم القضاء على وجودنا، وهدفنا الدفاع عن نظامنا بالوسائل الكفيلة بإبادتهم التي وصف الشاهد تفاصيل عنها تسلب النوم من أعين أعتى البشر وأبعدهم عن الإنسانية والآدمية، وقدّم لنا، في ما قدمه، عن وعي أو غير وعي، مادة أولية، أرجو من أساتذتنا القانونيين الإفادة منها دولياً، وإيصال وقائعها مترجمةً ومسجلةً إلى رموز عالمنا الثقافية والفكرية والدينية والسياسية والفنية والرياضية والمدنية.. إلخ، ومحاورتها بعد حين حول عقد محكمة دولية إنسانية للنظام الأسدي المجرم وقادته، لمقاضاته بمساعدة قضاة محترفين، بسبب ما ارتكبه من جرائم طاولت الأحياء والأموات، الذين طمروا بالآلاف في قبور جماعية مساحة كل منها خمسة آلاف متر مربع وعمقه عشرة أمتار.

لئن كانت صور قيصر قد أدت إلى فرض عقوبات اقتصادية على النظام، فإن شهادة المقنّع لا بد أن تُفضي إلى محاكمة قادته دولياً، من رموز مدنية وإنسانية ذات احترام كبير في عالمنا، بحيث يقطع ما يصدر عنها من أحكام موثقة صلة المجرم بالعالم، ويدين أي طرفٍ يعمل لإنقاذه في موسكو وطهران.

هذه المحكمة الإنسانية ستكون بديل محكمة الجنايات الدولية التي تعطّل موسكو انعقادها، ولا تعمل واشنطن له، وستحول مجرياتها وأحكامها دون إنكار جرائم الأسدية، أو تسويغها بحجة “الحرب على الإرهاب” التي حولت المجرم إلى مدافع عن الإنسانية، والملايين من ضحاياه إلى مجرمين يستحقون القتل، بينما العالم صامت أو مصفّق.

العربي الجديد

—————————————

مشاهد متخيلة لموت حتمي/ مصطفى أبو شمس

منذ أيام، تحدّث أحد الشهود في قضية كوبلنز عن مقابر جماعية بأعداد كبيرة، عن دفن عشرات آلاف الجثث كيفما اتفق، عن المشاهد المرعبة التي رافقتهم خلال عملهم، عن الجثث المتعفنة غائبة الملامح، عن قبورٍ بلا أسماء أو شواهد، وعن أشخاص قتلوا تحت التعذيب أو من خلال إعدامات ميدانية في مختلف الأفرع الأمنية والمعتقلات.

يمكننا، من خلال تتبّع شهاداتٍ كثيرة، أن نرسم صوراً للتعذيب في المعتقلات السورية، أجملتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان باثنين وسبعين أسلوباً للتعذيب. كذلك، تُظهر مشاهد الفيديو الوحشية التي تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي عن أشكال من التعذيب أقداراً من الحقد والجريمة طالت حتّى الجثث والمقابر.

لا نكفّ عن مطالبنا بهذا الخصوص، نحن أهالي المُغيّبين قسراً منذ سنوات، دون أن نعرف أيّ معلوماتٍ توصلنا إلى رأس خيط. ندفع لذلك ما نملكه من نقودٍ وأعصاب. نحاول جاهدين أن نصل إلى ما يريح قلوبنا.

وفي كلّ مرّةٍ ومع كلّ أمل (كاذباً كان أم صادق) تعود صورهم إلى مخيلتنا، ونعيش سيناريوهات استقبالهم بعد خروجهم من جديد، ونبحث في أدقّ التفاصيل: تأمين المرور الآمن لهم حتى يصلوا إلى بيوتهم، الطريقة التي سنخبر بها أمهاتنا وعائلاتهم، ماذا سنرتدي في مثل هذه المناسبة من ثياب؟ كيف سنصدّر صورهم على الجدران؟ والأهم من ذلك هو كيف سنفرد ما تبقى من أشيائهم في الغرفة التي سنستقبلهم فيها. كلّ ذلك لأنّنا نريد أن نقول لهم: ما زلتم قيد الذاكرة، وكنتم دائماً تعيشون بيننا.

تشلّ لحظة الموت تفكيرنا، ونظنّ أنّنا لن ننتظر أحداً بعد الآن. يسهم في ذلك، وللمفارقة، ناجون تحدّثوا عن يومياتهم داخل هذه المعتقلات، وعن موت العشرات من رفاقهم داخلها، دون أن ننتبه أنهم الآن خارج هذا الجحيم، وأنّ علينا أن نعيش على فكرة النجاة، رغم معرفتنا بوحشية هذه الأجهزة ورخص حياتنا مقابل ما يملكه مجرموها من حقد.

الوصول إلى شبه يقينٍ بالموت يُحرّك مطالباً من نوع آخر تلح علينا في نومنا وصحونا. لا نريد شيئاً إن كان الموت فعل خلاصٍ للمعتقلين من آلة التعذيب اليومية، وربما هو خلاصٌ أيضاً للمعتقلين أنفسهم، بعد أنّ يتحوّل الموت، بحسب شهاداتٍ كثيرة، إلى «أمنية»، الموت-الأمنية هذا ليس فقط في سبيل قضيةٍ يؤمنون بها، بل أيضاً هو انتصارٌ على مَنْ يتلذّذ بموتك حين تضيع فرصته في تعذيبك أكثر، وفي إماتتك كلّ يومٍ مرّاتٍ كثيرة.

المطالبات الجديدة تبدأ برسم مشاهد مُتخيّلة لموتٍ حتمي، مشاهد تحمل في داخلها معنيان متضادان؛ الإيغال في الحزن للوصول إلى أعلى درجاته التي تشعرنا بالقشعريرة وعدم القدرة على البكاء ورسم مشاهد جديدة متخيلة أيضاً للمحاسبة، والشعور بالطمأنينة لأنهم الآن خارج نطاق القدرة على الإذلال والتعذيب.

موتٌ مناطقي

يحمل «شبيحٌ» هويتك الشخصية على أحد الحواجز. لا يبحث فيها عن صورتك أو اسمك، بل يكتفي برقم القيد قبل أن يُنزلك من الحافلة. يحدد مكان الولادة عدد الضربات التي ستتلقاها ومكان سقوطها على جسدك، ينزل رأسك إلى الأسفل بقبضته، أو يمسكك من شعرك ليجرّك بعيداً عن الأعين. كلّ ذلك وسط دهشتك. وتسأل نفسك: ما الذي اكتشفه من خلال قراءة البطاقة الشخصية؟ قبلاً مررت بعدة حواجز، وجرى تفييشي في مداخل مدن رئيسية دون أن أكون مطلوباً لأحد، إذاً ما الذي تغير؟

لن أحدد في المشهد هوية «الشبيح»، ولا خانة رقم قيد الضحية. بإمكاننا أن نضيف أي مدينة أو قرية، وهي بالضرورة تصلح في قصصٍ كثيرة، وتعود القصة لمزاجيةٍ متقلّبةٍ في كل يوم.

يكفي أن يسألك عن مسقط رأسك بعد مرور الحافلة إلى وجهتها، تاركةً مقعدك فارغاً دون أن يجرؤ أحدٌ الركاب على التمدد فيه. بالطبع لن يقولها بهذه الصورة، تلك فضيلةٌ لا نملكها نحن ولا يمكن أن نصل إليها، بات مسقط رأسنا إجبارياً ومرتبطاً بمزاجية السجان، ليتأكد من أن قتْلنا «حقٌّ لا بد منه».

قبل أن تنطق سيصفعك بيديه، يجب أن يمارس راحته بسماع صوت الصفعة على وجهك ورؤية أصابعه الخمسة دون أن تنقص واحداً. سيعيد الكرة مراراً أمام رفاقه وهم ينظرون إليك عاجزاً. عليك أن ترفع رأسك لتكون الدريئة جاهزةً قبل الرمي، وإن حصل وأخفضتَه ستكون عرضةً لعشرات الضربات في كلّ أماكن جسدك. عليك أيضاً ألا تسقط أرضاً، فأنت الآن بلا لحمٍ ودم، أنت مجرد دريئة.

لا تذكر اسم مدينتك أمامه حتى لو طلب منك ذلك، فكلمة سر استفزازه تكمن في تلك الأحرف. هو الآن يمارس ثأره من مدينةٍ لأشخاصٍ ليست ضروريةً معرفتُه بهم، ويحتار كحيرتك: أنت الباحث عن سببٍ وطريقة للنجاة، وهو الباحث عن طريقةٍ لموتك، قبل أن يسأل نفسه، إن كان مزاجه سيمنحك موتاً بطيئاً أم سريعاً! في كلتا الحالتين هو يعرف أنك ميتٌ لا محالة، ولكنّه يريد لك موتاً بيديه هو، فلماذا سيشاركه في ثأره غير الشخصي أشخاصٌ آخرون!

سيقتلك بحربة بندقيته، وسينظر إليها قبل أن يحاسب نفسه عن تدنيس حربته بدمك. سيذبحك. سيهرس رأسك بواحدةٍ من حجارات الطريق. سيضعك على الحائط ويرشقك بعشرات الرصاصات. سيكفُر أحدهم بالقرب منه، وتلك فقط ستكون ردة الفعل على موتك، قبل أن يتعاونوا على رمي جثّتك بعيداً، ريثما تأتي سيارة الجثث. سيشتم أمك وزوجتك وأختك بألفاظ نابية، سيطلب منك الشيء وضده حتّى بعد موتك، سيركلك أحدهم بقدميه ويبصق عليك آخر، سيدخل معك في حديثٍ لا تستطيع أن ترد فيه عليه، سيسألك أسئلةً ليرتاح. موتكَ هو الفعل الوحيد الذي سينجيك من هذه الأسئلة.

بتراهن؟

على معبر الموت في حلب، شاع أنّ قناصي القصر البلدي كانوا يختارون ضحاياهم في كل يوم: مرّةً من الشيوخ أو الحوامل، أحياناً من لون لباس معين، مراتٍ أصحاب الشعر الطويل أو الذين لا يملكون شعراً في الأصل، من يحملون الأكياس البنية. كان الرهان دائماً على علبة متة أو علبة سجائر حمراء طويلة.

هناك رهاناتٌ لا تقبل الخسارة، كتلك التي تكون فيها «طريدةً» على بعد أمتار قليلة، وصيادوك مدججون بالسلاح. يضعونك على بعد عشرة أمتارٍ، مثلاً، ويعصبون عينيك. ربما لن يفعلوا ذلك، فمتعةُ أن ينظر القاتل إلى ضحاياه ربما تكون شغفاً. سيُطلب إليك الوقوف على قدميك، أو إدارة ظهرك إلى الحائط، قبل أن يبدأ الرهان.

على مسامعك ستدور أحاديثٌ عن إصابتك في قلبك، عينك، خنصرك، أعلى الكتف، في جبهتك، قرب فمك.. كل ذلك سيكون متاحاَ، بينما يملؤون مخازنهم. الرهان على طلقةٍ واحدة، والجميع يضعون مخزناً مزدوجاً. سينادونك باسمك الأول، أنت الآن أعلى قيمة من كونك إنساناً، أنت «طريدة».

هناك رهانان: من سيبدأ الصيد و ومن سيحدد مكان الإصابة. سيُختار للرهان الأول قطعةً نقديةً معدنيةً تتراوح النتيجة فيها بين «النسر والكتابة» مثلاً، أو ربما سيختارون إصابة حجرةٍ موضوعةٍ على قارعة الطريق. أما الرهان الثاني فسيكون كيفياً؛ إذ جميعهم رابحون.

الرهان مفهومٌ يقوم على «الحظ» عند أشخاصٍ كثر، إلا أنه ودون أن ندري يدخل في ما يمكن تخيله عن اللعبة: شعورك بالحب والكره تجاه شخصيةٍ أو فريقٍ أو حدثٍ معين، الركون إلى مشاعرك، اختيار أرقام الحظ، المتعة، وربما يضيف أشخاصٌ أشياء أخرى، إلا أن هناك صُنّاعٌ للرهانات، أولئك الذين يُلقمونك ما ستختاره. يشبه ذلك التغطية الإعلامية لفريق كرة قدم معين، وتسليط الضوء على إنجازاته، لا شعورياً ستختاره خلال مرور ورقة الرهان أمامك بفعل التأثير الذي سبق اختيارك.

موتنا يشبه ذلك الرهان بعد «شيطنة» حياتنا، نحن «الإرهابيين» القادمين لتخريب الحياة الآمنة والسعيدة، لذلك سيكون رهان الموت هو الرهان الأهم، والذي سيحظى بشعبيةٍ واسعةٍ وربحٍ دائم.

«في يده بطلقةٍ واحدة».. ربما يصيب هدفه، ولكن لا بأس في أن يخطئ، فالخسارة غير مهمةٍ هنا؛ الخسارة المُحزنة بالنسبة لهم هو أن يصيبك في «مقتل»، وذلك لأنه سينهي رهاناتِهم جميعاً.

يركّز نظره على شعيرة البندقية، يغمض إحدى عينيه، وتغمض أنت كلتا عينيك. يحاول أن يهدأ وهو يضع سيجارةً على طرف شفتيه لتلقي بأدخنتها على وجهه، تحرقه عينه فيترك البندقية ماسحاً عينه وهو ينفض السيجارة، ويعود من جديد. صوت الرصاصة الآن يخترق الجمع المُترّقب، لا يترقبون حياتك، بل هدفهم، وكلّ الأمنيات بالخسارة تكمن في تأجيل موتك من بندقيةٍ إلى بندقيةٍ أخرى.

عند موتك يطلق الجميع رصاصهم نحو جثتك، تلك كانت طلقات الرهان ولا يمكن الاحتفاظ بها.

ما في بنزين

حين خرج من منزله كانت سيارته قد فرغتْ من الوقود، حاول البحث عن كازيّةٍ قريبةٍ دون جدوى، قبل أن يطلب من أحدهم إيصاله إلى مكان عمله على الحاجز.

عنما وصل كان الشرر يتطاير من عينيه، هل حقاً لا يوجد وقود لسياراتنا؟ إذاً لماذا نقف هنا؟ وإن كان لا بدّ من مسؤولٍ عن هذه المعضلة التي عكرت صفوه بعد ليلةٍ رومانسيةٍ قضاها وهو يطمئن على أطفاله ودراستهم، ووجه زوجته وصباغ شعرها الجديد، ولباسه الجديد الذي تغبّر خلال بحثه عن وقود، فلا بد أنه نحن، ويجب أن يحاسبنا على ذلك.

يطلب من صديقه أن يأخذ مكانه على الحاجز. يختار الأقرب من منابع النفط من بين الركاب، ويطلب إليه أن ينزل، دقائق ويطلب من الحافلة أن تمر، فهناك تشابه أسماءٍ لا بدّ أن يُحل.

يفكّر في طريقةٍ لربطِ ما حدث معه بالرجل الخائف أمامه، يسأله عن وفرة الوقود في المنطقة التي أتى منها ولا ينتظر إجابته، يبدأ باتهامه بسرقة كلّ شيءٍ وتحميله مسؤولية ضياع النفط وارتفاع أسعاره. يُجلسه في «الكولبة» ويحمل اللاسلكي ليطلب سيارةً تحمل سارق النفط إلى قدره. للحظةٍ يفكر في الوقود المهدور لأخذ مَنْ لا يستحق، يلتفت إليه ويهدر رصاصةً واحدة لقتله. يفرح لتفكيره المنطقي، ويرتاح في مقعده مرةً أخرى وهو يشعر بأنه ولد تاجراً.

موتٌ حتميٌّ مؤجل

خلال التدريب الجامعي الصيفي، والذي كنا نقضيه في مدرسة المشاة، أخبرنا العميد المسؤول آنذاك في المعسكر عن نسبةٍ مسموحةٍ من موتنا. أذكر أنه حددها بـ 10٪ منا في ذلك الوقت.

وقتها لم تكن هناك ثورة، كل ما في الأمر أن أحد أصدقائنا في جناح «الطبية» قد سقط من سيارة الزيل التي أقلّتنا إلى حقل الرمي، وتجنباً لاعتراضنا كان عليه أن يخبرنا بأن لكل شيء ضريبة في سوريا، وضريبة التدريب الجامعي كانت عشرنا، المنّة كانت أنهم لم يلتزموا بالنسبة المحددة.

لا أعرف النسبة الحقيقية المسموحة لموت المعتقلين في السجون السورية، ولا نعرف العدد الذي يسمح به كل فرع حتى يُحاسب المسؤولُ الجلادَ بـ«حلاقة» على الصفر. لكن ما شاع من أحاديث المعتقلين الذين خرجوا هو أن في كل فرعٍ جلادٌ هو الأكثر وحشية؛ مرهوب الجانب من قبل أصدقائه، وينال حظوةً من مرؤوسيه، ويُرهب المعتقلين الذين يخشون ذكر اسمه، ويُختار هذا الشخص بعدد المقتولين في «رقبته».

الضريبة هنا تصاعديةٌ وتستدعي المكافأة في كلّ مرة، لا ينافسه في ذلك إلا رجال الحواجز الذين يمارسون ما ليس من اختصاصهم. الموت حصريٌّ داخل جدران المعتقلات، وإن استمر الأمر على حاله سينقص العدد إلى الدرجة التي من الممكن معها ألا يقتلَ الجلاد أحداً هذا اليوم. إذاً كيف سيكمل يومه!

ليس هناك لجان تحقيق دولية أو حتى داخلية لزيارة المعتقلين في السجون، وهم غير مضطرين للضرب في أماكن لا تترك ندباتٍ واضحة، فلا أحد سيُحمّلهم المسؤولية طالما أنهم ضمن النسبة المحددة للموت، وهي موتنا كلنا.

لا يعترف نظام الأسد بأعداد المعتقلين في سجونه، وليست هناك قوائم اسمية أو أماناتٍ لهم يُحتفظ بها، ولا أحد يعرف مكان اعتقالهم. فقط من يُريد الإفراجَ عنهم يقوم بترحيلهم إلى سجون مدنية، أو أولئك الذين أسعفهم الحظ في تأجيل موتهم.

تبدأ هنا رحلة الرشاوى والمزاودة والسماسرة والنصابون ورجال الأمن بخلق شراكاتٍ مالية من الممكن أن تؤدي إلى نجاة أحدهم، ليس مهماً أيضاً ما سيقوله حين يخرج، أو الأسماء التي ستُطرح عبر وسائل التواصل الاجتماعي وينتظرها الأهالي بفارغ الصبر، حيث يعيدون مراراً كتابة الكلمات المفتاحية للبحث عن مفقوديهم، دون جدوى. هم يعرفون أنهم عراةٌ وليسوا بحاجةٍ لإخفاء عوراتهم، ولن يزيد الطين بلّةً أن يُضاف لجرائمهم موتُ شخصٍ آخر.

سيارة نقل المعتقلين على الحواجز تمارس هوايتها في الاتساع، في الصندوق الخلفي يوضع عدةُ أشخاصٍ يحشرونهم كأكوامٍ من الاسفنج. أما المقعد الخلفي فهو «مُكسّرات الطريق» الطويل؛ من الضرب والشتم والتسلية.

الحظ السيء يضعك في أسفل الصندوق، فوقك أكوامٌ من اللحم تسمع أنفاسها الحارة ورائحتها البشرية. تضغطُ بفعل ثقل الجسد على صدرك، تحاول الكلام دون جدوى، وأيضاً تحاول الحركة قبل أن تستسلم بوضعيتك، تهمس لمن فوقك أنك لست حزيناً لموتك، وإنك لا تحمّله اللوم على كتم أنفاسك. تخبره عن اسمك الثلاثي، علّه إن نجى يُخبرُ ذويك بموتك.

عند وصولهم إلى المكان يستشيط الجلاد غضباً قبل أن يبدأ بضرب الجميع، لا لشيءٍ سوى لأن موتاً أفلت من بين قبضته وكان يجب أن يضاف إلى رقمه المتسلسل.

اقتلهم أنت

مت.. وإن لم تستطع فعل ذلك مباشرةً استفزّهم كي تموت. لا تترك لهم فرصةً بالرهان عليك أو شتمك وتعذيبك. احمِ وجهك من صفعاتهم، احرمهم لذة الصوت على وجنتيك، اشتمهم كما يشتموك، أفحش بذلك، ارفع رأسك، اذكر اسم الله أمامهم، فهم يستشيطون غضباً لذلك.

ليست تلك نصائح نقدّمها لكم، بل ذلك كله جزءٌ متخيّلٌ من سيناريوهاتٍ لا بد ستحصل، تشبه ما قاله الرجل عن زوجته: «بنت عمي وتاج راسي»، قبل أن يُهشّموا رأسه بصخرة. لا يمكن استبعاد هذا المشهد من المخيلة، لا لكسب تعاطفٍ وحديثٍ عن بطولة، بل لحقٍّ طال انتظاره بالمحاسبة، ولا بد سيأتي.

تملأ صدرنا المشاهد المتخيلة غضباً، تضعنا في الطريق الصحيح لنتوازن، وهي جرعة الألم اليومية لنبقى متيقّظين بكاملنا، ومن دون أن نغفل يوماً عن كل ما حدث ويحدث. تلك مشاهد تتخيلها الأمهات لتستطيع البكاء في كلّ مرّةٍ تذكر فيها أبناءها، الأصدقاء والأبناء أيضاً.

كانت شهادة الوفاة التي حملها أحد أصدقائي لأخيه بعد يومٍ واحد من اعتقاله من تلك المشاهد المتخيلة في ذاكرتي، هناك سيناريوهاتٌ كثيرة أخرى، ولكنّي تعبتُ وامتلأتُ حتى حنجرتي.

موقع الجمهورية

——————————————

===========================

تحديث 03 تشرين الأول 2020

————————————–

لقد حدث في سوريا أيضاً/ عروة خليفة

أعادتْ شهادة مَن بات يعرف باسم «حفّار القبور» في محكمة كوبلنز، قبل أقلّ من أسبوعين، الحديث عن الفظائع المرتكبة في سجون النظام السوري، وعن القتل بالتعذيب أو نتيجة سوء ظروف الاعتقال إلى أقصى الدرجات. وكان الشاهد، الذي يُعرف في الوثائق الرسمية للمُحاكمة بالرمز Z 30.07.2019 قد تحدّث خلال جلستي التاسع والعاشر من شهر أيلول (سبتمبر) الجاري، عن عملِه الذي استمر بين عامي 2011 و2017، كمشرفٍ مدني على عمليات الدفن التي كانت تجري في مقبرة نجها بالقرب من دمشق.

الصور المأساوية التي تضمّنتها تلك الشهادة كانت تذكيراً بصور المعتقلين التي هرّبها المصوّر المعروف باسم «قيصر»، والذي كان يعمل في مركز التوثيق في الشرطة العسكرية. هذه الفظائع التي لا يمكن تصوّرها لم تحصل خلال الاعتقال فحسب، بل أيضاً عند دفن جثامين الشهداء الذين جلبتهم أفرع الأمن والمشافي العسكرية بعد وفاتهم، من أجل دفنهم في مقابر جماعية جرى تجهيزها لهذا الغرض في منطقة نجها القريبة من دمشق.

الشهادة أُعطيت خلال محاكمة مسؤولٍ سابقٍ في المخابرات السورية، كان يشغل منصب رئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب (الفرع 251)، بالإضافة إلى صفّ ضابط يعمل في نفس الفرع. المحاكمة التي تجري منذ أشهر في مدينة كوبلنز الألمانية، تستعيد شهادات ضحايا وخبراء حول الاعتقال والتعذيب في المعتقلات السورية، تحديداً فيما يخصّ فرع الخطيب، حيث كان يعمل المتهمان. وأتت شهادة حفّار القبور في سياق إثبات عمليات القتل الجماعي التي كانت تمارسها الأفرع الأمنية.

يتحدّث الشاهد عن التزامه التام خلال أكثر من ست سنوات بالعمل بشكلٍ يومي على مراقبة وتنفيذ عمليات دفنٍ جماعي، لجثامين يعود معظمها لضحايا قضوا في أفرع الأمن المختلفة، كان يجري تجميعها في شاحنةٍ في كل فرع على حدة، أو تكون قادمةً من مستشفيات، مثل مشفى 601 العسكري. كذلك، كانت بعض الجثامين تأتي من المستشفيات المدنية، كمشفى المجتهد أو المواساة، ولكن بنسبٍ أقل.

وقد جرى تجهيز حفرٍ لدفن الجثامين، سميت بين العاملين في الدفن باسم «خطوط»، وهي تختلف في عمقها وطولها، لكنها كانت تُعدّ بشكلٍ دائمٍ بغرض دفن عشرات الجثامين في مقابر جماعية. ويراقب هذه العملية ويشرف عليها، بحسب الشهادة، مندوبون من الأفرع الأمنية، يقومون بتوثيق الأعداد لكلّ فرعٍ أمني، ويعودون للحصول على توقيع الشاهد على قوائم الأرقام، الذي قال إنها تتراوح يومياً بين 500 و700.

يُظهر العمل، الذي استمر لسنوات بتلك الطريقة، ليس تورط أفرع الأمن التابعة للنظام بعمليات قتلٍ جماعي للمعارضين فحسب، بل أيضاً تصميم آلياتٍ بيروقراطية في تلك الأفرع والأجهزة الأمنية لتسيير عمليات القتل وما يتبعها.

وتقول الشبكة السورية لحقوق الإنسان إنها قد وثقت أسماء أكثر من 100 ألف مختفٍ قسرياً في سوريا منذ شهر آذار (مارس) عام 2011. وتؤكد الدراسات التي أجرتها الشبكة بأنّ الحالات، التي وثّقتها وفق منهجيةٍ محددة وواضحة، قد لا تشمل كامل أعداد المختفين قسرياً في سوريا. وتلتزم المنظمات الحقوقية بمنهجيات عمل وتدقيق المعلومات قد لا تسمح بتوثيق كامل الحالات، وقد أظهرت حوادث معينة بأنّ الأرقام الموثقة قد لا تعبر سوى عن جزء من الحالات، مثل حادثة كشف أسماء المعتقلين الذين قتلوا في المعتقلات من خلال شهادات الوفاة الصادرة عن دوائر السجل المدني.

مع ذلك، تبقى الحالات التي تمّ توثيقها بشكلٍ كامل ضخمةً جداً؛ إذ تظهر اختفاء 5 أشخاص من كل ألف سوري خلال تلك الأعوام، وهي نسبةٌ مهولةٌ من حالات الاعتقال، تظهر تحوّل الأفرع الأمنية في سوريا إلى ماكينات ضخمة لاعتقال السوريين وإخفائهم.

وتمتلك الأفرع الأمنية في البلاد مرجعياتٍ متعددة؛ إذ يتبع جزءٌ منها إلى وزارة الداخلية بشكلٍ نظري، مثل فرعي الأمن السياسي والأمن الجنائي، بينما تتبع أفرع أخرى إلى القيادة العامة للجيش، مثل شعبة الأمن العسكري، في حين تتبع أجهزةٌ أخرى شعباً فرعيةً في الجيش، مثل إدارة المخابرات الجوية.

وقد جرى تصميم أفرع الأمن تلك وآليات عملها وسلطاتها لتكون مشرفةً بشكلٍ كاملٍ على جلّ تفاصيل الحياة اليومية الخاصة للسوريين (كان الحلاق، مثلاً، يحتاج إلى موافقةٍ أمنية لفتح صالون حلاقة حتى العقد الأول من الألفينات). وقد أدّت تلك الأفرع دوراً رئيسياً في القمع السياسي لكل الحركات المناوئة للنظام، عبر القضاء عليها مادياً من خلال اعتقالٍ طويل الأمد أو عبر قتل منتسبيها، وهو ما شمل تياراتٍ من أقصى اليمين حتى أقصى اليسار، تحديداً منذ نهاية السبعينات وحتى نهاية الثمانينات، ولكن قبل ذلك وبعده أيضاً.

غير أنّ عمليات الاعتقال طويل الأمد التي جرت خلال فترة الثمانينات، كانت تتمّ بآليةٍ تبدأ من عمليات التحقيق والتعذيب في الأفرع الأمنية، ومن ثمّ نقل المعتقلين المطلوب سجنهم إلى سجون مدنية، مثل المسلمية في حلب وعدرا في دمشق، أو سجون عسكرية مثل تدمر، ولاحقاً في التسعينات إلى سجن صيدنايا العسكري. ولم تُظهر تلك الآلية اختلافاً شديداً إثر تولي بشار الأسد رئاسة النظام بعد أبيه.

بعد انطلاق الثورة السورية، كان من الممكن ملاحظة ارتفاعٍ شديدٍ في عمليات الاعتقال الجماعي، كما جرى تغييرٌ منهجيٌّ في تلك العمليات؛ حيث أصبحت تطال المدنيين على الحواجز المنتشرة في معظم أرجاء البلاد، وذلك من دون وجود تهم مباشرة من قبل جهاز النظام الأمني، وهو ما عُرف بعمليات الاعتقال العشوائي، التي ضمّت بالطبع أعداداً كبيرةً من الناشطين في الحراك المناهض للنظام، الذي انطلق مع بداية الثورة السورية ربيع 2011. إلّا أنها كانت تضم مدنيين من دون وجود تهمٍ عدا انتمائهم إلى مناطق شهدت توسّع هذا الحراك.

شهادات الناجين من الاعتقال عن تلك العمليات ومن بينها شهادة الشاهد الذي يشار إليه برمز P4 في جلساتٍ سابقةٍ من محاكمة كوبلنز، توضح أعداد المعتقلين المهولة في أقبية فروع الأمن، وبقائهم لفتراتٍ طويلة، حيث ذكر الشاهد أنّ زنزانةً بمساحةٍ لا تتجاوز 60 متراً مربعاً استقبلت في بعض الأحيان 800 معتقل.

الاستمرار في عمليات الاعتقال حتى بعد أن غدت ما يمكن تسميتها بـ«البنية التحتية للاعتقال» غير قادرةٍ على الاستيعاب أكثر من ذلك، يبدو أنّه طرحَ تحدياً على آلة الاعتقال تلك، والتي كان من الواضح أنها تتلقى تعليماتٍ واضحةً تُشدّد على الاستمرار الواسع في تلك العمليات. كما يبدو أن التحويل إلى السجون المدنية لم يكن سوى الخيار الأخير، إذ جرى تجريب التحويل إلى سجن صيدنايا العسكري، الذي كشفت شهاداتٌ مستمرّةٌ منذ بدء الثورة عن عمليات التعذيب وسوء ظروف الاعتقال فيه، ومن بينها شهاداتٌ وثقتها رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا في كتابٍ نشرته في شهر آب (أغسطس) الماضي.

تكشف شهادات المعتقلين والصور التي سرّبها مصور الشرطة العسكرية المعروف باسم قيصر، قيام تلك الأفرع بعمليات قتلٍ واسعةٍ للمعتقلين تحت التعذيب، أو تركهم للموت نتيجة سوء ظروف الاعتقال وسوء التغذية وبفعل الأمراض المنتشرة، بالإضافة طبعاً إلى التّأثر بإصاباتهم البليغة نتيجة التعذيب.

تكتمل دائرة عملية القتل الجماعي للمعتقلين، مع شهادة حفّار القبور الذي عمل سنواتٍ طويلة مع أفرع الأمن على دفن الضحايا بشكل جماعي، وكانت أفرع الأمن تتنافس على من ينفذ أكبر عمليات قتلٍ، حسب ما يقوله الشاهد. كانت هناك منافسةٌ تستوجب بالطبع تنفيذ أوامر لأعلى تسلسل في السلطة لإرضائها. جرى قتل الآلاف من السوريين بوحشيةٍ ضمن المعتقلات، ودفنهم جماعياً لطمس الحقائق وإخفائها.

كان يمكن فهم الاعتقال السياسي في سوريا طوال السنين الطويلة على أنه أداةٌ لترهيب السوريين، من القيام بأي أنشطة معادية للنظام، كما كان أداةً للقضاء بشكلٍ نهائي على تنظيمات سياسية كاملة. لكن عملية الاعتقال بعد الثورة في سوريا اختلفت، ليس بآليات الاعتقال ونوع التعذيب فقط. لقد أصبح الاعتقال في سوريا ماكينةً وحشيةً للقتل أيضاً؛ بهدف القضاء الكامل والمادّي على المعترضين على النظام، أي أنّ أجهزة النظام الأمنية قد أقلمتْ نفسها مع عملية إبادة المعترضين سياسياً على النظام السوري بعد انطلاق الثورة. وتحولت ماكينة الاعتقال العملاقة التي كانت تجثم على صدور الجميع في البلاد طوال نصف قرن إلى ماكينة قتل عملاقة. لقد حدثت إبادة في سوريا على نسق الجرائم الكبرى ضد الإنسانية التي ثُبتت فداحتها في الوجدان الكوني، ويجب الاعتراف بهذه الجريمة التي وقعت بحق السوريين، والتعامل معها كما ينبغي.

موقع الجمهورية

—————————–

حفار القبور” السوري.. تلك الجثة وهذا العالم الميت/ هوازن خداج

لم يكن ممكناً بالنسبة لي وأنا أقرأ ما كشفته شهادة “حفار القبور” السوري أمام محكمة جرائم الحرب في سوريا، بمدينة كوبلنز غرب ألمانيا، سوى أن أكون تلك المرأة “الجثة” المرمية في أسفل كومة الجثث التي كان ينقلها لدفنها في مقبرة جماعية بدمشق، شعور مفزع، ولكن الأكثر فزعاً هو هذا العالم الذي يستطيع تجاهل وجود القاتل وتاريخ الجريمة، وأعداد الضحايا، واستمرار القتل والقتلة دون عقاب.

الجثة لا اسم لها

لا يهم أن نعرف اسم تلك الجثة الآن، فحفار القبور لا يأخذ على عاتقه مهمة التعريف بالموتى، فقط الأحياء لهم أسماء، والقتلة كذلك، لهذا يمكننا ببساطة تخيّل آلاف الأسماء، ومن بينها أسماؤنا، ما يهمّ هو قصة الجثة التي لا يسردها أحد، فهي لم “تنجُ” لتخبرنا عن تفاصيل التعذيب أو عن ما ارتكبته من جرم يستحق الموت، ولم تختار الموت احتجاجاً على لا عدالة الحكم كما فعلت المحامية السجينة (إبرو تيمتكتيمتك) في تركيا، أو يذكر اسمها في مطالبات الهيئات الدولية مثل (نسرين ستودة) في إيران، إنّها مجرد رقم بين المختفين قسراً بأيّ من سجون الدكتاتوريات، التي بلغت في سوريا (129989) شخصاً، منذ آذار 2011 إلى آذار 2020، حسب تقرير الشبكة السورية.

فالاعتقال والاختفاء القسري في مراكز الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية التابعة للنظام، ولبقية الأطراف السورية، شكلت جانباً معتماً من جوانب الحرب السوداء، لهذا يمكننا وضع آلاف الروايات حول الجرم، والمحاكمات غير العادلة -إن وجدت-، فقصة موتها تبدو أشد وضوحاً، وجميعنا كسوريين نعرف محرّمات السلطة، لقد حفظناها مذ كنا صغاراً يوم أخبرونا أن (نمشي الحيط الحيط، ونقول يارب السترة) ويوم قالوا (للحيطان آذان) ثم أشبعونا بفكرة (ما متت، ماشفت مين مات)، لندخل حالة تمويت قسري، المخرج منه كان ضمن خيارين، أن نستمر فيه بانتظار موتنا البطيء أو نتجاوزه لنصير جثة، وفي كلا الحالين هناك الكثير من الوسائل الممكنة والمباحة في الموازين الدولية.

كذلك أخبرونا أنّ استباحة المحرّمات ورفض الذل والإذلال اليومي يعادل (مؤامرة كبرى على الوطن)، أو (وهن لعزيمة الأمة)، وانتقاص من (هيبة الدولة)، هذه الأفكار التي تشبعنا بها جعلت البعض منا يتأقلمون مع الفظائع التي يرتكبها النظام بوصفها حالة طبيعية، ليبقوا حيث هم يلوكون الصمت كما الجثة، فالجثث لا تصرخ لا ترفض ولا تسأل حول محاكمة “الجناة” على “جريمة” لا أحد يعرف حقيقة كيف ومتى وأين وبماذا تُرتكب، فتلك المصطلحات رغم أنّها ليست طارئة لكن توصيف حدودها ومعاييرها، أمر لم يدركه السوريون يوماً، لقد أدركوا فقط، أنّ كل ما يطالبون به لصنع حياة أفضل على الأقل لأولادهم، هو مؤامرة تجعل هذه “الأمة” تأنُّ وهناً، والدولة تهتزُّ هيبتها، لتتراوح العقوبة بين أن يحمل جرح السجن وندبة التعذيب كوشم يرافقه طيلة عمره، أو يستلم جثته “حفار القبور”. لتكون “ضحية” يغصّ البعض حين يفكر بمجرد وجودها، ويعتبر البعض الآخر موتها ضرورة، ليبقى القاتل طليقاً.

تلك الجثة

تلك الجثة تُختصر قصتها، بأنّها إحدى جوانب (نظام القتلة) الذي تؤسّسه الأنظمة الاستبدادية والفاشية والممتدّ من الأعلى إلى الأسفل، فأشدّ الأنظمة في العالم أسّست نظامها على سلسلة من القتلة، لهم مؤيديهم الذين لا يرون فيما يحدث جريمة، إنما ضرورة، تقودها الكثير من المبررات، كالحماية والحفاظ على الأمن في مقابل شيطنة الخصوم، كائن من كانوا ومن أي فئة كانوا، إنّها مبررات متأصّلة في التاريخ البشري لتكوين نظام يقوم على عماء “الثقة”، أو التكيّف مع ما يشاع حول ضرورة القتل للمخالفين والمختلفين، كجزء غير منفصل عن عرف السلطات وإمكانية استمرارها عبر التاريخ.

وفي الوضع السوري واختلالاته، ما زال النظام بكافة أركانه يجد من يصدّقه ويثق بكلامه، فهناك شريحة كبيرة من السوريين لا ترى في هذا النظام ورأس النظام مجرم حرب، وهو ما يعرفه النظام جيداً ويؤكد عليه، ففي الحوار الذي أجراه التلفزيون العمومي السويسري الناطق بالألمانية (1 SRF) مع الرئيس الأسد، وأذيع بتاريخ 20 أكتوبر 2016، لقد جاء رده على السؤال المباشر والمرعب، هل أنت مجرم حرب؟ (إنّ دستور البلاد يكفل له الدفاع عن الشعب السوري بقتل الإرهابيين) مشيراً بنفس التقرير أنّ تشبيهه بأدولف هتلر وصدام حسين لا يتمتع بالمصداقية، فأهمّ شيء بالنسبة له هو كيف ينظر إليه الشعب السوري، فالشعب بالنسبة له هو الجزء الغارق في التطبيع مع مبررات الحرب والقتل التي جرى ترويجها منذ بدء الحراك، وما يزال متمسكاً بظل نظام الخراب والإجرام، ليكون الضامن في استمراره حتى الآن، ويكون تلك الجثة التي تحتضن طفلاً، جزءاً من الانتصار المزعوم للنظام ومؤيديه.

هذا العالم الميت

كشفت المأساة السورية عن حقيقة أننا نعيش في عالم مُفزع، عالم تختصّ خطوطه الحمراء في تقنين أدوات الجريمة بدل إزالتها، فيحدد المسموح والممنوع بنوع السلاح فقط، ولا يكتفي بهذا إنما يستطيع اختلاق الأعذار والتخلّي عن الضحية، حتى لو تمّ استخدام سلاح محرّم، لتجعل المعوّلين على (مسؤولية الحماية الدولية) أكثر خيبة وشعوراً بالظلم، فتتبع مقرراتها حول حماية السكان من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، يبدو بعيداً عن التنفيذ على أرض الواقع.

وكما كل الجرائم التي حدثت بالماضي وفي أكثر من زمان ومكان ستسمر للمستقبل، فبعض الجرائم لا تجد إجماعاً لدى منظمات حقوق الإنسان الفاعلة كمنظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان، وهو ما حدث في إيران بتاريخ (12 سبتمبر 1988) والجريمة الواسعة النطاق التي تعادل الإبادة الجماعية ضد المخالفين لنظام الخامنئي من مجاهدي خلق واليساريين، وبعضها تطمر معها حقيقة الفاعل كمجزرة حلبجة يومي 16 و17 آذار 1988 ضد الأكراد التي لم تتحدّد المسؤولية عنها ضد العراق أم إيران، وبعضها لا تجد إجماعاً لدى ما يُسمى (المجتمع الدولي) كما في سوريا، وسيكتفي بإدانة الجريمة وشجبها.

هذا الشجب والإدانة، لم ينقذ الجثث، وكذلك ما صرّح به المبعوث الخاص لوزير الخارجية الأمريكي إلى سوريا “جيمس جيفري”، بأنّ دولته القوية أمريكا، تعتقد أنّ (بشار الأسد) وصمة عار على البشرية، وهو مجرم حرب لا يرحم، ربما كان أكبر وأقسى مجرمي الحرب في العالم في الوقت الحاضر، ولكنها لا تسعى إلى تغييره بل تريد تغيير سلوكه.

شهادة حفار القبور لم تصف جثة تعانق طفلها الميت بين ذراعيها لتحميه من الموت، بل وصفت عالماً فقد كل ما فيه من إنسانية، عالماً كان شاهداً على الموت القسري مراراً وتكراراً بأكثر من مكان وزمان، وبأكثر من طريقة، وصفت توحّش البشر في عالم يكتفي فقط بأن يرى الجريمة المروّعة ولا يتحرك لوقفها ومحاسبة المجرم، إنقاذاً للقيم قبل الضحية، وللعدالة قبل الحقّ.

ليفانت – هوازن خداج

———————————-

شهادة نسائية في محاكمة كوبلنز..ورسلان يُقحِم اسم “مي سكاف

 ليفانت- لونا وطفة

افتتحت الجلسة الرابعة والثلاثين من محاكمة المتهمين أنور رسلان وإياد الغريب، بتوزيع ما قدمه السيد مازن درويش للمحكمة كوثائق للاطلاع على أطراف الدعوى، تم استدعاء الشاهد كما جرت العادة، بيد أنه لم يكن معتقلاً سابقاً في سوريا أو منشقاً عن النظام، بل كانت ولأول مرةٍ معتقلةٌ سابقةٌ. محاكمة كوبلنز

دخلت الشاهدة من الباب المخصص للشهود هي ومحاميتها، ثم جلست وبدأت التعريف عن نفسها بأنها تبلغ من العمر 38 عاماً، وأنها تنحدر من عائلة كبيرة من حيث عدد الإخوة والأخوات.

الشاهدة التي فضّلت عدم ذكر اسمها للإعلام، استهلت الحديث عن نفسها بأنها بدأت عملها السياسي من خلال الحزب الشيوعي عام 2001، وأضافت أنه وحتى بداية الثورة عام 2011 تعرّض الكثيرون من أصدقائها في الحزب للاعتقال، الأمر الذي أتاح لهم معرفة الآلة القمعية لدى النظام حتى قبل الثورة.

اعتقلت عام 2011 من قبل فرع الخطيب

بتاريخ الثاني من الشهر الخامس لعام 2011 اعتقلت الشاهدة للمرة الأولى من قبل فرع الخطيب واستمر اعتقالها لمدة أسبوعين. قالت الشاهدة أنه كان اعتقالاً من مظاهرة نسائية وكان عددهم قرابة الثلاثين امرأة وأنها الوحيدة التي اعتقلت لأنها كانت تصور المظاهرة. ثم تحدّثت عن ضرب العناصر لها مع مجموعة من الشبَّان المعتقلين في الفرع أربعين، ومن ثم نقلها إلى الفرع 251 وعن ضربها هناك أثناء انتظارها لموعد التحقيق معها، وتركها في الممر واقفة لعدة ساعات وتعرضها خلال ذلك الوقت للصعق بالكهرباء أيضاً.

بعد التحقيق معها وضعت الشاهدة في منفردة، وهنا توجهت للقضاة بقولها: “هل يجب أن أشرح ماذا تعني المنفردة؟” فأجابتها القاضي بنعم، فقالت الشاهدة: “المنفردة هي مكان صغير، مثل القبر”. محاكمة كوبلنز

تابعت الشاهدة وصف حجم المنفردة والتهديدات بالاغتصاب والتحرش التي طالتها، بالإضافة للتعذيب الجسدي وتحدثت أيضاً عن أصوات تعذيب المعتقلين الآخرين التي رافقتها طوال وجودها في فرع الخطيب.

بطبيعة الحال، تناولت أيضاً الأوضاع الصحية والطعام وقطع الكهرباء بعض الأحيان كنوع من التعذيب النفسي لمن هم في المنفردات، لدرجة أن أحدهم قام بضرب الباب بطريقة هستيرية بعد قطعهم للكهرباء وأن جميع المعتقلين سمعوا صراخه.

بتاريخ 12.04.2012 اعتقلت الشاهدة ،من قبل ذات الفرع للمرة الثانية، واستمرّ اعتقالها هذه المرة لمدة أسبوع، وعن هذا الاعتقال أخبرت الشاهدة القضاة أنه حدث نتيجة مشاركتها مع أخريات باعتصام حملة “أوقفوا القتل” أمام البرلمان السوري.

بدأ الأمن بهجومه واعتقالاته التعسفية، قبل أن يبدأ الاعتصام كما قالت الشاهدة، وأضافت أن الضرب كان همجياً وعنيفاً أكثر من المرة السابقة، وأنه تركز عليها وعلى امرأة أخرى كانت محجبة لدرجة أنهم نزعوا عنها حجابها عنوةً. نتيجة هذا الضرب بقيت الشاهدة متورمة لعشرة أيام.

تحدثت بعدها عن غرفة التفتيش في فرع الخطيب بعد نقلها من فرع الأربعين إليه، وكيف رأت فيها آثاراً على الجدران رجحت أنها آثار دماء وتعذيب، وعن رؤيتها لأدوات تعذيب هناك من بينها العصي والكابلات. بعد ثلاثة أيام من وصولها لفرع الخطيب أُخذت لمكتب المتهم أنور رسلان والذي كان لطيفاً معها، كما قالت، وأن حديثهما استمر قرابة العشرين دقيقة وكان عبارةً عن أسئلةٍ عامة. محاكمة كوبلنز

رجحت الشاهدة أن سبب التعامل معها بهذه الطريقة’’ وإطلاق سراحها بعد أسبوع فقط، هو الضغط الممارس لإطلاق سراح المعتقلات ضمن هذه الحملة، ووجود كوفي عنان في ذات الوقت في سوريا، ما أعطى الحملة صدى عالمي.

لقاء مع “رسلان” في الأردن..وإقحام اسم الراحلة “مي سكاف” من قبله

سُئلت الشاهدة إن كانت قد التقت برسلان مرة أخرى، فأجابت بأنها التقت به في الأردن بعد أن أخبرها منشقٌ آخر عن النظام ويدعى ع.ص عن انشقاق رسلان ووجوده في الأردن، حيث تملّكها الفضول للقائه، وطلبت ذلك من ع.ص فاتصل على الفور برسلان الذي وافق على اللقاء والتقيا بمقهى في عمان. استمر لقاءهما قرابة الساعة والنصف ولم يتناول إلا العموميات.

ما ذكرته الشاهدة عن لقائها بالمتهم، كان مجال سؤال المدعي العام لها عن حقيقة ما جرى في هذا اللقاء حيث أكّدت على ما قالته للقضاة، بيد أن المدعي العام قام بقراءة ما ورد في دفاع المتهم رسلان عن هذه النقطة ضمن رده على التهم الموجه ضده من المدعين ومن ضمنهم الشاهدة، وكان مما ورد في دفاع المتهم رسلان التالي:” التقيت مع الشاهدة ******** بشهر نيسان 2011 وليس 2012 في السجن، فسألتها ما هو عملك فقالت صحفية مع BBC، فقلت لها تعالي معي إلى مكتبي وكان برفقتها عدد من زملائها الصحفيين، فسألتها متى تم اعتقالك فقالت لي منذ ساعة تقريباً”.

سأل المدعي العام الشاهدة: هل صحيحٌ ما ورد هنا؟ فأجابت بأنه غير صحيح بالمطلق وبأنها لم تُعتقل بالاسم كصحفية وإنما ضمن مظاهرة بشكلٍ اعتباطي، أي أنها غير معروفة من قبلهم. ثم تابع المدعي قرائته لأقوال المتهم: “(…)، اتصلت مع رئيس الفرع 251 وشرحت له وضعها ومعها زملائها وطلبت من رئيس الفرع إخلاء سبيلها ورفاقها، لأنهم يتحدثون فقط بكلامٍ حول حرية الصحافة. ولم ألتقِ معها بعدها إلا في بداية العام 2014 بعد انشقاقي في الأردن وليس في تركيا حيث اتصل معي ********* وأخبرني بأن الفنانة مي سكاف ومعها زميلتها متواجدتين في مقهى بمنطقة *******، والمقهى ليس بعيداً عن المنزل الذي كنت أستأجره فحضرت والتقيت معهم، وقد عرفتها مباشرة واعتقدت بأنها طلبت من ********* تنسيق حضوري لكي تشكرني على المساعدة التي قدمتها لها. محاكمة كوبلنز

لم تتحدث هي بشيء أبداً، وأنا تحدثت مع مي سكاف حول مدينتها وبعض أعمالها الفنية، ومشاركتها بالمظاهرات”.

أعاد المدعي توجيه سؤاله للشاهدة عن صحة هذه الفقرة، فنفت صحتها أيضاً، وقالت أن الفنانة المرحومة مي سكاف، لم تكن حاضرة في هذا اللقاء.

عذّبوا أطفالها أمام عينيها..فانهارت

أكمل المدعي: “وكما تدّعي الشاهدة بأنني أرتدي بزة عسكرية وهذا غير صحيح على الاطلاق لأنني لم أرتدِ اللباس العسكري أبداً”. وهو ما قالته الشاهدة عن لقائها بالمتهم في مكتبه ورؤيتها له بالزي العسكري، فأعاد المدعي سؤالها عن صحة هذا الكلام فأجابت بأنها لا تذكر على وجه التأكيد ولكنها تعتقد أنها رأته بالبزَّة العسكرية وكانت شارته نسراً ونجمتين أو ثلاث. تم عرض صورة للرتب العسكرية على شاشة العرض في المحكمة فاستطاعت الشاهدة تمييزهم.

بعد ذلك عُرِضَ رسمٌ بخط اليد قامت به الشاهدة أثناء التحقيق معها من قبل الشرطة الجنائية يتضمن شكل الفرع 251 من الداخل وأماكن المنفردات فيه، وكانت مرقّمة من العدد 11 وحتى العدد 25 على شكل نصف مربع. وتحدثت عن تعذيبهم لامرأة بترك نافذة منفردتها مفتوحة لتراهم وهم يعذبون أطفالها، وعن انهيارها ثم نقلها لمنفردة الشاهدة لتبقى معها.

أكدت الشاهدة أنها كانت قادرة على الرؤية من تحت عصابة العين، كما أكد ذلك عدة شهود سابقين في هذه المحكمة، ومن خلال ذلك استطاعت رؤية المعتقلين في الممر وآثار التعذيب على أجسادهم أثناء ذهابها إلى المرحاض مرة واحدة يومياً.

كما أكدت الشبح كطريقة تعذيب متبعة في الفرع 251، والذي حدث مع صديقٍ لها وهو طبيب اعتقل لمرتين في فرع الخطيب، والدولاب والكهرباء بعد رمي الماء على جسد المعتقل، وأيضاً إطفاء السجائر على أجساد المعتقلين. محاكمة كوبلنز

تصاعد حالات القتل تحت التعذيب عام 2012

سُئلت الشاهدة عن الفرق بين اعتقاليها عامي 2011 و 2012، فقالت بأن عام 2011 تميّز بكثرة الاعتقالات نتيجة كثرة المظاهرات، بيد أن القتل تحت التعذيب كان أقل لأنهم لم يكونوا قادرين على قتل 10000 شخص قاموا باعتقالهم دفعةً واحدةً من المظاهرات، ولكنهم كانوا قادرين على قتل ثلاثة أو أربعة أشخاص من منظّمي المظاهرة مثلاً، وأضافت بأن الاعتقالات الممنهجة كانت ضد النشطاء السلميين منذ بداية الثورة، وهؤلاء تمت تصفية العديد منهم. أما عام 2012 فلم يعد هناك مظاهرات بذات كثافة العام السابق، ونتيجة لذلك قلَّت الاعتقالات العشوائية بينما ازدادت حالات القتل تحت التعذيب.

أثناء ردها على سؤال من أحد محامي الادعاء، ذكرت الشاهدة بأن الاغتصاب كان تعذيباً يطال الرجال والنساء على حدٍ سواء، بيد أن خصوصية تجربة المعتقلات وابتزازهنَّ بفضحهنَّ بإخبار أهلهنَّ عنهنَّ أو تهديدهنَّ بالاغتصاب، في مجتمعٍ يُعنى بالشرف والعار كان وقعه أسوأ بكثير، حيث عانت منها معتقلاتٌ كثيراتٌ لدرجة أن بعضهنَّ لم تتجرأنَ على ذكر ما حدث معهنَّ للأهل أو للزوج.

ثم تحدثت عن قدرة البعض منهنَّ على الحديث في فلمٍ وثائقي بعنوان “الصرخةٌ المكتومة” للمخرجة الفرنسية مانون لوازو، تناول قصص المعتقلات من ناحية الاغتصاب والتحرش في سجون الأسد منذ بداية الثورة وأذيع عام 2017.

انتهت شهادة الشاهدة تمام الساعة الثانية والنصف من ظهر اليوم الأول من شهر أكتوبر/تشرين الأول دون وجود أسئلة إضافية من أطراف الدعوى، فقررت القاضي إنهاء الشهادة وإلغاء اليوم الثاني منها، والذي كان مقرراً في اليوم الثاني من ذات الشهر لعدم الحاجة له.

قرأت القاضي الأول بعد نهاية الشهادة مقالاً من الانترنت، يتحدث عن زيارة كوفي عنان حينها لدمشق ومن ثم قرأت رد المحكمة على طلب محامي الدفاع إعادة المحاكمة من بدايتها لعدم توفر اللغة العربية للصحفيين الحاصلين على الاعتماد من المحكمة، ورفض المحكمة لطلب الدفاع مُبَرَّراً بأن ما قامت به المحكمة لا يخالف مبدأ علانيتها، وبأن مهمتها تقتصر بتسهيل وصول الراغبين بالحضور للمحكمة، وبأن لغة المحكمة الأساسية هي الألمانية وليس من واجبها مساعدة المستمعين أو الحضور إن كان لديهم مشكلة في متابعة المحاكمة.

ثم علّلت قبول المحكمة الدستورية الاتحادية بتاريخ 18.08.2020 الاعتراض المقدم من المنظمات والصحفيين السوريين، بأن عدم إتاحة اللغة حينها للصحفيين السوريين كان ربما يخلّ بالحق الأساسي وفقاً للمادة الخامسة في فقرتها الأولى وجملتها الثانية من الدستور الألماني المتعلقة بحرية الصحافة والإعلام، لكنه لا يقوم على أي إخلال بمبادئ القضايا الجنائية، وأكدت على ضرورة التمييز بين قرار المحكمة الدستورية الاتحادية ومفهوم الجمهور، مشدّدة على الحفاظ على علنية الجلسات وثقة الجمهور بالقضاء.

جلسات المحكمة القادمة ستكون بتاريخ السادس والسابع والثامن من الشهر الجاري.

============================

===========================

تحديث 19 تشرين الاول 2020

———————————-

فورين بوليسي: محكمة ألمانية تفضح فظائع نظام الأسد وتنهي أي آمال في المصالحة الدولية

“كانت هناك أنهار من الدماء والديدان تنضح من الجثث. ذات مرة، لم أستطع أكل أي شيء لأيام. كانت بعض الجثث فاسدة تماما ووجوهها لا يمكن التعرف عليها، كما لو تم تشويهها عن عمد بمواد كيميائية. إن الرائحة الكريهة للجثث المتعفنة هي أكثر ما أزعجني ولا تزال حتى الآن. بقيت الرائحة في أنفي حتى بعد أن استحممت في المنزل”.

هذا ما قاله الشاهد السوري “زد” (Z) في المحكمة الألمانية التي ظلت تنظر في جرائم نظام بشار الأسد منذ أغسطس/آب الماضي ببلدة كوبلنز الهادئة ضد اثنين من مسؤولي النظام هما أنور رسلان وإياد الغريب، وفق تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي الأميركية (Foreign Policy).

لأول مرة

كانت المحكمة تكشف شاهدا واحدا كل مرة -في شهادات الناجين من التعذيب في السجون السورية، وأقارب القتلى، والخبراء، وشهادات منتمين للنظام- لمدى جرائم الحكومة السورية ضد الإنسانية. وقالت إنه ولأول مرة، يمكن لغير السوريين أن يدركوا كيف أصبحت الفظائع تحت قيادة الأسد طريقة حياة روتينية.

ففي 9 سبتمبر/أيلول الماضي، وهو اليوم الثلاثين من المحاكمة، كان أهم شهادات المحكمة. وذلك عندما مثل أمامها متعهد دفن الموتى السوري، وهو جزء من فريق دفن عددا لا يحصى من الجثث المشوهة.

وصفت شهادته كيف يتم إحضار الجثث ليس فقط من مديرية مخابرات أمن الدولة بقيادة رسلان في دمشق والمعروفة أيضا باسم الفرع 251، ولكن من إدارات متعددة في أجهزة المخابرات السورية، بما في ذلك تلك التابعة للجيش، بين عامي 2011 و2017.

حفاظا على سلامة أسرته

وحفاظا على سلامة عائلته في سوريا، ظهر متعهد دفن الموتى في المحكمة ووجهه مغطى، ويوصف بالشاهد “زد”.

وكان نشطاء محليون وعالميون قد أبلغوا سابقا عن تعذيب واسع النطاق للسكان المدنيين، منهم المصور العسكري الشهير، ويُدعى قيصر، الذي سرّب بالفعل 5 آلاف صورة كدليل على التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء.

وجاءت مساهمة الشاهد “زد” لترسم صورة لما تبع ذلك. فأخبر المحكمة عن الحالة التي يعثر فيها على الجثث وما يحدث لها. وقالت المجلة إنها حصلت على نسخة كاملة من شهادته.

وأضافت أن “زد” كان بمثابة ترس صغير في آلية النظام الأكبر التي كانت تعتقل المتظاهرين السلميين وأي شخص كان إما مع المعارضة أو حتى بدا مؤيدا لها، وتعذّبهم في مراكز الاحتجاز والسجون، قبل إعدام الكثيرين منهم، ثم تنظم دفنهم السري. وكان “زد” جزءا من الفصل الأخير.

رائحة الجثث

وبسبب عدم قدرته على تحمل رائحة الجثث، كان “زد” يُكلف بنقل الذين يدفنون الجثث وأيضا تدوين أعداد القتلى مقابل فرع المخابرات الذي يتم إحضارهم منه، أي دوائر المخابرات الحكومية المسؤولة عن قتل كل منهم.

وكان “زد” في السابق جزءا من الإدارة السورية في محافظة دمشق يقوم بدفن الذين يموتون لأسباب طبيعية حتى بدأت الانتفاضة عام 2011. وبعد أشهر قليلة من اندلاع الاحتجاجات المناهضة للنظام، اقترب منه ضابط مخابرات وأمره بقيادة شاحنة، بدون لوحة ترخيص لكنها مغطاة بملصقات الأسد، إلى مقابر على أطراف المدينة.

في هذه الشاحنة، مع آخرين يتراوح عددهم ما بين 8 و12، كان يقود سيارته أحيانا مباشرة إلى مقبرتي نجها وقطيفة، وفي مناسبات أخرى ينتظر أولا في مستشفيات تشرين وحرستا العسكرية. وشاهد “زد” شاحنات مبردة بطول 35 قدما، متوقفة في الخارج، محشوة بما يتراوح بين 200 و700 جثة، يرافقها ضابط عسكري واحد على الأقل، ويتبعها إلى المقابر.

وتذكّر أن المقابر بدت وكأنها معسكرات لوحدات مختلفة من الجيش، إذ يتم حظر دخول المدنيين إليها. وكانت هناك نقطة تفتيش عند التقاطع تؤدي إلى أحد مواقع الدفن يديرها ضابط “برتبة عقيد” للتعرف على الشاحنات.

حفر شاسعة لآلاف الجثث

وفي المقابر، يقول “زد” يقوم زملاؤه، الذين يستأجرهم النظام أيضا، بفتح الشاحنات المبردة ويلقون الجثث واحدة تلو الأخرى بطريقة غير منظمة في خنادق يبلغ عمقها 6 أقدام وطولها 160 إلى 330 قدما، وبعد حوالي 40 إلى 50 حمولة، تمتلئ هذه الحفر تماما.

ويمضي “زد” ليقول إن عمليات الدفن تتم 4 مرات في الأسبوع، لمدة 6 سنوات على الأقل، وكانت آلاف الجثث تُدفن دون مراعاة لمتطلبات الكرامة الإنسانية. ولم يكن هناك أقارب ولا صلاة. فقط حفرة كبيرة بالصحراء الشاسعة في الريف.

وأكد “زد” ادعاءات قيصر، الذي صور الجثث في المستشفيات العسكرية، عندما قال للمحكمة أن كل جثة بها رقم من المخابرات أو الفرع العسكري مكتوب على الجبهة والصدر.

وفي المقابر، يساعد “زد” ضباط النظام على الفور في حصر أعداد القتلى ومصدرها. وفي المحكمة سمى الشاهد بعض أكثر أفرع المخابرات رعبا في البلاد، مثل “الخطيب” و”فرع فلسطين” ومخابرات القوات الجوية، بما في ذلك المخابرات العسكرية من جميع الإدارات التابعة للنظام السوري.

تأثير المحاكمة على الأسد واللاجئين

وأشارت المجلة في مستهل تقريرها إلى أن الرئيس السوري بشار الأسد قد لا يُحاكم أبدا، على الأقل طالما أن رعاته في روسيا لا يرغبون في استبداله، لكن المحاكمة الجارية في مدينة كوبلنز الهادئة تبدد ببطء ولكن بثبات أي آمال قد تكون لدى الأسد في أن أوروبا سوف تطبع علاقاتها مع نظامه في أي وقت قريب.

واختتمت فورين بوليسي أن المحاكمة أيضا تمنح ملايين اللاجئين السوريين في ألمانيا، الذين عاشوا في ظل الخوف، أملا من احتمال عدم إجبارهم على العودة إلى بلدانهم الأصلية، وأن يتفهم مضيفوهم أخيرا ضعفهم.

المصدر : فورين بوليسي

————————————-

جرائم الأسد المهولة.. تمنع التطبيع الأوروبي مع نظامه

ترى مجلة “فورين بوليسي” أن محكمة كوبلنز التي تحاكم عنصرين من النظام السوري، بتهم تعذيب وقتل مدنيين، قد لا تؤدي إلى محاكمة رئيس النظام بشار الأسد، لكنها على الأقل ستمنع التطبيع الأوروبي مع نظامه.

وتقول المجلة في تقرير إن “الأسد قد لا يُحاكم أبداً، على الأقل ليس طالما أن رعاته في روسيا لا يرغبون في استبداله. لكن المحاكمة الجارية في محكمة ألمانية في مدينة كوبلنز ضد اثنين من مسؤولي النظام، أنور رسلان وإياد الغريب، تبدد ببطء ولكن بثبات أي آمال قد تكون لدى الأسد في أن أوروبا سوف تطبع العلاقات مع نظامه في أي وقت قريب”.

تمنح المحاكمة أيضاً، آمالاً لملايين اللاجئين السوريين في ألمانيا، الذين عاشوا في ظل الخوف من احتمال إجبارهم على العودة إلى بلدانهم الأصلية، أن يفهم مضيفوهم في النهاية مدى ضعفهم.

وكانت المحكمة تكشف شاهداً واحداً في كل جلسة، من شهادات الناجين من التعذيب في السجون السورية، وأقارب القتلى، والخبراء، والمطلعين على جرائم الحكومة السورية ضد الإنسانية. لأول مرة، يمكن لغير السوريين أن يدركوا كيف أصبحت الفظائع تحت قيادة الأسد طريقة حياة روتينية.

في 9 أيلول/سبتمبر، اليوم 30 من المحاكمة في كوبلنز، شهدت المحكمة أهم الشهادات حتى الآن، بحسب المجلة. كان ذلك عندما وقف متعهد دفن سوري، وهو جزء من فريق دفَن عدداً لا يحصى من الجثث المشوهة. وصفت شهادته كيف تم إحضار الجثث ليس فقط من فرع الخطيب الأمني، مديرية استخبارات أمن الدولة بقيادة رسلان في دمشق والمعروفة أيضاً باسم الفرع 251، ولكن من إدارات متعددة في أجهزة المخابرات السورية، بما في ذلك الجيش، بين عامي 2011 و 2017. حفاظاً على سلامة عائلته في سوريا، ظهر متعهد دفن الموتى ووجهه مغطى.

وكان نشطاء محليون وعالميون قد أبلغوا سابقاً عن تعذيب واسع النطاق للسكان المدنيين، وكان مصور عسكري، يُدعى قيصر، قد سرب بالفعل 50000 صورة كدليل على التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء. كانت مساهمة الشاهد الأخير ترسم صورة لما تبع ذلك.

كان متعهد الدفن ترساً صغيراً في آلية النظام الأكبر التي اعتقلت المتظاهرين السلميين وأي شخص كان مع المعارضة أو حتى بدا مؤيداً لها، وعذبتهم في مراكز الاحتجاز والسجون، وأعدمت الكثيرين، ونظّمت دفنهم السري. كان الشاهد جزءاً من الفصل الأخير، غير قادر على تحمل رائحة الجثث. تم تكليفه بنقل الرجال الذين دفنوا الجثث وأيضاً تدوين أعداد القتلى في فرع المخابرات الذين تم إحضارهم منه، أي دوائر المخابرات الحكومية المسؤولة عن كل عمليات القتل.

ويقول باتريك كروكر، المحامي المحارب في قضية كوبلنز والمستشار القانوني الأول لشؤون سوريا في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، إنه “لا يوجد دليل على توقف النظام السوري عن ارتكاب هذه الجرائم. في الواقع الشهادة الأخيرة هي عكس ذلك”.

ويضيف ل”فورين بوليسي”، أن “المحاكمة ستؤثر على السياسة الأوروبية الأوسع بشأن سوريا”. على سبيل المثال، يوضح كروكر أنه حتى التفكير في فكرة تطبيع العلاقات مع مثل هذا النظام أمر مثير للاشمئزاز. ويتابع: “يقدم أحدهم دليلاً على أن المقابر الجماعية كانت لا تزال قيد الحفر حتى عام 2017 على الأقل.. هذا هو نوع الحكومة والنظام الذي لا تقيم معه علاقات”.

كما يسلط كروكر الضوء على الأهمية القانونية الدائمة للمحاكمة وما تم الكشف عنه في مثل هذه الشهادات قائلاً إن “الأدلة المقدمة الآن ستسهل المحاكمات المستقبلية ضد مسؤولي النظام إذا تم القبض عليهم وهم يسافرون إلى أوروبا.. أعمال التعذيب الفردية تشكل جريمة ضد الإنسانية إذا تم ارتكابها في سياق محدد، وهي كانت عبارة عن هجوم واسع النطاق ومنهجي ضد المدنيين. تثبت الشهادة أن الجرائم كانت منهجية”.

في نهاية المحاكمة، حتى لو كان الانتصار رمزياً وتمت إدانة اثنين فقط من مسؤولي النظام ذوي الرتب المتوسطة، يعتقد الخبراء أن الأدلة بدأت في التأثير على سياسة اللاجئين في ألمانيا. في ضوء هذه الشهادات، يصعب على الشعبويين المطالبة بعودة اللاجئين إلى سوريا.

وتقول رئيسة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسسة “هاينريش بول” بينتي شيلر ل”فورين بوليسي”، إن وزراء داخلية الولايات الفيدرالية في ألمانيا يناقشون كل ستة أشهر إمكانية إعادة اللاجئين، مضيفة “لكن مما نسمعه في المحاكمات حول كل ما يحدث في سوريا من المستحيل تماماً ترحيل الأشخاص.. هناك أمل في أن تؤدي المحاكمة إلى تلطيف الموقف تجاه اللاجئين. لا أحد يستطيع أن يقول إنهم لم يسمعوا عن ذلك، وأنهم لم يكونوا على علم”.

يسمع الأوروبيون المزيد عن محنة السوريين الطويلة الأمد وأنهم فرّوا ليس فقط من القنابل والحرب ولكن أيضاً بسبب تفشي التعذيب والقتل الوحشي من قبل النظام. تُظهر الشهادات كيف أن عمليات القتل لم تكن أفعالاً عشوائية من قبل بعض الضباط، ولكنها جرائم نظمتها العديد من الهيئات الحكومية، حيث لم يكن لدى الرجال مثل متعهد دفن الموتى الذي يقع في أسفل السلسلة، خيار سوى تنفيذ الأوامر.

—————————–

===========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى