سياسة

روسيا..و”الأسد القويٌّ”/ إياد الجعفري

لم يُستدعى الأسد هذه المرة إلى سوتشي، وحيداً من دون مرافقة. ولم يتعمد بوتين إذلاله، كما حدث أكثر من مرة، حينما استقبله من دون أي إجراءات بروتوكولية معتادة في استقبال رؤساء الدول. بل قرر أن يوفد إليه وزير دفاعه، بعد يومين فقط، من اجتماع صاخب للقادة “النظريين” لجيوش سوريا والعراق وإيران، في دمشق.

لا يمكن أن نجزم اليوم، بالمضمون الحقيقي للرسالة التي حملها سيرغي شويغو، إلى الأسد. لكن الإجراءات التي رافقت زيارة وزير الدفاع الروسي إلى دمشق، والشخصيات التي حضرت اجتماعه مع الأسد، والملابسات التي سبقت ذلك، قد تسمح لنا بتصور ما تضمنته هذه الرسالة. قد يكون أرجحها، أن روسيا تخشى من فقدان دفة القيادة في التحالف الثلاثي (إيران – روسيا – نظام الأسد)، لصالح طهران. وهي تحاول تجنب ذلك، عبر بث الحياة في “الأسد الضعيف”، بعد أن كانت هي أبرز الفاعلين في عملية إضعافه.

ولا نستطيع الجزم بعد، إن كان بشار الأسد نجح في تحقيق مراده من مناورة زيارته المثيرة للجدل إلى إيران. لكن ما نستطيع الجزم به، أن إيران تستعيد زمام المبادرة في مواجهة الروس بسوريا، بعد أن فقدته منذ صيف العام 2018. وذلك سيخدم الأسد، لأن موسكو التي عملت خلال أكثر من سنة، على إضعافه، ستضطر إلى عكس هذه العملية، كي لا يصبح الأسد، رهينة كلياً، في القبضة الإيرانية.

فالأسد الذي ظهر مجرّداً من أي مرافقين في طهران، في مؤشر ضعفٍ وارتماءٍ، رغم كل “الحميمية” التي ظهرت في لقاءاته هناك، ظهر في دمشق، أثناء لقائه بوزير الدفاع الروسي، محاطاً بوزير دفاعه، علي أيوب، الذي يُوصّف بأنه مقرّب من الروس، وبجواره، علي مملوك، “مايسترو” المخابرات السورية، وعرّاب التواصل مع دول عربية وغربية.

ويحاول الأسد جاهداً، الموازنة بين الكفتين الإيرانية والروسية، في سوريا، بعد أن مالت الكفة لصالح الروس كثيراً، في الآونة الأخيرة، الأمر الذي هدد الأسد بالاضطرار إلى تقديم تنازلات نوعية في الحكم، عربوناً لإعادة التطبيع العربية والغربية مع نظامه، التي تكفّل الروس بإنجازها. وهو ما أعلن الأسد صراحةً، عدم استعداده له، في خطابه الأخير. فهو ينظر إلى إعادة التطبيع تلك، بوصفها نتيجة طبيعية لما يعتبره انتصاراً حققه. لذا قرر الأسد الذهاب بعيداً في إذكاء مخاوف أطراف عربية وغربية، وروسية أيضاً، عبر الارتماء في الحضن الإيراني، بصورة فجّة. وكأنه يقول لتلك الأطراف، إن كنتم تريدون الضغط علي، فسأذهب بعيداً مع إيران. بعيداً إلى الحد الذي خاطب فيه جمهوره، في خطابه الأخير، ليقول لهم، “استعدوا لموجة قاسية من الحصار”. وكأنه يقول للغرب وحلفائهم العرب، “أنا مستعد لكل الخيارات القاسية، جراء الاصطفاف مع طهران”.

تلقفت طهران الأسد، واستعادت زمام المبادرة، وتحدث قائد حرسها الثوري عن 200 ألف مقاتل من أتباعها في سوريا والعراق، وأوفدت رئيس أركانها إلى دمشق، ليقود اجتماعاً ضم نظيريه العراقي والسوري، في رسالة إلى الروس، بأن لطهران القدرة على تحقيق اختراق أكبر داخل مؤسسات “الدولة السورية”، بدعم من الأسد شخصياً، وعبر التوافق مع أبرز خياراته، المتمثلة باستعادة إدلب وشرق الفرات. وفي إدلب تحديداً، تفترق أجندات الأسد عن موسكو، وتقترب أكثر مع طهران، التي يناسبها المزيد من الحروب بسوريا، بصورة تجعل الأسد، والروس أيضاً، بحاجة دائمة لمليشياتها.

وفي شرق الفرات، كذلك، تلتقي الأجندات الإيرانية مع الأسد، وربما لا تبتعد كثيراً عن الروس. فالمستهدف هناك، هو الوجود الأمريكي، والثلث الغني بالنفط والغاز والغلات الزراعية. وفي لحظة التقاء الأجندات تلك، يثأر كُرد شمال العراق، من الأمريكيين الذين تركوهم وحيدين في مواجهة تبعات استفتاء الاستقلال قبل سنة ونيف. ويدعو رئيس وزرائهم، نيجيرفان بارزاني، أبناء جلدته في سوريا، ضمن “قوات سوريا الديمقراطية”، إلى التفاوض مع نظام الأسد في دمشق، والاعتماد على الروس كضامن. فالأمريكيون لا يُراهن عليهم.

في هذه اللحظة، يجد بوتين فرصة سانحة للتحرك، وفي الوقت نفسه، هامشاً أضيق للمناورة. فعليه ألا يدفع بالأسد أكثر نحو طهران، عبر الضغط عليه. لذا يمكن في هذه الأيام أن نقرأ في وسيلة إعلام روسية، أن روسيا تتقبل أن يقصف الأسد إدلب، رغم تفاهماتها مع تركيا، لأنها تفضل، في نهاية المطاف، “أسداً قوياً”. وقوة الأسد تتمثل، حسب التفهم الروسي، في رغبته الملحة باستعادة معظم التراب السوري. ذلك ما تقوله وسيلة إعلام روسية، لكن ما يقوله منطق التحليل السياسي، أن بوتين أصبح يريد “أسداً قوياً”، حينما وجد أن “الأسد الضعيف” لجأ إلى الإيرانيين، لابتزاز الروس والغرب بهذا الضعف ذاته. لذلك أرسل بوتين وزير دفاعه إلى الأسد، ليقول له، “نحن معك في استعادة إدلب وشرق الفرات”، حسب الإعلام الرسمي الروسي. وسيعمل بوتين على دفع الدفة نحو شرق الفرات، أكثر من إدلب، فهناك لا يُغضب أصدقاءه الأتراك، وفي الوقت نفسه، يعمل على اقتناص فرصة سانحة للضغط على الأمريكيين، في وقت تزداد مخاوف حلفائهم في “قسد” من مستقبل الغطاء الأمريكي لهم، حتى مع الحديث عن أن البنتاغون خصص 300 مليون دولار أمريكي، لتمويل تسليحهم خلال العام القادم.

يستغل بوتين هذه اللحظة، ليتابع استراتيجيته المحببة في تسجيل النقاط على الغرب، وفي الوقت نفسه، يحافظ على أسهمه داخل نظام الأسد، في مواجهة حراك إيراني مضاد. أسهمُ الروس ظهرت في شخصيات حضرت لقاء الأسد مع شويغو. فيما كان الأسد وحيداً في طهران، في إشارة لا تحتاج للكثير من التحليل، إلى أن للروس نفوذاً أكبر داخل مؤسسات الدولة السورية، مقارنة مع النفوذ الإيراني المليشياوي غير المنظّم. لكن هذا الفارق الجوهري، يصبح غير ذي جدوى، بل يصبح عكسياً، مع دخول الساحة السورية في أتون مواجهة ميدانية جديدة، مرجحة في شرق الفرات، ومحتملة أيضاً في إدلب. لذا، يبدو أن الإيرانيين سيستعيدون زمام المبادرة، في إدارة تحالفاتهم مع الروس، بسوريا، خلال الفترة القادمة.

وفي هذه الأثناء، يعمل الاسد بجهد، على موازنة الكفتين الروسية والإيرانية في سوريا. فتلك الموازنة هي الكفيل الوحيد لبقائه. وكلما كانت تلك الموازنة أدق، كلما كان الأسد أقوى. والعكس صحيح.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى