مقالات

كيف يستلهم الأدباء والكتاب عناوين أعمالهم -تجربة كتاب عرب-

هل يستلهم الأدباء والكتاب عناوين أعمالهم من بين ثنايا السطور والنصوص التي ينجزونها؟ أم ليس ضروريا أن تأتي حرفيا من اخل النص الإبداعي؟ وهل يبدؤون بالعنوان أم يختمون به؟ وهل يقبل الأديب والكاتب أن يضع الناشر عنوانا لكتابه؟

وبما أن العنوان هو عتبة النص فهل يمكن أن يوجد نص بلا عتبة، وكتاب بلا عنوان؟ أم أن ذلك متعذر؟

وأمام عناوين لكتب ونصوص منجزة لآخرين، هل حدث أن تمنى أديب ما لو أن هذا العنوان أو ذاك من إبداعه؟ ثم ما العناوين الأولى التي أثارت دهشة الكتاب العرب ولامست وترا في أرواحهم؟ وما الفرق بين عنونة الشعر (كمثال) وعنونة أصناف أدبية وكتابية أخرى كالرواية والسيرة والقصة واليوميات والنقد والبحث والترجمة والفنون والعلوم، إلخ..؟

وهل فكرة التناص في العنونة مقبولة أم أن العنوان إذا وُضع يصير ملكية فكرية لكاتبه؟

الجزيرة نت تفتح هذه الزاوية الجديدة “رحلتي مع العنوان” التي يتحدث فيها أدباء وكتّاب عرب عن حكاياتهم مع “العنوان” ورحلتهم معه كتابة وتلقيا، وهي محاولة لإفادة القارئ ببعض أسرار الكتابة.

رحلة الشاعر المغربي صلاح بوسريف مع العنوان: أختلف جذريا مع نازك الملائكة وأدهشني “يُغَيِّر ألوانه البحر

الشاعر والناقد والأكاديمي المغربي صلاح بوسريف، الذي أثرى المكتبة العربية بما يقرب من 15 كتابا في الشعر ونقده، فإلى شهادته مباشرة.

العناوين تختارنا

لا أعتقد أن كاتبا أو شاعرا يملك يقينا مطلقا في اختيار عناوين كتبه، ربما العناوين هي من تختارنا. ثمة صُدف عجيبة في كثير من الحالات تأخذنا إلى عناوين محددة، لكن هذا لا ينفي أن العنوان له علاقة كبيرة بالعمل، وهو مبثوث في طيات هذا العمل نفسه، ينتظر اللحظة التي يُسْفِرُ فيها عن نفسه، يخرج من صمته ليصبح هو ما يُشير إلى الكتاب أو العمل الشِّعْرِي.

كما لا يعني هذا أنني لا أتدخَّل في عناويني، لأن للعناوين خطرا كبيرا على العمل، كثيرة هي الكتب التي أفسدت عناوينها تلقيها، نفَّرت القارئ منها، أو لم تشُده إليها. فالعنوان هو عتبة العمل، وهو ما يمكن أن يأخذنا إلى دهاليز هذا العمل، حتى ونحن لم نقرأه بعد.

شخصيا، عناوين أعمالي الشِّعْرِية هي عناوين دقيقة محسوبة، ولها دلالاتها في طيات العمل نفسه. لم أنْسَق إلى عنوان دون اقتناعي به، وتدخل ذائقتي فيه، وله علاقة بالعمل، بل بجوهر العمل. وما أعنيه بالصدفة، هو تلك اللَّمْعَة التي تطفو في لحظة ما على السطح تدعونا إلى ضوئها، إلى ما فيها من سِرّ ومن شعر، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالشِّعْر، ليس من الهَيّن أن نضع عناوين دون وعي شرطها الشِّعْريّ الجماليّ، وما تحمله من إشارات ورموز ودلالات. فاختياري لهذه العناوين هو اختيار شعْريّ بأفق فني جمالي مأخوذ من رؤيتي للعمل، ومن تصوري لبنائه، وما يحتمله من دوالّ، وللصدفة بالمعنى الذي أشرتُ إليه دورها في هذا الاختيار، لكنه ليس حاسما.

في كتابه “يا هذا، تكلم لأراك” يتتبع بوسريف مسيرة التصوف عبر رحلة بين بلخ الأفغانية إلى قونيا في تركيا (الجزيرة)

انعكاس للتجربة

حين تتأمَّل عناوين أعمالي الشعرية، ستجدها ذات وتيرة واحدة، أعني أنها تعكس طبيعة الاختيار الشعرِي الذي أعمل عليه، وطبيعة تجربتي التي هي تجربة تخرج عن العام والمألوف، وهي تجربة حداثة الكتابة التي تميل إلى النَّفَس الملحمي في البناء والتصور والدَّوالّ، في مقابل الغنائية والشفاهة، وهما من البنيات التقليدية القديمة التي لا تزال تهيمن على الشِّعر المعاصر، حتى عند من يدّعون الانتماء إلى الحداثة أو التنظير لها، فالذات أو الأنا لا تزال هي من يتكلم، وينوب عن الجميع في الكلام، ولا دور لأحد آخر في العمل، وكأن الصوت موجود داخل غرفة مغلقة لا يتردد فيها إلا صداه.

العناوين إذن هي أفق وطريق، وهي ما يأخذنا إلى طبيعة التجربة، وإحساس الشاعر نفسه. كثيرة هي العناوين التي تكشف ذوق ورؤية صاحبها، وحين تفتح الكتاب تتأكد من حدسك أو إحساسك هذا، لما في الكتابة ذاتها من اضطراب وارتباك، وغياب للحس الشعرِي الجمالي.

الشعر ليس عنوانا، الشعر نصّ وعمل، وهو بناء واشتغال على هذا البناء، فالمعماري لا يبدأ رسمه المعماري من عتبة البيت، بل من التصور العام للفضاء، كيف سيستثمره وكيف سيوزع فيه الغرف والممرات والشرفات، وغيرها من الفضاءات والأمكنة، والعتبة تولد من داخل هذا المعمار ذاته ولا تأتي من خارجه.

حين نضع العنوان في الشعر قبل النصّ والعمل، فنحن نكون كمن تصور الكل من الجزء، أو حكم على الكل من خلال الجزء، وهذا إسقاط ونوع من التصوُّر الذي يشي بالبناء المختل. في الدراسات من الممكن أن نقترح العناوين التي تكون تصورات، وقد تخضع لبعض التعديل أثناء البحث والكتابة، لا شيء ثابت وقار. في الشِّعر، الأمر يحتاج إلى أن نتعقَّب العنوان في ثنيات العمل ذاته، متى سيُسْفِر عن نفسه، ويظهر بتلك الدهشة التي يحملها معه، ويأخذنا إليها.

الناشر وعنونة الشعر

ما شأن الناشر بالعنوان؟! في الدراسات، كثيرا ما تدخّل الناشر في أعمال رأى أن عناوينها تجاريا لن تشد القارئ، وقد باح دارسون وكُتَّاب بهذا التدخل، منهم من يرفضه ومنهم من يخضع له. شخصيا لم يحدث لي هذا، بل عناويني تكون مبنية، حتى في كتاباتي النظرية، على مشروعي الشعري والنظري، ولا أضعها صدفة.

في الشعر هذا لا يمكن، إطلاقا، أن يتدخل الناشر في العنوان الشعري، أعتبر هذا بمثابة اعتداء على حدودي الترابية، لأن أغلب الناشرين أولا لا يقبلون نشر الشعر، وثانيا هم لا يملكون أي معرفة بالشعر، ولا بسياقاته الجمالية والمعرفية، فكيف أسمح للناشر أن يضع لي عنوان كتاب عملت فيه لسنوات، وبأفق هو لا علم له به، وبتجربة تخصُّني، ولا علاقة له بها، خصوصا الناشر الحانق على الشعر والشعراء؟!

العناوين المؤثرة هي العناوين الدالّة والمعبرة، وهي العناوين التي تصدر عن شُعراء لهم تجربة، وهي تجربة متميزة وخاصة، ومُفارِقَة لما هو سائد ومُتداوَل. ولعلَّ بين أهم هذه العناوين، على سبيل التمثيل لا الحصر “أنشودة المطر” لبدر شاكر السياب، و”يُغيِّر ألوانه البحر” لنازك الملائكة، و”مفرد بصيغة الجمع” لأدونيس، و”فرشات سوداء” لعبد الله زريقة، وبعض عناوين سليم بركات، وغيرها من العناوين التي كانت بالفعل نابعة من العمل ذاته، وليست تلفيقا، خصوصا العناوين المُفارِقة والمُقلِقة، والتي تخلق ارتباكا عند القارئ.

وكما أشرتُ قبل قليل، فالعناوين في الشعر خاصة، تأتي من داخل العمل نفسه، لا سابقة عليه، وهي عناوين ترتبط بالعمل ذاته. قد يخرج العنوان من النص بالحرف، وقد يكون مرتبطا بالمعنى، أو بالتصور، لذلك فالعناوين ليس سهلا وضعها من خارج العمل، لأنها في هذه الحالة ستكون نوعا من اللَّصْق الاعتباطي لا غير، وهي عناوين لن تصمد في الذاكرة والوعي الشعرِي الجماليّ.

تخيل كتابا بلا عنوان

تخيَّل معي كتابا بدون عنوان، سيكون مثيرا بالتأكيد. فكَّرتُ مرارا في فعل هذا، وما زالت الفكرة موجودة، وقد أنجزها في أي وقت، لكن المشكلة توجد في الناشر وفي الإعلام، وفي القارئ نفسه كيف سيتلقى عملا بدون عنوان. الأصل في الشعر العربي أن الشاعر لم يكن يضع عناوين لقصائده، العناوين التي تراها على دواوين القدماء، وضعها من حققوا أعمالهم وليس الشّعراء. لاحِظ كيف أن غياب العنوان يُرْبِك القارئ، وربما يكون مثل بيت بدون عنوان، الرسائل لن تصل إليه، وسيبقى مجهولا كأن لا ساكن فيه.

قد تعجبني بعض العناوين، وأتمنى لو كنت أنا من اقترحْتُها، لكنني لم أفكر في أن تكون عناوين لأعمالي، لأنني حين أقرأ تجربة الشاعر أجدها تجري خارج ما أكتبه، لذلك فالعنوان يبقى لحظة تَمثُّل مدهشة بالنسبة لي، لكنه هو عنوان ذلك العمل الشعري، وليس ما أفكر في كتابته، أو ما كتبتُه وسأكتبُه.

وعلى الرغم من أنني أختلف جذريا مع تجربة وتصوُّر نازك الملائكة، فعنوانها “يُغَيِّر ألوانه البحر”، كان بين العناوين التي أثارت عندي دهشة خاصة، لأن البحر حين أصبح جزءا من سكني وحياتي اليومية، رأيته بهذا المعنى وأنا أتأمله في الفصول المختلفة، لا في فصل الصيف فقط. كما أن عنصر الصيرورة والتحوُّل في عمق العنوان، وفي دلالته، وهذا ما تعكسه تجربة هذا الديوان في المسار الشعري لنازك الملائكة نفسها، قياسا بما كتبته من قبل، وهو ما سأعيه لاحقا، وليس في اللحظة التي أثارني فيها العنوان، وشدَّني إلى غناه وشعريته.

كما تختلف الحقول والتُّرْبات، تختلف الزهور والورود والثمار التي تنبت فيها، وهو الأمر نفسه في الأجناس والأنواع الكتابية المختلفة، فهي حقول، لكل حقل ما يميزه عن غيره. عناوين الشعر تكون في طبيعتها غامضة مثل الشعر، لما يتَّسِم به الشعر من كثافة وعمق، بعكس الرواية والسيرة والدراسة مثلا. وقد أشرتُ قبل قليل إلى أن العناوين في الدراسات والأبحاث هي جزء من خُطاطة العمل التي تكون مسبقة، وهذا قد نجده في الرواية، وقد يتشكَّل عنوان الرواية لاحقا.

أنا لا أعرف كيف يتعامل الروائي مع عناوينه، لأنني لا أكتب الرواية، لكن رواية “اسم الوردة” لأمبرتو إيكو، خلق عنوانها نقاشات كثيرة، في البحث عن العلاقة بين العنوان ومضمون الرواية، أو الموضوع الذي تذهب إليه، وهو موضوع يرتبط بضياع واختفاء الجزء الثاني من كتاب “الشِّعْرِيَّة” لأرسطو، الجزء الذي قال إنه سيخصصه للكوميديا، لكنه لم يظهر ولا أثر له. أين الوردة هنا، كيف يمكن تسويغ العنوان في علاقته بالنص؟

هذا ما يجعل العناوين ذات خطر، ولها دور كبير في نجاح أو فشل العمل ذاته، لأن من يُخْفِق في عنوان من كلمة أو جملة، كيف يمكن أن يُصيب في نص من عشرات الصفحات؟!

——————————-

أغلفة النهار والليل والبحث عن لؤلؤة.. رحلة الشاعر العماني زاهر الغافري مع العنوان/ صدام أبو مازن

الشاعر العماني المقيم في السويد زاهر الغافري الذي أثرى المكتبة العربية بأكثر من 12 مجموعة شعرية، وترجمت بعض أعماله إلى الإسبانية والإنجليزية والألمانية والسويدية والفارسية والهندية والصينية.. فإلى تجربته مباشرة.

إذا اعتبرنا أن العناوين هي أغلفة النهار والليل فليس بالضرورة أن يكون العنوان الشعري من بين ثنايا النصوص، فأنا أكتب نصا ثم في النهاية أضع العنوان، وبالنسبة لكتبي الشعرية حاولت مبكرا أن أضع عناوين مستبعدا أي رائحة من الأيديولوجيا، مهما كانت هذه الأيديولوجيا.

أكتب بحرية كاملة وبذاكرة بيضاء إن جاز التعبير، ففي مجموعتي الأولى كان العنوان “أظلاف بيضاء” حتى آخر أعمالي “العابر بلا كلمة”، وسأذكر أمثلة على بعض مجموعاتي فيما يتعلق بالعناوين، بعضها نعم مأخوذ من ثنايا سطر أو من مناخ النصوص كلها، مثل “الصمت يأتي للاعتراف”، “عزلة تفيض عن الليل”، “أزهار في بئر”، “المجموعات الخمس”، “حياة واحدة.. سلالم كثيرة”، “غيوم فوق جسر أبريل”، “في كل أرض بئر تحلم بالحديقة”، ثم إن العنوان رفيق للنصوص، هيئة من يدل على عصب ما تكتبه، لذلك أحيانا يجد الكاتب صعوبة في اختيار هذا أو ذاك من العناوين.

قلق الكاتب

يقول الصحفي الإيطالي إيتالو كالفينو إن الروائي الفرنسي مارسيل بروست كان يعي مجيء عصر التقنية المعاصرة عندما كتب “البحث عن الزمن الضائع”، فليس هذا العمل جزءا من لون الأزمنة، بل هو عصب في شكل العمل نفسه، وبالتالي ينبثق من منطقه الداخلي، من قلق الكاتب والرغبة القصوى في اختبار ما يمكن كتابته في نطاق الحياة الوجيزة التي تستهلكه.

بالطبع، لا أقبل أن يضع الناشر عنوانا لعمل من أعمالي إذا كنت ما زلت حيا، لأن العنوان عندما يضعه الشاعر بنفسه فإنه جزء من عصبه وروحه وأنفاسه.

والعنوان قد يكون مثل الماركة المسجلة، وهناك دراسات نقدية حديثة تذهب إلى اعتبار العنوان المدخل الأول للنصوص، لكن هناك شعراء لا يضعون العنوان في قصائدهم كما يفعل أحيانا الشاعر الفلسطيني زكريا محمد، القصيدة هي التي بعنوانها، نص شعري يبدأ بكلمة أو كلمتين أو جملة، فيصبح العنوان ملتصقا بالنص الشعري، وهذا الأمر يحتاج إلى الذكاء أيضا، أي أنه ليس أمرا اعتباطيا، نعم العنوان هو عتبة النص بالنسبة للقارئ، إنه إشارة للدخول إلى النصوص، وهو أمر يهتم به الناقد أيضا.

مدينة الشعر

هناك عناوين لكتب شعرية أحببتها، مثلا عنوان كتاب الشاعر الصديق وديع سعادة “ليس للمساء إخوة” أو عنوان كتاب الصديق الشاعر الراحل سركون بولص “الوصول إلى مدينة أين”، وكلاهما من المجاميع الأولى في تجربتهما الشعرية.

ومثل هذه العناوين تمتلك جمالية آسرة وتشد القارئ، وإذا كنت تبحث عن مدينة أين لا بد لك من الترحال والسفر الدائم والتأمل في الأمكنة وفي خطواتك، ومع ذلك قد لا تستدل عليها لأن مدينة أين قد تكون الشعر نفسه، فأنت ببساطة تبحث عن الشعر في الأمكنة التي تزورها خطواتك، وهكذا تصبح مثل جاسون الإغريقي في بحثه عن الجزة الذهبية، وجاسون لم يجد الجزة الذهبية إلا بعد صراع مرير ومغامرات كبرى قد تستغرق الحياة بأكملها، فحتى أفلاطون عندما كان يفكر بالمدينة الفاضلة كان يفكر فيها شعريا.

البحث عن لؤلؤة

من بين العناوين التي اصطدمت بها في بداية حياتي وأعجبني هو عنوان “من يفرك الصدأ” للشاعر العراقي حسين مردان (1927- 1973)، فخذ مثلا هذا العنوان، المعروف أن الصدأ يفرك في أواني المطبخ، والمفردة “صدأ” بالعراقية هي “الزنجار”، لكن العنوان يحيل إلى فرك اللغة من تراكمات ثقيلة عليها، والشاعر يبحث عن اللمعة، عن تلك اللؤلؤة التي يبحث عنها.

جوهر الموضوع

العناوين الأخرى تأتي من خلال المواضيع التي تم تناولها، فالنقد مثلا غير القصة أو الرواية أو الفنون أو حتى العلوم، هناك آليات في اختيار العناوين، فرواية كافكا “الامتساخ” أو “المسخ” وفق بعض الترجمات العربية، يظهر العنوان في إطار العمل الروائي، فجريجوري سامسا (تاجر مسافر وأهم شخصيات الرواية) يستيقظ وقد تحول فجأة إلى صرصار، أي تحول إلى كائن آخر، لكنه يملك حسا بشريا.

متشابهات

فكرة التناص في العناوين هي فكرة المتشابهات، فهناك عناوين تكاد تكون متشابهة، فحتى عنوان نجيب محفوظ “حب تحت المطر” يوجد مثله في أعمال كتاب آخرين، كما أنه موجود أيضا في أفلام السينما، وهنا لا نتحدث عن ملكية فكرية، بل عن مقاربات متشابهة في العناوين، بعيدا عن محتوى النصوص.

——————————

رحلة الروائي اليمني وجدي الأهدل مع العناوين: أستخدم التناص والتضاد وأبهرتني “قصة مدينتين” لديكنز

الروائي والقاص اليمني وجدي الأهدل، الذي أثرى المكتبة العربية بـ5 روايات و7 مجاميع قصصية ومسرحية وكتابين في السيناريو، وتُرجمت 3 من رواياته إلى الإنجليزية والروسية والفرنسية والإيطالية.

لمسة أخيرة

هناك ارتباط وثيق بين الكتاب وعنوانه، وغالبًا يكون العنوان خلاصة نهائية لمغزى الكتاب. لا أحبذ أن آخذ العنوان بصورة حرفية من أحد السطور، لأن هذا يبدو بالنسبة لي دليلًا على كسل المخيلة. مثلًا في إحدى رواياتي أعجبتني هذه الجملة التي وردت على لسان البطل “بلاد المؤامرات الصغيرة”، لكنني فكرتُ أنها مناسبة للسياق الذي قيلت فيه، ولا تصلح عنوانا للعمل كاملا، فوقع اختياري على عنوان مقارب “أرض المؤامرات السعيدة”، وهو عنوان يشير إلى الاسم القديم لليمن “العربية السعيدة”، ويحمل أبعادًا أوسع بكثير.

وفي جميع أعمالي كان العنوان اللمسة الأخيرة. قد أبدأ بعنوان مؤقت، ولكن بعد إتمام العمل أضع خيارات عديدة لعنوان العمل، وأعمل بحثًا في موقع جوجل، وأعتمد أحدها بعد التأكد من أنه غير مسبوق.

الناشر والترجمة

أقبل اقتراحات الناشر بكل سرور، ومنها اختياره عنوان العمل، ولكن هذا لم يحدث معي في الطبعات العربية من كتبي، ولكنه حدث في النسخ المترجمة، فمثلًا رواية “بلاد بلا سماء”، اقترح البروفيسور وليم هتشينز -الذي ترجم الرواية إلى الإنجليزية- اختيار عنوان مختلف للرواية (A Land without Jasmine)، وكانت حجته مقنعة؛ فبطلة الرواية في النص العربي اسمها “سماء”، ولكنه في النص المترجم إلى الإنجليزية قام بترجمة إبداعية، وسمَّى بطلة الرواية “ياسمين”، وهو اسم شائع في البلدان التي تتحدث الإنجليزية، وهكذا يكون قد تخلص من الترجمة الحرفية، وتصرف بذكاء، وأوصل مغزى العنوان للقارئ باللغة الإنجليزية.

ويحدث هذا كثيرًا، مثل عنوان رواية ماريو فارغاس يوسا “من قتل بالومينو موليرو؟” فهو فاتن جدًا، ويقودنا إلى قراءة الرواية بحثًا عن الإجابة. ورواية أخرى لها عنوان بصيغة سؤال هي “لمن تقرع الأجراس؟” لإرنست همنغواي. عناوين روايات نجيب محفوظ الدالة على معلم جغرافي محدد مثل “زقاق المدق” و”خان الخليلي” والثلاثية “بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية” هي علامات مسجلة، ولا يمكن لأحد الاقتراب منها. أحد العناوين التي أحبها كثيرًا خماسية “مدن الملح” لعبد الرحمن منيف، هذا عنوان عبقري يختزل أحوال الأمة العربية في كلمتين.

“قصة مدينتين”

أما العنوان الأول الذي اصطدمت به في مشوار البدايات ولامس وترًا في روحي، فهو عنوان رواية “قصة مدينتين” لتشارلز ديكنز. أتذكر أنني انبهرت بشدة بهذا العنوان، لقد أوحى لي بعوالم عجيبة، وفتح بوابة من بوابات الخيال في ذهني، كأن أحدهم نطق بجملة “افتح يا سمسم” التي تفتح باب المغارة المليئة بالكنوز.

أما الفرق بين أن تعنون رواية أو أن تعنون كتابًا في صنف أدبي وكتابي آخر كالشعر، والسيرة، والقصة، واليوميات، والنقد، والبحث، والترجمة، والفنون، والعلوم؛ ففي تقديري أن أيّ عنوان ينبغي أن يكون مرتبطًا بمضمون الكتاب. وفي حالة كان الكتاب مجموعة مقالات نقدية -مثلًا- فإن العنوان لا بد أن يكون رصينًا وخاليًا من الخفة والتلاعب بالألفاظ. وبالنسبة للرواية فثمة مجال للظرافة والتلاعب بالألفاظ والإيحاء بمعان متعددة.

على سبيل المثال، اخترتُ عنوانًا ظريفًا لروايتي الثانية “حمار بين الأغاني”، واستخدم أصدقائي هذا العنوان الظريف لتبادل الشتائم، وحدث مرة نزاع بين اثنين من أصدقائي فقال أحدهما للآخر “أنت حمار بين الأغاني”، فرد عليه الآخر بسرعة بديهة “وأنت بغل بين الطبول”.

عنوان روايتي الرابعة “بلاد بلا سماء” فيه تلاعب بالألفاظ، فمن لم يقرأ الرواية سيظن إذا مر عليه عنوانها أن المقصود بـ”سماء” السماء التي فوق رؤوسنا، ولكن القارئ الذي أنهى قراءة الرواية سيدرك أن المقصود هو “سماء” بطلة الرواية التي اختفت في ظروف غامضة ولم يعثر عليها مطلقًا.

في روايته البوليسية “حمار بين الأغاني” يمزج وجدي الأهدل بين الحوارات العامية واللغة الفصيحة (الجزيرة)

بين المفارقة والتضاد

كذلك استخدمتُ أسلوب المفارقة والتضاد في عنونة روايتي الأولى “قوارب جبلية”، ومعلوم أن القوارب محلها البحار، وقد أردتُ منذ البداية إيقاع القارئ في البلبلة، منذ العتبة الأولى للنص؛ وهذه حيلة فنية تستخدم بكثرة في الشعر الحديث.

عنوان روايتي الثالثة “فيلسوف الكرنتينة” لم يكن موفقًا، وأشعر الآن بالامتعاض لأنني استجبتُ لرغبة الناشر نبيل عبادي -صاحب مركز عبادي للدراسات والنشر بصنعاء- في التخلي عن العنوان الأول الذي اخترته للرواية، لتخوفه من الرقابة، وكان العنوان الأول الذي عنونتُ به تلك الرواية هو “سيف الله في مانهاتن”.

وبشأن “فكرة التناص في العنونة”، بصراحة لم أقم بشيء من هذا القبيل في عنونة كتبي، ولكن هذا لا يعني أن فكرة التناص في العنونة غير مقبولة، بل إنني أجد هذا النوع من العناوين جذابًا جدًّا، مثل عنوان رواية عبد الله عباس الإرياني “الحب في زمن الكلاشينكوف”، وهو عنوان جميل جدًّا، ويحمل تناصًّا مع عنوان رواية “الحب في زمن الكوليرا” للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز.

——————————-

انتقال عدوى وثريا تسطع على النص.. رحلة الشاعر والناقد العراقي حاتم الصكر مع العنوان

الشاعر والناقد والأكاديمي العراقي المقيم في الولايات المتحدة حاتم الصكَر، الذي أثرى المكتبة العربية بأربع مجموعات شعرية و20 كتابا نقديا، في وقت يتواصل فيه مشروعه النقدي لا سيما ما يتعلق بنقد قصيدة النثر العربية والتنظير لها، وله أيضا مقاربات في السيرة الذاتية وتنويعاتها ونصوصها العربية، فإلى شهادته مباشرة.

ثريا تسطع على النص

في الأمثولة الشعبية المتداولة “الجواب أو المكتوب يبين من عنوانه”، أي بما خُطّ على غلاف الرسالة. ذلك درس متقدم في أهمية العنونة بوصفها جزءًا من موجّهات القراءة، وإعلانًا عن هوية الخطاب المتحكم فيها. فالمثل ينبه إلى الهيئة الخطيّة التي كُتب بها العنوان، وما تعكس من حالة مرسل الرسالة وما تخبّئ في داخلها من دلالات.

الرسالة والحالة هذه ممكنة القراءة بإجمال، أو باستباق النظر إلى عنوانها وهو غلاف هنا، لكنه يخبئ سرّ الرسالة ذاتها.

ليس لمولد العنوان موعد أو زمن. إنه الثريا التي تسطع على النص فتضيء مسالكه، وترشد إلى دلالاته ومراميه ومزاياه الفنية. أحيانا يولد أثناء ولادة العمل، وأحيانًا يسبقه كما يهيئ الأزواج المتعجلون ذريتهم بالتسمية. لكن تلك العملية تخضع حتما لعمل آليات لاشعورية تتحسس ما سيكون عليه العمل. لا أتحدث هنا عن حذلقات مصطنعة للإبهار -وهو من وظائف العنوان في دراسة موجهات القراءة وعتبات النص- فهي إلصاقية تستعير دون تدقيق في جماليات العنوان الممكنة.

وقد يكون تقليدًا لعمل أو تضمينًا لاسم قصد التثاقف والإعلان عن صلة متوهمة أو مفترضة بذلك المصدر الاسمي. في البال الآن عناوين فاقعة تضاف فيها الأشياء إلى مشاهير أجانب غالبًا.

لا أظن أن التسمية في الدراسات النقدية خاصة تسبق الكتابة، إلا إذا أراد الكاتب استخدام تسمية مباشرة تُفصح عن “موضوع” الكتاب. وإذ يطول التفكير بالعمل -أيًا كان جنسه- قبل الإنجاز، ويصبح للتسمية نصيب في خطة العمل وخطواتها وبنائها.

وقد يمارس الناشرون دور القابلة فيسمحون لأنفسهم بتغيير العناوين، يحدث هذا غالبًا في الصحافة الثقافية لا في الكتب. ويرى بعض ناشري الكتب أن من حقهم التدخل في العناوين لأغراض تجارية تسويقية أو تهربًا من سياط الرقابة وأعين الرقباء، وهم مجهضو النصوص إذا رضينا بوالدة للنص وقابلة له.

وديًا قد يتدخل الناشر الصديق، وقد كان أسلافنا الرواة والمحققون أكثر أريحية. فهم يتركون كتبهم غالبًا لا سيما ما تعلق بتحقيق ديوان أو روايةَ أخبارٍ بلا عنوان سوى الإسناد للشاعر. وتغلَّب أبو العلاء المعري ببصيرته المضافة بالاهتداء إلى دلالات أعماله وما يعبر عن محتواها ببلاغة. كما في عنونة ديوانه “سِقط الزَّند” الذي يضم قصائده الأولى التي لم يكن قد ترسخت فيها تمامًا رؤيته التشاؤمية اللاحقة، فأراد من قارئه أن يعامل القصائد وكأنها الشرر المتطاير من الزند قبل أن تشتعل النار، في حين يقدم عنوان ديوانه اللاحق “لزوم ما لا يلزم” رؤية فنية مشاكسة تفصح عن مضمونها بوصف العمل بأنه قائم على لزوم أشياء لا تلزم الشعراء، لكن المعري تقَيد بها توافقًا مع محابسه وسجونه التي وجد نفسه فيها، فالتزم بما لا يلزم سواه من التقفية التي تعدّت الحرف الأخير إلى عدة حروف.

مفارقات

الكتب التي لا تُعَنون تدعو للتأمل، فهي غالبًا ما تركها مؤلفوها كمحاضرات -ومحاورات أو خطاطات غير مكتملة-. والمفارقة أن ثمة كتبًا بلا مؤلفين على عظمتها مثل “ألف ليلة وليلة” و”رسائل إخوان الصفا”. في حين هناك مؤلفون بلا كتب (سقراط أشهرهم). ولكن الكتاب بلا عنوان مفارقة نادرة. أذكر هنا أن أبا اللسانيات الحديثة كما يعرف في العالم وهو فرديناند دي سوسير لم يؤلف كتابًا، بل هي محاضرات في علم اللغة جمعها طلابه ونشروها من بعد. لذا وافق عنوانها حقيقة تأليفها “علم اللغة العام”.

في النصوص التي تنشر اليوم كقصائد قصيرة جدًا أو شذرات وومضات وما ينشر في وسائط التواصل، يستغني عن عنونتها بعض الشعراء لأن هيئتها كمرسلات عبر الوسيط تكفي للتعريف بها. وهو نادر الحدوث وفي طريقه ليصبح موضة أيضًا أو مقترحًا لتجديد البنى النصية.

ولا يكون الأمر تناصًا، بل اتباعًا وتقليدًا. ومن ذلك شيوع العناوين التي تبدأ بـ”كتاب” مضافًا إلى اسم أو موضوع. وسادت “الكتب” في الشعر خاصة.

انتقال عدوى

وقد حصلت عدوى في نقد الشعر، فعنون النقاد كتبهم بعناوين تم ترحيلها من الخطاب الشعري، وقد يحصل التباس في بعض الحالات. فلم أفهم حتى اليوم المقصود بعنوان كتاب نقدي ممتاز بعنوان مثل “شجر الغابة الحجري” إلا بتأويل عدوى الشعر المدروس في الكتاب.

يقوم المتلقون أحيانًا بدور الناشر والقابلة. فيضعون للكتاب اسمًا يطغى على مسماه كما أراده مؤلفه. حصل هذا في كتاب ابن خلدون في التاريخ بعنوانه المطول المسجوع “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”. لم يحظ الكتاب باهتمام كبير، بل اقتصر أمر شهرته وانتشاره على مقدمته حتى صارت تؤخذ منفصلة وتعرف بالمقدمة.

وقد أجريت تجربة مع طلابي في الجامعة لاختبار ذاكرتهم في العناوين. فكان أكثر من نصفهم لا يتذكر عنوان كتاب ابن خلدون الذي تحدثنا عنه في المحاضرات، وقرأنا نصًا منه وحللناه.

في المقابل تذكر أغلبهم عنوان السياب “أنشودة المطر” لخفته واختصاره ولما فيه من شاعرية تجمع الأنشودة والمطر بالإضافة.

مجازفة بلاغية

الباحثة زهراء خالد في كتابها “عنونة الكتب النقدية عند حاتم الصكر.. دراسة تحليلية” (عمّان 2017، وهو في الأصل رسالة ماجستير نوقشت في جامعة الموصل) تذهب إلى أن عناوين كتبي النقدية من النوع الفني، معللة ذلك بالخلفية الشعرية.

والحق أن العنونة عندي مجازفة بلاغية إلا أنها تابعة لاعتقادي بأن النقدَ أدبٌ أولًا، وأن جماليات العنوان التي نبحث عنها في النص الشعري أو السردي هي ذاتها التي تتشكل في النص النقدي بتوسيع معنى النص. شخصيا غالبًا ما أزاوج بين الإيحاء بالمقصود أو رؤية الدراسة، والاستباق الصياغي للمحتوى والاتجاه المضموني في المادة النقدية.

وذلك جعلني أضع عناوين ثانوية تحت العنوان الرئيسي، ربما لشعور مني بأن العنوان الملغز لا يخدم المقاربة النقدية بما أنها حوار مع النصوص المنقودة.

“الأصابع في موقد الشعر”

كان أول كتبي النقدية “الأصابع في موقد الشعر.. مقدمات مقترحة لقراءة القصيدة” (بغداد 1984)، يلخص رؤيتي لعملية القراءة النقدية للشعر. فشبّهتها في استعارة بلاغية بمدِّ الأصابع في موقد نار، فالأصابع هي الرؤية النقدية، والموقد هو ما تخفي القصيدة في طيّاتها، حيث تكمن في متنها المعروض للقراءة. وكما أن الموقد ربما يحرق أصابع مستخدمه خلال توغله فيه، كذلك يمكن لقراءة القصيدة أن تجلب العناء لقارئها بما تكتنز في طياتها من دلالات.

ولشعوري بالحاجة لإيضاح المقصود أضفت العنوان الجانبي، واصفًا عملي بأنه “مقدمات مقترَحة لقراءة القصيدة” اعتقادًا بأن ما نقدم من قراءات لا تُلزم سوانا، وأنها مقترحات معروضة للتحقق والتصديق والجدل، وإعلان مبكر أن القراءة هي الوصف المناسب لعمل الناقد أثناء تحليل النص، واستخلاص مزاياه وصلته بالنوع الشعري، وإضافاته أو تعديلاته الممكنة عليه.

وفي كتاب لاحق اخترت “ترويض النص” عنوانًا رئيسيا، لأني كنت مفتونًا برأي الناقد البريطاني تيري إيجلتون حول مهمة الناقد التي تشبه عمل المروّض الذي يعلم أن ما يروضه أقوى منه، لكنه يجب ألّا يدعه يدرك ذلك، بل يبتكر طرقًا لاستيعاب قوته واحتوائها. واحتاج عقد القراءة أو ميثاقها أن أضع عنوانًا ثانويا هو “دراسة للتحليل النصي في النقد المعاصر- إجراءات ومنهجيات”.. فكأن العناوين الثانوية أثمانٌ ندفعها عن انصياعنا للرغبة في التمثيل المجازي البليغ، وتأكيد أدبية النقد.

وقد تضاعف استخدامي للدلالات الإيحائية في العنونة حين نشرت كتابي عن قصيدة النثر “حُلم الفراشة”، وهو بحاجة لتفسير لا يمسك بفحواه إلا من يقرأ مقدمة الكتاب، فأضفت العنوان الجانبي تحته “الإيقاع الداخلي والخصائص النصية في قصيدة النثر” ليزيل غموض العنوان الذي عنيت به أن قصيدة النثر لم تعد في وعي كتابها تتميز بين كونها نثرًا أصبح شعراً أم شعرًا غدا نثرًا، في تناص مع الأسطورة الصينية التي تتحدث عن فتاة حلمت بأنها فراشة، ثم تماهت مع حلمها، فلم تعد تعرف حين استيقظت إن كانت فتاة حلمت بأنها فراشة أم فراشة حلمت بأنها فتاة.

“الثمرة المحرّمة”

وخلال عملي في اليمن، وصلتني إصدارات من زملاء عراقيين تناولتها نقديًا، ثم جمعت الدراسات في كتيب وأسميتها “بريد بغداد”، لأفاجأ بعد صدوره بأن ثمة عملا مترجمًا إلى العربية بهذا العنوان لم أطّلِع عليه. كانت دلالة العنوان إيحائية تربطني بكتّاب بلدي، وتبين أن تلك الرابطة تحولت إلى بريد يشدني بمحتواه.

وقد يعلن عنواني عن قناعاتي الاجتماعية كتسميتي لواحد من أواخر إصداراتي “الثمرة المحرمة”، وهو عن قصيدة النثر أيضًا. عبّرت فيه بمجازفة استعارية عن اعتقادي بأن قصيدة النثر ظلت الثمرة المحرمة في شجرة الشعر. وكان لا بد من عنوان جانبي يوضح المحتوى لأن جماليات العنوان يجب ألا تتسلل إلى محو موضوعه الذي يعد الإعلان عنه حقًا من حقوق القارئ، بموجب عقد أو ميثاق القراءة بين المتلقي والمؤلف. لذا أضفت عنوانا جانبيا هو “مقدمات نظرية وتطبيقات في قصيدة النثر”.

وظل العنوان موجهًا في الكتابة، ووسيلة تحليل وتأويل وتذوق جمالي في القراءة، وسيلة لا يجدي في تبريرها القول: لكل مخلوق من اسمه نصيب. فقد تبعد الرمية عن المرمى وتتغرب المسميات.

الجزيرة

————————————

تعويذة الأبواب الموصدة.. رحلة الشاعر والمترجم العراقي عبد الهادي سعدون مع العنوان

قال عبد الهادي سعدون الشاعر والروائي والمترجم العراقي المقيم في إسبانيا إن العديد من عناوين كتبه الشعرية والروائية جاء من جملة أو من سطر من داخل الكتاب أو عن فكرة الكتاب نفسه.

لكنه كشف (في شهادته) للجزيرة نت، متحدثًا عن علاقته بالعنوان ورحلته معه كتابة وتلقيا، أن أغلب عناوين كتبه ولدت حتى قبل أن تولد النصوص “ما إن يعجبني العنوان وما أن أفكر بموضوعة معينة حتى أجده الأجدر بهذا الكتاب دون غيره. ولكن لأكن صادقًا هنا، أحيانًا أغير مفردة من العنوان أو أضيف أخرى حتى يستقيم العنوان بما أراه مناسبًا حقًا للكتاب. ثم هناك عناوين لكتب ولدت من لحظة كتابة أول نص فيه، ومن النادر أن أغيره فيما بعد، وكأنه لصيق به ومن صلبه ولا يجب التفريط فيه إطلاقًا”.

تعويذة الأبواب الموصدة

وفي مسيرته مع الكتابة والعنونة، تحدث سعدون عما أسماه “تعويذة الأبواب الموصدة”، وهنا يقول: عادة ما أفكر بالعنوان لفترة وأكتب على ورقة في دفتر أو ملف في الحاسوب. ومن ثم تبدأ العملية الأشق، وهي كتابة الكتاب.

واستطرد “الغريب في الأمر أنني ما إن فكرت بعنوان لكتاب سواء كان شعريا أو نثريا حتى أجدني متمسك به ولا أحيد عنه وكأنه الدافع الحقيقي لأن أنجز محتوى الكتاب. العنوان عندي بمثابة تعويذة لفتح الأبواب الموصدة أمام نصي القادم”.

العتبة أولًا

ويعتقد سعدون أنه من الصعب أن يبدأ أحدهم في كتاب دون أن يخطو خطوة العتبة، لكن من الممكن أن يكون الكاتب ممن يفكر بأكثر من عنوان موازٍ للنص، والحيرة تكمن في أيها أفضل للكتاب، والعديد من الكتاب مروا بهذه الحيرة.

ومع ذلك، فالعتبة لا بد من المرور بها حتى لو كانت عبر عنوان مؤقت سرعان ما يتغير قليلًا أو كثيرًا حسب تطور الكتاب ووضوح هدفه في النهاية فـ “في حالتي أستطيع القول إن العتبة مهمة جدًا لي قبل أن أمضي في فتح بقية الأبواب”.

ترجم سعدون أشعارا فلسفية للأديب الإسباني أنطونيو ماتشادو إلى العربية (الجزيرة)

“بطل من هذا الزمان”

وإلى ذلك، يقول سعدون إنه ما زال حتى الآن مأخوذًا بجماليات وفرادة عناوين كتب عربية وأجنبية قرأها قبل عقود من الزمن “لكنني ما زلت حتى اليوم أتمعن بعنوان الأديب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس لروايته الكبرى (الفارس النبيل دون كيخوته دي لا مانشا) ولا أجد فكاكًا من العنوان حتى آخر صفحة فيها بعبقريته وفرادته وتجديديته.

وأضاف: عنوان آخر لنص روائي أعيد قراءته كل عام، وكم تمنيت لو كنت كاتبه هو (بطل من هذا الزمان) لـ ليرمونتوف (أديب روسي رومانتيكي).

ويستذكر، في سياق حديثه للجزيرة نت، عناوين اصطدم بها في مشوار بداياته ولامست وترًا في روحه، كاشفًا في هذا السياق أنه حاول بمراهقة كتابية أولى أن يكتب على منوالها في المتن والعنوان، مثل “مئة عام من العزلة” أو “زبد الحياة” أو “كتاب الرمل” أو “النخلة والجيران” أو “البحث عن وليد مسعود” وعناوين أخرى.

ويعترف أيضًا بقوله “بقي منها بعض التأثيرات البسيطة التي تركت أثرها في قصص مجموعتي الأولى (اليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر) قبل أن أتخلص منها في الكتب الأخرى التالية”.

ملكية شخصية

وأكد سعدون أنه لا يقبل أن يضع الناشر عنوانا لكتابه، معتبرًا العنوان والمحتوى من ممتلكاته الشخصية فـ “لا أقبل إطلاقًا أن يضع الناشر عنوانا لكتابي. ثم في الحقيقة إنني لم أتعرض لموقف مثل هذا من أي ناشر سبق ونشرت معه وهم كثر خلال الأعوام العشرين الأخيرة. العنوان والمحتوى من ممتلكاتي الشخصية”.

لكنه استدرك بالقول “قد أتقبل رأيًا ولكن ليس بالضرورة الأخذ به. ومن ناحية أخرى أضع كل ثقتي بالناشر في مسألة تصميم الغلاف”.

في روايته “مذكرات كلب عراقي” يدور الحوار على ألسنة الحيوانات ويسرد البطل رحلته مع الإنسان (الجزيرة)

ويعترف سعدون بأن هناك عناوين قرأها في بداياته الإبداعية وحاول أن يكتب على منوالها في المتن والعنوان. ويعتقد بهذا الصدد أن منْ لا يفرق بينها سيقع في مصيدة القارئ الواعي، على حد قوله.

وأردف “الفرق كبير بين أن تعنون كتابًا شعريًا أو أن تعنون كتابًا في صنف أدبي/كتابي آخر، وهذا يدركه من يكتب في الأصناف الأدبية من شعر ونثر ومقالة. كل كتاب منها له عنوان ووقع يختلف عن الكتاب الآخر. لا يمكن أن تعنون رواية بعنوان كتاب شعري ما لم تكن على دراية تامة بها”.

ثم إن هناك تشخيصات دقيقة جدًا في عنونة الشعر عن النثر، عن المقالة، تختلف فيها الذائقة والرؤية والتقبل. “ومنْ لا يفرق بينها أعتقد أنه سيقع في مصيدة القارئ الواعي. والحقيقة أن اطلاعي على نماذج أخيرة لكتّاب أحب قراءتهم، أجدهم قد وقعوا في مأزق العنونة عندما يتعلق الأمر بكتاب شعري عن آخر سردي”.

ليس حكرًا

وعن التناص في العنونة، وهل هي فكرة مقبولة أم لا؟ قال سعدون (الذي ترجم إلى العربية أكثر من 20 كتابًا لأهم أدباء إسبانيا وأميركا اللاتينية) إنه يقبل بالتناص في العنونة.

وهنا يعتقد سعدون إن الأمر ليس حكرًا على أحد، كما أن الأدب العالمي مليء بنماذج من هذا القبيل “التناص في العنونة أتقبله جدًا، وهناك أعمال مهمة تشترك في العنونة عن قصدية تناصية أم رؤية جمالية. لا أجد العملية حكرًا على أحد طالما هناك تفرقة معينة وواضحة ما بين الكتابين. والأدب العالمي مليء بنماذج من هذا القبيل، ولم نجد اختلافا فيه أو تعصبًا معينًا بشأنه، بل العكس تتم دراسته والتنويه به ضمن الدراسات المقارنة وغير المقارنة”.

20 كتابًا من الإسبانية

وصدر لسعدون عدد من الكتب الأدبية والشعرية، نذكر منها كتابه الشعري “دائمًا” الفائز بجائزة “أنطونيو ماتشادو العالمية في إسبانيا، اليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر” عام 1996، “تأطير الضحك” عام 1998، “انتحالات عائلة” عام 2002، “عصفور الفم” عام 2006، “حقول الغريب” عام 2010، “مذكرات كلب عراقي” عام 2012، “توستالا” عام 2014، “تقرير عن السرقة” عام 2020.

وفي الترجمة، نقل سعدون من الإسبانية إلى العربية أعمال أهم أدباء إسبانيا وأميركا اللاتينية مثل بورخس، أنطونيو ماتشادو، رامون خمينث، لوركا، ألبرتي، وغيرهم.

المصدر : الجزيرة

========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى