الناس

عن محاكمة مجرمي الحرب السوريين

ها أنا أقف أمامي”: شهادات أقبية التعذيب السورية أمام القاضي الألماني/ جود حسن

بقدر ما هي تجربة مؤلمة للشهود، بقدر ما هم يشعرون للمرة الأولى بجهاز قضائي مهتم بالاستماع لأقوالهم وتجربتهم والانتهاكات التي تعرضوا لها… هنا تجربة صحافي سوري يتابع جلسة محاكمة ظابطين سوريين، وهو معتقل سابق.

    أن يتولى صحافي سوري، وهو معتقل سابق، متابعة تغطية جلسة محاكمة ضابطين من أركان النظام السوري في ألمانيا ضمن ما بات يعرف قضاء كوبلنز، فإن الأمر سيختلط عليه بين تولي نقل المشهد وبين أن يكون جزءاً منه. جود حسن وقع في هذا المأزق ونقل لنا ما شاهده في المحكمة، ولكن نقل لنا أيضاً ما يشعر به المرء حين يقف في وجه جلاده، بوصف الأخير متهماً وبيد العدالة الألمانية.

مجسّم المحكمة وأدوار الحضور

دوماً ما شعرت بتشابه بين قاعة المحكمة وخشبة المسرح، لكني لم أجرؤ على البوح بذلك مطلقاً، فإدراكي للفارق بين الحكاية المسرحية والأحداث الواقعية يغمرني بالذنب لهذه المقارنة بين المكانين.

على المنصة، وفي صدر القاعة أربعة قضاة نساء وقاضٍ مساعد، يشرفون على قاعة يتوزع عليها فرق الادّعاء، المحامون، الشهود، الصحافيون، والناشطون.

كان كوفيد-19 حاضراً أيضاً، فاتّخذ القيّمون على المحاكمة قراراً بتحديد عدد الحضور بما لا يزيد عن 29. على يمين القاعة، وخلف الحاجز الزجاجي، يجلس المتهمان، لكل منهما مترجمه الخاص وفريق محامي الدفاع عنه. أما القسم الأيسر من القاعة فهو مخصص لممثلي النيابة العامة. وباستثناء الجسم القضائي والقانوني، فإن بقيّة الحضور يشغلون 10 مقاعد فقط، من بينهم صحافيون يغطون الحدث لوسائل إعلام مختلفة.

يبيّن المحامي (باتريك كروكر) المستشار القانوني في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان أهمية الحدث باعتباره المحاكمة الأولى التي يجريها جهاز دولة قضائي، لأحد النافذين السابقين في النظام السوري، وتشمل جرائم مثل القتل خارج القانون، والتعذيب، والعنف الجنسي في المعتقلات السورية. ويذكر المحامي أن المحكمة قد عينت اثنين من محامي الدفاع لكل منهم. ويضيف أنها المرة الأولى التي يطرح فيها هذا الكمّ من الأدلة ويتم التعامل معها بدرجة عالية من الدقة القضائية. وقد طلبت المحكمة من الخبراء والباحثين المختصين كتابة دراسات عن الوضع السياسي والأمني في سوريا، وعن طبيعة العلاقة بين السلطة والمواطنين، وهناك بعض الدراسات التي تعود إلى التاريخ السوري حتى عام 1960. بينما تشير مساعدة كروكر، الحقوقية السورية (جمانة سيف)، إلى سعي هيئة الادعاء لإدراج جرائم العنف الجنسي والقائم على النوع الاجتماعي الغائبة حتى الآن على لائحة الاتهام: “من المؤسف ألا تثبت في أول محاكمة من هذا النوع جرائم العنف الجنسي”.

الحضور، الشهود، الضحايا:

الحضور من الجمهور هم الشهود، مما يعني أنهم الضحايا أيضاً. أفكر بهؤلاء المظلومين والمظلومات الذين ينعمون للمرة الأولى بقاعة محكمة تنصت لشهاداتهم في بلد يُعتقد عنه أن صوت القانون هو السائد فيه فوق أية اعتبارات أخرى. الحضور هم الناجون والناجيات، المدّعون والمدّعيات، والشهود والشاهدات، في الآن عينه، منحوا فرصة اكتشاف وجود أشخاص مناصرين لقضيتهم. لكن يبقى أعمق ما يجمع بينهم هي التجربة التي عايشوها هم أو أصدقاء لهم أو أحباء. يحضر في القاعة عائلات المفقودين، أقارب المعتقلين، أمهات المقتولين. كنت أجول في نظري على القاعة فأشعر مثلهم، بأني محاط بأشخاص مروا بتجربة مماثلة لما عايشته، ليس بالضروة في التاريخ عينه، قبل أو بعد في الزمن، لكنها التجربة ذاتها. إنهم يشاركونني ما مررت به، ولو اختلفت تفاصيل كل منا في رواية حكايته.

تشرح لنا الحقوقية السورية (جمانة سيف) صعوبة التجربة التي يعايشها المدعون والشهود، وتقول: “بقدر ما هي تجربة مؤلمة للشهود، بقدر ما هم يشعرون للمرة الأولى بجهاز قضائي مهتم بالاستماع لأقوالهم وتجربتهم والانتهاكات التي تعرضوا لها. في البداية، رفض العديد من الشهود المشاركة بسبب فقدان الأمل، ولكنهم الآن يعبرون عن رغبتهم بالمشاركة في الادّعاء والشهادة. لقد آمنوا بأنها جزء من طريق العدالة. وما زالت المحاكمة اليوم مفتوحة لضم مدعين آخرين وشهود آخرين”. أما بخصوص شهادات النساء ومشاركتهنّ في مجريات القضية فتقول سيف: “في البداية أبدت المدعيات والشاهدات بعض المحاذير من المشاركة، ولكننا الآن نرى تزايداً في مشاركة النساء المدعيات والشاهدات”. كذلك تشرح المحامية عن نوع آخر من المدعين والشهود، أولئك الذين رفضوا المشاركة خوفاً على مصير عائلاتهم في سوريا.

المتهمان:

العام الماضي ألقت الحكومة الألمانية القبض على المتهمين، وجرى ذلك في برلين وفي ولاية راينلاند-بفالتس جنوب غرب البلاد، لتبدأ المحاكمة في تاريخ 23 نيسان 2020، وهي أول محاكمة تتم لضابطين سابقين من جهاز مخابرات النظام الحاكم في سوريا، يشتبه في ارتكابهما جرائم ضد الإنسانية، وممارسات التعذيب، وجرائم اعتداء جنسي.

المتهم الأول: (أنور رسلان، 57 عاماً)

عقيد سابق في أمن الدولة، كان يدير فرع أمن منطقة الخطيب في دمشق، والمعروف أيضًا باسم “الفرع 251″.

التهم :تعذيب 4000 معتقل في أحد أفرع المخابرات العامة (فرع أمن منطقة الخطيب 251) في دمشق. ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في العامين 2011- 2012

ارتكاب 58  جريمة قتل.

ارتكاب جرائم اغتصاب واعتداءات جنسية.

 ويذكر أن هذا الفرع شهد موت 58 معتقلاً تحت التعذيب.

المتهم الثاني: (إياد الغريب، 43 عاماً)

التهم: تقديم المساعدة للمتهم الأول في ارتكاب جرائمه.

احتجاز المتظاهرين وتسليمهم إلى فرع الأمن في منطقة الخطيب في خريف 2011.

احتجاز 30 متظاهراً وسوقهم إلى أقبية التعذيب.

ممارسات تعذيب، الضرب، الركل، الصعق، الاعتداء الجنسي والنفسي، بالإضافة إلى التهديد بإيذاء عائلة المعتقل والتنكيل بها.

قلق الشاهد والضحية من سهوات الذاكرة

دخلت رهام إلى غرفة التحقيق، يرافقها محاميها، وإرادتها الحرة وقرارها الشخصي. جلست على الكرسي بمحض إرادتها، لا شيء يلجم الرؤية، دون قيود تكبل حركة يديها، سوى قلق من سرد قصتها، وشهادتها، والمطالبة بحقها في الادعاء على المدعى عليه أنور رسلان. جلّ ما كانت تخشاه رهام هو سهوها عن التفاصيل الدقيقة لتجربة اعتقالها في فرع أمن منطقة الخطيب قبل أعوام. لقد خشيت من أثر تقادم الزمن على ذاكرتها، وقلقها من ردة فعلها النفسية نتيجة إجبارها على استرجاع كل ما حاولت طمره أثناء رحلة  محاولات الاستمرار في الحياة. تقول رهام: “من وقت ما ربينا تعودنا يضيع حقنا، وما حدا يوقف معنا، بتخاف ولو كنت على حق لانو في مين أقوى منك يهددك ويهدد حياة كل يلي بتحبون. بعد التحقيق بقيت فترة ضايعة، ما بعرف انا وين وشو صار، كل الذكريات رجعت كأنو صارت معي هلق، بس بنفس الوقت في احساس بالانتصار، هادا الشعور انو هو اليوم بالسجن، يعني مضطر غصب عنو يفكر بشو عمل، ماعاد فيو يهرب من حالو. هاد الشعور انو هو بالسجن بكفي انو يخليني حس انو انتصرت”.

أنور رسلان، أحد المتهمين

ذاكرة رهام لم تتردد أو تسهو، لا بل أعادت شهادتها الذكريات بقوة إلى ذهني وحواسي. تدفقت تجربة تفصلني عنها 10 سنوات في جسدي وحواسي، انفجرت كسيل ينهال بغزارة. رأيت نفسي أجلس على كرسي التحقيق معصوب العينين، مكبل اليدين، من حولي يتحرك المحقق بشكل دائري بلا توقف، يستجوبني بشكل مستمر. فقدت حينها الإحساس بالزمن. ويوماً بعد آخر، في جلسة التحقيق الرابعة أو الخامسة، فقدت احتساب تسلسل الأيام.  هناك لا أهمية لذلك، مجرد تفصيل تافه في خضم الأحداث الجارية.

استحضار الألم المنسي

أشد ما يعانيه الشهود والضحايا في هذا النوع من المحاكمات، هو ضرورة استحضارهم وروايتهم بالتفصيل لتجارب جهدوا طيلة السنوات الماضية لنسيانها وتجاوزها، في المحكمة يجب استعادتها بدقّة وبالتفصيل والمعايشة لأجل محاكمة عادلة منشودة.

دخل لؤي إلى غرفة تحقيق المحكمة الألمانية كشاهد. 5 أشهر تفصل بين هذه اللحظات وحضوره أمام القضاة، والتحديق في وجه المتهمين. أعوام كثيرة مضت وأحداث عدة وقعت منذ خروجه من المعتقل، وها هو اليوم مضطر إلى أن يسترجع كل ما حدث بالتفصيل الدقيق، وأن يخبر قصته بكل حيثياتها. تلك القصة التي ناضل سنوات ليلجم ذكراها في محاولة منه للاستمرار، عليه الآن أن يجيب على كل الأسئلة، يسترجع كل التفاصيل، يحفظها. لا مجال لسقوط الصغير منها أمام بيروقراطية استجواب الناجي وإلا تم التشكيك بكل ما مر به، عليه أن يكون رجلاً آلياً. وكأن استرجاع ما حدث في أقبية التعذيب حكاية مجهول لا شخصانية فيها ولا مشاعر.

في البداية، رفض العديد من الشهود المشاركة بسبب فقدان الأمل، ولكنهم الآن يعبرون عن رغبتهم بالمشاركة في الادّعاء والشهادة. لقد آمنوا بأنها جزء من طريق العدالة

قال لؤي عن لحظة دخوله إلى قاعة المحكمة، وبعد أن رأى القضاة الستة والمتهمَّين خلف القفص الزجاجي، والحضور الجالس إلى الكراسي: ” فكرت رح يكون في شي6 او 5 اشخاص بالقاعة ما توقعت يكون هيك”، يروي لؤي عن  يوم التحقيق هذا: “كان يوم كامل، سألوني بالتفاصيل المملة، قلتلها كل شي وحكينا وكتبو شي عشرين صفحة. كتير صعب الواحد يتذكر، هون ما في مزح  بدو الواحد يضل مذكرهن مية بالمية لوقت المحكمة”. ويتابع “بس عالقليلة بالمعتقل كنت مطمش ومربطين ايدي ورجليي، اليوم الوضع مختلف هنن بالقفص ومكلبشين وانا برة، ما بعرف … شعور غريب”.

بعد ما قاله لؤي وجدتني أحاول أن أجرب شهادته، لم تكن ذكرى هاجمتني هذه المرة، بل قررت بتفكير واعٍ أن أحاول تلمس ما يقوله عن صعوبة استحضار الذكريات، عن إخبار الآخرين بذلك: “يتم شد اليدين إلى الخلف، وتقييدهما جيداً، في تلك اللحظة، تشعر وكأن يديك ستنفصلان عن جسدك في أي لحظة، يتم إجبارك على عدم الرؤية، تشعر باضطراب شديد. الظلام حالك، وأنت في أكثر الأماكن رعباً، تحرّك حدقتيك بتواتر عالٍ، كأنك تحاول أن تخترق قطعة الجلد تلك، وأن تبصر ما يحدث حولك، شكل الغرفة، عناصر الأمن، السجان، المحقق”.

النظر إلى الجلاد للتعرف عليه، أية معرفة؟

عملية التعرف إلى الجاني ترتبط بعالم داخلي نفسي معقد، غامض، تربط بين كل شاهد والمجرم نفسه. كيف تنظر الضحية إلى جلادها؟ وهل بالضرورة التعرف عليه بالبصر؟ صحيح أن عيون المعتقل والمعتقلة مطمشة، وممنوعة من الرؤية على الدوام في أقبية التعذيب لكن هل يدركون من هو المسؤول عن مصيرهم السفلي؟ حين طلبت القاضية من (لؤي) الالتفات نحو المتهمين والتأكيد على هويتهما، قال: “انا ما شفتن بالتحقيق كوني كنت مطمش كل الوقت”.

“بعرفهن كتير منيح”

دخلت لينا محمد إلى قاعة المحكمة، يربكها شعورها بحقيقة ما يحدث، وأنها اليوم إنسانة تملك الحق في أن تطالب بمحاكمة معذبيها. جلست أمام القضاة تحدق في وجوههم، على يمينها وفي غرفة زجاجية صغيرة، جلس جسد وآخر بجانبه، ينظران إليها: “بعرفون كتير منيح”، ثم أشاحت ببصرها عنهما، أخذت نفساً عميقاً ثم حبسته بصدرها، وهي تترقب بدء المحاكمة.

لينا محمد المعتقلة السابقة في فرع الخطيب، هي المرأة الأولى التي تظهر علناً لتدلي بشهادتها في المحكمة. عشرون دقيقة مرت قبل أن يُطلب من الشاهدة الدخول إلى قاعة المحكمة للإدلاء بشهادتها، فتحت المحامية الباب، سبقت لينا بخطوات، الجميع هنا، القضاة، الشهود، المحامون، النيابة العامة، والمتهمون: “وقت اخدوني على القصر العدلي بسوريا، كانت محكمة كمان بس الفرق وقت فتت على القاعة كان في قاضي قاعد على مكتب ادامو 7 فناجين قهوة وناس فايتة طالعة، يعني كل شي الا محكمة، بس بهاي المحكمة  كان في رهبة”، مشهد وصفته لينا كما لو أنها تمثل في فيلم من انتاج ضخم. تكمل ” بدك تحكي مع ناس مش سوريين وياخدو شو عم تقول بعين الاعتبار، لملمت حالي، وفتت”.

تجلس القاضية مقابل الشاهدة، وتتوجه بكلامها إليها “أنور رسلان قاعد على يمينك بين الحضور، فيكي تدلينا أي واحد هو؟”. تلتفت لينا نحو المتهم، ثوان فصلت بين حركة جسدها وانهيال ذكريات ما قضته في فرع الخطيب، مدت يدها بشكل مستقيم، فردتها بشدة، كما لو أنها تصيده بيدها، ترص قدميها باتجاه الاسفل، في محاولة لمجابهة الماض بثبات حضورها، إلى أن ابتسم، ابتسم لها، ابتسامة المجرم الماكرة، سلاحه الضعيف ليذكر الناجية بما كان له من سلطة عليها، فما كان منها إلا أن ترد عليه بحركة ثابتة تلجمه بيدها، وتؤكد جرمه: “طلع انور رسلان بخلقتي، مرق كل شي متل شريط بشه يلي بطلع للواحد قبل ما يموت، كل التفاصيل مرقت قدامي، طلعت فيه وقلت للقاضية اي بعرفو”.

لكن ماذا عني؟ هل أعرف سجاني إن قابلته؟ تبدو فكرة المشاهدة بالعين أمراً سطحيّاً، وربما قانونياً بحتاً، كنت أعرف عنه ما هم أعمق، أعرف يديه. كان يضرب رأسي ووجهي بين الحين والآخر، يضع المحقق يده على رأسي والأخرى على كتفي، كنت أشعر بخاتم غليظ يحفر جمجمتي حين يضغط بشدة، صوته قريب جداً من أذني، عيناي ما زالتا تحاولان أن تبصرا شكل هذا الرجل. تهدأ حركة حدقتي، وتغرقا في السواد. أعرف الجاني أم لا أعرفه ؟

خطاب المتهم

“بس أنا انشقيت، ومو بس هيك صرت فاعل وناشط بالمعارضة ودعم المظاهرات السلمية، وساعدت كثيرين ليخرجوا من المعتقلات”.

يتناوب خطاب المتهم بين مستويين يبدو أنه حددهما بدقة، المستوى الأول هو ما يحاول أن يقدمه من معلومات يعرفها عن بنية النظام المخابراتي. وهنا يقوم بدور المتعاون، بل والمفيد للسلطات الألمانية، وهو يقدم هذا المستوى للحصول على المستوى الثاني، وهي محاولته خلق حكاية متماسكة تبعده ذاتيّاً كلما اقتربت الشهادات من دوره، فما كان منه إلا أن يشكك أكثر بمقولاتها.

“كنت مجرد موظف بنظام أكبر مني، مثل الأيد يلي بس بتنفذ الأوامر، النظام الإداري المخابراتي بيبلع الكل. الحرس الجمهوري هو المسؤول عن يلي صار. وأكتر من مرة، خصوصاً وقت مظاهرات الحولة، اعترضت على أفعالهم، حتى أخليت سبيل بعض المعتقلين دون مذكرة. ومن وقتها بدأوا يهددوني بوضوح، وجردوني من كل الصلاحيات. صرت مجرد كاتب للملخصات والمذكرات عن الاستجوابات يلي بيعملها المحققين. كنت أكتب محضر واحد عن كل التحقيقات، وأوصيت بإخلاء سبيل المتظاهرين السلميين أو من لم يتظاهروا”.

وعن خطاب المتهم والنظام البيروقراطي ومكننة التعذيب، يقول الكاتب السوري عمار المأمون: “هناك مهارات تأليف لدى العاملين في أفرع الأمن ترتبط بتسرب هذه الوثائق وضمان غياب أدلة رسمية على العنف الممنهج، لكنها مفهومة لفئة محددة ضمن هرمية النظام، وكأن كل وثيقة تملك معنيين، لغوي تتطابق فيه الكلمات مع معانيها، وآخر خفيّ، يدركه المضطلعون بأسلوب عمل هذه الهرمية، ليظهر التعذيب بوصفه أوامر شفهيّة، لا يمكن تتبعها، إذ لا وثائق عنه، أوامر لفظية فقط، وهنا نفهم لم وضع شكل التقرير الطبي الرسمي في الشهادة، في تهديد لمصداقيّة الورقي والمكتوب على حساب الشفهي والمسموع، في ذات الوقت عدم تحديد مسؤولية من قام بذلك بدقة، بل تحميلها للـفرع”، وكما عُرف سابقاً، أسباب الموت دائماً هي  توقف القلب والتنفس”.

ما الفارق بين النظام البيروقراطي الورقي أو الشفاهي الذي كان يخدم فيه رسلان، وبين نظام المحكمة الألمانية الذي يجري أمامنا مبنياً على سلطة الأوراق والوثائق والهرمية الإدارية؟

برأيي عمار المأمون، المتهم رسلان يملك الخبرة. في الماضي السوري كان بهلوان الأوراق الإدارية، وهذه المهارة تمنحه القوة أيضاً في التعامل مع المحكمة الألمانية. يتحدث بإسهاب عن بنية النظام السوري الهرمية الإدارية، لكن ما أن تصل الشهادات إليه يجعل من الاتهامات الموجهة إليه عاطفية أو غير متماسكة. هو يملك خبرة الدقة، يكثر في كلامه توظيف تواريخ وأسماء تجعل شهادة المتهمين لا تتطابق مع سير الأحداث الحقيقية حسب ادّعائه، موظفاً شهوداً آخرين منشقين أو معارضين في محاولة لتدعيم حكاياته.

إذاً، هي خبرة التعامل التلاعب بالوثائق والأدلة، لكني ما زلت أشعر بكل ذلك، ما زلت أشعر برأسي يرتطم أرضاً، عاجز عن الحركة، حيز عصابة عيني لا تبدي إلا ممراً طويلاً وأقداماً ساكنة. أذكر وقوفي الطويل، الخارج عن الزمن في درجة الحرارة الباردة. سمعت قدمين تقتربان نحوي وصوتاً يصيح: “وجك ع الحيط”، رفعني من شعري، ومن ثم أمسكت بي يدان من الكتف وراحتا تقذفاني إلى الحائط، سمعت طقطقة عظام أنفي، كانت حقيقية أكثر من أية وثيقة أمتلكها الآن.

كلما تضاربت عليّ المعلومات، الشهادات، الحقائق، والحكايات، كنت أبحث بنظري في القاعة عن الصحافيّة (لونا وطفة)، التي اعتقلت أيضاً في فرع أمن منطقة الخطيب. هي الصحافية السورية الوحيدة التي توثق كل جلسات محاكمة كوبلنز. تحدق بصمت في الشاهد الذي يروي بتفاصيل دقيقة ما تعرض له من تعذيب على يد رجال الأمن التابعين للنظام السوري، تضغط على القلم الذي حفر نفسه بقوة على الدفتر، تشد كتفيها، وتكتب، متجاهلة التصاق ذكرى ما حدث معها في تفاصيل حكايات الشهود.

تنصت (لونا) باهتمام دقيق لأسلوب الشاهد في رواية حكايته، يتحدث بهدوء مع ابتسامة واثقة. كانت عباراته واضحة كما لو أنه يروي حكاية جرت لشخص آخر. يصمت بين الفينة والأخرى، في محاولة للتوازن بين العالم الذي يروي عنه في الماضي، والعالم الحاضر الآن أمامه في قاعة المحكمة. كلما صعب عليه الأمر كان يسود صمت مطبق في القاعة يصيب الجميع. فطلبت القاضية استراحة،  بدا أن ما قاله الشاهد أثقل عليها أكثر مما أرهق الشاهد نفسه، المضطر إلى استعادة ماضيه: “عم الصمت كل القاعة مش بس القضاة، الكل صمت، زوجة الشاهد موجودة كمان عم تبكي مع الموجودين، هو بكي كمان، يلي صار بهاي الجلسة ما فيني اوصفه”. تعلق لونا، التي رحت أشعر بأن ما يجمع بيني وبينها هو الدليل الأعمق الذي تحتاجه أي محكمة لتثبت حقيقة أعمق من الأوراق والأدلة. إن التفاعل بين ذاكرتي وذاكرتها هو الدليل الأعمق للحقيقة. لم نتحدث عن ذلك مباشرة، لكني أدركت أن ذاكرتنا هي الدليل الذي يسمح لي بإكمال المحاكمات، الشهادات، الحكايات والحكايات المعاكسة، بثبات.

الشهادة التي تغير التاريخ

مع كل شاهد أو شاهدة جديدة، كنت أتساءل إن أصبحت أكثر قدرة على سرد حكايتي: “في ذلك اليوم، فُتح باب الزنزانة، وتم جرّي مغمض العينين مكبّل اليدين إلى غرفة التحقيق، وهناك حمّلوني غربة كنت أتجاهلها ضمنياً، قالولي “هاي مو بلدك، بتحبّ نرجع نزتّك على الحدود”. كان طريق العودة إلى الزوايا الأربع طويلاً وبارداً وأكثر سواداً، ارتطمتُ خلاله بأجساد مكبّلة ومبعثرة على أطراف الممر الطويل، وبين الأنفاس المتقطّعة لمن هم خلف الأبواب بعد عودتهم من جلسات التعذيب. التعذيب ذاته تعرّض له الآلاف من المدنيين السلميين، والكثير من أصدقائي.

لكن لا بدّ من شهادة تحرك الراكد الفاسد وتكشف المسكوت عنه. فالشهادات المنهكة، والمتعبة، والمدمرة، قد تغير التاريخ. ماذا لو صمت جميع الشهود وفضلوا عدم عيش تجربة الاستعادة والاستحضار لتجارب قاسية من ماضيهم؟ لابد من شهادة أن تشق مساراً جديداً، كما حدث هذا العام في الرابع من حزيران الفائت حين أدلى المحامي (أنور البني) بالشهادة الأولى. استمرت شهادته قرابة الست ساعات، روى فيها عن سنوات اعتقاله الخمسة حتى خروجه في العام 2011، وهجرته إلى أوروبا. لم تمض ثلاثة أشهر على الشهادة الأولى، حتى ظهرت في 16 أيلول شهادة أخرى، هذه المرة للمحامي ومدير المركز السوري للاعلام وحرية التعبير، مازن درويش، الذي قدم شهادته عن سنوات اعتقاله الأربعة بين أعوام 2011-2015. ومن ثم تتالت الشهادات حول الجرائم المسكوت عنها.

لا تملك شهادتي أهمية قانونية في محاكمات كوبلنز الحالية مع مدير أمن فرع منطقة الخطيب. لكنّني، وبتاريخ اليوم، أقدم نصي هذا، ليس كشهادة لإقناع الآخرين أو كدليل للقضاء، بل كمحاولة لأسرد لنفسي ما حدث معها في المنفردة في فرع المخابرات الجوية العسكرية، فأكون شاهداً أمامي، من هنا، في مواجهة مع الذات الهاربة من التذكر.

شارك في تحرير المادة علاء رشيدي

درج

————————————-

في محكمة “كوبلنز”.. شاهدة تواجه أنور رسلان بجرائم العنف الجنسي/ نينار خليفة

بينما تواصل “المحكمة الإقليمية العليا” في مدينة “كوبلنز” جنوب غربي ألمانيا محاكمة ضابط المخابرات الأسبق أنور رسلان، الذي يواجه تهمًا بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”، وهي المحاكمة الأولى من نوعها في العالم ضد جرائم التعذيب من قبل النظام السوري، شهدت المحكمة يوم 19 من تشرين الثاني الحالي، جلسة للمطالبة بمقاضاة الاستخدام الممنهج للعنف الجنسي ضد المدنيين في سوريا كجريمة ضد الإنسانية، أدلت خلالها المدعية المشتركة في محاكمة الخطيب، والصحفية، والناشطة في حقوق النساء، رويدة كنعان بشهادتها بعد تلقيها دعوة عن طريق “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” (ECCHR)، والتحقيق معها من قبل مركز الشرطة الألمانية.

وخلال الجلسة طالب المحاميان باتريك كروكر، وسباستيان شارمر، وهما ممثلا المدعين والمدعيات في القضية، توسيع دائرة التهم الموجهة بالدعوة القضائية ضد رسلان لتشمل معاملة العنف الجنسي كجريمة ضد الإنسانية، بموجب القانون (7 فقرة 1 رقم 6) في قانون الجنايات الدولية، وذلك حتى يتم الاعتراف بحجم الانتهاكات الجنسية المرتكبة في سوريا بشكل قانوني، بعد أن أثبتت شهادات الشهود حتى الآن استخدامه بشكل ممنهج من قبل النظام السوري.

تفاصيل الإدلاء بالشهادة

ومن خلال شهادتها حاولت رويدة إعطاء صورة دقيقة جدًا وشاملة عن الأوضاع التي كانت سائدة في “الفرع 251” لجهاز أمن الدولة المعروف باسم “فرع الخطيب”، وفق ما روته لعنب بلدي، والتي بنتها على ما شاهدته من عمليات التعذيب داخله، وسماعها لأصوات المعتقلين من الغرف الأخرى ومن مكان التحقيق.

وهو ما نفاه رسلان في استجوابه سابقًا، وقال إنه لم يرَ هذه الظروف ولم ينتبه لحدوثها.

كما تحدثت بشكل تفصيلي عن العنف الجنسي الذي يمكن أن تتعرض له المعتقلات بأشكاله المختلفة، بدءًا من الإهانات اللفظية الجنسية إلى التحرش والتعري والاغتصاب.

وكان يوجد في قاعة المحكمة خمس قاضيات وقاضيَان، وفق ما أوضحت رويدة، تمحورت أسئلتهم حول ظروف الاعتقال التي يعانيها السجناء، وتفاصيل حياتهم اليومية المتعلقة بالوضع الصحي والإنساني، إلى جانب مجريات التحقيق معهم.

كما تركزت أسئلتهم بشكل كبير على سياق الأحداث في سوريا بين عامي 2011 و2012، وهي الفترة التي كان فيها رسلان على رأس منصبه، وكيف تعامل الأمن السوري مع المظاهرات، وهل كانت الثورة السلمية حينها تستأهل كمية العنف التي واجهها بها النظام.

وأضافت في هذا السياق، “تحدثتُ عن المظاهرات التي شاركتُ بها في دمشق وريفها، وعن إطلاق الأمن النار بشكل مباشر على المتظاهرين السلميين، إضافة لزيف ما كان ينقله الإعلام الرسمي حول ما يجري، وقصصتُ عليهم أنه في إحدى المرات كنا في مظاهرة بمنطقة (برزة) في دمشق، وحدث إطلاق نار واعتقالات من قبل الأمن، وعندما عدتُ إلى المنزل كانت القنوات الرسمية تنفي حدوث أي شيء، كما قامت بتصوير جزء من المنطقة كدليل على صحة ادعائها”.

وحول ما روته عن تجربة اعتقالها قالت، “اعتقلتُ أكثر من مرة بأفرع مختلفة، الأولى كانت بفرع الأمن الجنائي، والثانية بفرع الخطيب، والثالثة بفرع الجوية، وقد تركزت أسئلة القضاة بشكل كبير على الاعتقال الثاني باعتبار أن الدعوى قائمة عليه، لكنهم سألوا أيضًا عن الأفرع الأخرى، وشرحتُ لهم ما تعرضتُ له من حبس ومعاملة سيئة وتعذيب وضرب وتحرش جنسي”.

“لم يستطع النظر في عيني”

وتابعت في هذا الصدد، “كنتُ أتمنى لو أن المحاكمة حصلت في سوريا، وأن تجري معاملة رسلان كما تمت معاملتنا آنذاك، فقد كان يُعامل بشكل جيد أثناء التحقيق معه وبرفقته محامٍ ومترجم، كنتُ سعيدة لوجوده في هذا المكان، ولحالة الضعف التي بدت عليه، لم يستطيع النظر في عيني مع أنني أطلتُ النظر إليه، وكنتُ قريبة جدًا منه”.

وفيما يبدو أن شهادة كتلك تتطلب شجاعة كبيرة، ترى رويدة أن ما دفعها لخوضها “هو أننا في سوريا لا نمتلك كثيرًا من الخيارات في سبيل تحقيق العدالة، فليس متاحًا حاليًا اللجوء إلى محاكم وطنية، أو إلى محكمة الجنايات الدولية، بل إن المسار الوحيد المتاح محصور بمبدأ الولاية القضائية العالمية الذي تجرى بموجبه هذه المحاكمة”.

وما شجعها على الإدلاء بشهادتها هو كون المحاكمة الجارية ضد شخص أنور رسلان الذي كان رئيس قسم التحقيقات في “فرع الخطيب” وانشق عن النظام في كانون الأول من عام 2012، ورغم ترددها في بداية الأمر باعتبار أنه انشق، عادت وفكرت بأنه دخل هذه المنظومة بكامل إرادته، ولا يوجد أي أحد في سوريا مهما كان بسيطًا لا يعرف عن التعذيب والممارسات التي ترتكب في الأفرع الأمنية، وقد واصل عمله بعد انطلاق الثورة وحتى نهاية عام 2012، وهو ما يعتبر وقتًا طويلًا نسبيًا، ولو لم تنطلق الثورة كان ربما لا يزال يمارس التعذيب والظلم والانتهاكات ضد المعتقلين، والناس عمومًا، حتى الآن، بحسب ما قالت لعنب بلدي.

وتعتبر رويدة أن تجريم أنور رسلان تجريم للنظام السوري، فعند صدور حكم بحق رسلان، لن يستمر تعويم الأسد بشكل أو بآخر، أو مشاركة الدول بإعادة الإعمار، أو فتح ملف عودة اللاجئين، لأن التحقيقات كما لاحظتها من خلال أسئلة القضاة، لا تصب بشخص أنور رسلان رغم تركيزها عليه، بل تتحدث عن السياق السوري بشكل عام بين عامي 2011 و2012.

وتعتقد رويدة أن التحقيقات الجارية ستسهم في جلب جزء من العدالة، “فالعدالة التي نطمح بها في سوريا هي محاسبة جميع مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، سواء من قبل النظام أو الأطراف الأخرى، ولكن يمكن القول إن محاكمات (كوبلنز) هي بداية لذلك، وما يحصل سيسجل للتاريخ”.

توسيع دائرة التهم ضد رسلان

المحامية السورية والزميلة الباحثة ببرنامج الجرائم الدولية والمحاسبة في “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان”، جمانة سيف، أكدت من جانبها أهمية المذكرة التي طالبت بإضافة جرائم العنف الجنسي كجريمة ضد الإنسانية.

وأوضحت، في حديثها لعنب بلدي، أنه حتى الآن يوجد اتهامان فقط ضد أنور رسلان يتمثلان بالاغتصاب والتحرش الجنسي بحسب قانون العقوبات الألماني، أي أنه لم يتم اعتبارهما جرائم دولية، وكذلك الأمر في مذكرة الاعتقال السابقة التي صدرت بحق الرئيس السابق لأجهزة المخابرات في القوات الجوية، جميل الحسن، لم يتم اعتبار العنف الجنسي والعنف المبني على النوع الاجتماعي كجريمة ضد الإنسانية، ولذلك قدم “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” بالشراكة مع منظمة “أورنمو للعدالة وحقوق الإنسان” و”شبكة المرأة السورية”، في 17 من حزيران الماضي، شكوى جنائية نيابة عن سبع من الناجيات والناجين السوريين أمام القضاء الألماني، ضد تسعة مسؤولين كبار في الحكومة والمخابرات الجوية التابعة للنظام السوري، من بينهم جميل الحسن، ورئيس مكتب الأمن الوطني التابع للنظام السوري، علي مملوك.

كما قدم المحاميان باتريك كروكر وسباستيان شارمر، في 19 من تشرين الثاني الحالي، طلبًا بالنيابة عن ثمانية من المدعين في محكمة “كوبلنز” الذين قدموا أكثر من مئة دليل على أن ممارسة العنف الجنسي تمت بشكل واسع النطاق وممنهج ضد السوريين خلال سنوات الثورة، لذلك يجب التحقيق فيه وإضافته إلى التهم الموجهة لأنه استخدم بشكل يمكن اعتباره كجريمة ضد الإنسانية.

وأشارت سيف إلى أن المحاميين كروكر وشارمر هما محاميا المدعين والمدعيات والشهود اللذان يدعمان 17 شاهد وشاهدة ومدعٍ ومدعية، وهما من يحق لهما تقديم هذا الطلب، وبناء عليه قاما بتقديم هذه المذكرة بالأدلة والإثباتات، وسلماها إلى القضاة ومحامي الدفاع عن أنور رسلان وإياد الغريب، لافتة إلى أن الرد عليها قد يتطلب نحو أسبوعين أو أكثر لأن المذكرة طويلة وتتضمن عددًا كبيرًا من الأدلة التي تشتمل على تقارير دولية تثبت ارتكاب التهم المذكورة خاصة في الفترة التي تركز عليها الإدانة وهي من نيسان 2011 وحتى أيلول 2012.

حساسية الطرح

تُعتبر جرائم العنف الجنسي، والجرائم القائمة على النوع الاجتماعي، قضايا حساسة، يصعب الإفصاح عنها، بجميع دول العالم، وبالأخص في سوريا التي تغلب عليها المجتمعات المحافظة، ولذلك فإن الحديث عنها يعد أمرًا مستنكرًا وليس سهلًا، ولفتت سيف إلى أنه ومنذ بدء التحقيق بخصوص هذه الجرائم قبل عدة سنوات، حاولوا العمل على بناء الثقة مع الناجيات والناجين، والتشاور مع منظمات المجتمع المدني، والمنظمات النسوية بشكل خاص، من أجل بناء هذا الملف، وتقديم الدعوى دون التسبب بأي ضرر أو أذية للمدعيات والمدعين، وتلافيًا لحدوث رفض من المجتمع.

وذكّرت سيف في هذا السياق بحملة “طريق سوريا إلى العدالة“، التي أطلقتها في حزيران الماضي، منظمات سورية حقوقية ونسوية هي، “بدائل، و”دولتي”، و”النساء الآن من أجل التنمية”، و”شبكة الصحفيات السوريات”، بالإضافة إلى حملة “من أجل سوريا”.

وتدعو الحملة إلى زيادة فرص الوصول القانوني إلى العدالة للناجين والناجيات من العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، الذي ارتكب خلال السنوات العشر الماضية من النزاع في سوريا، وخاصة الناجيات اللواتي يواجهن عوائق تحول دون وصولهن إلى العدالة.

هل تتحقق العدالة؟

وفي سبيل تحقيق نوع من العدالة سيكون من الأهمية بمكان محاولة إنصاف الضحايا معنويًا، والاعتراف بما عانوه من جرائم، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي والاقتصادي الذي سيساعدهم على تجاوز محنتهم، وترى سيف أن العنف الجنسي على وجه التحديد يترك آثارًا مديدة وعميقة لأن فيه شيء من الإمعان في الإذلال للنساء والرجال، وهذا ما سيؤثر عليهم في جميع نواحي حياتهم، إذ إنه يتسبب بنبذ الضحايا من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعلى النقيض من ذلك سيسهم الاعتراف بهذه الجرائم، وهو ما يتم النضال من أجله حاليًا، بتأمين حقوقهم في الرعاية الصحية والنفسية والحصول على الدعم الاقتصادي لتأمين دخل يكفيهم حتى يتم تعافيهم وعودتهم إلى حياة أقرب إلى الطبيعية، كما يرتب هذا الاعتراف التزامات على الدول الداعمة لسوريا، والمجتمع الدولي ككل للتعامل مع الناجين والناجيات بشكل ينصفهم ويضمن حقوقهم في المستقبل.

من جانب آخر ترى سيف أن مذكرات الاعتقال ولوائح الاتهام أو أي من الوثائق القانونية التي تصدر، هي بمثابة مقاضاة للنظام السوري بحد ذاته، حتى لو حددت المسؤولية الفردية، “إذ إنها تسهم في إثبات السردية الخاصة بنا وهي الواقع والحقيقة كما حصلت، بمواجهة سردية النظام التي تقول إنه يحارب (الإرهابيين)، وبالتأكيد ستسهم مستقبلًا في تثبيت حقوق الضحايا الناجيات والناجين، إلى جانب توثيق ومعرفة الحقيقة كما هي، خاصة أن من يصدرها قضاء نزيه معترف به دوليًا، وهو ما سيؤسس لجميع جهود العدالة التي ستظهر لاحقًا، وسيبنى عليها مبدأ القانون الجنائي المتمثل بالبناء على السوابق القضائية”.

أصدر “مجلس حقوق الإنسان” تقريرًا بعنوان “فقدت كرامتي“، أكد استمرار العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي ضد النساء والفتيات والرجال والأولاد في سوريا، منذ آذار 2011.

ووثّق التقرير ارتكاب القوات الحكومية والميليشيات المرتبطة بها، الاغتصاب والانتهاكات الجنسية ضد النساء والفتيات، وأيضًا ضد الرجال في أثناء العمليات البرية والغارات على المنازل وفي نقاط التفتيش ومرافق الاعتقال الرسمية وغير الرسمية، كما وثّق حوادث اغتصاب للإناث على يد أفراد من الجماعات المسلحة، وإن كانت أقل شيوعًا.

——————————————–

وجهاً لوجه

بدعوة مشتركة من مؤسسة هينرش بُل، والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR)، والمركز السوري للعدالة والمُساءَلة، عُقِدَ يوم أمس الثلاثاء مؤتمر صحفي عبر تطبيق زووم، نوقشت فيه المحاكمة المستمرة في مدينة كوبلنز الألمانية، التي يواجه فيها أنور رسلان تهماً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، تشمل التعذيب والاغتصاب والقتل، أثناء رئاسته لقسم التحقيق في الفرع 251 التابع للمخابرات العامة (أمن الدولة) والمعروف باسم فرع الخطيب في دمشق خلال العامين 2011 و2012، فيما يواجه إياد الغريب فيها تهماً بالتواطؤ لارتكاب جرائم ضد الإنسانية عبر اعتقال أشخاص وتسليمهم للفرع نفسه في خريف العام 2011.

ويأتي هذا المؤتمر الصحفي بعد ثلاث جلسات حوارية باللغة العربية، نظّمتها الجهات نفسها بالشراكة فيما بينها خلال الأسابيع الماضية، تمحورت الأولى منها حول مفهوم الولاية القضائية العالمية، فيما تمّ تخصيص الثانية للحديث عن العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، والثالثة للحديث عن المحاكمات والقضايا المرفوعة في أوروبا ضد مسؤولين في النظام السوري. وفي بداية المؤتمر الصحفي، قال يواخيم بول، رئيس مكتب بيروت في هينريش بُل إن الهدف من جميع هذه الجلسات، بما فيها جلسة يوم أمس، هو «النفاذ إلى جميع المهتمين بهذه المحاكمات» من الناطقين باللغة العربية، بعد أن «لاحظنا اهتماماً واسعاً بها وصعوبة في الوصول إلى المعلومات عنها بالعربية».

أدار جلسة يوم أمس ناصر ياسين، الأستاذ المشارك في الجامعة الأميركية في بيروت. وبعد الحديث الافتتاحي الذي قدّمه يواخيم بول، تم الانتقال إلى الصحفية والناشطة السورية رويدا كنعان، الشاهدة في محاكمة كوبلنز، والتي تحدثت عن سياق شهادتها وظروفها، وقالت أيضاً إنّ من أهم ما لفت نظرها في المحكمة هو اهتمام القضاة بالسياق السوري ككلّ في العامين 2011 و2012، وليس فقط بما كان يجري في فرع الخطيب وقتها، وأسئلتهم عن المنظومة الأمنية السورية بشكل عام وعن المظاهرات وردّ فعل النظام عليها؛ «لقد أشعرني هذا بارتياح كبير».

بعدها تَحدّثَ وسيم مقداد، الموسيقي السوري المقيم في ألمانيا، الشاهد في المحاكمة وأحد المدعين الشخصيين المشتركين السبعة فيها، الذي تحدّث بدوره عن ظروف شهادته، وقال إنه يعرف معتقلين سابقين رفضوا الادلاء بشهادتهم لأنهم لا يثقون بأيّ مؤسسات ذات صفة رسمية في العالم، ولأنهم يعتقدون إن هذه المحاكمات لا فائدة منها، لكنه مع ذلك يرى أن هذه المحاكمات بالغة الأهمية، لأنها تساعد في إعادة تسليط الضوء على الحكاية السورية، وفي مقاومة سردية النظام التي تتحدث عن أن القضية هي مواجهة يخوضها مع جماعات إسلامية متطرفة.

باتريك كروكر، محامي المدعين السبعة في محكمة كوبلنز، والذي يعمل على الملف السوري في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، تَحدَّثَ عن مجريات المحكمة، وقال إنها تؤكد كل ما قالته وسائل الإعلام عن الانتهاكات التي يرتكبها النظام السوري، لكن أهميتها تكمن في أنّ الأدلة على هذه الانتهاكات يتم نقاشها وتقييمها للمرة الأولى من قبل قضاة في محكمة، ولن يقتصر الحكم الصادر عنهم في النهاية على بيان براءة أو إدانة المتهمين، بل سيتطرق إلى القمع الممنهج من قبل النظام السوري، وهو ما نأمل أن يكون مفيداً لمستقبل سوريا.

وفي سياق ردّه على أسئلة بخصوص محاكمة مسؤولين آخرين في النظام السوري، أعاد كروكر التأكيد على أنّ القانون الألماني لا يسمح بمحاكمة المتهمين غيابياً، ما يعني أنه لا يمكن محاكمة شخص غير موجود في قاعة المحكمة، شارحاً أنّ ما يحصل عند بناء ملف قضائي ضد متهمين غائبين هو إصدار مذكرات توقيف دولية بحقّهم، وهو ما حدث فعلاً بخصوص علي مملوك وجميل الحسن، مثلاً.

تحدََّثَ في الجلسة أيضاً حسان قانصو، عضو فريق تحليل البيانات في المركز السوري للعدالة المسالة، وأحد المراقبين لهذه المحاكمة، الذي قال إن أهمية المحكمة تكمن في أنها تسلط الضوء على معلومات داخلية عن آلية عمل الأجهزة الأمنية للنظام السوري، لافتاً إلى أنّه لاحظ أنّ المحكمة باتت مؤخراً أكثر تساهلاً في مسألة إخفاء هوية الشهود الذين يريدون إخفاء هويتهم، خلافاً للمرحلة الأولى التي كانت فيها إجراءات المحكمة على هذا الصعيد أكثر صرامة.

وقد التقت الجمهورية رويدا كنعان ووسيم مقداد على هامش المؤتمر الصحفي، وتناولَ الحديث جوانب عدة تتعلق بالمحكمة والشهادات المُقدَّمة في سياقها، وجوانب ذات صلة بالناجين والناجيات ومسار العدالة.

وبداية الحديث كانت برنامج دعم الشهود في محاكمة كوبلنز، الذي يرعاه المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، قالت رويدا كنعان: «منذ اللحظة الأولى بعد موافقتي على الاشتراك في عملية التقاضي هذه، قدّمت لي السيدة جمانة سيف وفريق المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، عوناً كبيراً على جميع الصعد، ابتداءً من توفير عمليات الترجمة إلى إتاحة كل عون مادي ومعنوي ممكن. وقد جرى سؤالنا إن كنا نحتاج في أي مرحلة من المراحل إلى استشارة أخصائيين بسبب استعادتنا لتلك الذكريات المؤذية والتجارب الصادمة، وفي حال وافقنا كان ذلك متاحاً وبشكل مباشر دوماً. ذلك النوع من العون الذي قدموه لنا كان أساسياً بالطبع في قدرتنا على البدء والاستمرار في المحاكمة وتقديم شهاداتنا».

وسيم مقداد أيضاً تحدث عن البرنامج، وقال إنّه «لولا الدعم الذي قدّمه لنا المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، ومن السيدة جمانة سيف بالتحديد، بالتأكيد لم أكن لأستطيع أن أشارك كشاهد في المحكمة. كان من الصعب عليّ، لولا الدعم التقني الذي قُدّم لنا على صعيد شرح القوانين في ألمانيا وآلية عمل المحاكمة، أن أمتلك الثقة الكاملة اللازمة لخوض هذه التجربة التي تعني اليوم لنا الكثير. في ظل عدم قدرتي على فهم القوانين الألمانية لوحدي، كان سيتطلب الأمر مني سنوات حتى أكون قادراً على اتخاذ مثل هذا الإجراء، وربما لم أكن لأقِدَر عليه».

كيفية التعامل مع العبء الذي يلقيه تسليط الضوء على القضية وشهودها كانت محور أحد الأسئلة، وفي هذا الشأن قالت رويدا كنعان: «كان الخيار لنا منذ اللحظة الأولى في المحاكمة، أن نظهر بأسمائنا الحقيقية وصورنا، أو أن نخفي تلك المعلومات عن أي أحد خارج إطار المحاكمة، بما في ذلك بالطبع الصحافة والإعلام. بالنسبة لي، كان ظهوري باسمي الحقيقي وصورتي ومشاركتي بأحاديث مع الإعلام جزءاً من مهمة أخذتها على عاتقي، وهي أن أعطي صوتاً لمن لا يستطيعون الوصول إلى موارد أو يخافون الظهور. باعتباري ناجية من الاعتقال، وباعتباري امرأة، كان دوماً هذا أحد أولوياتي. نحن نعلم أن الكثير من الناجيات من الاعتقال يَخفنَ الظهور على الإعلام نتيجة أسباب كثيرة تتضافر فيها الوصمة الاجتماعية بالظروف المادية والوضع القانوني، عدا عن الناجين الموجودين داخل سوريا، الذين لا يستطيعون الحديث عن تجاربهم خوفاً على حياتهم بشكل مباشر».

من جهته، أشار وسيم مقداد أيضاً إن هذا كان خياره منذ البداية: «أظنّ أنّ هذا الظهور هو جزء من عمل أوسع لمناصرة قضية المعتقلين في سوريا، وقد تعاملنا معه على هذا الأساس منذ البداية. شخصياً أعتقد أنه تقع علينا، نحن الذين نستطيع الظهور علناً، مسؤولية نقل أوضاع المعتقلين والضحايا في بلادنا. وبالطبع، لم نكن مضطرين لذلك، لكنّنا اخترنا ذلك بناءً على قرار منا».

وعن الدور الذي يمكن أن يلعبه ظهورهم العلني في تشجيع ناجين آخرين على تقديم شهاداتهم، قالت رويدا كنعان: «أظنّ أن ظهوري كناجية من الاعتقال وشاهدة في محكمة تقاضي مجرم حرب سيكون له أثر إيجابي على الناجيات، تحديداً لـ “تشجيعهن” على الشهادة. أعرف أن كلمة “تشجيع” إشكالية هنا، لأن ما ينقص الناجيات تحديداً ليس الشجاعة، بل هناك الكثير من العوائق الاجتماعية والقانونية التي تقف في وجه أي ظهورهنّ للمطالبة بحقوقهنّ القانونية أو التحدث عن تجربتهنّ، لكن إن كان ظهوري علناً يساعد ولو بجزء صغير في هذه المسألة، فإنني سأكون سعيدة للغاية».

وتحدث كل من وسيم مقداد ورويدا كنعان عن رؤيتهم الخاصة لدور محاكمة كوبلنز ضمن مسار العدالة في سوريا، حيث رأى وسيم مقداد  أنّ هذه المحكمة قد منحت مسار العدالة سرديّة مكتملةً «لقد كنا بحاجة لأن نمنح مسار العدالة في سوريا سرديةً واضحةً وسياقاً مكتملاً نجد فيه قضايا الانتهاكات تذهب إلى المحاكم ويقف فيها الجناة أمام القاضي ويتم سماع الشهادات فيها، أعتقد أن محكمة كوبلنز فعلت ذلك، لقد قدمّت لنا سرديةً واضحةً يمكن للناس في العالم أن تراها وتفهمها، في بلد يضمن حقوق الجميع وتمتلك محاكِمُه مصداقيةً عالية، ستعطي لهذه المحاكمة والشهادات ضمنها مصداقية أعلى بكثير من الحديث للإعلام أو لما يمكن أن تفعله محاكم في دول الجوار مثلاً».

وعن هذا الموضوع قالت رويدا كنعان «نحن اليوم لا نمتلك الكثير من الخيارات، إذ لا يمكن ضمن الظروف السياسية القائمة في مجلس الأمن الذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية على سبيل المثال، ضمن هذه الظروف كان اللجوء إلى بند الولاية العالمية للقضاء الألماني أفضل المتاح أمامنا، ليس لدينا أية أوهام بأنّ هذه المحكمة ستطال بشار الأسد، لكنّها بداية ضرورية جداً لمسار التقاضي ولحصولنا على حقوقنا. لقد منحتني رؤية المجرم وراء القضبان طاقة هائلة، وهي خطوة مهمّة جداً لنا جميعاً».

دور الشهود والمدعين في هذه المحكمة، فتح أيضاً خلال الحوار نقاشاً حول أدوار روابط ومجموعات الضحايا في سوريا والتي بدأت تتشكل وتقوم بمهام كثيرة من دعم ومناصرة قضية المعتقلين، وقد كان رويدا كنعان تميل إلى اعتبار أنّ الدور الأساسي في هذه المرحلة لتلك المجموعات هو التنظيم الذاتي: «لم تستطع مجموعات الضحايا في دول عانت من أوضاع مشابهة مثل البوسنة من القيام بعمل فارق إلّا بعد عشرة أو خمسة عشر عاماً، في الوقت الحالي أظنّ أنّ أهمّ إنجاز لمجموعات الضحايا التي تعمل داخل سوريا أو خارجها هي التنظيم، كما انّ عدد كبير من مجموعات الضحايا تعمل الآن على تقديم العون المعنوي والمادي للضحايا، وهي أولوية لهم الآن أكبر من الانخراط في مسار العدالة بشكل مباشر، عدا عن ارتباط بعض تلك المجموعات ببرامج المنظمات المدنية التي ساعدت أو أشرفت على تشكيلها، وهو ما يربط عملها بتلك البرامج بشكل مباشر، بكل الأحوال أظن أن المجموعات الحالية تقوم بعمل هام جداً وهو التضامن البيني بين الضحايا أنفسهم وتقديم الدعم للذين يحتاجونه».

موقع الجمهورية

————————————-

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى