مراجعات كتب

قد لا يبقى أحد”: حكايات اللجوء والهويات الضائعة/ هوشنك اوسي

“هل الهويّة وهم، نعظّمه؟ أم أننا دونها ظلال وأشباح؟”… هنا قراءة لكتاب “قد لا يبقى أحد” للروائي والناقد هيثم حسين.

في كتاب “قد لا يبقى أحد” للناقد والروائي والصحافي هيثم حسين، نحن إزاء 29 فصلاً، تعكس جوانب من حصيلة مشاهدات الكاتب ومعايشاته في سوريا، مصر، الإمارات، تركيا، بريطانيا. هذا الكتاب المهم والشيّق الذي اختار له صاحبه عنوانين؛ رئيسي وفرعي: “قد لا يبقى أحد: آغاتا كريستي.. تعالي أقل لك كيف أعيش” تمّ إنجازه بمنحة من “اتجاهات – ثقافة مستقلّة” السوريّة، وبالشراكة مع معهد “غوته”، وبدعم من دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع. وجاء في 147 صفحة من القطع المتوسّط، اعتمد فيه مؤلّفه على فكرة ذكية، تشبه إلى حدّ معيّن، ما يمكن وصفه بـ”المطارحة السرديّة”. وذلك بالردّ على اقتباسات من مذكرات كريستي، عبر سرد ذكريات الكاتب ومشاهداته، ضمن إطار أدبي. ولم يكن اختيار هيثم حسين صاحبة “جريمة في قطار الشرق السريع”، هكذا كيفما اتفق، بل لأنه تجمعه وإيّاها بعض التقاطعات. فمعلوم أن كريستي وبمعيّة زوجها؛ عالم الآثار ماكس مالوان، عاشا في شمال سوريا، منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، ومنها منطقة عامودا؛ مسقط رأس حسين! وعليه، يمكن تلخيص تلك التقاطعات بالتالي: كلامهما روائي. حسين حاليّاً يعيش في بلاد كريستي، مهاجراً ولاجئاً، نتيجة الحرب في سوريا. وكريستي عاشت في سوريا، وكتبت عن مشاهداتها في الشمال السوري، قبل بدء الحرب الثانيّة، وتوقّفت عن كتابتها. ثم عادت إلى كتابتها بعد مضي أربع سنوات على الحرب التي طحنت أوروبا والعالم. حسين كتب “قد لا يبقى أحد” عن بريطانيا، وهناك؛ الأمكنة الكثيرة والبعيدة، مع استمرار الحرب التي تطحن سوريا منذ 9 سنوات تقريباً.

غلاف كتاب “قد لا يبقى أحد”.

صحيح أن الكاتب ذكرَ في مقدّمته أنه يجد نفسه متجسّداً بصيغة ما في توصيف المفكّر زيغمونت باومان (1925-2017) في كتابه “الأزمنة السائلة”. وأنه يجد نفسه متقاطعاً مع ما أورده أمين معلوف في مقدّمة كتابه “الهويّات القاتلة، إلاّ أن العنوان الذي اختاره حسين لكتابه، يذهب به أبعد مما ذكره في مقدّمة الكتاب، حين وجد نفسه “متقاطعاً مع الروائيّة الإنكليزيّة أغاتا كريستي” التي توجّه إليها في مناجاته، في التحذير الذي وجّهته في مقدّمة يوميّاتها “تعال قل لي كيف تعيش؟”… وكانت كريستي نوّهت، كي لا يصاب أحد بالخيبة، إلى أن كتابها ليس عميقاً، ولا يلقي الضوء على علم الآثار، ولا يقدّم وصفاً جميلاً للمناظر الطبيعيّة، ولا يتأمّل في القضايا العرقية، وليس فيه تاريخ. ووصفته بأنه مجرّد كأس صغيرة من الجعة، مجرّد كتاب صغير للغاية يحفل بالأعمال والأحداث اليوميّة” وربما عليّ أن أنوّه كذلك مثلها” والكلام لهيثم حسين. لكنه في كتابه، يتطرّق إلى  قضايا شائكة وعميقة، بخلاف هذا التنويه، منها: الحرب، الاستبداد، الفساد، الهويّة، اللجوء، الكتابة، الانتماء والاندماج، الاغتراب، الصراع الكردي – التركي، العنصريّة… إلخ! وهذا ما سنراه لاحقاً. يعني، “قد لا يبقى أحد” ليس ككأس صغيرة من الجعة، أبداً، كما وصفت كريستي مذكراتها. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، يقول حسين في المقدّمة: “تجتاحني الأسئلة التي تنبش علاقة الروائي بذاته وبكتاباته والشخصيات التي يخترعها، وإلى أيّ مدى يمكن أن يعترف بالوقائع والحقائق، وهو الذي اعتاد على تلبيسها لشخصيّاته؟ أين الحقيقة وأين الخيال في ما يسرده الروائي حين يكتب جانباً من سيرته الروائيّة؟ ما الذي نحاول تدوينه؟ هل نكتب ذواتنا أم حيوات الآخرين المضمرة في حكاياتنا؟… أين التوثيق من التلفيق في العالم الروائي– السيَري؟”.

الاشتباك مع كريستي

بخلاف اعتبارات عنوان الكتاب وإملاءاته، لا نجد حسين مشتبكاً مع كريستي إلاّ في فصول عدة من أصل 29 فصلاً. ففي الفصل الأوّل “هل أنتَ سعيد هنا؟”، حاول إشراكها في الحديث عن مفهوم السعادة، عبر طرح سؤال “هل كنت سعيدة هنا؟ هل كنت سعيدة هناك؟ هل كنتِ سعيدة في حياتك؟” (ص9). و”هل السعادة سؤال أم حلم؟”. ويقول إنه ليسَ سعيداً في منفاه الاختياري، لكنه ليس حزيناً أو مكتئباً. يعيش سعادة نسبيّة. هي محض لحظات، مع ابنتيه، في المنزل، على الشاطئ، في المدرسة، قبيل النوم… الخ. ويعطف على تلك اللحظات، لحظات أخرى بالقول: “أسعدُ حين أكتب فصلاً من كتابي أو روايتي. حين أقرأ جملة مؤثّرة في كتاب. أسعدُ حين ألمح تفصيلاً جماليّاً هنا وهناك (…) هي سرقاتي الصغيرة من بحر السعادة المتخيّل في واقع الحياة المرير” (ص12). وفي الفصل الحادي عشر “مسألة شائكة” يعود إلى مخاطبة أغاتا، والحديث عن التنوّع الديني والصراع بين الطوائف والمذاهب في سوريا، ومقاربة ذلك بما هو موجود في بريطانيا وأماكن أخرى. وكيف أن الغرب، لقاء المصالح، يقفز فوق مبادئه. ويتناول دور الإعلام في صناعة رأي عام مضلل. ويربط حسين بين المجرمين الفاعلين على الساحة الدوليّة والمجرمين الموجودين في روايات كريستي. وفي الفصل الثاني عشر “أن تصبح منبوذاً”، يعاود مخاطبة كريستي وطرح سؤال “هل شعرت بأية مشاعر نبذ وأنت تتجولين في بلادي، قبل عقود؟” (ص55) وعطف عليه المزيد من الأسئلة التي تتعلّق بالموضوع ذاته. ثم يقارن بين حال الكاتبة البريطانية في الشمال السوري وحال اللاجئ السوري في بريطانيا. في هذا الفصل، نعرف أن إجراءات لمّ الشمل انتهت، وأنه وأسرته معاً الآن. وفي الفصل السادس عشر “القاتل أنا؟!” يعاتب أغاتا، وينتقدها على انطباع روجّت له عن أن “الكردي يقتل للمتعة” (ص74)! ويذكّرها بمقولتها عن تفشّي الفئران في مدينة عامودا، أثناء وجودها هناك، وأنه هو أيضاً كان على موعد مع الفئران في بلدها. وفكّر في قتل شخص سيّئ ومتهوّر وسكّير في عامودا. لكنه عدل عن الفكرة. ثم يخوض في طبيعة النفس البشريّة والنزوع نحو القتل، ويقول: “دوافع القتل وأسبابه وذرائعه وتبريراته تغرقنا في واقعنا الدموي. يكاد القتل يتحوّل خبز الحياة اليومي في منطقتنا الموبوءة بالاستبداد والطغيان والحروب والجنون والكوارث” (ص77).

الأمكنة وذكرياتها

قياساً على توزّع جغرافيا بقيّة فصول الكتاب، تمكننا معرفة الأمكنة التي خصصت لها وهي: بريطانيا، سوريا، لبنان، مصر، الإمارات، وتركيا. وضمن هذه الفصول، يستحضر الذكريات والمشاهدات والأحداث التي عاشها أو صادفها أو سمع بها. ففي الفصل الثاني “لعنة الاغتراب”، يطرح أسئلة اللاجئ، عموماً، والكاتب اللاجئ، خصوصاً، ويقول: “هل اللاجئ مهاجر؟ هل هو منفيّ؟ مغترب؟ مقيم لفترة موقّتة لحين انجلاء الأوضاع في بلاده؟ (ص13). ويسرد اختلاف مستويات اللجوء وخلفياته؛ السياسيّة، الاقتصاديّة، وانعكاس ذلك على سلوك اللاجئ. وفي الفصل الثالث “مسلسل الانتظار المرير” يتحدّث عن الانتظارات التي مرّ بها، مذ وطأت قدماه مطار لندن، وكيف أن اللاجئ ينتظر لحين البت في طلب اللجوء، ثم انتظار الانتهاء من إجراءات لمّ الشمل مع العائلة. ويذكر بعض وسائل تحايل اللاجئين على قوانين اللجوء عبر إعطاء بعضهم بيانات غير صحيحة. كأن يقول كردي عراقي أو تركي بأنه كردي سوري، ويحصل على الإقامة باعتباره سوريّاً! في الفصل الرابع “اختبارات وممارسات” أيضاً يواصل حسين الكشف عن بعض تفاصيل تحايل اللاجئين على قوانين بلدان اللجوء، على أكثر من صعيد، بخاصّة في معاملات لمّ الشمل، التي يتمّ استغلالها من قبل اللاجئين، والإتيان بأشخاص، ليسوا أقارب من الدرجة الأولى. ما “يساهم بتغيير النظرة إليهم من التعاطف والشفقة والاحتضان والحماية إلى النفور والتشكيك” (ص19). في الفصل الخامس “تمزيق الأقنعة”، استكمال للفصول السابقة، وانغماس أكثر في تفاصيل حكايات اللاجئين، بخاصة الجانب الاجتماعي، والطلاق والمشكلات الأسريّة، التي استجدّت بعد الوصول إلى بلد اللجوء. ويذكر حسين: “يبدو أن بلاد اللجوء تكون ميادين حرب جديدة للاجئين. حرب باردة بينهم وبين ذواتهم (…) من هنا، يكون اللجوء كاشفاً للحقائق والشخصيات، ولوجوه البشر وجواهرهم، وتظهيراً لمعادن الرجال والنساء” (ص24). في الفصل السادس “سجن ويكيفلد الإنكليزي”، يتحدّث عن مصادفة وجوده في فندق، يقابله سجن كبير. ويستحضر ذكرياته في سجن القطعة العسكريّة التي خدم فيها، أثناء وجوده في سوريا. ويجري مقاربة بين السجن الموجود قبالة الفندق الموقت، وسجون سوريا المروّعة والرهيبة. في الفصل السابع “في مروج يوركشير” يستحضر رواية “مرتفعات ويذرنغ” للروائيّة البريطانيّة إميلي برونتي، ويمزج بين مشاهداته في أحضان الطبيعة، ومجريات الرواية، مع طرح أسئلة، حول الكتابة الروائيّة، وقراءة الرواية، والتجوال في الأمكنة التي ضمّت أحداثها. وفي الفصل الثامن “مدفع أدنبرة” يقارن بين المدفع الأثري الذي يصدح دويه إعلاناً بالتوقيت، وبين المدافع التي تدمّر سوريا. ويستمرّ حسين في المقارنة بين هنا وهناك، واختلاط المكانين في الذاكرة، واختلافهما في الواقع والثقافة. ويستحضر لحظات انتظاره الإنسانيّة لزوجته وابنتيه، ومرارات ذلك الانتظار.

الكاتب والناقد هيثم الحسين

في الفصل التاسع “هويّة عالميّة” يتحدّث عن إقاماته المؤوّتة في المدن التي مرّ فيها، لحين استقراره في بريطانيا. ويعرّج على أحوال اللاجئين وكيف ينظرون إلى أوطانهم الجديدة، ويغرقون في أوهام العودة، والاستسلام للاغتراب، وعدم الاندماج. وحلم العودة الذي يبقى متوارثاً، وسط “جدل المكان ومكر الزمن وصراع الأجيال والأحلام والذكريات” (ص37). ثم ينتقد أساليب التعاطي الدوليّة مع محنة اللاجئين وتجّار الحروب وأمرائها. وفي الفصل العاشر “أيهما تختار؟” يتحدّث عن الصور النمطية للاجئ عن الغرب، والصور النمطية المعاكسة لبعض الغربيين عن اللاجئين والشرق عموماً. وينطلق من سؤال طرحه عليه أحد البريطانيين: إن تمّ تخييره بين داعش ونظام الأسد، أيهما سيختار؟ (ص44). الفصل الثالث عشر “كنّة الغرباء” يعاود الحديث عن مشاهداته لاجئين يتفاخرون بأمور متخيّلة متوّهمة ينسبونها لأنفسهم في بلدانهم. وفي الفصل الرابع عشر “منطق التخلّي” يتحدّث عن جدّته وجدّه، وكيف تعرّفا إلى بعضهما بعضاً، وهربا معاً. وأشار إلى هوس جدّته بالاحتفاظ بالأشياء. واستحضر ذكرياته مع أشيائه ومقتنياته وكيف تخلّى عن بعضها، أثناء رحلّة التنقّل بين المدن والبلدان. وفي الفصل الخامس عشر “ألغام عائليّة” يتحدّث عن الذاكرة المتوارثة بين الأجيال. إذ يعود إلى سرد حكاية جدّه وزواجه من امرأتين؛ سمراء وشقراء، وانتقاله من تركيا إلى سوريا.

في الفصل السابع عشر “تلك البلاد” يعود للتحدّث عن بلدته عامودا، وسوريا، ويسرد ذكريات التحقيق الأمني الذي أجري معه، والتهديد والوعيد، والنقل التعسّفي الذي تعرّض له، جراء حوار صحافي أجري معه، ونشرته إحدى الصحف العربيّة. وفي الفصل الثامن عشر “الراعي الصغير والعسكر التركي” تحدّث عن عالم الطفولة والانقلاب الحاصل من عالم البيت الكردي إلى عالم المدرسة وتعلّم لغة جديدة. ومخاطر اقتراب الأطفال الرعيان من الحدود التركيّة، خشية إطلاق الجندرمة الأتراك الرصاص عليهم. وذكر حادثة قتل طفل برصاص الجنود الأتراك، وكيف احترقت جثته بين بيدر القش، وقال: “أي طفولة وحشية عشناها! في أي عالم برّي كنّا نحيا!” (ص89).

“أخرج إلى البحر. أصرخ ملء صوتي. أشعر براحة غريبة تفاجئني بعد إطلاقي عدّة صرخات…”

الفصل التاسع عشر “حوار الحضارات” يتناول دور الأدب والفن في عكس الواقع على حقائقه ومراراته وقبائحه، من دون تجميل أو التفاف، في إشارة إلى عالم النفاق والمزاعم والتكاذب: “الحوار المفترض المضاف رغماً عنه إلى الحضارات والثقافات والأديان لا يعدو كونه وسيلة تحايل على الذات والآخر. الكل يعرف أن المسألة برمّتها عبارة عن خدعة محترمة، وكذبة تاريخيّة لا تقنع أحداً” (ص91). أما الفصل العشرون “بالأسود” فيفتتحه حسين بالحديث عن الكاتب، ومدى استفادته من أحاديث وحكايات وأسرار الأصدقاء أو الناس العاديين في أعماله الأدبيّة، والجانب الأخلاقي والأدبي في تلك الاستفادة. وعرّج على موضوع مراحل اللجوء التي تحدّث عنها في فصول سابقة. وذكر قصص جديدة عن اللاجئين، وطرائق وذرائع البخل وشد الأحزمة عندهم.

مصر

خصص حسين فصولاً من كتابه عن فترة وجوده في مصر، هي: “قاهرة الأناقة”، “خوفو السوري”، “مثقف الريش”، “أمواج اسكندريّة”، تحدّث فيها عن القاهرة ومشاهداته المفرحة والمحزنة: “القاهرة مدينة لا تعادي الأناقة فقط، بل كأنها تعادي مجدها وتاريخهاً أيضاً” (ص106). وطرح سؤال الهويّة، وعطف عليه مقولة أمين معلوف التي عنون بها كتابه “الهويّات القاتلة” قائلاً: “هل الهويّة وهم، نعظّمه؟ أم أننا دونها ظلال وأشباح؟” (ص110)، وأضاف: “الهويّة مكان، لغة، عرق، لون، شكل، حلم، رغبة، ماضٍ، رهان، مستقبل؟! هل الهوية عدو الاندماج؟ هل هي زئبقيّة إلى الحدّ الهلامي؟ هل هي لغم الزمن المتفجّر باطراد؟ هل هي العقدة التاريخيّة المتجددة ذات المفاعيل السحريّة في التقسيم والتشتيت؟” (ص111).

تحدّث حسين عن المقاهي الشعبيّة، والمثقف والثقافة، وصولاً إلى الوجود السوري في القاهرة وفي مدينة 6 أكتوبر. كما أتى على ذكر مشاهداته في الإسكندريّة.

تركيا

الفصل الخامس والعشرون “جسور” تحدّث فيه عن فترة وجوده في اسطنبول، ومشاهداته، مشيراً إلى العنصريّة في خطاب التفوّق التركي “كم هو سعيد، من يقول: إنه تركيّ”. ويذكر جوانب من مآسي الكرد في تركيا. الفصل السادس والعشرون “الطريق إلى هولير” سلّطَ الضوء على بعض مظاهر الفساد السياسي والثقافي في كردستان العراق، ومحنة كرد سوريا الذين لجأوا إلى هناك. وكيف أن كرد سوريا، ساعة الضيق والمحنة، كانوا سنداً وظهراً وحضناً لكرد العراق.

في الفصل السابع والعشرين “ملتقى الأمم” يعود حسين إلى بريطانيا، وتحدّث عن مخاوف النسوة اللاجئات، وقلق اللاجئين بعضهم من بعض و”كيف أن اللاجئ يصبح ذئب اللاجئ” (ص137) في بعض الأحيان.

الفصل الثامن والعشرون “الذئاب المنفردة” انتقد النظرة الاستباقية أو الأحكام المسبقة في الغرب على اللاجئين، وأنهم إرهابيون أو مشاريع إرهابيين يتربّصون بالغرب. وقارن هذه النظرة بنظرة بعض الفنانين الأوروبيين، للسكان الأصليين في أميركا، وهم لم يزوروا أميركاً أبداً. كذلك انتقد خطاب الكراهية الموجود لدى بعض اللاجئين تجاه بلدان اللجوء. ثم تناول الواقع الثقافي الموبوء بالنقد.

أمّا الفصل الأخير “الذات في محنتها ومحبّتها” طرح فيه سؤال الكتابة وماهيتها لديه، والعهد الذي أبرمه مع الكتابة. “أخرج إلى البحر. أصرخ ملء صوتي. أشعر براحة غريبة تفاجئني بعد إطلاقي عدّة صرخات…” هذا ما اختتم به هيثم حسين الفصل الأخير من كتابه.

جدل العنوان

العنوان الرئيس “قد لا يبقى أحد” يتقاطع مع عنوان الرواية الأكثر شهرة لكريستي “ثم لم يبقَ أحد” And Then There Were None، التي صدرت للمرة الأولى عام 1939. هذا التقاطع، يوحي بأن هناك شكلاً من أشكال الاشتباك الأدبي – السردي مع تلك الرواية وصاحبتها. كذلك العنوان الفرعي “آغاتا كريستي… تعالي أقل لك كيف أعيش؟” مستوحى من عنوان مذكرات كريستي في سوريا والعراق “تعال قل لي كيف تعيش؟”، ما زاد من جرعة الإيحاء بأننا إزاء تلك “المطارحة السرديّة”، على أن الغلبة في الحديث ستكون لهيثم حسين، في لعبة تبادل الأمكنة والأزمنة. وهنا، نحن إزاء سطوة أمرين. الأوّل؛ سطوة العنوان الرئيس والفرعي لكتاب هيثم حسين. والثاني؛ سطوة التجنيس أو التنسيب الأدبي للكتاب “سيرة روائيّة”. بعدما فرغت من قراءة الكتاب، روادني تساؤل، مفاده: إلى أيّ مدى كان حسين منسجماً مع العنوان الذي اختاره لكتابه؟ ذلك أنه اشتبك مع كريستي في أربعة فصول، وبشكل أوحى وكأنه اشتباك عارض، خلا من المساجلة السرديّة الروائيّة التي كنتُ أتوقّعها أو أنتظرها. ومع ثقتي بقدرة هيثم حسين وخبرته ومهارته وطاقته الأدبيّة والإبداعيّة في خلق جوّ تفاعلي روائي، يتعارض ويتقاطع مع ما ذكرته كريستي في مذكّراتها، كان في إمكانه الاستجابة أكثر لرهان العنوان الرئيسي والفرعي للكتاب. بخاصّة أن كريستي ذكرت في خاتمة مذكّراتها “لأنني أعلم، بعد أربع سنين من الحرب عشتها في لندن، كم كانت جميلة تلك الحياة، وكم أتوق إلى أن أعيش فرح تلك الأيّام من جديد… فلا يعود تدوين هذا السجّل البسيط مجرّد مهمّة، بل فعل حب، لا هروباً إلى شيء كان، بل تطعيماً للمشقّة والحزن اللذين يكتنفان هذه الأيّام (الحرب) بشيء خالد لم يكن في يوم مضى، بل ما يزال كائناً… سأعود إلى هناك، إن شاء الله، ولن تكون الأشياء التي أحببت، قد رحلت عن هذه الأرض” (ص287-288: تعال قل لي كيف تعيش؟ مذكرات أغاتا كريستي في سوريا والعراق. ترجمة أكرم الحمصي. دار المدى. 2015). وبالتالي، زار حسين أماكن زارتها كريستي كمصر وتركيا. وكان في إمكانه استحضار كريستي أثناء حديثه عن حياته في هذين البلدين أيضاً، ولا يكتفي بالحديث عن أيامه في عامودا وحسب! أعتقد أن صاحب “إبرة الرعب” و”عشبة ضارّة في الفردوس” لم يبذل جهداً إضافيّاً للنجاة من ورطة العنوانين الرئيسي والفرعي اللذين اختارهما لكتابه.

أخطاء تقنيّة

على أهميّة الكتاب ومُؤلِّفهِ، لكن شابه ما يمكن وصفه بالهفوات التقنيّة، التي يتعلق أغلبها بالتحرير، والتي مهما حاول الكاتب تجنّبها، تبقى موجودة. ومن ذلك:

ــ هناك الكثير من الأفكار المكررة التي تتعلق باللاجئين في بعض الفصول. حتّى على صعيد المعلومة أيضاً، هناك تكرار، إذ يذكر الكاتب وجود زوجته الحامل وابنته في تركيا في فصل “ألغام عائليّة” (ص70) في حين أنه ذكر هذه المعلومة في فصول سابقة أيضاً، وما عاد هناك حاجة إلى التكرار.

ــ في الصفحة 11، يقتبس من مذكرات أغاتا كريستي، ويخاطبها، بالقول: “أجزم أن ذلك الزمان بمفاهيمه قد ولّى إلى غير رجعة” ومع حساب الفارق بين الزمنين، زمن كريستي وزمن هيثم حسين، هل يبقى هناك أيّ داعٍ لـ”الجزم” بأن الزّمان، بكلّ ما فيه، قد ولّى، ولم يبقَ منه سوى تلك المذكّرات؟! ما الأمر الذي يستدعي الجزم هنا، في ماضٍ رحل!؟

ــ تكرر الفعل الماضي الناقص كان/ كانت 15 مرّة في الصفحة 64، وتكرر 18 مرّة في الصفحة 65.

ــ في الفصل الأوّل يتحدّث عن ابنتيه، ولحظات السعادة معهما. في الفصل الثاني، يتحدّث عن زوجته الحامل وابنته البعيدة منه في اسطنبول، أثناء الانتظار. وكأنّ الفصل الثاني، مكتوب قبل الأوّل. وأثناء ترتيب محاور الكتاب، يفترض أن يعاد تحريره، بحيث يوافق الترتيب الزمني في الخطاب السردي للأحداث. “كنّا ننتظر طفلتنا الثانية؛ روز، تلك التي لم أرها بعد، وقد تجاوز عمرها الآن سنة وبضعة أشهر” (ص17). بل الكتاب برمّته، أنجزهُ بعد وصول العائلة إلى لندن.

“قد لا يبقى أحد” من الكتب المهمة التي أنجزها،

سواء على صعيد الفكرة والعنوان والمواضيع والأسئلة، والتوثيق.

ــ زيدوا على هذا وذاك، شخصيّة المحقق هيركول بوارو Hercule Poirot، استوحتها كريستي من لاجئ بلجيكي هرب إلى بريطانيا، إبان الحرب الأولى. وكان في إمكان حسين، باعتباره لاجئاً، الإشارة إلى استفادة كريستي من شخصيّة لاجئ، في العشرات من أعمالها.

هيثم حسين؛ الكاتب الروائي والناقد الكردي السوري، والمشتغل في الصحافة الثقافيّة منذ سنوات، ولد سنة 1978 في عامودا – الحسكة، شمال شرق سوريا، صدر له “آرام سليل الأوجاع المكابرة” (2006)، “رهائن الخطيئة” (2009)، “إبرة الرعب” (2013)، “عشبة ضارّة في الفردوس” (2017)، “الرواية بين التلغيم والتلغيز” (2011)، “الرواية والحياة” (2013)، “الروائي يقرع طبول الحرب” (2014)، “الشخصيّة الروائيّة… مسبار الكشف والانطلاق” (2015)، “من يقتل ممو” مسرحيات مترجمة من الكرديّة لبشير الملا (2007). وكتابه الأخير؛ “قد لا يبقى أحد” من الكتب المهمة التي أنجزها، سواء على صعيد الفكرة والعنوان والمواضيع والأسئلة، والتوثيق. ويمكن لأيّ كاتب أو كاتبة، لم يمرّا بتجربة اللجوء وتبعاتها، أن يستفيدا من هذا الكتاب، كمرجع ومصدر، إذا توفّرت لديهما الرغبة في كتابة أعمال تحاكي عوالم اللاجئين. حاصل القول: الكتاب، أقرب إلى السيرة الذاتية، بلغة صحافيّة، منه إلى “السيرة الروائيّة” كما صنّف حسين مؤلّفه. درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى