الناس

يسيرون في حقل مليء بألغام “الخطوط الحمراء”… كيف يعمل الصحافيون داخل سوريا؟/ طارق علي

“تحدثتُ عن بعض التجاوزات المتعلقة بالحرب ومنها ‘التعفيش’ (سرقة الأملاك)، بعدها كتبت مقالاً عن الملف، فصدر قرار قطعي بإيقافي عن مزاولة العمل الصحافي في سوريا”.

هذا ما حصل مع رضا الباشا، صحافي سوري ومراسل سابق لقناة الميادين في سوريا، بدأ العمل معها بعيد افتتاحها عام 2012، من مكتب طهران خلال إقامته في إيران، قبل أن ينتقل إلى سوريا كمراسل محترف للقناة في حلب.

قرار إيقاف الباشا عن العمل حمل صيغة “سحب اعتماده الرسمي”، لمخالفته “قوانين الإعلام”، بحسب ما جاء في كتاب مقتضب أرسلته وزارة الإعلام إلى إدارة مؤسسته، ما يعني منعه من ممارسة أي نشاط إعلامي على الأراضي السوري حتى إشعار آخر.

ولا زال “الإشعار الآخر” سارياً حتى اليوم، رغم مضي نحو ثلاثة أعوام عليه. أما المقال-التهمة فكان الباشا قد نشره عام 2017، وحمل عنوان: “طريق حلب.. حواجز طريق الحرير”، على موقع “الميادين نت”، وتحدث فيه عن أمور كثيرة بينها “بيع طريق حلب-عفرين لشخص مجهول لقاء مبلغ يصل إلى مليار دولار أميركي سنوياً”.

خلال بحثنا عن المقال، وجدنا أنه لم يعد موجوداً على موقع الميادين، ليتضح أنه سُحب بعد أيام من نشره.

يعتقد الباشا أن ما حصل معه قد يكون نتيجة “تشبيكات” تشكلت خلال الحرب بين المافيات وبعض المسؤولين، مشيراً أيضاً إلى “الدور الذي يلعبه بعض الصحافيين سلباً في إطار المنافسة غير الشريفة التي تؤدي إلى تشويه صورة الصحافي، وتالياً، تحريك بعض الأمور ضده والتي تؤدي إلى الإيقاف”.

قصة أخرى شبيهة عاشها فهد كنجو، وهو صحافي يترأس تحرير موقع الإصلاحية. ادّعى عليه وزير السياحة السابق بشر اليازجي، على خلفية مقال نشره، في حزيران/ يونيو 2018، وتحدث فيه عن الواقع السياحي وفساده، واتهم وزير السياحة بمراعاة مصالح المستثمرين على حساب المواطن ذي الدخل المحدود.

استدعاه فرع جرائم المعلوماتية في وزارة الداخلية بتهمة “الإساءة إلى الموسم السياحي”، غير الموجود في سوريا أساساً منذ بداية الحرب. وبعد تحويله إلى القضاء، رفض القاضي استجوابه بحجة طلب حضور مندوب عن اتحاد الصحافيين، علماً أن الاتحاد لم يرسل سابقاً أي مندوب له للدفاع عن صحافيين وحضور الاستجواب في المحاكم. أوقف يومين قبل الإفراج عنه.

هذه القصص دارت مع صحافيين غير محسوبين كمعارضين للدولة السورية، ولا يعملون في وسائل إعلامية مصنّفة “عدوّة”. لكن التضييق على حرياتهم لا يأخذ بعين الاعتبار ماضيهم، أو ما قدّموه، ولا مشاركتهم في تغطية وقائع الحرب وتعريضهم أنفسهم للمخاطر في مرات كثيرة. فجأة، تفاجأوا بأنهم مجرمون أمام دولتهم والسبب: اجتازوا خطاً أحمر حدده بطبيعة الحال مسؤول أو متنفّذ.

من قصة نجاح عظيمة إلى مأساة رهيبة… كيف أنهى قرار التأميم شركة “الخماسية” الصناعية في سوريا

“كرمال عيون السوريين” أو “تتريك اقتصادي”؟… الليرة التركية تجتاح شمال سوريا

الماسونية الدمشقية… القطبة المخفية في تاريخ سوريا الحديث

مراسيم حماية الإعلام

ضمن الحزمة الإصلاحية الصادرة في أواخر عام 2011، بعد أشهر من نشوب المعارك في سوريا، صدر مرسوم جمهوري معني بقانون الإعلام، حمل رقم 108، وأكد على استقلالية الإعلام وحرية الإعلامي وضمانها.

ونصت المادة 101 منه على أنه “في جميع الأفعال التي تشكل جرائم ويقوم بها الإعلامي في معرض تأدية عمله باستثناء حالة الجرم المشهود لا يجوز تفتيشه أو تفتيش مكتبه أو توقيفه أو استجوابه إلا بعد إبلاغ المجلس أو فرع اتحاد الصحافيين لتكليف مَن يراه مناسباً للحضور مع الإعلامي ويجري في حالة هذه الجرائم إبلاغ المجلس أو فرع اتحاد الصحافيين بالدعوى العامة المرفوعة بحق الإعلامي وجميع الإجراءات المتخذة بحقه”.

ولكن النص شيء والتطبيق شيء آخر، وظهرت تدريجياً قائمة بمحظورات لا يحددها أي نص واضح، وعلى رأسها الحديث عن فساد بعض الشخصيات.

فالسلطة التنفيذية لطالما برعت في تفريغ القرارات من مضامينها، والالتفاف على تطبيقها، بما يضمن لها فرض سطوتها ومنع أي شخص من تحدّي فسادها، وضرب كل خصم مفترض، ومنهم صحافيون، بيد من حديد إذا تحدثوا عن الفساد أو لمّحوا إليه.

وإذا كان أي شخص ينظر إلى المشهد من الخارج يفترض أن بعض الصحافيين من المرضي عنهم، فإن هذه النظرة تبددت في حالات كثيرة أمام تجارب اعتقالهم وكبت حرياتهم ومحاولة تدجينهم ليكونوا فقط أبواقاً للمسؤولين.

توقيفات تعسفية

شهدت السنوات الماضية ازدياد حالات توقيف صحافيين وناشطين، بتهم تتعلق بقضايا لها علاقة بفتحهم ملفات فساد. وضع البلد الذي يعيش حالة حرب جعل وزراء الحكومة قادرين على تحريك أفرع الأمن الجنائي لإلقاء القبض على صحافيين.

يعتقد الصحافي بلال سليطين أن هناك أزمة تحديد خطوط حمراء، فالأمر يخضع للمزاجية والظروف العامة، ويقول لرصيف22: “رغم تحفظي على مفهوم الخطوط الحمراء، إلا أنني أرى أن إحدى المشاكل التي تواجه الصحافيين هي أنه لا يتم إبلاغهم بما هي هذه الخطوط، وإذا أبلغوا بها فهم لا يبلغون بالتغييرات فيها”.

وتتحرّك الخطوط الحمراء بحسب الظروف وموازين القوى، ولكن هناك خطوط ثابتة ومعروفة من الجميع ولتحديدها يجب القيام بدراسة للقضايا المهمة التي لا يتطرّق إليها الإعلام السوري.

في حديثه لرصيف22، يبدي رضا الباشا اعتقاده بأن الحديث عن الفساد مسموح بشكل كبير، ولكنه يعتبر أن “الصحافيين في سوريا حاطين حاجز خوف أنا شخصياً لا أراه مبرراً، وهو ما يمنعهم من تناول قضايا فساد على مستوى كبير”.

ولكن التجربة التي مرّ بها الباشا نفسه تؤكد أن الخوض في بعض الملفات هو كالسير في حقل مزروع بالألغام.

يختلف معه رئيف سلامة، وهو ناشط وصحافي ميداني مستقل. يقول لرصيف22: “أي شيء يتناول الفساد ممنوع الحديث عنه”. سلامة تعرّض للاعتقال بسبب منشورات على إحدى صفحات فيسبوك اشتبهوا بأنه كاتبها. ويعلّق على تجربته بالقول: “قضيتي جعلتني خائفاً من ممارسة العمل الصحافي، حتى ولو كان لديّ دليل دامغ على أي فساد”.

صعوبات وأذى نفسي

يقول الباشا إنه لم يتعرض لمضايقات جسدية، “ولكن الأمر انعكس على حياتي الشخصية والعملية بعدما أخرجت من إطار العمل الصحافي في سوريا”، ويضيف: “حتى المعاملات الرسمية، صرت أجد صعوبة في إنجازها”.

أما سلامة فيشير إلى أنه عند اعتقال شخص ما، لن يقف أحد معه.

سالم (اسم مستعار) صحافي سوري غادر سوريا منذ فترة قريبة، له أيضاً تجربته مع التعسف في حق الصحافيين. يقول لرصيف22: “لم يتم توقيفي بشكل مباشر، بمعنى أنه لم يصلني أي قرار بوقفي عن العمل. ولكن عند تقديمي الأوراق الرسمية الكاملة إلى وزارة الإعلام للحصول على موافقة على العمل، في أعوام 2016 و2017 و2018، أتى الرد بعدم الموافقة بسبب تحفظ إحدى الجهات الأمنية.

وفي العرف، يصدر طلب أي اعتماد لصحافي خلال شهر أو أكثر بقليل. وبحسب ما وصل إلى سالم فإن تهمته كانت أنه “رمادي” و”لا يؤتمن جانبه”.

شرطة الفيسبوك

تركّز السلطة كثيراً على ما يُنشر على السوشال ميديا. حين يوقَف أحدهم، يُسأل أولاً عن نشاطه على مواقع التواصل الاجتماعي، وثانياً عن الجهة التي مررت له المعلومات، فالمتنفذون في سوريا في حالة شك دائم ببعضهم، ويسود بينهم اعتقاد دائم بينهم بأن ما ينشره صحافي هو مكيدة من طرف آخر.

اعتُقل الصحافي والمراسل الحربي عامر دراو، عام 2017، إثر شكوى من “قيادي كبير في حزب البعث”، وأوقف لمدة 70 يوماً، بعد استدعائه إلى فرع جرائم المعلوماتية، والتحقيق معه، وتحويله إلى قاضٍ حبسه أكثر من شهرين، رافضاً كل طلبات إخلاء السبيل التي تقدّم بها ذووه، إلى أن أسقط المسؤول ادعاءه.

يقول عامر لرصيف22: “توقفت عن العمل خلال فترة حبسي الظني التي تعرضت لها بسبب شكوك تملكي أو علاقتي بإحدى الصفحات التي تحكي عن فساد مسؤولين ووزراء على فيسبوك”. الصفحة المذكورة هي “عود ثقاب”. لم يتمكن الفرع من إثبات أي علاقة له بها، ولا زال المشروفون عليها مجهولين.

وفرع الجرائم المعلوماتية استُحدث عام 2012، ومهمته بحسب قانون استحداثه هي مكافحة الجريمة وعمليات الاحتيال والاختراق والابتزاز لمشتركي الموقع، ولكن سرعان ما تحوّل إلى جهة مهمتها ملاحقة الصحافيين والناشطين والكتاب، حتى صار “بعبعاً” يخيف أي صوت ناقد.

بالعودة إلى رئيف سلامة وقصته، تعرّض لتجربة قاسية. يروي لرصيف22 تفاصيل ليلة الاعتقال: “في ليلة الـ14 من نيسان/ أبريل 2019، فوجئت بدوريتين مدججتين بالسلاح على باب منزلي في حمص. عرّف العناصر عن أنفسهم بأنهم من قسم الدراسات الأمنية، وطلبوا مني مرافقتهم بهدوء”.

ما أثار ذعره، على حد تعبيره، هو سؤال قائد الدورية له بعد صعوده معهم إلى آلية: “كيف نسلك طريق دمشق للخروج من حمص؟”، قبل أن يخبروه أنهم من الأمن الجنائي في دمشق.

يضيف رئيف: “في ذات الليلة، وقرابة منتصف الليل، سلّموني إلى فرع جرائم المعلوماتية، وبعد توقيفي لحوالي 18 ساعة مع المجرمين الجنائيين، حققوا معي، حول صفحة على موقع فيسبوك، لا أعرف عنها شيئاً”.

تهمة رئيف كانت منشوراً حول وزير الصحة، يقول: “وزير الصحة شخص فاسد ومدعوم ويضرب بسيف من حديد على أعناق منتقديه، وترقبوا الوثائق القادمة”. وُضع هذا المنشور على صفحة تحمل اسم “شبكة أخبار مصياف”، وهي صفحة لا يملكها سلامة ولم يسمع بها من قبل.

خضع للتحقيق ثلاث مرات، خلال ثلاثة أسابيع، قبل تحويله إلى النيابة التي قضى رئيسها بتحويله إلى سجن عدرا المركزي، دون أي دليل يثبت تورطه. وبعد انقضاء أسبوع من الحجز في السجن، أصدر قاضٍ قراراً بإطلاق سراحه.

ينتقد سليطين الخلط بين جرائم المعلوماتية والعمل الصحافي، ويقول: “الصحافي يجب أن يحاكم بمقتضى قانون الإعلام حصراً، وأي محاسبة لصحافي يجب أن تبدأ بالتنسيق مع اتحاد الصحافيين، وعبر القضاء مباشرة دون توقيفه في أي فرع”.

ويضيف: “أمام القضاء إذا كان مذنباً يحاسَب. شهدنا الكثير من حالات توقيف صحافيين وعندما كانوا يُعرضون على القاضي كان يخلي سبيلهم فوراً، وبالتالي لماذا سُجنوا؟”.

أما الباشا فيروي قصة تجربة أخرى عاشها نتيجة منشورات له عن الفساد والتجاوزات خلال انتخابات البلديات عام 2018. يقول: “رفع مسؤول حزبي دعوى قضائية عليّ وُضعت حيّز التطبيق والملاحقة من قبل فرع جرائم المعلوماتية”.

لحسن حظه، لم يكن متواجداً في منزله عندما أتت عناصر أمنية وداهمته. عمل لاحقاً على حل الموضوع عبر وساطات.

حرية الصحافة من وجهة نظر ضحاياها

رغم أن المهنة ثأرت من أولادها، ولكن آراء الصحافيين متباينة، بين مَن فقد الأمل، وبين مَن لا يزال متمسكاً بعمله.

سلامة فقد الأمل بعد تجربته المريرة، وكذلك سالم الذي يعتقد أن حرية الصحافة مكفولة ما لم تقترب من المتنفّذين.

يقول دراو: “محاولة الحد من الحرية تتم من قبل بعض المتنفذين والفاسدين لتخوفهم بشكل مستمر من القلم الحر”.

يكاد يكون هناك إجماع في الوسط الصحافي السوري على فشل اتحادهم، والمفروض أنه معني بالدفاع عنهم. يرون أنه قائم على المحسوبيات، والارتهان للمسؤولين، عدا عن الفساد الذي ينهش مفاصله.

التعيينات داخل الاتحاد تصدر بلا منطقية أو منهجية. ولجنة حريات الصحافيين داخله، والتي تعيّنت قبل أكثر من نصف عام مغيّبة. لا بل إن البعض يعتبره عدواً للحريات.

“للأسف، نحن كصحافيون سوريون لا نعرف ما هي حقوقنا ونحتاج إلى الابتعاد عن المنافسة غير الشريفة وإلى اتحاد قوي يمارس عمله وضمنه الدفاع عن حريات الصحافيين. ولكن الاتحاد عندنا ضعيف ولو كان قوياً، كان يمكن أن يؤدي دوراً كبيراً في حرية الصحافة”، بحسب الباشا.

أما سليطين، فيوضح أن “عمل النقابات والاتحادات عموماً في سوريا لا يرتقي إلى الحد الأدنى لدورها”، ويضيف: “هناك محاولات من اتحاد الصحافيين للعب دور لكنها خجولة”، وقد يبدو ذلك مبرراً أمام قيود وضعها الاتحاد نفسه.

ويتابع: “من الضروري جداً تحرير اتحاد الصحافيين من جهة، ومن جهة أخرى علينا كصحافين أن نضعه أمام مسؤولياته ولا نقول لا يوجد اتحاد، بل علينا مساعدته لكي يلعب الدور المطلوب منه”.

وبرأيه، من واجب الصحافيين بذل الحد الأدنى من التضامن مع بعضهم عندما تقع انتهاكات واتخاذ مواقف من أي مشكلة تعترض أي صحافي، سواء في قدرته على الوصول إلى المعلومة وليس انتهاءً بتقييد حريته، ويقول: “علينا أن نكون صوت أنفسنا لكي ننتزع حقوقنا، من أجل الصحافة ومن أجل السوريين ومن أجل هذا الوطن”.

أما سالم، فيرى أن “واقع الصحافة في سوريا لم يكن في تاريخه بخير، إذ كان الصحافي دائماً يعاني من الاضطهاد، وكانت ثقافة التعاطي مع الإعلاميين ثقافة سيئة بالعموم، ليسوء الحال أكثر في زمن الحرب، الأمر الذي أدى إلى استسهال استهداف الصحافيين”.

ويقول: “في سوريا اليوم لا يوجد صحافة أساساً، بل مجرد جهات إعلامية تعمل وفق توجيهات وأجندات تحددها الجهات المختصة”.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى