مراجعات كتب

الرحالة السوري محمد يحيى الهاشمي… على خطى ابن فضلان/ ثائر دوري

محمد يحيى الهاشمي (1904 ـ 1979) سوري حائز الدكتوراه في الفلسفة من ألمانيا عام 1935 في موضوع عن العالم العربي البيروني. وفي العام نفسه قرر السفر إلى القطب الشمالي، لكنه لم يحقق مشروعه حتى عام 1937، فركب الباخرة من هامبورغ الألمانية متوجهاً إلى شمال أوربا حيث القطب الشمالي.

من ابن فضلان إلى الهاشمي

يعدد الهاشمي دوافع الرحلة، التي نشر تفاصيلها عام 1949 في كتاب بعنوان «رحلتي إلى منطقة القطب الشمالي». يكتب أن الدافع الأول تاريخي حضاري. «يتصل بمعرفة أجدادنا الكرام لهذه البلاد في العصور الغابرة، رغم مشاق السفر وجهلنا إياها، فلقد اطلعت في بطون الكتب على أن هناك كثيرا من رواد العرب أموا القطر الإسقانديناوي ــ هكذا كتبها ــ فأطلق الجغرافيون العرب القدماء لفظ صقالبة على جميع الأمم الأوروبية الشمالية». ويشير بشكل خاص إلى ابن فضلان الذي كانت مخطوطته حديثة الاكتشاف قبل أن تنتشر بشكل واسع منذ أواسط الخمسينيات، بعد أن حققها سامي الدهان.

المرتكز الأساسي لشخصية الهاشمي عربي إسلامي فهو يرد الأشياء إلى مرجعيته الحضارية مقارنا محاوراً. فبعد أن انطلقت الرحلة من هامبورغ في شهرأغسطس/ آب 1937. يلاحظ هنا أن الغروب ليس كما في المتوسط بأن تنزل الشمس في البحر، بل تختفي في الضباب. يقول «في اليوم التالي الغيوم الداكنة تغطي السماء لذلك سماه الإدريسي بحر الظلمات. بعدها يصل إلى مضيق أسقاجاراك، في تلك المياه جرت أعظم حرب بحرية بين الألمان والإنكليز في الحرب العالمية الأولى. وعندما يتحدث عن الليالي البيضاء في تلك المنطقة حيث تكاد الشمس لا تختفي يستعيد ما كتبه ابن فضلان «دخلنا أنا وخياط كان للملك من أهل بغداد… فتحدثنا بمقدار ما يقرأ الإنسان أقل من نصف سبع (من القرآن) ونحن ننتظر آذان العتمة فإذا بالآذان، فخرجنا من القبة وقد طلع الفجر، فقلت للمؤذن أي شيء أذنت؟ قال آذان الفجر. قلت فالعشاء الآخرة قال نصليها مع المغرب، قلت فالليل؟ قال: كما ترى، وقد كان أقصر من هذا، إلا أنه أخذ في الطول، وذكر أنه منذ شهر ما نام خوف أن تفوته صلاة الغداة. ذلك أن الإنسان يجعل القدر على النار وقت المغرب ثم يصلي الغداة وما آن لها أن تنضج. قال ورأيت النهار عندهم طويلا جداً».

التشابه بين الفن العربي والإسكندنافي

أما الدافع الثاني للرحلة فهو غريب نوع ما، ولا يخطر على البال، إذ يخبرنا الهاشمي بوجود قرابة بين الفن العربي وفن الشعوب الشمالية «سمعت عنه حين دراستي لآثار الفن العربي في متحف برلين، بإرشاد الأستاذ كونيل مدير المتحف الإسلامي هناك، فقد بين لنا هذا الأستاذ، خاصة فيما له صلة بالتزيينات العربية، القرابة الشديدة بين الفنين الإسلامي والشمالي، نعم إن الأستاذ المذكور يؤمن باقتباس قد جرى من قبل الشعوب الشمالية، ولكنه يبرهن على وجود روح فنية لها صلة بالروح الفنية الإسلامية، قبل ولوج المدنية الإسلامية إلى أوربا. وفي برغن عاصمة النرويج القديمة يلاحظ وجود أحياء في المدينة مبنية من الخشب فيها تزيينات تذكرنا بالتزيينات العربية المعروفة بالأرابيسك، خاصة في الكنيسة المعروفة باسم ( فانتوفت ستاب – fantot stap ) «.

وجد الهاشمي أثناء زيارته أن التشابه بين الفنين أكبر مما نتصور، خاصة في فن الاتسامات motives) ) ويفسر ذلك إضافة إلى التأثر بالفن الإسلامي، بالقرابة الشديدة بين طرق حياة الشعبين، فالعربي يعيش في الصحراء ويرى صورا رتيبة مملة، وهذا ما أفضى به إلى التفتيش عن سر الخلود، وكذلك في المناطق الشمالية، حيث يعيش الناس في صور رتيبة مملة لكن جليدية. ولا يتوسع الكاتب في هذه النقطة لأنه يعترف بأنها ليست من اختصاصه. أما الدافع الثالث للرحلة فهو علمي جيولوجي بهدف الاطلاع على صخور تلك المنطقة، لكنه لا يكتفي بوصف الصخور، بل يسهب بوصف الجغرافيا وكل مظاهر الطبيعية (الشمس الغيوم ـ البحر). واخيراً الدافع الرابع وهو السياحة، وهو لا يكتفي بتسجيل رحلته بالكتابة فقط، بل يحمل آلة تصوير ليلتقط اللقطات المميزة في وقت كان التصوير يعد مهمة شاقة ومهنة تحتاج إلى اتقان.

خط الرحلة

انطلق من هامبورغ في شهر أغسطس 1937. ثم وصلت الباخرة إلى أول ميناء نرويجي ستافنغر، ولأن الشرطة عثرت على شخص في حالة سكر في وقت متأخر بالليل، فقد أمرت بإغلاق المقاهي والحانات في وقت مبكر. بعدها إلى برغن الميناء النرويجي التجاري الكبير الذي نشأ في القرن الحادي عشر «وكانت مراراً عاصمة البلاد ومقر التاج الملكي، وظلت عاصمة البلاد حتى القرن السادس عشر». حيث يلاحظ أن المناظر هنا تشبه الجزر اليونانية. يستفيض بالحديث عن برغن أو مدينة الجبال السبعة. وبعد برغن اتجه بالقطار الى أوسلو في 19 أغسطس وصل إلى مدينة فوس في منتصف المسافة بين برغن وأوسلو. ويصف اعتماد أهل هذه البلاد على السمك في طعامهم بسبب طبيعتها البحرية، ووجود الفجوات البحرية التي تعني توغل البحر داخل اليابسة بين الجبال، مشكلاً ما يشبه البحيرات «أما بقية المآكل فلا تختلف عن مآكل وسط أوروبا». كما يتعرف على الطباع النرويجية التي يصفها بأنها تحمل المتناقضات صلبة قاسية ووديعة في الوقت نفسه، وهذا انعكاس للطبيعة. وبعد التعرف على النواحي الداخلية عاد إلى برغن متابعاً رحلته «وصلنا يوم الجمعة 14آب إلى مدينة الروزند، بعدها إلى مدينة مولده ذات المناخ الأكثر دفئا، رغم أنها على خط عرض أعلى من ليننغراد، وبعدها مدينة تورندهايم». ويفسر المؤلف هذا الدفء بالتيار الخليجي. أما نهاية الرحلة فقد كانت في النوردكاب، حيث التقط الصور وأخذ شهادة موقعة من القبطان، أنه وصل إلى هذا المكان المطل على القطب المتجمد الشمالي. ومن هناك أرسل بطاقات بريدية وسجل في سجل الزوار أنه أول رحالة سوري يصل لهذا المكان. بعدها تابعت الباخرة فوصلت إلى الحدود بين النرويج وفنلندا إلى مدينة كركينس الكائنة على الحدود.

الرحالة الأنثروبولوجي

لا ينهي الكاتب رحلته قبل أن يظهر موهبة جديدة تضاف إلى خصائصه الموسوعية فنلمح وجه عالم الإناسة (الأنثروبولوجي) وهو يكتب عن اللابيين «وهم بقايا شعب آسيوي مهاجر حكم شبه هذه الجزيرة في العهد القديم ويبلغ تعدادهم اليوم قرابة 30 ألف نسمة، ويسكنون اليوم السويد والنرويج وفنلندا. وبموجب معاهدة الحدود بين السويد والنرويج التي عقدت عام 1751 يحق للاب السويد أن يجتازوا في الصيف الحدود ويدخلوا ضمن الأراضي النرويجية، ليتمتعوا بالسواحل الدافئة… يقدر عدد اللاب الذين يعيشون عيشة بدوية بألفي نسمة، أما الباقون فقد انتقلوا إلى حياة نصف حضرية لتماسهم مع المدنيين»، ثم يصف معاشهم فأكثرهم امتهن صيد الأسماك وصناعة اليد، لكنهم لا يزالون يقيمون في أكواخهم الحقيرة.. ثروتهم الوحيدة حيوان الأريل الشمالي. يعيشون في مرابض يضم كل مربض حوالي عشر أسر. ويصف منازلهم على أنها أكواخ من الحجر، أو الفخار على شكل مخروطي.. في وسطها الموقد الذي يتصاعد منه دخان أزرق نحو السماء. أسرة الأطفال ليست إلا سوق شجر محفورة وفي الطرف الواحد سقف للسرير، والطفل ملفوف بجلد الأريل، ويحوي السرير على حشيش يابس لتأمين راحة الطفل. أما لاب السواحل شبه المستقرين فيعتمدون على صيد السمك، نحيلو الأجساد مقوسو الأرجل بسبب التجديف الطويل..».

ماذا حل بهذا المثقف الموسوعي بعد ذلك، عاد إلى حلب واشتغل بالكتابة والنشر، وعمل مدرساً للفلسفة في ثانويات حلب ثم حين أحدثت كلية الآداب صار مدرساً فيها. وينقل عنه كتاب «مئة اوائل في حلب» أنه قال: «إن الإنسان بحاجة إلى الشمول بالمعرفة».

٭ كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى