مقالات

خالد النجار صاحب كتاب الأسئلة/ بشير البكر

لا يمكن أن يلتقي المرء خالد النجار من دون أن يترك لديه انطباعاً قوياً عن شخصيه المثقف بالمعنى السارتري (جان بول سارتر)، الذي يتدخل في كل ما لا يعنيه. هو الشاعر “الداندي” وفق بودلير، الأنيق بلا إفراط، بهندمة باريسية واضحة حتى حين يرتدي الملابس الشعبية التونسية، عندما يحلو له أن يتمدد في منزله في منطقة الملاسين الشعبية في قلب تونس القديمة، وهو لا يفعل ذلك دائماً. ورغم أن خالد لا ينحدر من أرومة ارستقراطية، إلا أن سلوكه يعكس لمسة رفيعة لأحد أحفاد الباشاوات، أو أبناء الطبقة الميسورة سكان الدائرة الخامسة في باريس، حيث تعيش العائلات ذات الدم الأزرق والماضي الكولينالي، لكن أبناءها أصابتهم لوثة اليسار الجديد، فنزلوا إلى الشوارع في أيار/مايو 1968 يهتفون ضد محرر فرنسا من النازية الجنرال شارل ديغول وهم يرفعون شعارات مثل “ممنوع المنع”، و”اركضوا يا أصدقائي.. العالم القديم ورائي”، “إن لم تعطني حريتي فسأتولى الأمر بنفسي”، و”كن واقعياً واطلب المستحيل”.

وإذا كان طلبة باريس ثاروا وجرّوا وراءهم المثقفين والصحافة، ووضعوا ديغول هدفاً حتى أسقطوه من رئاسة الجمهورية الخامسة التي أسسها العام 1958 وما تزال قائمة حتى اليوم كطور سياسي، فإن أول رئيس جمهورية في تونس بعد الاستقلال عن فرنسا العام 1956، المحامي خريج جامعة السوربون الحبيب بورقيبه، يشكل بالنسبة لخالد النجار تحريفاً في مسار الوطنية التونسية، لأن بورقيبة لم يأخذ تونس في طريق الاستقلال عن فرنسا على أساس أهداف الحركة الوطنية التونسية، بل التف عليها، وقاد البلد بعيداً من العروبة نحو الفرانكوفونية تحت بدعة الاستقلال الداخلي الذي قدمته حكومة بيار منداس فرانس، ومن هنا خلافه الشهير مع صالح بن يوسف منافسه الرئيسي في الحزب الحر الدستوري، والعروبي الذي اتجه نحو دعاة القومية العربية، وبنى علاقات مع جمال عبد الناصر. إلا أن مشروعه انتهى في المهد وتعرض للاغتيال في المانيا في العام 1961. ولا أعني هنا أن خالد يتبنى رواية بن يوسف، لكنه منحاز إلى تونس أخرى غير التي بناها بورقيبة ضمن محددات ومعايير فرانكوفونية، بدءاً من “مجلة الأحوال الشخصية” التي صدرت بعد حوالى أربعة أشهر من الاستقلال، وأعطت المرأة التونسية حقوقاً متقدمة على نظيراتها في العالم العربي.

خالد النجار مثقف بالمعنى القاموسي للكلمة، أي أنه درس واجتهد في مطالعة وفهم واستيعاب مرجعيات الحداثة في الثقافتين العربية والفرنسية، لكنه زاد على ذلك أنه يقف على أرضية ثقافية تراثية متينة. يعرف فكر التنوير الأوروبي الذي يُعدّ أصل الحداثة، ودرس تاريخ العرب وثقافتهم. هضم التراث العربي القديم، كما لو أنه سيعمل مدرساً في جامع الزيتونة الذي لا يبعد عن بيته أكثر من كيلومتر عند منطقة باب بحر التي يحلو لخالد أن يتجول فيها في المساءات الصيفية العامرة برائحة مشموم الفل، حين تمتلئ المقاهي الرصيفية بالتوانسة بملابسهم التقليدية التي تحيلنا بأناقتها وتصميمها إلى آخر عهد هذا البلد بالامبراطورية العثمانية التي تركت لمسات قوية في تفاصيل حياة التونسيين حتى يومنا هذا، وهم ليسوا بعيدين منها. ولعل خير الدين باشا التونسي صاحب كتاب “أقوام المسالك في معرفة الممالك”، أحد الرموز الاصلاحية التي شكلت جسراً قوياً لتونس نحو الفكر الإصلاحي، وكان خالد قد درس سيرة هذا الفتى القوقازي وكان يستعيدها على سبيل الشوق الى القراءة السليمة للتراث والحداثة والتنوير الأوروبي من باب الشرق، ومثاله في هذا رفاعة الطهطاوي وكتابه الأثير “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، وفي الزمن ذاته يذهب نحو أحمد فارس الشدياق وكتابه “الساق على الساق” وأمين الريحاني وكتابيه “ملوك العرب” و”المغرب الأقصى”.

خالد النجار غربي بمعايير الحداثة، لكنه عربي بعواطف ومفاهيم الانتماء، ولذلك لم يترك بلداً عربيا على علاقة بتاريخ العرب القديم والحديث، إلا وزاره وبنى صداقات وثيقة مع مثفقيه، وحين تعرفت على خالد في بيروت العام 1981 فقد كان يجلس على طاولة المفكر اللبناني منح الصلح والمعارض السوري سامي الجندي في مقهى الاكسبرس في الحمرا، وكان قادماً من دمشق وهو في طريقه إلى باريس، وأدهشتني معرفته ببيروت في ذلك الوقت، وبالمثقفين العرب من المحيط الى الخليج، وكذلك بعض السياسيين، وأدهشني خالد بتعدد معارفه ليس في بيروت فقط، وإنما في باريس والمغرب والجزائر وتونس طبعاً. صحيح أنه كان أحد صحافيي “مجلة المستقبل” التي صدرت في باريس، لكنه أيضاً كان مثقفاً على دراية بما يُكتب ويُنشر، ولديه مكتبة في بيته التونسي تعد من أغنى المكتبات العربية في الوقت الذي تضم أمهات الكتب الفرنسية. وبقدر ما يتمتع خالد بقدرة على نسج العلاقات، فإنه يمتلك موهبة التواصل وتطوير العلاقة، ويساعده في ذلك حبه للسفر وفضوله المعرفي الشديد، وهو من نوع البشر الذين لا يستطيعون المكوث طويلاً في مكان واحد، بل هو من أولئك الكتاب المصابين بعدوى الرحيل الدائم، والسفر الذي يحمل وراءه وعداً بسفر جديد.

وما جعل من هذا الكاتب قادراً على مد جسور العلاقات بعيداً، أنه كاتب نص جميل، وأول ما عرفه الناس شاعراً بديوانه الجميل والوحيد، ومن ثم عمله في مجلة المستقبل الباريسية التي نشر فيها تحقيقات من نيويورك مع ادوارد سعيد وهشام شرابي الذي كان صديقه الأثير، وكان يرافقه في رحلات الى باريس وبيروت وأصيله، وكنت كلما قابلت هشام شرابي أجد خالد برفقته في باريس. ويلخص خالد تجربته مع شرابي: “أحببته كاتباً ومعلماً وإنساناً. هشام ابن فلسطين، والذي كان له تأثير حاسم في رؤيتي للمجتمع العربي. هشام شرابي أزال الكثير من الأساطير التي صحبتني وتلك النظرة المثالية لثقافة عصر النهضة العربية. كانت له رؤية نقدية زلزلت كل المسلّمات. صحبته أياماً في جامعة جورج تاون”.

أصدر خالد ديواناً واحداً عن دار رياض الريس بعنوان “قصائد لأجل الملاك الضائع”، وحمل قصيدة بعنوان “بيضاء” اشتهرت كثيراً، وأجمل ما فيه رثاؤه لابنته (أسماء) التي فقدها قبل أن تكمل عامها الأول “لا أمشط لأسماء/ ولا مرايا/ لا نوفمبر لها/ ولا تبكي في منتصف الليل/ ينابيع اللوتس/ ليس لها صورة فيل على ورقة/ لا دمى/ لا سمكة في فجرها/ ولا سلطان زنجبار”. ورغم أن خالد مُقلّ شعرياً (أنا أكتب أقل مما أقرأ، وأنشر أقل مما أكتب) إلا أنه يطل بين الحين والآخر بنص يدل على شاعر على قرب شديد من الشعر، وهو الذي يسجل له أقرانه ومجايلون في تونس أنه عرّفهم على الشعر الحديث وشعرائه الكبار مثل سان جون بيرس ووليام بتلر ييتس، وتي.آس.إليوت، وإزرا باوند، وكافافيس، وآخرين، وربطهم بمنابر الحداثة في المشرق العربي مثل مجلتي “شعر” و”مواقف”. ومارس خالد مهنة نشر الشعر فأنشا دار نشر سمّاها “التوباد”، ونشر فيها كراسات شعرية عديدة باللغتين العربية والفرنسية، لشعراء راحلين وأحياء مثل سان جون بيرس، ايتيل عدنان، لوران غاسبار، ميشال بيتور، وهنري ميللر.

وترك خالد تأثيراً كبيراً في مجايليه لأنه كان علمانياً وتراثياً في الوقت ذاته، يعرف فكر التنوير الأوروبي كما يعرف عبد العزيز الثعالبي ومحمد الطاهر بن عاشور والتوحيدي والجاحظ وطه حسين ومحمد المسعدي صاحب رواية “حدث أبو هريرة قال”. ويشهد كتّاب تونسيون باتوا على قدر كبير من الشهرة، أن خالد النجار كان بوصلة الحداثة بالنسبة إليهم. وكان للمجلة التي أنشأها تحت عنوان “كتاب الأسئلة” دوراً هاماً في كسر احتكار النشر، ومساندة الكتّاب الهامشيين والمقموعين.

وحين أفكر بهذا الكاتب يحلو لي أن أصنفه غربياً لكنه عربي وبربري. حداثي لكنه كلاسيكي، شاعر عابر للبلدان والثقافات. عاش في ظل كرم الثقافات وعرف كيف يسافر ويرحل بينها من غير تكلف أو عقد، ولذلك عاشر ورافق وتعرف وحاور كتّاباً كبار في كل اللغات، أدونيس، لوران غاسبار، ادوارد سعيد، محمود درويش، سيغريد كاهل. تعرف إلى مدن وحواضر ثقافية مثل باريس التي لها الفضل الكبير في تكوين شخصية هذا الشاعر الذي جاء من حي الملاسين التونسي الشعبي، لكن كعبه كان عالياً منذ أن اعتلى اولى درجات المعرفة. وهو يعترف بأنه ابن مدينتين ثقافيتين كبريين، الأولى عربية هي القاهرة (المكان الذي تمت فيه مغامرة الثقافة والفكر العربيين الحديثة، منذ أيام محمد علي)، والثانية هي باريس (مغامرة الكتب، القراءة والصعلكة في الشوارع التي لا تنتهي وفي النصوص الحديثة).

وحين تلتقي خالد النجار يتوقف عليك وحدك أن تحبه أو تختلف معه وتدير ظهرك وتذهب في اتجاه آخر، او حتى تشعر بالرفض تجاه هذا الشخص الذي يبدو نزقاً على الدوام، ولا يتوقف عن التحريض وتوجيه الكلام النابي لكل الذين يتحكمون بالمشهد السياسي والثقافي التونسي. لكنك ستكتشف في يوم آخر أن السحنة الغاضبة التي ظهرت لك ذات لقاء لم تكن سوى طفرة مزاج عابر، وأنك أمام رجل يتحلى بكل ما يملك المرء من صفات المثقف العميق، المتقشف، الذي أمضى حياته وهو يفتش عن المعنى. وفي بلاده تعرض للتهميش والاعتداءات، وتمت فبركة قضايا ضده في المحاكم، في حين أنه بات يعيش بعيداً.

خالد مثقف رحالة يعيش الآن في آخر محطاته أمستردام، وبالنسبة إليه هناك تلازم اضطرادي بين السفر ومعرفة الذات. “أنت بقدر ما تسافر تكتشف الأنا، أناك، هويتك. أتذكر باستمرار مقولة الشاعر الألماني غوته، إذ يقول: من لا يعرف سوى لغته لا يعرف لغته”.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى