مقالات

أغلفة الكتب.. إشكاليات القراءة والتأويل والتصميم/ أوس يعقوب

يشكل غلاف الكتاب عادة عتبة للنص المقروء حيث يعتبر مدخلًا بصريًا إلى موضوع الكتاب بل ربما يرجع اقتناء كثير من القراء لكتابهم المفضل نتيجة لإعجابهم بصياغة غلافه حيث تعيدنا كثير من الأغلفة إلى عناوين لا تنسى من المكتبة العربية. وبحسب ما كتب الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله، مؤخرًا، على صفحته في “فيسبوك”، فإنه “قد لا يعرف كثير من القراء والقارئات، أنّ الوصول إلى غلاف الكتاب رحلة شاقة، إذ تكون هناك محاولات كثيرة، قبل الوصول إلى الغلاف المعتمد..”.

ويرى مختصون أنّ “غلاف الكتاب من العناصر الهامة والأساسية في الترويج للكتاب وزيادة مبيعاته، خاصة حين يحتوي على عناصر وقيم فنية وجمالية مدروسة تلائم المضمون ما يسهم في بيع الكتاب دون معرفة مضمونه في كثير من الحالات. كما أنّ كلمة الغلاف تعطي فكرة عامة عنه من حيث الموضوع الشائك الذي يتعاطى معه”.

توجهنا إلى عدد من الكتّاب والكاتبات العرب، ليحدثونا عن تجاربهم الخاصة مع أغلفة مؤلّفاتهم، ومعرفة مدى تدخلهم في تصميم الغلاف، وهل يتفقون مع الرأي القائل: إنّ “غلاف الكتاب هو أول العتبات النصية للتجربة الإبداعية، وهو العتبة البصرية للتجربة، التي تتجسّد بها بصريًا، وتتّخذ سمتها الإبداعية”؟ وهل فعلًا – كما يقال- إنّ “عتبة الغلاف، كالتصدير، والتقديم، وغيرهما، تنتمي انتماءً حاسمًا إلى فضاء الكاتب ورؤيته وقصديّته”؟ ولأنّ الأمر كذلك، فهل حدث أن شعروا بمعاناة إشكالية الانتماء والقصديّة إلى فضائهم ككتّاب، خاصة ونحن نعرف أنه عادة ما تتولّى دور النشر تصميم الغلاف ووضع لوحته وديكوره وهندسته وخطوطه وإخراجه بشكله النهائي خارج إرادة الكاتب، وبعيدًا عن رؤيته في ذلك (مع استثناءات قليلة)؟

وكان سؤالنا الأخير لهم؛ عن مدى تدخلهم بتصميم الغلاف، وإسهامهم في وضعه ليكون عتبة منتمية لرؤاهم؟

كما توجهنا إلى عدد من مصمّمي الأغلفة سائلين إياهم عن عُدّة مصمّم الأغلفة؟ ومن أين يستمدُّ أفكار تصميماته، هل هو الإلهام أم إعادة تدوير لتجارب إبداعية سابقة؟ ثم ما هي عوامل تصميم الكتاب الناجح بشكل عام من وجهة نظرهم؟ وهل لهم أن يحدثونا عن تجاربهم الخاصة مع أغلفة الكتب التي عملوا على تصميمها. وهل يعتمدون في رؤيتهم على معرفة محتوى الكتاب؟ وكيف ينظرون إلى مقولة إنّ “سوق الكتاب العربي تعاني اليوم من تكرار هائل في موضوعات الأغلفة ونمطيتها بل ومباشرتها الفنية التي تعتمد على عناصر الإبهار البصري بعيدة كل البعد عن الفهم الحقيقي لفحوى النص الذي يختزنه المنتج الفكري أو الأدبي”.

ثم هل يكون بينهم وبين الكتّاب عادة تفاعل للوصول إلى التصميم النهائي للغلاف ليكون المنجز البصري مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمضمون الكتاب وملائمًا لرؤية مؤلّفه؟

كما تحدثنا مع عدد من الناشرين العرب الذين سألناهم أولًا عن تجربتهم الخاصة عن رحلة الكتاب ما بين المؤلّف ومصمّم الأغلفة من البدء وحتى يرى النور، وإلى أي حد يتدخلون كناشرين في تصميم الغلاف؟ وهل حدث أن حصل بينهم وبين الكتّاب أي خلاف حول تصميم الغلاف ووضع لوحته وديكوره وهندسته وخطوطه وإخراجه بشكله النهائي حتى لو وصل الأمر لفرض رؤيتهم أو رؤية المصمّم بعيدًا عن رغبة الكاتب وما يريده؟

محمد علاء الدين: روح النص

الغلاف عتبة بصرية بالطبع، ولكن العتبات الأهم هي العنوان (الذي يمكن أن يأخذ أهمية لدرجة “النص الموازي”). هذا ما بدأ بقوله القاص والروائي المصري محمد علاء الدين، الذي يقيم في برلين، والذي أردف قائلًا: الكاتب هنا لا يتدخل في عملية تصميم الغلاف، وربما ذلك أفضل: هو عمل المصمّم المحترف، الذي يقرأ النص ويحاول ترجمة أهم ما فيه بصريًا، مع مراعاة الجانب الفني الجذاب، وهذه مهارات لا يجيدها الكاتب في الأعم الأغلب. فكرة ما هو الأهم، أو بصياغة أخرى روح النص، هي الفكرة الخلافية. قد لا يحس الكاتب بأنّ المصمّم قد أحسن التعبير عن نصه، أو قد يحس أن الوظيفة الترويجية قد طغت على المعنى. لكن عامة لا يمكنك أن تضع أهمية كبيرة لمثل هذا الموضوع، ما هي القيمة المضافة للنص من غلاف وإن كان مثاليًا؟! يعني غلاف لنص مثل «المسخ» لكافكا يصمّمونه عادة بموتيف لحشرة (الحشرة في النص ليست صرصورًا بالضبط) ومهما اختلفت جماليات تصميم الموتيف، فهذا الغلاف أجمل وهذا الغلاف أقل جودة مثلًا، فما هي الإضافة أو الأهمية الكبرى لذلك بالنسبة للنص وفهمه؟

يتابع صاحب «انجيل آدم»، قائلًا: قبل مئة عام كانت النصوص تنشر بغلاف مكتبي جامد وبسيط (أظن أن “غاليمار” في فرنسا ما تزال تمارس نفس التقليد)، ولم يزد ذلك أو ينقص من فهم الكتاب. في النهاية أصبح تصميم الغلاف جزءًا من عملية تتسم بتقسيم المهام في الصناعة الحديثة، وخيرٌ للكاتب أن يتفهم أنه لا يمكنه تصميم الكتاب على أكمل وجه، ولا يمكنه تسويقه ولا ترويجه ولا بيعه على أكمل وجه أيضًا.

البشير ضيف الله: الغلاف “فيزا” عبور نحو المتلقّي

الشاعر والكاتب الجزائري البشير ضيف الله، يجيب عن تساؤلاتنا قائلًا: الثابت عندي -على الأقل- أنّ غلاف المتن الأدبي “فيزا” عبور نحو المتلقّي بكل تمثلاته، حيث يدخل في صميم “البريستيج” الخارجي بما يحمل من دلالات وجماليات لها أثرها اللاّفت: “الاسم وموقعه، العنوان وموقعه، التشكيل وتجلياته..”، وهو ما يعني بالضرورة أهمية هذه “العتبة” التي تبرز مدى احترافية الدار/الناشر.

صاحب «العولمة وتحوّلات الكتابة»، أضاف: الواقع يثبتُ أنّ دورًا قليلة بالمجمل تجعل من مهمّة اختيار الغلاف: شكلًا/ خطوطًا/ ألوانًا صناعة قائمة بذاتها وتضبط عقارب تصميمها على الكاتب بوصفه منتجًا للنص.. فالعملية برمّتها فنية تقتضي التعاقد مع فنانين ومختصين تنبثق رؤاهم انطلاقًا من المتن وتخاتل محموله الرؤيوي بطريقة فنية احترافية تجنبًا لـ”التكديس”.

ولعل تجربتي في هذا الشأن- خمس مجموعات شعرية وأربعة متون نقدية- تؤكد الحقائق السابق ذكرها، فلم يحدث أن تلقّيتُ إشعارًا من الناشر يحثني على إبداء الرأي في الغلاف، أو حتى تقديم وجهة نظر معينة، بل لم يكن يدخل في باب الاهتمامات أصلًا ما يكرّسُ “مركزية سلطوية” تفرض نفسها على المتن وقد لا تتقاطع مع تفاصيله والأمثلة كثيرة في هذا المضمار.. باستثناء دار “ضمة” للنشر حيث أصدرت مجموعتي الشعرية الأخيرة «أس، أم، أس»، والتي كنت فيها مع تواصل دائم بالناشر عبد الفتاح بوشندوقة، ومتابعة كل صغيرة وكبيرة، وتم الاتفاق نهاية على الغلاف الرسمي للمجموعة الشعرية بعد دراسة متأنية، ووجهات نظر عديدة، واقتراحات تم أخذها بعين الاعتبار وهي نقطة تُحسبُ لصالح الدار/الناشر.

يوضح صاحب «أساليب الشعرية المغربية المعاصرة»، أنّ الرهان المفترض أساسًا لدور النشر الباحثة عن الاختلاف، يقتضي أن يكون الفنّان التشكيلي عنصرًا فاعلًا في كل عملياتها “العتباتية” مثله مثل المدقّق اللغوي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون الحواسيب والبرامج المدمجة بديلًا عن الرؤية الفنية خصوصًا في الأعمال الأدبية والفنية، فنجاحُ العمل الأدبي مرهون بمدى استقطابه للقارئ كمرحلة أولى، ونقطة الاستقطاب المركزية هي الغلاف بكلّ تمثلاته وأشكاله، ولعل عزوف القارئ العربي المشهود عن قراءة الأعمال الأدبية مقارنة بأخرى يعود في جزء مهم منه إلى نوعية الأغلفة التي لم تعد تمارس “إغراءها” بعد أن وقعت في التكرار و الجاهز بعيدًا عن الاشتغال والاحترافية.

رسول محمد رسول : ديكتاتورية الناشر

من جهته قال الناقد والروائي العراقي رسول محمد رسول: في حياتي العلمية والفكرية والفلسفية نشرتُ أكثر من خمسين كتابًا حتى الآن، وفي أول كتاب لي كنتُ أنا من صمّم غلافه؛ بل وأخرجته، ووضعت لوحة لفنان عراقي على غلافه، وكان عنوانه «العقلنة.. السبيل المرجأ»، ونشرته في بغداد بمطبعة أهلية، ومنذ ذلك التاريخ كان عندي الحس الفني لأنني كنت أعيش في بغداد مدينة الفن والجمال ولي علاقات مع كبار الفنانين. عدا ذلك لم أتدخل كثيرًا في تضميم أغلفة مؤلّفاتي.

ويؤكد رسول أنه يتفق مع الرأي القائل إنّ “غلاف الكتاب هو أوّل العتبات النصيّة للتجربة الإبداعيّة، وهو العتبة البصريّة للتجربة، التي تتجسّد بها بصريًّا، وتتّخذ سمتَها الإبداعيّة”، مبيّنًا أنه اكتسب هذه العقيدة من علاقاته مع الرسامين وبقية الفنانين التشكيليين؛ فالفن في حدّ ذاته عتبة مركزية في الوجود، وأيّ “لطشة” أو صورة نضعها على الغلاف تُحيل على مضمونه أو ما يوحي إليه، وهو عتبة بصرية ترمي إلى دلالات ما يرد في الكتاب، لكن في الغرب توجد تقنية عالية أما نحن في العالم العربي فأقل جدًا، وأحيانًا لا أجد معنى في أغلفة مؤلّفاتي.

ويرى صاحب «نقد العقل التعارفي»، أنّ عتبة الغلاف هي فعلًا كالتصدير، والتقديم، وهي تنتمي انتماءً حاسمًا إلى فضاء الكاتب ورؤيته وقصديّته، ويضيف متسائلًا: لكن الى أي حد يحقّق الغلاف ذلك؟ ويجيب: بعض الناشرين عندهم عماء بصري وبعضهم لديهم عماء جمالي أصلًا وفكري وغيرهم لا يحترم الكتاب ولا مؤلّفه فيبدو دكتاتورًا.

ولا يخفي مُحدثنا أنه في بعض الأحيان يشعر بالظلم في رحلة تصميم أغلفة مؤلّفاته، لكنه يضيف: عمومًا أنا سعيد بكل أغلفة منشوراتي التي تربو على الخمسين كتابًا، لأنه في بعض الأحيان يتدخّل في طرح أفكار تخدم عملية تصميم الغلاف دون أن يجد حرجًا في ذلك.

فكرية شحرة: تجربة مرهقة

في اليمن، نتوقف مع القاصة والروائية فكرية شحرة، التي قالت إنها تتفق مع مقولة إنّ الغلاف هو مفتاح الكتاب، وعامل أساسي لجذب القارئ، رغم سطحية الفكرة. مضيفة: الغلاف بالفعل أول العتبات النصية للمحتوى. والكثير يصر على أن يكون الغلاف مرتبطًا بالمحتوى ارتباطًا وثيقًا، ويجد الكاتب عناءً كبيرًا في تصميم الغلاف كما يتخيله في ذهنه، وأعتقد أنّ لكل كاتب تجربة مرهقة في ذلك.

توضح صاحبة «قلب حاف»، أنه بالنسبة لها أصرت على التدخل في تصميم أغلفة مؤلّفاتها الستة، رافضة عددًا من اقتراحات دور النشر، وأنها عملت على تعديل تفاصيل كثيرة. مبينة أن دور النشر التي تعاملت معها كانت مرنة وصبورة حتى تظهر الأغلفة كما هي تحب. وتصارحنا شحرة أنه كثيرًا ما يجد الكاتب نفسه في نهاية الأمر غير راضٍ ولو بنسبة بسيطة عن الغلاف أو العنوان أو حتى المحتوى.

عاطف عبد الرحمن: تضليل القارئ

الروائي المصري عاطف السيد عبد الرحمن، قال: لي مع تجربة الطباعة والنشر سبعة تجارب، ست روايات مع النشر الخاص، وتجربة وحيدة للنشر المسرحي مع دور النشر الحكومية. في الإصدار الأول لرواية «أيام الإمام» وهي روايتي الأولى، كان لي رأي في الغلاف وعرض عليّ ووافقت عليه.

أما الإصدار الثاني، وهو رواية «زمن العشق والجنون»، والثالث رواية «ليالي عزبة البوهي»، كان الرأي للناشر وكان الغلافان بعيدين تمامًا عن روح الروايتين! لكن في الإصدار الرابع، رواية «التاسوع»، كان الغلاف فكرتي وصممت عليه، وكذا الإصدار الخامس رواية «تلك اللحظة». وفي الإصدار السادس وهو رواية «جيهان.. شعاع من الشمس» لم يتمكن مصمّم الغلاف من بلورة فكرتي فكان الغلاف بعيدًا كذلك عن محتوى الرواية.

بينما الإصدار المسرحي الوحيد، وهو مسرحية بعنوان «شحاتين وحرامية»، ولأنني كتبت عليها مسرحية استعراضية قاموا بوضع صورة راقصة على الغلاف! وكوني أؤمن تمامًا بأن الغلاف هو أول العتبات النصية للتجربة الإبداعية وهو العتبة البصرية للتجربة التي تتجسد بصريًا خلاف نظرة الناشر الذي يبحث عن غلاف مبهر يجذب القارئ باعتباره زبونًا وليس قارئًا، فقد كان حزني شديدًا حين كنت أرى أغلفة إصداراتي لا تعبر أو تقترب من المحتوى أو المتن الذي تحتوي التجربة الإبداعية. كمثال على ذلك كانت رواية «ليالي عزبة البوهي» ولأنها تدور في جزء منها في الموالد الشعبية وتحاول كشف ضلال وزيف هذه المعتقدات إلّا أنّ غلافها كان لراقص تنورة باللون الأخضر مما دفع الكثير من القراء والنقاد للتعامل معها باعتبارها رواية تنحاز لما يسمونه “الأدب الصوفي”، ولهذا كانت صدمتهم شديدة حين طالعوا العمل فوجدوه يقف على النقيض من معتقداتهم.

يتابع عبد الرحمن أنّ الغلاف هو جزء مهم من الرواية مثله مثل التصدير والتقديم والإهداء ولا يصح أن يكون معيارًا لتضليل القارئ وجذبه لناحية عمل ربما لا يفضل محتواه.

نذير الزعبي: من طور الهواية إلى الاحتراف

بالانتقال للحديث مع مصمّمي الأغلفة، كانت لنا وقفة مع القاص والمصمّم السوري نذير الزعبي، الذي أجاب على أسئلتنا قائلًا: إن الشغف؛ أي شغفٍ، برأيي، ما هو إلا نضجُ ثمرةٍ كانت قد بذرتها في قلوبنا يدُ الطفولة. بدأت علاقتي بالأغلفة منذ سنين الطفولة المبكرة؛ كانت الأغلفة بألوانها والرسوم التي عليها هي التي تحرضني على الاقتراب من تلك الكائنات الورقية الغريبة المكتظة بكلام كثير يرهقني مجرد التفكير بقراءته. كبرت وبدأت أكتشف أنّ فعل القراءة ليس مرهقًا، وأنّ الأغلفة التي كانت تشدني نحو الكتب، لم تكن جميلة حقًا.. أو لنقل لم تكن بجمال ما خلف الغلاف من كلمات. هل من الممكن صنعُ غلافٍ يضاهي جمالَ ما بداخل هذا الكتاب أو حتى يقاربه؟ هكذا كنت أسائل نفسي بعد كل كتاب جميل أفرغ من قراءته.

مرت السنون وسمحت الأقدار أن أجرب بنفسي الإجابة عن ذاك السؤال، إذ جاء تحوّلي من قارئ إلى كاتب بعد أن كنت قد احترفت الـ Graphic design لسنوات طويلة، فصمّمت غلاف أول كتبي وبعده بقية كتبي التي عددها الآن ستة، بالإضافة إلى أغلفة بعض الصديقات والأصدقاء، دون أن أفلح في الوصول إلى جواب جازم لذلك السؤال.

يتابع صاحب «32 فهرنايت»، حديثه معنا: انتقلت هذا العام من طور هواية تصميم الأغلفة إلى طور احترافه كمهنة من خلال عملي مع “دار مرايا”. كنت قد تردّدت كثيرًا قبل الموافقة على هذا التحوّل في علاقتي مع الأغلفة، فقد كنت فيما مضى أجرب الإجابة عن ذاك السؤال في كتبي وكتب أصدقائي، كان الأمر أشبه بلعبة بيني وبين تلك الكتب التي أعرف أصحابها، أما الآن فعليّ ممارسة اللعبة مع كتب أناس لا أعرفهم ولا أعرف شروطهم فيما يخص اللعب مع كتبهم. “سأصادق كتبهم بدلًا منهم”، قلت لنفسي أخيرًا وأبلغت الدار بموافقتي على اللعب معهم، لكن بنفس شروط اللعب التي اعتدتها: لا أحد يرى الغلاف إلّا بعد أن أنتهي من تصميمه، ولن أستمع إلى أي اقتراح فيما يخص فكرة التصميم، والأهم من كل هذا: إن لم أحبب الكتاب فلن أصنع غلافه. كانت نتيجة اللعبة اِثني عشرَ غلافًا، ومئات الإعجابات، وعشرات رسائل الإشادة والثناء، وسؤالٌ وحيد لم يزل يلوح لي كلما لمحتُ أحد تلك الأغلفة: “هل من الممكن صنعُ غلافٍ يضاهي جمالَ ما بداخل هذا الكتاب أو حتى يقاربه؟”.

صفاء ذياب: ضرورة الحفاظ على هوية الدار الجمالية

نذهب بأسئلتنا إلى العراق، لنتحدث مع الكاتب والناشر صفاء ذياب، صاحب دار “شهريار”، حول دور الناشر في عملية ولادة أغلفة الكتب، فيقول: إنّ اختيار الكتاب والموافقة على طباعته معضلة ليس من السهل حلّها، فهناك طريقان لهذا الاختيار، إما أن تبني الكتاب من خلال استكتاب أحد المؤلّفين عن موضوع معيّن يهم الدار، أو اختيار كتاب أو موضوع للترجمة، والطريق الآخر أن يعرض عليك أحد المؤلّفين كتابه. الطريقان ليسا معبدين، بل هناك مطبّات كثيرة على الدار ومحررها حلّها، بناءً على هوية الدار وخطابها الذي بنيت عليها، ومن ثم طرائق تقديم الكتاب للقارئ. يضيف ذياب: هناك الكثير من الكتّاب يرفضون فكرة التحرير – وهذا سياق طبيعي في الدور الأجنبية- فالكاتب العربي يرى نفسه فوق الشبهات، ولغته لا تجارى، وليس لديه أي أخطاء، لا أسلوبية ولا لغوية.. وهذا بحد ذاته صراعٌ، الخروج منه بحاجة لعقل آخر غير العقل الذي يختار ويحرر ويصمم ويطبع.

يتابع صاحب «تمثّلات العجيب في السيرة الشعبية العربية»، القول: إنّ أغلب كتّابنا يرون في أنفسهم أنهم قادرون على فعل كل شيء، ابتداءً من اختيار الموضوع، ومرورًا بالتحرير وترتيب الكتاب، وليس انتهاءً بتصميم الغلاف من خلال اقتراحات لا علاقة لها بشكل الدار ولا هويتها، وهذا ما يؤدي إلى حدوث شرخ بين الدار والمؤلّف، وربما تعتذر الدار عن الاستمرار بالعمل مع هذا المؤلّف. من وجهة نظري، فإن التحرير والقضايا الفنية في صميم عمل أي دار نشر، فالمؤلّف غير معني بهذه التفاصيل، لأنّ الغلاف وتصميمه والموافقة عليه من حق الدار التي تريد أن تبني لنفسها هوية جمالية، فضلًا عن خطابها الفكري.

يوضح الناشر العراقي: أتحدثَّ هنا عن دور النشر التي لديها خطاب فكري وليست الدور التي تقوم بعمل أشبه بمكتب طباعة واستنساخ وهي الأغلب عربيًا وعراقيًا. فهناك سياق فني تسعى الدار لترسيخه وتقديمه للقارئ بالثوب الذي تراه مناسبًا، وهذا السياق يضم كتب ومؤلّفي الدار، ولا يمكن أن يكون لكل مؤلّف سياق خاص، فبهذا تضيع أية هوية وملامح لدار النشر.

اختيار التصميم والشكل الفني من قبل الدار يبني عتبتين، الأولى عتبة الدار، والثاني عتبة الكتاب. هذه العتبة التي تمثّل العلاقة المتبادلة بين الدار ومصمّمها، وليست علاقة بين التصميم والكتاب. ربّما هذا الكلام يكون صادمًا لدى الكثير من المؤلّفين والقراء، لكن هذه هي الحقيقة، والدراسات التي تقوم على فهم الكتاب من خلال عتبته الفنية دراسات اعتباطية وغير واقعية، لأن الدار ومصمّمها يقدمان رؤية فنية للكتاب وليس محتواه.. وربما في الكثير من الأحيان يكون هناك فراق بين الدار والمؤلّف بسبب تعنت المؤلّف باختيار لوحة ما تعبر عن رؤيته، في حين تختلف هذه الرؤية عن خطاب الدار الجمالي.

سامح خلف: مهمّة إبداعية

في نهاية تحقيقنا، نذهب إلى السويد ليحدثنا المترجم والناشر السوري سامح خلف عن تجربته كصاحب دار “سامح”، فيقول: إنّ غلاف الكتاب هو بالفعل مفتاح العلاقة بين القارئ والكتاب، وهي علاقة قد تنشأ بينهما من النظرة الأولى، وقد تنفصم. وهذا أمر منطقي تمامًا لأنّ الغلاف هو العتبة البصرية الأولى، كما شاع القول، للدخول إلى عالم الكتاب. لذلك ينبغي أن يكون الغلاف جذابًا وملفتًا للنظر من جهة، وملائمًا قدر المستطاع لموضوع الكتاب من جهة أخرى، وهذه مهمّة إبداعية وعملية يتحمّل عبئها مصمّم الغلاف.

خلف يرى أنّ مهمة مصمّم الأغلفة لا تقتصر على الإبداع والملاءمة العملية، بل يتوجّب عليه أيضًا أن يوفّق بين ثلاث رؤى قد تتقارب وقد تتضارب: رؤية كل من المؤلّف والناشر والمصمّم. ويوضح أنه من خلال تجربته، يستطيع القول: إنّ وجهتي نظر الناشر والمصمّم تكونان في معظم الأحيان متقاربتين جدًا نظرًا للعلاقة التي ترسخت بينهما على مدى سنوات من العمل معًا. وهناك تجارب معروفة لدور نشر كبرى وعريقة اكتسبت هوية بصرية مميّزة بفضل مصمّمين مبدعين أعطوا لتلك الدور طابعها الجمالي الخاص، خصوصًا في لبنان ومصر والأردن؛ لافتًا إلى أنّ المؤلّف هو الطرف الأول، أو صاحب الرؤية الأولى في هذه العلاقة. ومن نافل القول إنّ المؤلّفين يتفاوتون من حيث الثقافة والذائقة البصرية وأسلوب التعبير، من بين أشياء أخرى. وأردف قائلًا: لكن يمكنني كناشر النظر عمومًا إلى المؤلّفين، إذا جاز لي ذلك، ضمن فئتين: المؤلّف الراسخ في مسيرته الأدبية والذي حقق انتشارًا وشهرة واسعة، والمؤلّف المبتدئ الذي يحاول شقّ طريقه بصعوبة في هذه البيئة الوعرة.

ويشير إلى أنه قلّما واجهته مشكلة مع مؤلّف صاحب تجربة أدبية راسخة، ذلك لأن هذا المؤلّف مطمئن عمومًا إلى صورته ككاتب معروف، ويكتفي غالبًا بنوع من الإيحاء أو الإشارات إلى تصوّره لغلاف الكتاب. ثم قد يبدي في النهاية بعض الملاحظات أو يطلب بعض التعديلات.

أما المؤلّف المبتدئ – بحسب مُحدثنا- فلديه في غالب الأحيان تصوّر جاهز لتصميم الغلاف، وربما أتى بتصميمٍ أعدّه بنفسه أو بمساعدة أحد أصدقائه. وهنا قد تحدث مشكلة بسيطة، أو صعبة، تُحلّ غالبًا بالمرونة والإقناع.

الناشر السوري أكد لنا أنه لم يحدث معه قطّ أن وصل الخلاف بينه وبين أي مؤلّف إلى درجة القطيعة. والسبب في بروز هذا النوع من الإشكالات، في رأيه، هو توفّر أدوات التصميم الرقمي بين أيدي الجميع مما يوهم الكثيرين بقدرتهم على التصميم الغرافيكي.

ويختم خلف حديثه بالقول: من حق المؤلّف أن يبدي وجهة نظره في تصميم غلاف كتابه، بل إنّ العقد بين المؤلّف ودار “سامح” يتضمن بندًا ينص على أنّ تصميم الغلاف ينبغي أن يحوز على موافقة المؤلّف ورضاه.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى