ثقافة وفكرفيروس كورونا

جائحة اللامرئي وفلسفة الغياب/ ماهر مسعود

احتفاءً بيوم الفلسفة لهذه السنة، دعت منظمة (يونسكو) للتأمّل والتفكير الفلسفي في تداعيات الجائحة على مستقبل البشرية، وعلى الرغم من الفترة القياسية التي تمّ فيها اكتشاف اللقاح المنتظر لفيروس كوفيد19؛ لم يسبق أن ظهرت البشرية بتلك الهشاشة، الضياع، العماء، وانعدام اليقين، مثلما حدث في أثناء المواجهة المستمرة منذ ما يقرب السنة مع جائحة كورونا، حيث ساهمت العولمة التي جعلت الكوكب متصلًا كقرية صغيرة، في إبراز تلك الهشاشة، ومشاهدة التخبّط العالمي في القرارات والإجراءات على أوسع نطاق.

وإذا كان بطلُ المرحلة الواعد بالخلاص من الكارثة هو العِلم، فما الذي قد تفعله الفلسفة ضمن تلك المواجهة؟ وهل للفلسفة دورٌ عندما يتعلق الأمر بالكوارث البشرية؟ أليست الفلسفة هي العمل بالكليات والمفاهيم والأفكار بعيدًا عن الجزئيات والوظائف العملية والتفصيلية؟ بكلام آخر: أليست الفلسفة نوعًا من رفاهية الفكر التي لا مكان لها في مواجهة المحن الوجودية كالتي وضعنا الفيروس أمامها!

للإجابة عن تلك الأسئلة، سأطرح هنا بعض الأمثلة حول المشكلات الفلسفية التي أعادت الجائحة طرحها من جديد، مع الإشارة إلى أن التفكير الفلسفي في الظاهرة لا يقتصر على الجانب الأنطولوجي والوجودي فحسب، بل هو تفكير متعدد، يبحث في الجانب الاجتماعي ليرى الرابط السياسي، ويتناول السيكولوجي ليرى عمقه الأيديولوجي، ويُسائل الثقافي ليفسّر علاقته بالاقتصادي.. فليس التفكير الأحادي إلا عدوًّا للفلسفة.

المراقبة والمعاقبة: تفرض الطبيعة اللامرئية للخطر الذي تمثله العدوى بالفيروس، نوعًا من التوتر الدائم للشخصية في مراقبة ذاتها والآخرين، واستنفارًا دائمًا للوعي في مراقبة السلوك اليومي والعفوي، والشك في كلّ شيء وفي أي أحد: هل غسلتُ يدي بما يكفي؟ هل لمست عيني وأنفي وأنا في الخارج، في الشارع، في الباص، في السوق، في المكتب؟ هل صافحت أحدًا، هل اقتربت كثيرًا من ذلك الذي كان يعطس في القطار؟ إلخ. ذلك النوع من المراقبة الذاتية للسلوك، لجعله يتناسب مع المعيار الذي تضعه سلطة عليا (العلم هذه المرة) كان دائمًا الحلمَ الأكبر للسلطات السياسية، وقد بيّن ميشيل فوكو أن الفارق الأساسي بين السلطات القديمة والحديثة يكمن هنا، وذلك عندما ضرب مثال السّجن أو “البنابتكون” الذي يُنصَّب في مركزه أشخاص (وحديثًا كاميرات) يراقبون السجناء على مدار الساعة، بحيث يعرف السجناء أنهم مراقبون، دون أن يعرفوا متى، ومِن أين! فهم مرئيون دون أن يستطيعوا الرؤية. ويدفعهم ذلك إلى ضبط سلوكهم دائمًا على اعتبار أنهم مراقبون، تلك الرقابة الذاتية إذًا لا تتوقف عند السجن المغلق، بل أيضًا المجتمع المفتوح، وهي ما يضبط المجتمع والأفراد دون الحاجة إلى مراقبته من الخارج. والسؤال هنا: أليست تلك الرقابة الذاتية الشاملة هي الوصفة المعيارية للتوتاليتارية؟ وهل سيتخلص الأفراد فعلًا من شكوكهم وارتيابهم ومراقبتهم الدائمة لذواتهم وللآخرين، بعد انتهاء الحالة “الطارئة” الطويلة لإجراءات الجائحة؟ هل سيتوقف التوتر الذهني والنفسي الدائم عند حدود الفيروس اللامرئي، أم سينتقل إلى أماكن ومجالات بعيدة جدًا عن الجائحة، من مثل: هل الجالس بجانبي هو مسلم، هل هو إرهابي، هل سيقتلني بعد قليل، أو من جهة أخرى، هل يفكر الآخر بأنني إرهابي، هل لوني يدلّ على جنسيتي، ماذا سأفعل لكي أتجنّب التفكير حولي بأنني إرهابي.. إلخ. والنتائج التي قد تصدر عن كل العمليات المركبة سابقة الذكر نعرفها جيدًا، من تجربتنا السورية الطويلة مع نظام الأسد، فقد كان أنجح ما فعله الأسد الأب لتثبيت سلطته والسيطرة على المجتمع هو نشر المخبرين في كل مكان، لتصبح الرقابة الذاتية الدائمة وانعدام الثقة بين الناس هي المعايير المحددة للعقد الاجتماعي، وهو ما جعلنا نحصد نتائج بالغة السوء، على المستويات الفردية والجماعية، إن كان من حيث انتشار ما سمّيته سابقًا “بالفردية المنحطّة” التي حجبت ثقة السوريين في أي تجمع أو فئة أو كتلة أو حزب معارض مهما كان، وحجبت ثقة أي منهم بالآخر، أو من حيث صعوبة أن تجد سوريًا حرّ الضمير والوجدان أو ذا قدرة على المصارحة والصدق والشفافية بما يضمر أو يفكر أو يشعر، من دون أن يفكر مسبقًا بما سيصدر من الآخرين حوله من أحكام وتقييمات خاطئة.

الحرية، الأمان، والمسؤولية: بُنيت الليبرالية على مبدأ الحرية الفردية، حرية العمل والسلوك، التفكير والتعبير، الاجتماع والاعتقاد، وولاية الأفراد على أجسادهم. لكن الجائحة كبّلت كل ما سبق ذكره، وباتت حريتك الفردية خطرًا حقيقيًا على حياة الآخرين (الآخر هو الجحيم، يقول سارتر)، ولكن ماذا عن جحيم الأنا المنعزلة والمعزولة عن الآخرين! أليس الإنسان كائنًا اجتماعيًا بالتعريف! وتلك الأسئلة تحيل إلى الأخلاق والسياسة، فما مدى مسؤوليتي الأخلاقية عن نقل الفيروس إلى غيري من الناس؟ وهل يكون سلوكي أنانيًا، إذا كانت لدي رغبة في كسر العزلة الخانقة التي تفرضها القواعد الواجبة؟ وهل الإجراءات الحكومية لتقييد الحركة هي إجراءات بريئة من الأجندات السياسية والمصالح الضيقة للمتنفذين وأصحاب السلطة؟

لقد بات سؤال التوفيق بين الحرية والأمان من أصعب الأسئلة التي تواجهها الديمقراطية الغربية اليوم، إن كان في مواجهة الجائحة أو في مواجهة الإرهاب على المقلب الآخر، لما يفرضه كلاهما من تقييد لحرية الأفراد، ومراقبتهم بذريعة أمانهم.

الخوف، الهوس، والعقلانية: لا تبدو واضحة تلك الحدود الفاصلة بين العقلانية والهوس واللامبالاة، عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الفيروس، فقد يبدو الهوس المرضي بغسيل اليدين عقلانيًا، أو يبدو عدم ارتداء الكمامة في الشارع لامبالاة، وقد يبدو الخوف من الإصابة أو العدوى عقلانيًا، في الوقت الذي يُعدُّ فيه الخوف أكبر أعداء الجهاز المناعي، وأكثر ما يضعف الجهاز المناعي الذي لا نملك غيره “حاليًا” لمقاومة المرض.

يتجلى الخوف من الفيروس في كونه أولًا عدوًا لا مرئي، قد يوجد في أي مكان وعلى أي سطح، وانعدام الرؤية يعني العماء والظلام الكالح، والسير في ظلام كالح ما زال يستدعي أعمق المخاوف البشرية، ولا سيما أنه لا يوجد آخر لمساعدتك، بل إن الآخر هو ذاته جزء من المشكلة التي قد تنتهي بموتك. ويتجلى ثانيًا في أنه عدو مجهول لا دواء له، ولا شيء يضمن الشفاء منه، إذ إنه قَتلَ من الرياضيين والأصحّاء مثلما قتل من المرضى والمدخنين، وقتل من الكبار والصغار. وجهلُنا بمدى مقاومة جسمنا له لا يفعل سوى تأجيج تلك المخاوف العميقة.

إن الأسئلة التي يقود إليها التفكير الفلسفي في مجمل ما سبق قد تأتي على النحو الآتي: كم عدد الأشياء المخفية واللامرئية؛ مثل الفيروس، التي تحكم حياتنا وتُسيّر قراراتنا وخياراتنا في الحياة، في الوقت الذي لا نعطي فيه قيمة إلا لما هو مرئي، مفيد، قابل للاستخدام، براغماتي، مُيسّر للبقاء، اقتصادي.. إلخ. لكن هل الله مرئي! هل الحرية، الكرامة، الحبّ، الخوف، القلق، الخوارزميات، القانون، اللاوعي.. أشياء مرئية؟ لا شيءَ من ذلك مرئي، المرئي هو التأثيرات التي يتركها علينا الإيمان أو الخوف أو اللاوعي، المسارات التي نسلكها نتيجة الخوف أو السعي للحرية أو الرغبات اللاوعية. إن حياة الإنسان المعاصر محكومة بالرموز أكثر بكثير من احتكامها للبيولوجيا والحاجات الأولية، المفيدة، العيانية، والاقتصادية، فلو كان مطلب السوريين مثلًا؛ أو أي من شعوب الربيع العربي، هو المأكل والمشرب والملبس والمأوى فحسب، لما قاموا بالثورات أصلًا. لقد قادتهم الرموز اللامرئية، غير العملية، ولا الواقعية بمعنى ما، رموز مثل الحرية والكرامة وطلب الاعتراف، إلى أكبر أعمالهم الجماعية جرأة وتحدّيًا وثمنًا في التاريخ الحديث.

ولذلك فإنه عندما يسأل أحدهم ما نفع الفلسفة في مواجهة كورونا؟ فهو بحال من الانغماس بالمرئي، بالأداتي والوظيفي والنفعي والمباشر، إلى درجةٍ لا تجعله يدرك مدى تأثّر حياته بغير النافع، بمعناه الواقعي واليومي. فالفلسفة ليست مجرد إضرار بالحماقة وجعلها أمرًا مخجلًا، كما يقول دولوز، بل رؤية الفائدة بما يبدو بلا فائدة، وإبراز المنفعة بما يبدو بلا نفع. لا أحد يأكل حرية أو يشرب لاوعي، لكن بالمقابل تصوغ أشياء مثل اللاوعي أو الحرية حياتنا، فنحن “محكومون بالحرية”، كما يقول سارتر.

مسألة أخرى نستنتجها مما سبق، هي أنه لا يهم إن كنت تؤمن أو لا تؤمن بوجود الفيروس، لأن تأثيراته تصيبك بشكل مباشر أو غير مباشر، شئت ذلك أم أبيت. الأمر ذاته يمكن قوله في وجود الله، اللاوعي، الحرية.. إلخ. فلا يهم إن كنت ترى اللاوعي أو لا تراه، لأن سلوكك بمعظمه نتيجة لدوافع لاواعية، بحسب فرويد، ولا يهمّ أكنت تؤمن بالله أم لا، لأن تأثيراته، عبر الأديان، تصيبك شئت ذلك أم أبيت. المهمّ هو أنك كلما عرفت أكثر عن تلك الرموز اللامرئية التي تحكم حياتك؛ استطعت التحرر منها أكثر، والتحكم في مصيرك بشكل أفضل.

ربّما تفعّل الجائحة قدرتنا على تخطي الوجود الزائف الذي تحدث عنه هايدغر؛ فالوجود الزائف هو الوجود الذي لا يسائل نفسه حول قيمته ومعناه، وهو المنخرط في أرض التفاصيل اليومية، دون أن يرفع رأسه لرؤية المشهد من زاوية مختلفة. ومن تلك الزاوية المختلفة، قد نرى ما نسيناه، وجودنا، ونفكر فيما لدينا، حيث لا شيء يجعلنا نقدّر ما لدينا مثل فقدانه، إن كان شخصًا أو ملكًا أو شيئًا أو قيمة مجردة، فلا يعرف قيمة الحرية مثل السجين، ولا قيمةَ البيت مثل المشرّد، ولا قيمة شخص عزيز كمن فقده. وليس التفكير بما نملك طريقًا للرضى والشكر، كما تريد الأديان، ولا طريقًا للشراهة وطلب المزيد، كما تريد الرأسمالية، بل هو طريق لتقدير الحياة، حياتنا وحياة الآخرين.

ليست الفلسفة خلاصًا مثل الأيديولوجيا، ولا صانعة للحلول مثل العلم، ولا تعِدُ بالجنّة مثل الدين، بل هي خلق متواصل للمعنى هنا على هذه الأرض، ونقد متواصل للقيم وللسلطة التي تخدمها تلك القيم، تركيب للمكنات وتجاوز للمعطى وفتح للمستحيل وفنُّ للسؤال، رؤية للعالمي في اليومي، وللكلي في الجزئيات البسيطة. ليست الفلسفة رفاهية، بل حاجة للبشرية في كل الأزمنة، ولا سيما في زمن الكوارث والمحن الوجودية.

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى