نصوص

الحفرة/ عبد الوهاب عزاوي

مقدمة لا بدّ منها

كتبت هذا النص في 6.2018 وهو من ضمن مشروع أوثق فيه كوابيسي. ومنذ فترة قريبة شاهدت فيلم The Platform والذي تمت ترجمة عنوانه خطأً إلى الحفرة أيضًا. هناك تقاطع كبير بين كابوسي وبين الفيلم ولكن مرده يعود إلى ذلك الإرث العميق بأكل البشر لحم بعضها منذ عهد الأساطير اليونانية، إلى المسيح الذي يوزع لحمه، إلى الإرث الحكائي في أكل لحم العدو أو كبده (مثلًا هند بن عتبة التي حاولت أكل كبد حمزة عم الرسول)، إلى لوحات غويا مثلًا. هناك عشرات الأمثلة في الرأس التي تتسرب في اللاوعي، ولعل أكثرها طرافة وتناقضًا هو تفسير ابن سيرين للحلم بأكل لحم البشر على أنه بشرى خير ورزق كثير. لقد ترددت كثيرًا قبل نشر النص مرة أخرى، خاصة أني أجلت ذلك قرابة عامين، خشية عرضي لفداحة الضرر في عالمي الداخلي سابقًا، وبسبب التقاطعات الكبيرة مع الفيلم حاليًا، ولكني قررت الأخذ بنصيحة صديقي المخرج رأفت الزاقوت الذي كان من القلائل الذين قرؤوا النص بعد الانتهاء منه والذي قال: “لا أعتقد أن الأفكار تحرق يا صديقي، الأمر يتوقف على أسلوب المعالجة”.

4.2020

شخصان بحدود الأربعين من العمر بثيابٍ رثة في حفرة ترابية. يبدأ المشهد بإضاءة خافتة جدًا تزداد تدريجيًا كمن يتعود على الرؤية في الظلام.

القسم الأول

يرفع الأول يديه الوسختين، يحاول أن يتسلق الجدار الترابي وهو يلهث، ملامحه توحي بقلق وفي فمه كرةٌ ما، يتوقف لثوانٍ ينظر للخلف ويهبط مرة أخرى، يتضح وجهه أكثر، في فمه عين. في الأسفل شخصٌ آخرُ مرميٌّ ويده متشنجة ومدمّاة.

الثاني (يلهث هو أيضًا): أيها السافل كنت تودّ الهرب.

الأول: لا، لم أنته منك بعد.

الثاني: لقد أخذتها أيها الحقير.

الأول: وأنت أخذت أذني أيضًا.

الثاني (فاتحًا يده): أجل أخذتها لكنها مقرفة وكلها غضاريف. أنت تلعب بقذارة.

الأول: لا، كان صراعًا عادلًا، وأنا انتصرت.

الثاني: لقد غدرتني أيها السافل وأخذت عيني.

الأول: أنت أحمق، واعتقدت أنك انتصرت فجأة.

الثاني: لم تعد المعركة متكافئة، أنا لا أقدر أن أرى بشكلٍ كافٍ، ولا بد أنك ستستغل الأمر لاحقًا.

الأول: كفاك تباكيًا. لقد فقدت عينًا واحدة. ولك أن تستسلم إن شئت.

الثاني: أستسلم! لا بد أنك تخاف انتقامي! لماذا كنت تريد الهرب؟

الأول: لم أكن أهرب! كنت أحاول الخروج للمرة الأخيرة.

الثاني: الخروج! لقد حاولتَ ذلك ألف مرة! انظر ما زالت أجزاء من ركبتك القذرة على الصخرة هناك.

الأول: لماذا تصف ركبتي بالقذرة؟ انظر لعابك يسيل دائمًا وأنت تتحدث عن القذارة.

الثاني: أن يسيل لعابي لا يعني أنك لست قذرًا.

الأول: أوف.. كلِ الآن. اهدأ وليأكل كلٌّ منّا على مهله.

الثاني: اللعنة لا تقلْ لي إن هذه الأذن ستكفي!؟ إنها مجرد غضروف بقليل من الشحم.

الأول: اعلكها جيدًا وستستمتع.

الثاني: أنت ستتلذذ بالعين أيها اللعين (يتحرك باتجاهه).

الأول: توقف. لدينا اتفاق واضح لا تكسره الآن.

الثاني: أنت من صاغ هذا الاتفاق.

الأول: وأنت وافقت عليه. لقد كان صراعًا متكافئًا.

الثاني: لا …

الأول: لا تُعِدِ النقاش من أوله أرجوك.

الثاني: لا. أريد القول إني أطالب بتعديل الاتفاق.

الأول: كيف؟

الثاني: لماذا يتوجب علينا أن نتصارع؟ لماذا لا نأخذ من بعضنا نفس العضو؟ بهذا نضمن أننا سنعيش أكثر ولن نُضطر للصراع.

الأول: الاتفاق اتفاق، لا مجال لتغييره. من الأفضل أن يموت أحدنا ليملك الآخر فرصة أطول للبقاء.

الثاني: ستطاردك الذكريات أيها اللعين إن متُّ وبقيتَ وحيدًا.

الأول: (بتهكم) لا عليك سآكلها. بكل الأحوال شكرًا لأنك أخذت أذني. تذمرك بات أقل إزعاجًا.

الثاني: سأنتزع قلبك في الجولة القادمة.

الأول: أنت دائمًا أحمق وعاطفي. لا يجب أن يموت أحدنا بسرعة. عندها سيتعفن ولن يتاح للآخر أكله على مدى طويل.

الثاني: لماذا لا نلعب طرة ونقش (مستدركًا لأنه يعلم أنهما لا يملكان عملة) أو أن يطرح أحدنا على الآخر لغزًا؟ من يفشل في الحل يصبح طعامًا للآخر.

الأول: أوف. أنت تعلم أن ذلك لن يجدي نفعًا، لن يقبل أحدنا أن يموت من أجل حزورة.

الثاني: أنت همجيّ فعلًا ولا روح لديك.

الأول: لا تبدأ فذلكتك، لا مكان للعواطف أو الثقافة في هذا الأمر. نحن نتحدث عن أكل أحدنا للآخر. لا يمكنك أن تجعل من حدثٍ بائسٍ كهذا حدثًا ثقافيًا ترفيهيًا، لا بد من تحديد القرار بناءً على القواعد القديمة.

الثاني: أنت تستمتع بالقتال. اعترفْ.

الأول: لا أقدر على إنكار ذلك. الأهم أني أحس بأني أستحق جائزتي.

الثاني: إنها عين شخصٍ آخر.. أي جائزة هذه؟!

الأول: لماذا تصف الأمر وكأني من اختار الوقوع هنا. الأمر وقع وانتهى وعلينا أن نتأقلم مع الظروف الجديدة.

الثاني: أُفضّل الموت.

الأول: حسنًا سنوقف الاتفاق إن قبلت أن تكون طعامي. حقيقةً سيكون ذلك أقل ألمًا لك. أعدك أني سأكون سريعًا قدر الإمكان إن لم تقاومني.

الثاني: لا.. أُفضّل الموت أيها الوضيع. الموت مرة واحدة وليس أن يتم تعذيبي ونهشي.

الأول: حسنًا. إذًا ما زال الاتفاق ساريًا. سأقبل بتعديل واحد إن رغبت؟

الثاني: ما هو؟

الأول: فلنتحاشَ الأعضاء التناسلية.

الثاني: (بتشفٍّ) كنت أعتقد أنك تحلم بها ولهذا تصرّ على القتال.

الأول: أرجو أن تتعامل مع الأمر بواقعية. أكله (يشير إلى عضو الثاني) مقرف فعلًا وسنتركه للمراحل الأخيرة.

الثاني: (بيأس) في النهاية ستأكله! (ثم بسخرية) هل ستلعقه أولًا؟

الأول (مستفزًا): إن لم توافق سأقتلعه في الجولة القادمة.

الثاني: حسنًا.. إن نجونا فالأفضل أن أكون ناقصًا قدمًا أو يدًا على أن أفقده.

الأول: لا يا غبي، أنا أخشى أن يعتبر من سيجدنا أننا مجرد مرضى نفسيين، أن يعجزوا عن رؤية النبل في صراعنا.

الثاني: توقف عن وصف هذه القذارة بالنبل. بكل الأحوال لن نصمد أكثر من بضعة أيام قبل أن نفقد قوانا أو عقلينا.

الأول: ليس إن انتصرتُ. (يتحدث ساهمًا بتلقائية وهدوء كأنه يحدث نفسه) هنا يوجد الندى على حواف الحفرة سيشرب كل منا من قسمه. المرء يستطيع أن يبقى أسبوعين حيًّا بدون طعام. ومع القليل من الطعام قد يبقى فترة طويلة.

(يعود مخاطبًا الثاني) اهدأ الآن وحاول أن تستعيد بعض قواك قبل أن تأتي الجولة الثانية.

صمت قصير. يمضغ فيه كل منهما ما في يده (الثاني يمضغ بقرف واضح، والأول بحيادية) ثم ينحني كل منهما ويمص الماء من حواف الحفرة.

الأول: لماذا تصرخ كثيرًا أثناء القتال؟

الثاني: ماذا تتوقع من شخصٍ اُقتلعت عينُه. لابد أنك مريض فأنت تقاتل بصمت ولؤم عتيق، وكأنك تُقطّع فروجة.

الأول: أنا أؤدي عملي بإتقان وحيادية.

الثاني: حيادية! أثناء القتال؟! لا أقدر على مجاراة هذا الجنون.

صمت قصير.

الثاني: ما الوقت الآن..؟

الأول: لا أعرف، إنه الظلام ذاته، بالكاد أميّز الحفرة.

الثاني: لماذا لا يوجد نهار هنا؟

الأول: يبدو أنها أعمق مما اعتقدنا.

الثاني: منذ متى ونحن عالقان هنا؟

الأول (بعد أن يفكر): لا أعرف بدقة، حوالي يومين!؟

الثاني: أعتقد أكثر.

الأول: ربما.

الثاني: هل وصلتَ قبلي هنا أم وجدتني عندما وصلت؟

الأول: لا أذكر شيئًا.

صمت قصير..

القسم الثاني

ظلام لفترة.

يظهر الشخصان وهما منهكان، الأول يمسك كتفه المجروح والثاني يمسك فخذه المنهوش.

الثاني: لماذا لا نحاول من جديد؟

الأول: لن يأتي أحد.

الثاني: ما الضرر في المحاولة؟

الأول: الصراخ لن يفيد إلا في المزيد من التعب وتشتيت الانتباه.

الثاني: الانتباه!! فيمَ تركز؟ في هذا القبر المفتوح؟

الأول: في الخطوة القادمة..

الثاني: في القتال نفسه!؟

الأول: إنه الخطوة الوحيدة التي أراها الآن حتى يصل أحدٌ ما.

الثاني: لقد خسرتَ قسمًا من كتفك وخسرتُ قسمًا من فخذي. سنكون بقايا بشر ولن يسعفنا شيء.

الأول: إلا إن تمكنتُ من هزيمتك ببطء.

الثاني: وإن هزمتُك؟

الأول: ستكون قد نلتَ حقك.

الثاني: ماذا لو غدرتُك؟

الأول: لن تفعل.. كلانا يقاتل بشرف.

الثاني: هذا القتال لا شرف فيه.

الأول: بلى كان بإمكاني أن أوثقك أو أن أضربك على رأسك ليغمى عليك، ولكنني أحترم فكرة الصراع الشريف، وهذه هي الطريقة التي أعبر فيها عن احترامي لإنسانيتك، أن أجعل منك ندًّا.. أنهشه.

الثاني: أتخيل أنك تعرضت للكثير من الذل فيما سبق لتكون بهذه السادية، لعل أمك حبلت من ضبع وهي تستمتع بأنيابه تغرق في لحمها الطري.. آآآه من تلك المازوخية المـتأوهة العنيفة المستلذة..

الأول (مقاطعًا بحيادية): هل تذكر أمكَ؟

الثاني (بعد تردد، وكأنه تفاجأ من رد الأول): الحقيقة لا.

الأول: ولا أنا أذكرها، لذلك لا أقدر على نفي أي شيء أو تأكيده. على كلّ قد يكون ما قلته عن أمي صحيحًا وقد ينطبق على أمك أنت أيضًا.

الثاني يعجز عن الرد..

صمت قصير

الثاني: هذه الحفرة رحم عقيم.. ونحن مجرد..

الأول: توقف عليّ أن أتغوط. امنحني قليلًا من الصمت. (يتحرك نحو أقصى الحفرة في نقطة وسط بين الشخصين). فلنتفق على تجنب هذه المنطقة في القتال، يكفينا الوحل الذي نتمرغ فيه، ولا ينقصنا غير الخراء. حقيقةً أنا أود ألا يختلط الخراء مع طعامي.

الثاني: احترم هذا الخراء ففيه لحمنا، جسدك أنت أيضًا أيها اللعين.

الأول (بنبرة انتصار): ههه أنا أخراك الآن.. أحس أن عينك تخرج من..

الثاني (بحنقٍ شديد): سيموت أحدنا الآن..

الأول (يقف مباشرة محاولًا السيطرة على انفعال الآخر): كانت مجرد مزحة، الخراء مجرد خراء وأنت أيضًا تقدر أن..

يقطع الكلام صوت يشبه الهدير المكتوم من بعيد مع أصوات قذائف.

الأول: اصمت. هل تسمع؟ إنهم ليسوا بعيدين، قد يأتون في أي لحظة.

الثاني: لن يسمعنا أحد بين أصوات المدافع.

الأول: قد يتذكرون أنهم رموا بنا هنا.

الثاني: هل تعلم من رماك هنا؟

الأول: لا أذكر شيئًا، لا بد أن أحدهم رماني هنا، لن أسقط من كابوسي هنا فجأة.

الثاني: اللعنة.. وأنا أيضًا لا أتذكر شيئًا.

الأول: الأصوات في الخارج توحي بحربٍ ما، هل نحن من نفس الفريق أم أعداء؟

الثاني: نحن نتحدث نفس اللغة، أفترض أننا من نفس الفريق.

الأول: ماذا لو كان الجيشان يتحدثان نفس اللغة، أو أنها حرب أهلية؟

الثاني: هذا لا يفيد.. في الحفرة نحن أعداء بطبيعة الحال.

الأول: يا بغل لسنا أعداء، نحن شخصان في حفرة يقدسان الحياة.

صمت.

الثاني (يصرخ فجأةً): انظر..

الأول: ماذا؟

الثاني: شيءٌ ما يتحرك عند ساقك.

الأول متحركًا بسرعة: ما هذا؟

يقترب الاثنان ويتفحصان عن قرب.

الثاني: إنها دودة.. دودة أرض (يحملها برفق).

الأول: أووف ظننت أنها عقرب أو “أم أربعة وأربعين”، إنها مجرد دودة لعينة، لكنها ستكفي كربع لقمة لكلٍ منا، دعنا نبحث قد يوجد سواها.

الثاني (محتدًّا): لن تمسّها.. أبدًا

الأول (بسخرية): هل تريد أن تربي دودًا أليفًا يأكل ما قد يتبقى منك؟

الثاني: لا يا بغل، إنها صلتنا الوحيدة مع العالم الخارجي.

الأول: أي عالمٍ خارجي؟ إنها هنا معنا في الحفرة.

الثاني: إن وُجدت دودة، فقد يأتي طائر ليأكلها، طائر من الخارج.

الأول: أي طائر مجنون سيدفن نفسه لأجل دودة! من أين سيأتي طائر ونحن لا نرى الضوء!

الثاني: لا أعرف، سيجيء كما جئنا أنا وأنت إلى هذا المكان.

الأول: توقف عن هذا الهذر. دعنا نأكلها، ستوفر نصف إصبع لكلٍ منا.

الثاني: سأموت قبل أن تأكلها.

الأول: سنأكلها أيها الغبي، أنا مضطر لأكل إنسان ولن أمتنع عن أكل دودة لأجل مشاعرٍ غبية.

الثاني: في الجولة القادمة اقضم إصبعًا إضافيًا مني واتركها.

الأول (يهجم بشراسة): سآخذها وحدي إذًا..

يبدأ صراع بين الاثنين، الثاني يحاول جاهدًا حماية الدودة، والأول يفشل في أخذها ولكنها تقع على الأرض ويبقى الاثنان في صراعٍ لأجلها، وفي لحظة خاطفة يقوم الأول بفعسها بقدمه على التراب. يتوقف الثاني عن العراك وهو ينظر للدودة بألم.

الثاني: ماذا فعلت؟

الأول: ما يجب أن أفعله، لماذا تفسد الأمر؟ أنت لا تدرك معنى أن يضطر أحدنا لأكل الآخر.

الثاني لا يرد.

الأول: أنت.. (يتوقف عن الكلام وينسحب لأقصى زاويته)

صمت طويل نسبيًا..

الأول: ماذا لو جاء شخص ثالث؟

الثاني: لأخذِنا.. أو لأخذِ أحدنا على الأقل؟

الأول: لا، أقصد شخصًا ثالثًا يبقى معنا في الحفرة.

الثاني: لم أفكر في الأمر.

الأول: لا بد أن يدخل معنا في الاتفاق.

الثاني: من سيجلب الناس إلى هنا؟ إعدامهم أسهل في الأعلى.

الأول: قد يكون عقابهم النزول هنا.

الثاني: إذًا لا فائدة من القتال.

الأول: قد يُخرجون المنتصر.

الثاني: سينتصر الجديد إذًا، نحن منهكان ومنهوشان.

الأول: ليس إن قتلناه أولًا.

الثاني: لن أقتله..

الأول: من الأفضل أن نتفق مسبقًا قبل أن نتفاجأ.

صمت قصير

الثاني: ماذا لو كان طفلًا؟

الأول (بحنقٍ): ماذا؟ لم سيرمون طفلًا هنا!؟

الثاني (بعناد ونبرة توحي بالانتصار): هل ستدخله في الاتفاق؟

الأول (بعد تردد قصير): سنعود لفكرتك الغبية حول الطرة والنقش، سنترك الحظ يقرر.

الثاني (بفرحٍ): ها أنت تعترف بأن القتال ليس السبيل الأفضل.

الأول (بشكلٍ مفاجئ وبنبرةٍ منتصرة): عندي حلٌّ أفضل، سأُطْعِمك للطفل وعندما تنتهي سنفكر في الخطوة اللاحقة.

الثاني (ضاحكًا): ما زلت مضطرًا للإجابة..

صوت المدفعية يعلو من جديد ويقطع الحوار.

صمت.

بعد فترة.

الثاني: هل هناك نساء في حياتك؟ أم كانت تربيتك العسكرية المريضة تمنعك عنهن؟

الأول: حقيقةً لا أذكر، ولكني أستطيع أن أخبرك بما أتمنى أن أكونه.

الثاني(متفاجئًا): لم أتوقع منك ردًّا كهذا! الحقيقة التي تختارها قد تكون أفضل من الحقيقة الأصل.

الأول (مقاطعًا): لا تبدأ بالفذلكة، من الأفضل أن نتوقف.

الثاني: لا أرجوك، دعنا نأخذ هدنة من هذا الجنون. هيا أخبرني.. هل تحلم بالكثير من النساء؟ ما شكلهن، صفاتهن..؟

الأول: إن أتيح لي فأنا لا أرغب إلا في امرأة واحدة، أسند رأسي على كتفها.. (صمت)

الثاني: ثم..

الأول: لا أعرف بالضبط ولكني سأحاول أن أسعدها..

الثاني: و.. ما زلت أنتظر يا رجل. كيف ستسعدها؟ هل تقصد بالجنس.

الأول: لا.. ليس بالجنس فقط، سأغرق فيها، وأبني معها ذكريات تعيش للأبد.

الثاني: بصدق، لقد ظننت بعد حديثك عن تحاشي الأعضاء الجنسية في القتال وتركها للمراحل الأخيرة، أنك إما عنين أو شاذ جنسي على اعتبار أنك تترك الأفضل للنهاية.

الأول: الجولة القادمة ستكون استثناءً، سأقتلع خصيتيك المتفذلكتين.

القسم الثالث

الشخصان نائمان. كل منهما يتكور على نفسه بوضعية غريبة يتحاشى فيها الضغط على جراحه.

يبقيان كذلك فترة قصيرة، ثم يتململ الأول ويجلس، يرفع الثاني رأسه قليلًا ثم يعود إلى وضعيته الأولى.

الأول (وهو يهرش رأسه قرب أذنه المقطوعة): هل تذكر ما كان عملك؟

الثاني: لا أذكر شيئًا. أنا مرهق وهذا التفكير يزيد تعبي.

الأول: من كثرة كلامك أفترض أنك مدرس، لا، قد تكون حلاقًا أو..

الثاني: من برودك أفترض أنك عاهرة، أو كرّ بسبب طريقتك بالرفس..

الأول: قد أنتزع لسانك في الجولة القادمة إن بقيت تواصل استفزازي.

الثاني (متراجعًا): توقف. معك حق لن نضيف السباب لهذه المهزلة، فلنفكر بهدوء فقد نتذكر شيئًا ينقذنا من هذا المكان.

الأول: لا.. لا يوجد ما يغير من هذا الواقع، إلا إن تحولّتَ إلى خلدٍ وحفرت نفقًا يخرجنا من هنا.

الثاني: لقد حاولتُ.. الأمر مستحيل. لا أعرف أي أحمق حفر هذه الحفرة.

الأول: فعلًا إنها تبدو بلا أي معنى. ليست بئرًا ولا نفقًا!

الثاني: هل كانت محاولةً للتنقيب عن النفط؟

الأول: ذلك يفسر عمقها الشديد.

الثاني: هل نحن ميتان في قبر؟

الأول: الموتى لا يشعرون بالجوع ولا يأكلون بعضهم يا أحمق.

الثاني: وما أدراك؟

الأول: يجب أن تأتي ملائكة من الأعلى إن كنّا ميتين!

الثاني: قد تكون مشغولة بالحرب في الأعلى.

الأول: الحرب في الأعلى!! إنها بين الأحياء وليست في السماء.

الثاني: لست متأكدًا، لكنْ معك حق، أعتقد أن الله لن يتسلى في الحرب في الأعلى كما يفعل في حروب البشر، لن يغامر في داخل بيته.

الأول: توقف عن الهذر فقد ترفض الملائكة القدوم بسبب هذا الهذر.

الثاني: لعله أصيب بالجنون؟!

الأول: ألن توقف هذيانك؟

الثاني: أنا أحلّل بشكلٍ عقلاني، والملائكة التي تنتظرها لم تأت عندما كنتُ صامتًا. لو أتت لكنتَ اقتلعت عين أحدها بدلًا من عيني. ثم أي سخفٍ تملكه! لو كنت مؤمنًا كيف أمكنك أن تأكل لحم إنسانٍ مثلك وهو حي؟!

يصمت الأول.

الثاني: هل نحن في كابوس!

الأول لا يرد.

صمت قصير

الأول: ماذا لو كنّا أحياءً ووصل الشخص الذي رماك هنا بعد قليل لسحبك.

الثاني (بما يشبه السخرية): سنخرج معه ثم نقيده، ولاحقًا سنلتهمه معًا.

الأول: الجوع ينهشني.

الثاني: وأنا أيضًا.

الأول: فلنأخذ استراحةً قصيرة قبل الجولة القادمة.

الترا صوت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى