مقالات

أدب لكل السوريين/ سوسن جميل حسن

سؤال ما هو دور المثقف أو الأديب تحديدًا في مواجهة الكوارث الكبرى، خاصة الحروب، يبقى مطروحًا للبحث باستمرار، فتاريخ البشرية عامر بالحروب حتى تكاد سنوات السلم، أو التي لم تشتعل فيها حروب كبيرة، لا تشكل فسحة من الزمن يُعتد بها أمام احتلال الحروب للأزمنة البشرية كلها منذ بدء تدوين تاريخها.

أما ما تشهده البشرية اليوم من حروب وكوارث طبيعية يتوجها وباء كوفيد 19 الذي يمثل أكبر تحدٍّ لها بما أحدث إلى الآن من اضطراب على مستوى العالم وتهديد لحياة البشر واستقرار الدول، وزعزعة للنظام العالمي الذي كان حتى أمس يبدو كما لو أنه القدر الوحيد للبشرية، فإنه يفرض على الأدب واجبًا أخلاقيًا لا يوجد مبرّر لأحد التنصل منه إلاّ إذا كان غير مكترث بمصير البشرية ولا عابئ بآلام الناس، هذا إذا لم نقل إنه مستقطب سياسيًا في وقت صارت معه السياسة غارقة في حمأة الشر الذي يستولي على حياة أمم وشعوب ويسلبهم حقهم فيها، بل ويستولي على روح الكوكب الذي نعيش فيه بحكم القوة من دون الالتفات إلى حصة كل مخلوق في الحياة عليه.

في حرب كالحرب السورية، بما اتصفت به من تدخل اللاعبين الخارجيين وتداخل خطوطهم في رسم الواقع كل حين في عمر الحرب، هل تبقى المعادلة القائمة على الصراع بين الضمير والطاعة لدولة فاسدة أخلاقيًّا، كما ينعتها قسم من الشعب ويناهض هذا الوصف القسم الآخر، صالحة لتكون القاعدة لبناء موقف أخلاقي ورؤية مستقبلية؟ أم إن المصير الذي آلت إليه الانتفاضة والمسار الذي دفعت إليه وانزياح أهدافها وشعاراتها عن مسارها الحق وسرقة طموحها من قبل الفصائل المتطرفة أو تلك الانفصالية أو غيرها المرتهنة للخارج والموالية لزعماء دول في الجوار لها نفوذها على بعض المناطق، كفيلان بإعادة النظر وتصحيح المواقف، وبناء خطاب مغاير واشتغال الأدب والثقافة على جبهات أخرى؟

الثورة والمجاعة، التضخم والرعب، الأوبئة والهجرة، التعصب الديني والطائفي والقومي، عودة الإيديولوجيات والعقائد، الجريمة بكل أشكالها، انهيار المنظومة الأخلاقية والقيمية، هذه ملامح مجتمعاتنا الحالية، نحن شهود عراة محبطون يائسون، على انحطاط الإنسانية إلى الدرك الأسفل من انعدام القيم وقتل الخير وتنمّر الشر.

نحن نحتاج إلى خلق أدب مناهض للحرب قبل كل شيء، الحرب التي اشتركت فيها أطراف عديدة خارجية وإقليمية مباشرة أو بالنيابة، ولم توفر جانبًا لم تحرقه أو تدمره في كل المناطق السورية، هذا أكثر ما نحتاج إليه من أجل إعادة العمران الإنساني قبل كل شيء بما يشكل من عتبة مهمة للدخول إلى مجالات العمران الأخرى.

في أوروبا التي شهدت في القرن الماضي حربين عالميتين مدمرتين، وكانت قبلها قد عاشت حروبًا عديدة أيضًا، خرج على العالم كتّاب ومبدعون يكتبون آراءهم ويعلنون مواقفهم، ينتصرون للإنسانية، ويناهضون أداء حكومات بلدانهم وخوضها حروبًا مدمرة، رافضين البقاء خرسًا وسط هذا الدمار. ليس المطلوب فقط تحديد القضايا المحقة التي على الأدب أن يضطلع بمهمته في نصرتها، بل المطلوب أيضًا حماية الأدب كمنتج حيوي يمثل ضمير كل أمة وحياتها والنهوض به، الاهتمام بالأدب بحد ذاته يحتاج التقارب ثم التلاقي والاجتماع من أجل هذه المهمة، وهذا لا يحدث إذا لم يستقل الأدب عن السياسة، إذا لم يقف الأديب جانبًا وينظر بعينيه الاثنتين وتكون وجهته شاملة لكل الناس بغض النظر عن الانتماءات الأخرى وبعيدًا عن ولائهم السياسي، فمن الطبيعي أن تكون الولاءات الجماعية خاضعة لتأثير أفكار وعقائد وأجندات ليست بريئة وبعيدة عن القضايا الحيوية للناس، ومن المعروف حجم التضليل الذي يمارس في حروب من هذا النوع، وكيف تعمل الأجندات على تشكيل وعي عام يخدمها وتشكيل كوادرها الخاصة. إذا لم يملك الناس العاديون خيارًا إلاّ أن يذعنوا لما تقوله وتفرضه السلطات الحاكمة، وأن يبقوا مقيدين لقدر عام وضحايا لأشد السياسات تضليلاً وبطشًا، فإنه ليس من المقبول من الأدباء أن يُحكموا بهذه الشروط. يقول شتيفان تسفايغ الذي انتحر في منفاه قبل نهاية الحرب العالمية الثانية في معرض تقديمه لكتابه المؤثر “عالم الأمس”: لقد تعمدت أن أجعل هذه الاستعادة لحياتي تنتهي عند تاريخ محدد، ذلك أن ذلك اليوم من أيلول/ سبتمبر 1939 قد كتب آخر ديباجة للمرحلة التي شكلتنا وثقفتنا، نحن البالغين الستين من العمر، ولكن إذا استطاعت شهادتنا أن تنقل إلى الجيل التالي ذرة من الحقيقة عن هذا البنيان المتفسخ، فإن عملنا لن يذهب كله سدى. وإذا أمعنا النظر في هذا القول فإننا سوف نرى أنه لم يكن رأيًا سياسيًا أو موقفًا سياسيًا، بل كان شهادة موضوعية مغمسة بالقهر والألم ومعمدة بنزاهة الضمير، تحتّم على صاحبها واجبًا آمن به، هو يصف واقع العالم في خضم الحرب بالبنيان المتفسخ، بما يحمل هذا الوصف من رفض وموقف قيمي وأخلاقي لذاك الواقع.

إذا اجتمع الأدباء في سورية على أهداف محددة وواضحة تعتبر من صميم انشغال الأدب، الانشغال بالواقع الذي خلقته الحرب وتعيد تشكيله كل يوم على وقع الخراب المحدث والانهيار المجتمعي، متحرّرين من ميولهم السياسية ومواقفهم المبدئية التي اتخذوها في بداية الأزمة، فإنهم يؤسسون لمرحلة جديدة تبني مشروعها على أسس سليمة طالما شاغلها قضايا المجتمع والشعب، وقضايا الأدب والنقد، المهم أن يجتمعوا ويعملوا أقلامهم في الاتجاهات الصحيحة، إذ نرى إلى الآن استقطابًا ملحوظًا لشريحة من الأدباء والنقاد، يصل حدّ عدم الاكتراث بمنتج بعضهم البعض حتى في صفحات التواصل الاجتماعي التي برزت فيها الشللية باكرًا، والتهافت الكيدي لصنع أيقونات على حساب القيمة المطلوبة. قليلاً ما اشتغل الأدباء والنقاد على المنتج الإبداعي بعيدًا عن النوازع السياسية، وبمعزل عن تأطير كاتبه بصورة نمطية جامدة ومحاكمة منتجه على هذا الأساس، بالرغم من العناوين التي يتم إشهارها “لكل السوريين” والواقع يقول العكس، إذ لا تستقبل المنابر أو الأندية أو الروابط المعنية إلاّ مساهمة من يمثلون موقفها السياسي والأجندات المرتبطة بها.

بدعوة من الشاعر هانز فاينر ريشتر في عام 1947 في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية تشكلت “جماعة 47” ضمت مشاهير الأدباء الألمان، منهم من عاد من المنافي الاختيارية، ومنهم من ترك ألمانيا الشرقية مثل غونتر غراس، يسيطر عليهم جميعًا رعب الحرب العالمية الثانية والشعور بثقل الخطيئة، التي جرّتها على البشرية ألمانيا النازية، بدافع القلق على الثقافة الألمانية التي آلت إلى وضع مزرٍ وفق رأيهم ورؤيتهم، بسبب الحرب والديكتاتورية الهتلرية. وكانوا متحمسين لخلق مشهد ثقافي جديد وحركة نقدية مغايرة لما كان تحت ظل النازية، التي حاصرت الثقافة والمثقفين ومنعتهم من قول إلا ما تريد هي قوله.

لا يضير بشيء استذكار بعض تجارب الشعوب علها تفيد في التنبّه إلى ما يجب الالتفات إليه، وتستنبت بذرة النقد الذاتي من أجل الخروج من الأنساق الضيقة. لا يمكن التقليل من شأن ما أنتج من أدب في السنوات العشر الماضية، لكن من المفيد دراسته ونقده ووضعه في ترتيبه المناسب، فهو كان الباب الذي تدفقت من خلاله الأقلام بعد تحطيم حاجز الخوف وتكسير قيوده، وخرج كم كبير من الأعمال التوثيقية والسيرية والذاتية، توثيق للمعتقلات والسجون وممارسات الاستبداد، وتوثيق للحراك منذ بدايته وللمعارك التي اشتعلت في أماكن التوتر، لكن أظن أن الأوان قد آن ليجتمع الأدباء ويشكلوا نواة مجموعة تأخذ على عاتقها مسؤولية البداية بمشروعها واحتضانه، خاصة بعدما أنتجت السنوات العشر الأخيرة مدونة لا بأس بها من الرواية بشكل خاص، ومن الشعر والنثر والشهادات والقصة.

يتمخض الواقع كل يوم عن مشاهد تعطي صورة عن حجم التردي والخراب والبؤس الذي آلت إليه حياة السوريين، وعن التحولات الكبيرة والمتسارعة التي تفقدهم اليقين بكل شيء وتهدم سقوفهم كلها، المعرفية والنفسية والروحية، وهذا يشكل خامات ثرية للأدب، وقاعدة بيانات واسعة لاستقرائهم وإثارة الأسئلة في بالهم، وهذا جدير بأن يشكل نواة يجتمع عليها الأدب والأدباء ويؤسسوا لأدب جديد يمكن عنونته بأدب الحرب السورية، مثلما كانت الأزمة السورية متفردة بملامحها في التاريخ الحديث.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى