ثقافة وفكر

فريد بوشي: إدوارد سعيد إنسية المنفي/ ترجمة: عبد المنعم الشنتوف

كان نيتشه قد كتب مرة بأنه قد ضمّن كتاباته كل حياته وشخصيته، بل إنه تساءل أيضا عما تعنيه مشاكل أو قضايا ثقافية محضة.

وتنطبق مقولة الفيلسوف الألماني بشكل دقيق على شخصية إدوارد سعيد؛ إذ أن كل أعمال الكاتب الأمريكي تشي بحضور المكون الشخصي. كان مبدع الاستشراق يحس دوما بأنه غريب في السياق الذي كان يتطور داخله. كان يقيم في الحقيقة في مصر بدون أن يكون مصريا، وكان عربيا بدون أن يكون مسلما، ومسيحيا بروتستانتي المذهب. ومن ثم هذا الشعور القوي بالمنفى الذي سرعان ما سوف يتحول إلى تجربة إنسانية وثقافية. ولأنه رجل مهموم بحوار وتقاطع الثقافات، فإنه لم يوظف إطلاقًا كلمة المنفى بغاية الإفصاح عن الشجن والأسى. أفرز الخوف من ضياع الأنا والجماعة الوطنية في العديد من الأقطار الأوروبية، انكفاء على الذات والهوية. وتبدو تمثيلات العربي والمسلم بمثابة العلة الجديدة لكل مشاعر القلق والخوف، بما يستدعيه ذلك من طوفان المسبقات العنصرية، التي تؤجج الخوف من الإسلام.

يضحى والحالة هذه، من الضروري التزام مسافة نقدية بغية المساءلة العميقة لهذه التمثيلات النمطية الجاهزة، التي أسهم الأدب، وصناعة الصورة في الغرب في تسويقها. ينبغي أن لا ننسى بأننا مخترقون بتواريخ استعمارية، تجد مجتمعاتنا عسرًا في أخذها بعين الاعتبار بشكل جدي.

إدوارد سعيد والقضية ما بعد الاستعمارية

كان مصطلح ما بعد الاستعمار الأنكلوسكسوني يحيل في بداية السبعينيات من

القرن الفارط إلى بعد تاريخي وليس أيديولوجيا. ولم يكن يفصح عن أي مطمح سياسي. أما الحديث عن عمل أو كاتب ما بعد استعماري، فيعني بالضرورة الإشارة إلى فترة أو لحظة تاريخية، ولا تؤشر إلى مشروع أو سياسة. وبعد انصرام عشر سنوات شهد المصطلح تحويرا دلاليًا إجرائيًا. سوف يصبح مصطلح ما بعد استعماري دالًا على نمط من البحث يبلوره باحثون جامعيون، ينحدرون من بلدان مستعمرة سابقًا، ويحاضرون في بلدان أنكلوساكسونية مثل، إنكلترا أو الولايات المتحدة أو استراليا أو كندا. ولأنه يتجاوز الحدود الفاصلة بين الأشكال والممارسات الأدبية، فإن النقد ما بعد الاستعماري يفكك الأشكال والتمثيلات الرمزية، التي تشكل أساس المشروع الاستعماري.

في كتابه المثير «الاستشراق» الذي يعتبر الكتاب المؤسس للتيار ما بعد الاستعماري يصف إدوارد سعيد الطريقة التي استند إليها العلماء والكتاب منذ القرن الثامن عشر، بغية بناء صورة شرق أسطوري ومعتم وغامض، أو بتعبير أدق شرق نقيض للعقل المتنور لعصر الأنوار، وهو ما يشكل ذريعة لتبرير المشروع الاستعماري. وبالنسبة لأستاذ الأدب المقارن، فإن الاستشراق يتيح فرصا أوفر لتبين قوة وهيمنة القوى الأوروبية والأطلسية على الشرق، أكثر من أي خطاب حقيقي بصدده. يفكك إدوارد سعيد سلطة التضليل، التي تمارسها اللغة الاستعمارية، وتحديدًا في نقطة التقاء البلاغة والأيديولوجيا. وعليه، فإن ما كان يحدث في خصوص الإنسية الأوروبية كان يجري تلقيه في المستعمرات في صيغة خطاب ولغة تحكمهما الازدواجية، وتشويه الحقيقة.

يسائل الكاتب المنجزات المعرفية الأكاديمية، التي بلورها الغرب في خصوص باقي أنحاء العالم. ويشدد في هذا السياق على بعدها الأيديولوجي، ويرى في الاستشراق منبع المسبقات السلبية الأمريكية المناهضة للعرب، ويمكننا أن نضيف إليهم الآن الأوروبيين. و يستدعي ذلك مصادرة الغيرية، بوصفها خارج الزمن، سواء خارج التاريخ أو سيرورة التطور، واحتجازها داخل أفق أصلي سابق على الحضارة، وفقا للتعريف الغربي. يتيح اشتغال إدوارد سعيد أسس وقواعد البحث ما بعد الاستعماري، ويوفر لنا مفاتيح للمساءلة العميقة لأنماط المتخيل وأشكال التمثيل التي تتخللنا.

ويحثنا إدوارد سعيد على صم آذاننا عن النظريات التي تدعو إلى صدام الحضارات والثقافات. وهو ينتقد هذا المنطق الذي يقابل بين نحن والآخر، الذي يؤدي دوما إلى إفقار وتقليص مساحة الرؤية ولا يتيح في المقابل أي تنوير أو تطوير للفهم.

إذا نحن انتبهنا إلى ماضينا وعاينا ما كان يفعله الغرب في الوقت الذي كان منهمكا فيه في دراسة الشرق، فإننا نستنتج حقيقة تاريخية عصية على الإنكار، وتتمثل في التوسع الاستعماري والهيمنة. ويبين إدوارد سعيد في هذا السياق أن الاستشراق أبدع موضوعا خاضعا لغايات سياسية واقتصادية. وتتحدد أطروحته الرئيسة في أن الشرق لا يوجد إلا بوصفه تخييلًا جرى إبداعه من لدن الغربيين. ذلك أن كلمات من قبيل «العربي» أو «المسلم» تنسحب على تنويع كبير جدا من الأحداث والوقائع المتفرقة والمتباعدة في الزمان والمكان، بشكل يستعصي معه توظيفها بطريقة خصبة. والمجتمعات التي توصف بأنها شرقية، لم توجد إطلاقًا بشكل معزول. ويبدو من المستحيل والحالة هذه أن نستخلص منها ماهية خالصة. كل ثقافة هي بالضرورة هجينة. لا يمتح مفهوم الشرق من تعميم للوقائع والأحداث في هذا الجزء من العالم، وإنما من حاجة استشعرها الأوروبيون كي يجسدوا خارجهم هذا الآخر (تودوروف).

يتموقع كتاب «الاستشراق» والشأن نفسه في أعمال الكاتب الأخرى، في نقطة التقاء البحث الجامعي والمقاومة السياسية. يتعلق الأمر إذن باستشراف بعد سياسي داخلي ينبغي وضعه داخل سياقه التاريخي والاجتماعي، خلافًا لما عمدت إليه المقاربات الشكلانية. وسوف نعثر على هذا الانشغال في كتاب الثقافة والإمبريالية .ويجهد الباحث نفسه كي يبرز تأثير هذا المتخيل الإمبريالي الجديد على الثقافة الغربية برمتها، وانبثاق توتر أو صراع ذي مظهر تعارضي، وقراءات محلية للنصوص الغربية، التي تمهد لصيرورة نزع المظهر الاستعماري.

هكذا تمكن إدوارد سعيد مبكرًا من أن يزاوج بين الخطين الناظمين لوجوده، بدراسته للخطاب الغربي في خصوص الشرق. سيكون في مقدورنا مع كتاب «الاستشراق» أن نخوض إشكالية تمثيل الثقافة للآخر، والعلاقة بين المعرفة والسلطة. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، كان الجانب الجغرافي جهة الشرق وفق مسار متخيل يقع تقريبا بين اليونان وتركيا. وكانت هذه التسمية التي صنعت في أوروبا منذ قرون عديدة تؤشر إلى ذهنية خاصة، وعلى جماع سمات خاصة ثقافية وسياسية وعرقية أيضا. كنا نتحدث والحالة هذه عن طاغوت شرقي أو شهوانية شرقية. كان الشرق يمثل بالنسبة لأوروبا عمومية عصية على التحديد، وذات ارتباط ليس فقط بالاختلاف والغيرية، وإنما بالمساحات الكبيرة والحشود التي يستعصي التمييز بينها، والملونة على وجه التخصيص علاوة على الحسن والملاحة، وغرابة أطوار السكان، وغموض وسحر عجائب الشرق. وسرعان ما سوف يعقب الافتتان بسحر وحسن الشرق، السؤال الذي مؤداه ما الذي سوف نفعله بهذا الشرق؟ في سياق التنافس في البداية بين القوى الاستعمارية الأوروبية الكبرى، ولاحقًا مع الشعوب المستعمرة التي كانت تكافح من أجل استقلالها. تحول الشرق من مجرد فضاء خارجي إلى حيز خاضع بقوة للتقسيم، يستوجب انتباها واهمية شديدين.

منطق الخوف

رفض إدوارد سعيد فكرة أن يكون كتاب الاستشراق دفاعا عن الإسلام، ذلك أن قراءة من هذا القبيل سوف تسهم في حذف نصف الحجج التي اعتمدها. وما يبدو بالنسبة للغرب باعتباره انبعاثا أو عودة للإسلام، يطابق في الحقيقة الصراع داخل المجتمعات الإسلامية من أجل تحديد وتعريف الإسلام. ذلك أنه ليس في مقدور أي شخصية أو مؤسسة أو سيادة، أن تمارس تأثيرا أو رقابة كلية على هذا التعريف.

يشير إدوارد سعيد في كتابه «الثقافة والديمقراطية» إلى أشكال التعليق الظالمة التي طالت العالم الإسلامي بعد التفجيرات الإرهابية الانتحارية في 11 سبتمبر/أيلول 2001. وقد أفلحت هذه التعليقات في إقناع الحكمة الشعبية، بأن الاسلام بطبيعته دين عنيف وغير متسامح وذو نزوع واضح صوب التعصب الأعمى والإرهاب الانتحاري. وقد ردد الكثير من الخبراء هذه الوقاحات، يسندهم في ذلك مستشرقون فاقدون للأهلية من عيار برنارد لويس، الذي ابتدع مفهوم صدام الحضارات. وانطلاقًا من هذا الحدث التاريخي الرهيب كان التشديد الأساس في الولايات المتحدة من لدن الرئيس الحاكم آنذاك على «الخير» الأمريكي» في مقابل «الشر» الإسلامي والعربي. نلفي ذواتنا حيال افتراضين مغلوطين متمازجين. يتمثل الافتراض الأول في أن حضارة الإسلام تتعارض بعمق مع حضارة الغرب، وهو يتأسس على الافتراض السمج والاختزالي المتمثل في صراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون. أما الافتراض الثاني فيتمثل في الفكرة العبثية التي مؤداها أن البحث في التاريخ السياسي في إطار البحث عن تعريف لمفهـــوم الاٍرهاب يعادل تبريره. وفي مقابل طروحـــات صدام الحضارات، وبعض القوالب النمطية السمجة، يشدد إدوارد سعيد على التقدم الذي حققته النظرية، التي تفهم الثقافات بوصفها هجينة ومتمازجة بالضرورة.

وكما يبين ذلك في الثقافة والإمبريالية، فإن الثقافات والحضارات متداخلة ومترابطة إلى درجة تستعصي معها على أي تحديد أحادي، أو محصور بكل بساطة لفردانيتها. يعتبر المجتمع والثقافة محصلة يسمها التعدد والتنوع لشعوب متعددة ومتمازجة. ويستحيل والحالة هذه أن نصف الولايات المتحدة الأمريكية، شأنها في ذلك شان البلدان الأخرى، إلا بوصفها جدارية من الأعراق والثقافات المختلفة، التي تتقاسم تاريخا مثيرا للجدل من الغزو والإبادة، وأيضا التقدم العظيم على الصعيدين الثقافي والسياسي.

مساءلة تمثيلاتنا للآخر

في مواجهة صعوبة العيش المشترك والانغلاق على الهوية، اللتين تصيبان أنظمتنا الديمقراطية بالعفونة، يفرض التعدد الثقافي نفسه. ويطرح انشغال من هذا القبيل الاشتغال على انفتاح أكبر على الآخر، وتجاوز تمثيلاتنا المغلوطة. ويدعونا ذلك أيضا إلى أن نلتزم بمسافة مع الظروف والسياقات التي تؤطرنا، لكن كيف نتيح بلورة وتطوير تفكير نقدي من هذا القبيل في عصر مدموغ بالصور التبسيطية والقوالب النمطية الاختزالية؟ وقد طرح على إدوارد سعيد ذات يوم سؤال يهم الإشكالية الرئيسة للتفكير النقدي، فكان جوابه أن المشكلة تبدو صعبة؛ ذلك لأننا نحيا داخل سياق تهيمن عليه الصور، التي تقوم بتسويقها وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت. وتخضع المعلومات بالتالي، وأكثر من أي وقت مضى، لعملية تكييف تجعلها أكثر إثارة وجذبًا، وأسهل من حيث الاستيعاب والتلقي.. نحن إذن أمام سيرورة متواصلة تتطلب قدرة لا نهائية على التساؤل والاكتشاف والتحدي.

كان سعيد يعتقد وبشدة في الوعي الفردي الذي ينوء راهنا تحت وطأة هجوم كميات عظيمة من المعلومات المنظمة والمكيفة. نلفي ذواتنا في الغالب نهبا لصور تصل إلينا عبر الأخبار، ومنتجات الاستهلاك والأسفار، وتستدعي إعجابنا وتقودنا في نهاية المطاف إلى اقتنائها. ولعل هذا هو تفسير السوق الاقتصادي الليبرالي الجديد، الذي فرضته العولمة على العالم والذي لا يترك أي هامش للتحدي أو التساؤل الفردي، فيما منظمات مهمة من قبيل الحكومات والتكتلات، تواصل سياسات تكون في ظروف خاصة جدًا عمياء بشكل افتراضي، وذات عواقب كارثية جسيمة على البيئة، وتتيح لمجموعات اقتصادية قوية فرصة أن تجني أرباحا طائلة، بمعزل عن أي متابعة قانونية. لا يمكن للإنسية الحقيقية، التي نحن في مسيس الحاجة إليها في وقتنا الراهن، أن تختزل المواطن في مجرد الدفاع عن عظمة ثقافته أو لغته أو آثار بلاده.

تتجلى الإنسية التي يتحتم على النقيض من ذلك تشجيعها فـــي الانشغال بالفهم وإعادة التأويل والاصطدام بلغـــات وتواريخ أخرى.. وهي تشجع أيضا على مقاومة الأفكار الجاهزة وتقدم نفسها للمواطن، باعتبارها وسيلة تروم المساءلة وخلخلة وإعادة صياغة كل ما يحيط بنا، بما في ذلك أمهات الكتب والآثار الأدبية الكلاسيكية.

صورة المنفي

تجد الإنسية الجذرية لإدوارد سعيد، وانشغاله برصد المواقع أو الفضاءات المشتركة، وأيضاً الأفكار الجاهزة أساسها، في تأمل حول المنفى. وفي الحقيقة فإن التعاطي والاقتراب من العالم بوصفه بلادا غريبة، يفسح المجال أمام طريقة ذات أصالة في النظر إليه. يتعلق الأمر أيضا بتعريف المثقف بوصفه منفيا وهامشيا وهاويًا، وتحديدًا صاحب لغة تبذل قصارى جهدها في أن تواجه السلطة بصدق. تتوفر غالبية الناس على وعي بثقافة وبيئة وبلاد. ولكن المنفيين في المقابل يعرفون ثقافتين على الأقل. والحال أن تجربة من هذا القبيل تحقق لهم الوعي بوجود أبعاد متزامنة. وبالنسبة للمنفي فإن عادات الحياة اليومية وأنماط التعبير والنشاط داخل بيئة جديدة تصطدم لا محالة بذكريات لها تعلق بالعادات وأنماط الحركة ذاتها في بيئة أخرى. ويفصح الفضاءان القديم والجديد عن واقعيتهما وتاثيرهما، ويتأسسان من ثم في حال طباق.

يسعــفنا المنـــفي الذي يعيش بين عالمين، والذي يفكر بطريقة طباقية، في بلورة تفكير نقدي خصب وكـــوني مشرع ومفتوح على مساءلة البداهات. يتعــلق الأمر في النهاية أيضا بأن نعير الانتباه لصنف آخر من السلطة، ومن هذا القبيل المساءلة النقدية الدائمة للقوالب النمطية التلقائية والجاهزة. ثمة بداهة اشتغال للسلطة داخل جوقة موسيقية، أو المدرسة أو الجامعة يكون مصدره الأستاذ والمعلم، ويتوخى أحيانا فرض نظام معين على التلامذة والطلبة. والحال أن إحدى المسائل التي كان إدوارد سعيد يمحضها اهتمامًا خاصًا في سياق مشروعه، التي تكثف هذه الميول نحو الهيمنة في سياق بعض الحدود تتمثل في المعرفة.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى