سياسة

عن الدوائر الأمنية الحاكمة في سورية الأسد/ سميرة المسالمة

 

 

يتنافس اليوم جهازان أمنيان واضحان على حكم سورية داخلياً، وهما متماسكان ضد من يخالفهما من المدنيين السوريين، ومتحاربان ضد بعضهما بعضاً من أجل مصالحهما وتبعيتهما الدولية، أحدهما يُستخدم كأدوات حكم محلية بيد إيران، والآخر هو أداة رئيسية لاستكمال سيطرة روسيا على الواقع السوري داخلياً، بعد قدرتها على تسوير ملف سورية داخل منظومة تفاهماتها الدولية من جهة، واختراقاتها المحلية على الصعيدين: الموالي للنظام، والمعارض له على اختلاف الدول التي يتبع أجندتها، من جهة أخرى، أي بمعنى أن دوائر الحكم الفعلية التي حكمت سورية خلال عقد من حكم الرئيس الأسد الابن (2000 – 2011) تماهت لتصبح أدوات قمعية لدولتين تحتلان سورية عسكرياً وقراراتياً (إيران وروسيا). ما يعني انتقال سورية من حكم دوائر أمنية متعدّدة داخل النظام، وهذه على الرغم من قبضتها الأمنية، إلا أنها كانت تمنح بعض العاملين في الأجهزة التنفيذية هوامش حركة، حتى عندما يمكن تسميتها هوامش “اللعب على الحبال”، إلى الخيار للمتنفذين اليوم بين التبعية لإحدى الدولتين، وتندرج حملات التصفيات الجسدية، والاعتقالات المتبادلة اليوم، بين الجهتين الأمنيتين “بتسمياتهما المختلفة” ضمن إطار ما يمكن تسميتها تصفية الحسابات بين مناصري الهيمنة الروسية ضد مناصري الوجود الإيراني في سورية، ما يجعل كل الشخصيات التي تتقدّم الصف الأول تحت طائلة “التغييب القادم” سواء بالقتل، أو تهم الفساد، التي لا يحتاج كل منافس منهما لجهدٍ كثير لإثباتها على بعضهما.

ومن هنا يمكن توضيح: يدرك من يعمل داخل منظومة الحكم في النظام السوري أنه في لعبة خطرة، فالنظام ليس وحدة متماسكةً، كما يبدو للجميع، وولاء المجموعات التي تعد الصف الأول به ليس لشخص الرئيس “الأسد الابن” كما يعتقد العموم، فهناك دوائر متشابكة فيما بينها، يجمعها عامل “البقاء” المصلحي. ولكن حتى هذا العامل تفسّره المجموعات المؤثرة داخل النظام بطرق مختلفة، هكذا فمن يساند بشار الأسد له مجموعات أو دوائر متداخلة في منظومة الحكم من الأجهزة الأمنية، وحتى الحكومة التنفيذية بأصغر تفاصيلها، وكذلك الأمر بمن يرى أن الولاء لماهر الأسد شقيق الرئيس، والتفاني في العمل من أجله، لا يعني الولاء للمجموعة السابقة، بل في أحيانٍ كثيرة الدخول في حالة منافسة معها، أيضاً ضمن الدوائر المختلفة.

وإذا كان هذا ينطبق اليوم بكل ما فيه على مجموعتي العمل الأساسية الموزّعة في انتماءاتها بين الهيمنة الروسية عليها أو “الانسلاب” التام لإيران، وينعكس على ما يتم في الواقع من عمليات اعتقالٍ أو تصفياتٍ لكبار ضباط داخل منظومة العمل الأمني أو الجيش، فهو، في الآن نفسه، يجعلنا نفهم بوضوح كيف اتسعت خلال الولاية الثانية من حكم بشار الأسد (2007- 2011) مساحة دائرة مجموعة اللواء آصف شوكت، زوج بشرى الأسد الشقيقة الكبرى للرئيس بشار، التي لا تكن أي تقدير واضح للمجموعات التي كانت تتحكّم بآلية ضبط إيقاع الحياة في سورية، بل تعمل بحذر معها، وتتنافس على احتلال مساحاتٍ أوسع داخل المنظومة العسكرية والأمنية، وحتى المدنية، حيث استطاعت الأخيرة أن تجمع حولها أسماء بارزة، سواء من داخل العائلة الحاكمة، أو من الأوساط العسكرية والشعبية. وربما يفسر هذا سرعة إنجاز أول عملية اغتيال داخل النظام، من خلال حادثة تفجير “خلية الأزمة” (2012)، التي أودت بحياة اللواء آصف شوكت، وعضو القيادة القطرية، العماد حسن تركماني (رئيس الأركان السابق) واللواء هشام اختيار، ووزير الدفاع داود راجحة، وأدّت إلى انشقاقاتٍ عن النظام لبعض المحسوبين على شوكت من الأجهزة الأمنية والعسكرية.

هذه العملية التي لم يكن إنجازها ليتم من دون إرادة مدعومة من إيران التي كانت صاحبة القرار الوحيدة داخل سورية آنذاك، وذلك للخلاص من أهم الشخصيات التي قد تمثل بديلاً، سواء بالنسبة للطائفة التي ينحدر منها النظام (العلويين)، أو بالنسبة للدول الكبرى، كروسيا والولايات المتحدة الأميركية. ولعل واحدةً من سقطات المعارضة السورية تبنّيها تفجير مقر اجتماع خلية الأزمة، وادّعائها ذلك “كذباً”، ما أدّى إلى رفع الحرج عن مسؤولي النظام في أعلى مستوياته، وتبرئته من تهمة قتل قياداته، وتصفية أقربائه، عندما يتعلق الأمر بحسابات السلطة، كما أن هذا الادعاء ضيّع على “المعارضة” إمكانية الاستثمار في تناقضات النظام، أو ربما لم يكن هذا الإدراك في حسبانها أصلا، وهي التي اختارت، منذ البداية، الارتهان لأي ممول عابر لطموحات شخوصها المالية والسلطوية.

ومن ضمن الدوائر الحاكمة، كان لأسماء الأخرس زوجة بشار الأسد فرصتها في دخول لعبة السلطة، وتوسيع دائرة نفوذها من خلال ما أسمته المجتمع المدني، وإعطاء مزايا لمؤسساتها للتغلغل في المجتمع السوري، مثل مؤسسة فردوس للتنمية، التي أرادت من خلالها بناء قاعدة شعبية لها، تهيئ الأجواء لإنهاء منظمات الحزب، كمنظمة طلائع البعث، واتحاد شبيبة الثورة،

إذ استطاعت فعلياً الاستيلاء على مساحاتٍ كبيرةٍ داخل دمشق، لإقامة أنشطة منظماتها، والتدخل في المسار الاقتصادي السوري، ليتناسب وما عزمت عليه، بالتعاون مع نائب رئيس مجلس الوزراء آنذاك، عبد الله الدردري، الأداة الرئيسية في تحويل اقتصاد سورية إلى ما سمي لاحقاً “اقتصاد السوق الاجتماعي”، الذي انعكس سلباً على حياة المواطنين والصناعيين، لينتعش مجال رجال الأعمال والتجار على حساب المصلحة الوطنية في دعم الصناعة السورية. وتعد هذه الدائرة هي الأوسع نشاطاً وإنتاجاً لمصلحة النظام السوري خلال السنوات الماضية عقب انطلاقة الثورة السورية عام 2011.

لهذا كله، يمكن القول سابقاً ولاحقاً، وبحكم الخبرة التي اكتسبتها خلال عملي في الإعلام السوري، إن الحفاظ على منصب داخل النظام ليس بالأمر الهين والبسيط، قبل الثورة وبعدها، خصوصا للذين ينطلقون من مبدأ التغيير من الداخل، فهو يحتاج إلى أن يكون المسؤول المعين من خارج هذه الدوائر قادراً على الوقوف على خط تلاقي هذه الدوائر، من دون أن يدوس بقدمه عليها، وأن يتحلى بدبلوماسية عالية وجرأة مدروسة، وذلك لمواجهة الضغوط التي يمارسها عليه بعض الحاشية، التابعين لهذه الدائرة أو تلك. ويندرج ذلك في حال كانت وظيفته في إطار الخدمة العامة لمؤسسة وطنية. أما في ظل انقسامات الولاءات بين محتل وآخر، فإن انتفاء صفة “السورية الوطنية” هي العامل الحاسم في تأجيل قرار “الانتحار”، الذي يوقع عليه أصحاب الكراسي المتحرّكة على فوهة المدافع المتأهبة، روسيةً كانت أم صناعة إيرانية محرّمة.

العربي الجديد

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى