وجها لوجه

حوار مع ليزا ودين عن كتابها : استيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا

ليزا ودين، استيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا الناشر: جامعة شيكاغو ٢٠١٩

ما الذي دفعك إلى تأليف هذا الكتاب؟

عدتُ إلى سوريا بعد غيابٍ طويل، وأدهشتني رؤية كم تغير الكثير، وكم بقي الكثير مألوفاً. فنويت تأليف كتاب يتناول بالتحليل البزوغ الجلي لنسخة ألطف وأرق من الأوتوقراطية في ظل حكم بشار الأسد (2000-). ومن المسائل التي فكرتُ باستقصائها التغيرات الحاصلة في السوق والتغير الجيلي، ومخيالات حياة يومية جمالية جديدة رافقت التنامي الملحوظ للاستهلاك، والدعم الذي يبدو أن بشار الأسد حصل عليه من جهات غير متوقعة، شملت منشقين سابقين وفنانين ومهنيين مدينيين ورجال دين. ثم اندلعت الانتفاضة في تونس وألهمت مظاهرات ضخمة في اليمن وليبيا والبحرين وسوريا. كنت ما أزال في دمشق حين بدأت الانتفاضة في آذار 2011، وغادرتُها في نهاية أيار، وفي ذلك الوقت صارت المؤشرات على تصلب النظام والمشاكل التي تهدد المعارضات المختلفة واضحة جداً بحيث لا يمكن تجاهلها.  (قمتُ لاحقاً بأبحاث ميدانية في لبنان وتركيا وأجزاء من أوربا وفي الولايات المتحدة، وكذلك عن بعد مع الأصدقاء الذين بقوا في الداخل).

كان كتاب ”استيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا“ ثمرة كل هذا. وبقي مرتبطاً باهتماماتي الأولى بالمرونة السلطوية والتغير السياسي، الموضوعين اللذين يهتم بهما علماء السياسة باستمرار، وقمت كذلك بالبحث في مسائل مهمة هي حالياً قيد الجدل في النظرية السياسية والأنثروبولوجيا، وركزتُ منذ البداية على تعقيدات التوظيف الإيديولوجي وسيرورات التجنيد في ما قررت أن أدعوه (قبل الانتفاضة) ”الأتوقراطية النيوليبرالية“ لسوريا، وفيما بعد تأثر الكتاب بتسارع الأحداث الفائق للعادة: الابتهاج الثوري للأيام الأولى، ثم العنف المدمّر الذي بدد الآمال بأي إنهاء سريع للدكتاتورية.             

أي نوع من الموضوعات والمسائل والأدبيات يعالج الكتاب؟

يطرح كتاب ”استيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا“ السؤال التالي: كيف تمكّن النظام من تحمّل عبء التحديات التي واجهتْهُ؟ وما الذي يقوله لنا النموذج السوري عن إغواءات السياسة الاستبدادية بشكل أكثر عموماً؟

تعرّف مقاربتي لهذا اللغز المحير نماذج جديدة من الاستنطاق الإيديولوجي، إذا ما استخدمنا مصطلح لوي ألتوسير، وتعرّف طرقاً جديدة ل ”استدراج“ المواطنين لدعم النظام الأوتوقراطي. ويستقصي الكتاب الأشكال المعقدة والمتنوعة وغالباً غير المتماسكة  للخطاب التي ضمنت قبول المواطن الذي احتاجه النظام من أجل بقائه. وحين يقوم النظام باستدراجك فهذا يعني أنه يقوم بإغوائك، وهنا تعمل الإيديولوجيا من خلال إثارة أخيلة ليس من الضروري إشباعها كي ينجح الاستنطاق. وفي الحقيقة، حين يُثار محتوى الأخيلة فإنه يتم تلطيفها في الوقت نفسه، وتُخفَّف التناقضات التي يشير إليها. وتساعد الإيديولوجيا في التعامل مع حالات القلق الجماعية وتعارضات اجتماعية-سياسية من خلال تقديم آليات تسمح باحتواء التنافرات أو إزاحتها أو التنصل منها.

ك ”احتواء“: تجعل الإيديولوجيا ما هو جوهرياً حالات قلق اجتماعية وتاريخية يبدو طبيعياً ولا مفر منه. نشاهد هذا أيضاً في أنماط التماهي المفرط: تخيُّل سحر الشخصية المشهورة (أو رشاقتها أو اتزانها العقلي) دون الإيمان بالضرورة أن تحولاً كهذا سيحدث.

ك“إزاحة: يُعاد نقل المخاوف غير القابلة للتحمل إلى موضوع جديد وحالات قلق حول مواصفات غير مقبولة  مسقطة على آخر متخيل. إن لوم ”الإرهابيين“ على أزمة وطنية أو إسقاط العنف داخل المجموعة على الخارج هما سيرورتا إزاحة، ساعدتا في تنظيم الحياة الجماعية في ظروف سوريا الاستبدادية.

تعمل الإيديولوجيا أيضاً ك“تنصّل“. فقد أشار المفكّر أوكتاف مانوني إلى أن الناس يعقلنون حيواتهم مُقرّين ومتنصّلين في الوقت نفسه. وتجسّد عبارة ”أعرف جيداً ولكن …“ هذه المناورة، وللنأي بالنفس عن المسؤولية المتضمنة  تأثيرات في السياسة، وفي حالة سوريا،  يعمل التنصل عادة كالتالي: ”أعرف جيداً أن النظام فاسد بشكل لا سبيل إلى تقويمه، ولكننا نستطيع تشكيل منظمات مجتمع مدني ترعاها الحكومة وهي في الحقيقة تمكّن المواطنين“، ”أعرف جيداً أنه لا عودة إلى الوراء“ إلى الطريقة التي كانت عليها الأشياء قبل الحرب، لكن كل شيء سيُحل بسهولة ك ”عضة كوساية“.  أو بين الناشطين العلمانيين في العامين الأولين من الانتفاضة:“أعرف جيداً أن في المعارضة إسلاميين متشددين لكن يجب أن أتصرف وكأنهم لا يوجدون فيها“. يتجاوز التنصل الإنكار في أن المشكلة التي تستدعي الحكم مطروحة على الأقل. وفي التنصل، تدعو الإيديولوجيا الرعايا إلى موقف حيث يمكن رفض الوقائع التي لم يعد بالوسع التنصل منها. بهذا المعنى، يعبّر التنصل عن التناقض الذي يرفضه في آن.

أستخدم مصطلح إيديولوجيا لا كي أشير إلى منبرٍ حزبيّ أو عقيدة مميزة، على الرغم من أنه يمكن أن تُجعل واضحة في وثائق منفصلة. بدلاً من ذلك، وباتباع تقليد ثقافي ماركسي، تشير الإيديولوجيا إلى خطابات مجسدة ومحملة عاطفياً يتم إيصالها إلى حد ما أفقياً من خلال ممارسات الحياة اليومية. وحين تُفهم الإيديولوجيا ليس فقط كمحتوى بل أيضاً كشكل، فإنها تمتلك تأثيرات هيكلة قابلة للتحديد، طبيعتها ووظيفتها، كما اقترحتُ أعلاه، هي أن تحتوي الصراع الاجتماعي- السياسي وتخفف من التناقضات التي يمكن، بخلاف ذلك، أن تجعل الحياة غير قابلة لأن تُعاش. مدعّمةً بالأوهام والتخيلات التي تتواصل حتى في وجه معرفة أفضل، تبني الإيديولوجيا سياسة ”كما لو“ التي تتجاوز التمويه العام المفروض الذي تحدثتُ عنه في كتابي الأول غموض السيطرة. إن ما يمتلك أهمية أكبر في هذا الموقف الحالي  من الإيمان المتظاهر به أو تجليات الطاعة الخارجية هو الطرق المشتركة التي تنعكس بها الإيديولوجيا في لحظات تنصل عادية وتتولّد منها من جديد، أي التسويغات التي تمكّن من المشاركة في الولاء لأنظمة موجودة. ومن خلال محتوى معين، تعري الإيديولوجيا إغواءات تقليدية الوضع القائم في وجه التحديات القائمة له (الفصل الأول)، الأفعال المتنوعة التي تقوم به الكوميديا (الفصل الثاني)، والدور الذي تلعبه ”الأخبار المزيفة“ في إخراج الأحكام السياسية من أطرها المرجعية (الفصل الثالث)، احتمالات استيعاب التوترات العاطفية حول الحداد (الفصل الرابع) واستمرار النظرة الطائفية إلى الآخر (الفصل الخامس).                     

كيف يتصل هذا الكتاب أو ينفصل عن أعمالك السابقة؟

يتعامل كتابا السيطرة الغامضة واستيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا مع ثلاثة أشكال مختلفة من الحث على الامتثال وثلاثة نماذج مختلفة من سوريا. عبّر كتاب غموض السيطرة عن أوضاع أوتوقراطية متينة تعتمد على حكم الحزب الواحد، وجهاز أمن كلي الحضور، ومزاعم وهمية بشكل فاضح إلا إن المراقبين والمشاركين  توقفوا عن تبني وجهة النظر هذه واعتبروها عتيقة الطراز وضعيفة.  أما كتاب استيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا فيدرس نمطين إضافيين من الحث على الامتثال. بشّر العقد الأول من حكم الرئيس بشار الأسد بالدخول في مرحلة استبداد تفاؤلية وحديثة وتتسم بالذكاء واستخدام الإنترنت. وقلَّ اعتماد مؤسسات الحكم وبلاغته على الآليات الحزبية للسيطرة الاجتماعية وازداد اعتمادها على حشد من المنتجين الثقافيين الذين برزوا مؤخراً، وما يُدعى ب“منظمات مجتمع مدني“ متأثرة بالسوق، شكلها النظام، مستفيداً من روح التطوع لدى الشباب. إلا أن هذا كله تغيّر في العقد الثاني مع بزوغ أتوقراطية الحرب الأهلية، والتي لم تعد وسائل وآليات التوسط فيها موجهة نحو الاستمرارية، بل إلى إعادة الاستقرار بعد أن تم تحديه جذرياً التزامٌ عاطفي من قبل قسم من السوريين بوجود سياسي ”يمكن أن يكون مختلفاً“. إن هذه العبارة التي تذكر بتيودور أدورنو توضح انخراط هذا الكتاب في احتمالات وعوائق التحول الاجتماعي، وليس كثيراً في ”المقاومة في حد ذاتها كما في البدائل المتخيلة التي يكشف عنها التحليل الارتجاعي للاحتمال السياسي في الحاضر. يهتم كتاب استيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا أكثر بالديموغرافيات المتنوعة، الفهم غير المتساوي، وأهمية التنظير حول وسطيين متناقضين (العالقون بين الارتباط بالنظام والرغبة بالإصلاح) في فهم المرونة الاستبدادية. بهذا المعنى، إن الكتاب مدين بالفضل لنظرية ماركسية وعاطفية أكثر من غموض السيطرة وكتابي عن اليمن رؤى من الأطراف.  إنه، كما عبّرت إليزابيث آنكر عن ذلك بشكل لطيف، تحليل ل ”أنواع من الأوضاع التي لا تُحتمل“.

من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وأي نوع من التأثير تودين أن يحدثه؟

آمل أن يقرأ الكتاب ويجده مهماً الباحثون في مجال النظرية الاجتماعية والسياسية وفي الأنثروبولوجيا ودراسات الشرق الأوسط والدراسات الثقافية والأدبية والدراسات السينمائية والإعلامية والسياسة المقارنة، كما آمل أن يقرأه علماء الإثنوغرافيا السياسيون، وكل من هو مهتم بسوريا (بما فيه السوريون من خلفيات سياسية متباينة)، وأشخاص تقلقهم إغواءات الاستبداد في الزمن الحاضر. وآخرون، آمل أن جهودي ستقنعهم في إعادة توجيه مفهوم الإيديولوجيا، للتشديد على أهمية الحُكم في السياسة وعلى الاعتراف بالعمل الشاق للحداد في أزمنة الخسارة الفادحة.

ما المشاريع التي تعملين عليها حالياً؟

أنهي تحرير كتاب مع زميلي في الأنثروبولوجيا جوزف ماسكو بعنوان نظرية المؤامرة.

اطرحي سؤالاً تحبين أن نطرحه عليك ثم أجيبي عليه؟

ما علاقة الحُكم بالإيديولوجيا؟

يفهم الكتاب سياسة إعادة الإنتاج الإيديولوجية ليس كنشر لمعتقدات معينة، بل كتداول لأشكال معقدة من الارتباط السياسي، لتمكين الناس من معرفة أمرٍ ما وعدم معرفته في الوقت نفسه. ويُظهر فصلي حول الأنباء الكاذبة كيف استفاد النظام من نتائج الابتكارات التكنولوجية، مثل الإشباع المفرط بالمعلومات والسرعة الكبيرة التي تُبث وتصل بها في عصر الإنترنت. إن اللايقين الذي تمكّن النظام من إنتاجه في هذه الظروف لم يستقطب الجماعات ويحولها إلى جماهير عامة معزولة فحسب، بل قدم أيضاً عذراً لعدم الحكم. فقد صار من السهل بالنسبة للبعض، خاصة الوسطيين المتناقضين، النظر في أحداث مشوشة جداً بحيث لا يمكن الحكم عليها.  وفي ظروف كهذه، وفي سياق الانتصار الواضح للنظام السوري وعودة عالمية للحكم الاستبدادي نعثر على إمكانية تحدي جمعي للدكتاتورية لدى فنانين تحايلوا خيالياً على مشاكل مثل الأنباء الكاذبة، من خلال الأفلام الوثائقية. ومارس البعض أيضاً ما دعته حنا أرندت ”التفكير التمثيلي“، أي إعادة صقل قدرة على الحكم السياسي، ليس من خلال التماهي المفرط  مع المعانين الآخرين، بل من خلال القيام بالعمل التخيلي لكوني ”نفسي في مكان لستُ فيه نفسي“.                

[ترجمة أسامة أسبر. نشر المقال بالانكليزية على جدلية]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى