مقالات

خرزات الحرية متعددة الألوان في أعناق النساء/ مها حسن

برلمانيات أوروبيات، اختصاصيات لغويات في جامعات أوروبية، سينمائيات بلجيكيات وفرنسيات، مناضلات نسويات من نيكاراغوا، صحافيات من تشيلي، حقوقيون من كونغو وبوروندي، ممثلون من منظمة العفو الدولية في بلجيكا، وغيرهم وغيرهن من شخصيات تعمل في الحقل الثقافي والفني والحقوقي، اشتركوا جميعاً في الملتقى الدولي الحامل لعنوان “النساء وحرية التعبير” الذي عقد في مدينة لوفان البلجيكية.

صوب هذه المدينة الساحرة الواقعة شرق بروكسل، والتي تضم جامعة كبيرة تعتبر من أهم الجامعات في العالم، توجهتُ للمشاركة في هذا الملتقى.

كلفتني المشاركة في هذه الفعالية الاعتذار عن فعالية أدبية في بلد عربي، صادفت في التاريخ ذاته، وكنت حائرة بين قرارين: التوجه إلى بلجيكا حيث التزمت مع الجهة الداعية من قبل، والذهاب إلى مكان لا أعرف فيه أحداً من المشاركين، في ملتقى لن يكون مختصاً فقط بالأدب، حيث أتحدث باللغة الفرنسية، أو الاعتذار منهم للتوجه إلى بلد عربي، أعرف أغلب المشاركين في الفعالية الثقافية، إذ تتعلق الفعالية حصراً بالأدب، وسأتحدث فيها باللغة العربية التي أكتب فيها.

عاطفياً، كنت أميل إلى الاختيار الثاني: البلد العربي، أصدقائي وصديقاتي الكتّاب بالعربية، الحديث بالعربية مع جمهور عربي؛ حيث هذا الاختيار الآمن، المتابع لنشاطي العادي ككاتبة أذهب إلى جمهور عربي وأتحدث عن كتابتي لقرّاء أفترض أن بينهم من قرأ لي ولديه فكرة عن كتابتي، أو في أسوأ الأحوال، سيكون محاوري أو محاورتي في الندوة، قد قرأ لي. أما أخلاقياً، فقد كان عليّ الامتثال إلى الاختيار الأول، حيث سبق لي أن أعطيت موافقتي للجهة الداعية، التي برمجت مشاركتي، وأعلنت عنها في منشوراتها الورقية والمعلوماتية (في موقعها على الإنترنت ومواقع أخرى نقلت عن الموقع ذاته).

خضعت إذاً للاختيار الأخلاقي، وأنا ذاهبة بتردد وقلق، أسأل نفسي ماذا سأفعل في هذا التجمّع الشديد الاختلاط، وكيف سأنجو في التحدث فقط عن الكتابة، حامية أدبي من الدخول في كليشيهات أهرب منها طيلة حياتي، كليشيه (النسوية) الآن، الذي تحمل أغلب المشاركات لواءه، وأحمل لهن الاحترام دون شك، دون أن أقاسمهن هذا الهاجس، إلا من باب القبول والتعاطف، ولكن ليس من باب الانتماء والاستغراق في الحالة.

في البرنامج الأولي لأسماء الكتاب المدعوين، كان هناك أورهان باموك، وأصلي أردوغان، من تركيا، شيرين عبادي من إيران، وأنا الكاتبة الوحيدة من البلاد العربية، أنا السورية الكردية.

حدثت تغييرات لاحقة، ومتدرجة على فترات متتالية، على البرنامج، ولم تعد تلك الأسماء موجودة، الأمر الذي لعب بخياري العاطفي، لأعتذر في اللحظات الأخيرة، وأنا أرى موقعي، كاتبة وحيدة في ذلك التجمع، برفقة كاتبة أخرى ظهر اسمها في البرنامج الأخير قبل أسابيع من انعقاد الملتقى، كاتبة لم أسمع باسمها من قبل، قدّمها البرنامج كصاحبة كتاب: “اسمي أرييل شارون!”.

إذن أنا الكاتبة الوحيدة التي تكتب بالعربية، وهناك كاتبة معي، تكتب عن العالم العربي ولكن بالفرنسية، وتعيش في كندا.

ماذا أفعل هنا؟ كان السؤال المحيّر الذي سيطر عليّ ليلة وصولي، وأنا ألتقي بأشخاص لا تربطني بهم علاقة ثقافية مباشرة، إذ وجدتني في بهو الفندق، وتالياً على مائدة العشاء، عاجزة عن إيجاد احتكاك أو تقاطع مباشر، بيني ككاتبة من الشرق الأوسط، قادمة من منطقة الغليان والانتفاضات والثورات، مع حقوقيين وصحافيين وناشطين يحمل كل منهم، وكل منهن، خصوصية بلده.

ماذا سأفعل غداً؟ كان السؤال التالي، وأنا أتخيلني أتحدث في ندوة الافتتاح، وسط مشاركات من بلجيكا وفرنسا ونيكاراغوا.

قررت شارلين أن تبدأ معي. سأكون أول المتحدثات في هذا النهار الطويل. نظرتُ إلى الصالة المكتظة بالحضور، وأنا أسمع تقديم شارلين لي، ثم بدأت بالكلام، الذي انهمر تلقائياً، وأنا ألحظ ذلك الهدوء والإصغاء، بل وألمح المحبة في عيون الجالسات قبالتي في المقاعد الأمامية، المحجوزة للمشاركات في الفعالية.

شيء ما قفز بغتة في رأسي، وأنا أتحدث وأسمع الأسئلة، وأتفرج على الوجوه المحيطة بي: هذه الطاقة الغامضة الممزوجة بالرغبة في معرفة الآخر، والانفتاح على هذا الآخر، دون محاكمة، سببها النساء.

لست نسوية، كررت هذا رداً على سؤال شارلين ذاتها، التي التقطت لي اعترافاً في إحدى الحوارات السابقة معي، وشرحتُ لها، وللحضور، نفوري من (التصنيفات)، عارضة حكايتي، منذ الصبا، كفتاة نشأت في وسط كردي إيديولوجي، هربتْ دائماً من الأفكار الجمعية، وتذكرت ما تحدث عنه سارتر ذات يوم، دون أن أتذكر العبارة بدقة، لكنه تحدث عن خوفه من التصنيف، حتى أنه رفض جائزة نوبل، كي لا يُقرأ لاحقاً بوصفه مصنّفاً تحت خانة: الكتاب الحاصلين على نوبل.

لستُ نسوية، أقولها على الملأ، في وسط يعجّ بالنسويات. وهذه هي معركتي في الحرية، كما تابعت سردي: حرية أن تكون مستقلاً، لا تُرضي توقعات الآخر. أن يتوقع هذا الآخر مثلاً، كوني كردية أن أكون منحازة بعماء للإيديولوجيا القومية، أو كامرأة أتحدث عن الفور عن اضطهاد المجتمعات الذكورية.. أستطيع أن أفعل هذا دون شك، بإيمان وحماس: الدفاع عن الأكراد والنساء والمضطهدين في العالم، دون أن أحمل أوراق اعتماد لمؤسسات أو أحزاب أو جمعيات.. التزامي الأول والرئيسي بالكتابة، هي الإيديولوجية العميقة التي أنتسب إليها..

لم أكن قلقة وأنا أتحدث. ملامح الوجوه قبالتي توحي بالقبول والفهم وتشجعني على المزيد من الانطلاق، بحريّة.. جمهور ينتظر أن يتعرف على الآخر، دون أن يحمل معه مرجعية يطبّقها مسبقاً على أحدنا، ليحبسنا في قنوات تعبيرية ضيقة ومألوفة..

راحت كل امرأة من المشاركات، مع وجود بعض الرجال، لكن النساء هن من فعلن هذا، تربط مداخلتها، بمداخلة مشارِكة سابقة معها، وتبني على كلامها، كنوع من التفاهم التلقائي غير المبرمج، لتقوم مثلاً يارا الغضبان بمفاجأتي، وهي الكاتبة الكندية من أصل فلسطيني، مفتتحة مداخلتها في ندوتها الأخيرة، بالاستناد على أشياء قلتها أنا.. كان هناك شكل من أشكال السلسلة المتتابعة، المتناسقة، مع الاختلافات، كأنه دون قصد، كانت كل منا، تضع خرزة ما، خاصة بها، في عِقد ينتهي بتجميع خرزات من عدة ألوان.

كنا نساء أجنبيات في الأغلبية، مهاجرات، ملونات، أغلبنا يتحدث الفرنسية بلكنات متنوعة، لكنة التشيلية غير لكنة الأفريقية، غير لكنة المشرقية…

في الصور التي رحت أتفرج عليها في الختام، لم أر وجهاً يشبه الآخر، لكننا كلنا جميعاً نتقاسم المشاعر والانطباعات ذاتها: سعادة التعبير بانفتاح، فرح ممارسة الحرية، متعة الحوار والتبادل مع جمهور من الطلاب الملونين القادمين من عدة جنسيات، ونساء حضرن من مهاجر متعددة، يستمعن إلينا، حتى تلك الكردية بزيّها التقليدي الذي لم تغيّره وهي قادمة من كردستان العراق، كانت سعيدة وهي تتحدث إليّ بالكردية، وتعبر عن فرحها بهذا اللقاء.

هل سأُتهم بالنسوية إذا قلت إن نجاح ذلك الملتقى الواسع وشدة الانسجام بين جميع المتواجدات، سببه أننا نساء؟ نساء يسعين إلى تقديم أنفسهن دون أي صدام أو إلغاء للآخر! وأن النساء المندرجات من عدة انتماءات وإثنيات، حين يلتقين معاً، يسهل التفاهم بينهن، لأنهن يبحثن عن الانسجام ضمن الاختلاف، وكأن كلا منّا كانت تبحث عن ذاتها، في مرآة الأخرى.

*كاتبة سورية مقيمة في فرنسا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى