ثقافة وفكر

نهاية التاريخ وما بعد الديمقراطية/ ياسين الحاج صالح

في عام 1992 وكان الاتحاد السوفييتي قدانهار لتوه، رأى فرانسيس فوكوياما، وهو فيلسوف ومنظر سياسي أمريكي، أن كل ما يمكن أن يقع من نزاعات مقبلة يجد حله ضمن النموذج الديمقراطي الليبرالي السائد في المعسكر المنتصر، وأنه ليس هناك ما بعد لهذا النموذج. لقد انتهى التاريخ. لم يكد يعتنق أحد هذه الدعوى التي بدت انعكاسا لمزاج التيه والطرب، الذي أعقب انتهاء الحرب الباردة بانتصار التحالف الرأسمالي الغربي. فوكوياما نفسه غير رأيه بعد سنوات، محيلا إلى تطورات تكنولوجية بصورة خاصة.

لكن رغم ما يبدو من إجماع كلامي على لانهاية التاريخ، يبدو أن التاريخ انتهى فعلا في الممارسة، وأنه لم يعد ثمة مستقبل متصور يُلمح خارج الديمقراطية الليبرالية في الغرب. الاعتراضات اليسارية في الغرب لم تنجح في تصور مستقبل مختلف بعد سقوط الشيوعية السوفييتية وأشباهها، وانتقاداتها تنصب على إفراط الليبرالية الجديدة و«أصولية السوق» وتراجع وظائف الدولة الاجتماعية، وليس على رؤية أو مشروع مغايرين. يبدو اليسار الغربي هو المدافع الأوفى عن الديمقراطية الليبرالية، وإن مع مسؤولية اجتماعية أكبر.

لكن بدل أن تكون نهاية التاريخ إقامة سعيدة في الحرية، تبدو في الواقع دخولا بعينين مفتوحتين إلى سجن مؤبد، سجن اللابديل. مبدأ اللابديل الذي كانت صاغته مارغريت ثاتشر في ثمانينيات القرن العشرين، يبدو ساري المفعول، وإن لم يحظ بقبول أكثر مما كان نصيب نهاية التاريخ من القبول. نحن هنا حيال رفض أيديولوجي جامع لفكرة اللابديل ولانتهاء التاريخ، لكن مع تسليم فعلي جامع بالقدر نفسه. الديمقراطية نفسها تتآكل مع ضمور أبعادها المعيارية المتصلة بالعدالة من جهة، والتعمم العالمي من جهة أخرى. كان كولن كراوتش، وهو أكاديمي بريطاني، قد تكلم منذ عام 2004 على ما بعد الديمقراطية في مجتمعات الغرب، حيث تبقى الآليات والإجراءات الديمقراطية، لكن مع أزمة في الأحزاب والنقابات، وتراجع مستوى التعبئة السياسية، واغتراب متصاعد لقطاعات من الجمهور عن النظام السياسي. صدر الكتاب بين هجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية والأزمة الاقتصادية في عام 2008، وكان لكليهما مفعول من الخوف وفقدان الأمان لدى قطاعات متسعة من الجمهور الأمريكي والأوروبي. وإذ صب الخوف لمصلحة تيارات اليمين الشعبوي في هذا البلدان، فإنه قاد كذلك إلى ما قد تصح تسميته بالمنعطف الجينوقراطي، أعني الحكم الأهلي، أو حكم الأكثريات الثقافية، الإثنية أو الدينية أو القومية أو العرقية (ما يؤهل الجينوقراطية لأن تكون بنية تحتية للجينوسايد، تجمعهما مركزية الجينوس، العرق أو السلالة…). ظواهر مثل التفوقية البيضاء، وسنوات ترامب في أمريكا والبركسيت وصعود بوريس جونسون في بريطانيا والهندوتفا والقومية الهندوسية في الهند، في ظل ناريندرا مودي والقانون الأساسي في إسرائيل، كدولة للشعب اليهودي، ومزيج القومية الروسية والمسيحية الأرثوذكسية في روسيا، وحكومة فكتور أوربان القومية المسيحية المعادية للمهاجرين في هنغاريا، والتركيب القومي الإسلامي لرجب طيب أردوغان، والإسلامية في عمومها، كلها تندرج ضمن مناخ من ثقفنة السياسة والتحول من الأكثريات السياسية إلى الأكثريات الثقافية.

يبدو مضمون ما بعد الديمقراطية هو الجينوقراطية، ضرب من القومية الجديدة تؤكد على الجذور الثقافية والعرقية والدينية. ولعل ما جعل ذلك ممكنا هو أن الانتصار المزعوم للديمقراطية الليبرالية، لم يكن انتصارا لها على اللاديمقراطية واللاليبرالية، على الديكتاتورية أو الشمولية أو الاستبداد، بل هــــو أساسا انتصار للغرب على غيره، أي أن هناك عنصر جينوقراطي سلفا في هذا الانتصار. لذلك، ورغم ما يبدو من تعارض بين أطروحة فوكوياما الخاصة بنهاية التاريخ وأطروحة صاموئيل هنتنغتون الخاصة بصراع الحضارات، فإن ما يجمعهما من تمركز حصري حول الغرب، وضع الأولى، الفلسفية والعامة، في خدمة الثانية عمليا، الثقافية والخاصة.

ثقفنة الديمقراطية تجردها من قواها وروحها القتالية، بتسهيل مطابقتها مع الغرب على ما يقول البوتينيون صراحة، أو مع هذا البلد أو ذاك، بدون حضور فاعل للديموس (الشعب) أو لصراع من أجل حقوق أكبر ومساواة أكبر. ما كان يمكن أن ينقذ الديمقراطية هو تقوية بعدها المعياري، ما يتصل بمزيد من العدالة الاجتماعية ومن الحرية، وهو تعممها العالمي، وهو كذلك الدفاع عن حريات أكبر وحقوق أكثر ومزيد من العدالة للمحرومين منها في كل مكان.

هناك اليوم مناخ من الأزمة العالمية، متصل بمشكلات عالمية في تكوينها مثل التدهور البيئي والأوبئة، وكذلك المنعطف الجينوقراطي والمسألة الإسلامية، فضلا عما يبدو من أزمة اقتصادية اجتماعية مستمرة، والاحتمالات الدستوبية لتطور كل من تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا البيولوجية، وقد أقام يوفال نوح هراري شهرته على قراءة احتمالات تطورهما. ومن غير المحتمل أن تجد الأزمة العالمية حلولا لها في غير نطاق عالمي. يمكن التفكير في مجتمع عالمي كوجهة أو وعد، يخرجنا من أزمة اللابديل والدوران حول الذات، ومن العودة إلى الماضي مثلما يريد الإسلاميون واليمين الشعبوي في الغرب وغيره. الكلام على مجتمع عالمي مكون من فوق سبع مليارات من البشر يمكن أن يبدو هروبا إلى الأمام، نحو طوبى يائسة، بينما نحن نلاحظ صعوبة تماسك مجتمعات محلية، لا يتجاوز سكانها ملايين أو عشرات قليلة منها. لكن عدا أن تداعي المجتمعات وتماسكها اليوم هو «وظيفة» للوضعية العالمية بقدر كبير، وليس لمجرد ديناميكيات داخلية تجري فيها (وإن بنسبة قوى كل منها: الأضعف أكثر انكشافا وعالمية) عدا ذلك هناك سلفا مجتمع عالمي، تشهد على ذلك وقائع لا تحصى، من أحدثها أزمة كورونا و«حالة الاستثناء» العالمية المتصلة بها، ومؤخرا المتابعة الدولية الواسعة للانتخابات الأمريكية، وقبلها بقليل الجرائم الإرهابية في باريس وفيينا، التي وثقت ربط عالمي المسلمين والغرب للمرة الألف. وهناك فضاءات عامة حديثة نسبيا، متصلة وعالمية، تتمثل في «وسائل التواصل الاجتماعي» تغير طبيعة الفضاءات العامة المحلية في كل مكان. المجتمع العالمي آخذ بتشكل متسارع، لكن لا يزال نظام العالم يتراوح بين نظام دول سيدة، على ما هو متمثل في الأمم المتحدة، واحتكار للسيادة من قبل أوليغارشية متجسدة في مجلس الأمن، بل يمكن فهم المنعطف الجينوقراطي كتراجع أمام ظهور المجتمع العالمي وكالتصاق بالقومية والماضي.

يميز زغمونت باومان بين القوة – السلطة التي يراها عالمية أكثر وأكثر والسياسة التي لا تزال محلية، ولذلك تفشل أكثر وأكثر في مواجهة ما هو عالمي. وهذا وضع متجه لأن تكف الدول عن كونها مقرات السياسة في المجتمعات، وهي كفت من قبل عن كونها مقرات السيادة. ما نتبينه من تدهور في مستوى النخب السياسة في كل مكان قد يكون منشأه هنا: الخيال السياسي المشدود إلى الإطار الوطني لا يؤهل لظهور نخب سياسية أرفع وقيادات سياسية كبيرة. بالعكس، يبدو هذا الإطار الوطني هو الحاضنة الأبرز لنخب جينوقراطية، ولميل الحكومات إلى الاقتراب منها، على ما يظهر بتسارع في فرنسا مؤخرا. هناك رفض في بلدان أوروبا والغرب لأخذ العلم بواقعها كمجتمعات ما بعد هجرية (أستعير المفهوم من ورقة لماريا روكا ليزارازو:

Postmigrant renegotiations of Identity and

Belonging in Contemporary Germany)

والميل إلى الاستجابة لضغوط اليمين الشعبوي في تعريف الاندماج، وليس للانفتاح على هذا التعدد الجديد، وإعــــادة تعريـــف النفس والعالم بدلالته. تظهر الجينوقراطية هنا ليس كحــــركات يمينية شعبوية فقط، وإنما كمكون لسياسة الدولة القومية التي تعرف نفسها بهوية مكنونة في اسمها: ألمانيا، فرنسا، تركيا إلخ.

نهاية التاريخ بالديمقراطية الليبرالية ولدت من داخلها بالذات الجينوقراطيات الشعبية التي لا تبدو حدثا عارضا، رغم سقوط ترامب في الانتخابات الأمريكية. ما يمكن أن يكون إنقاذا للديمقراطية، هو الاضطلاع بتحدي ظهور مجتمع عالمي والعمل على إعادة بناء النظام الدولي حول ذلك، أي التحول إلى ما بعد الدولة الأمة والسيادة، والأرجح أن دون ذلك عواصف وأهوالا.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

—————————

21 درسا للقرن الحادي والعشرين جديد المؤرخ يوفال هيراري/ لطفية الدليمي

يوفال هيراري يتناول في كتابه مجموعة كبرى من المعضلات، ويرى أنّ التعامل الأفضل معها لا يكون بنكرانها بل بالاختيار الحكيم لما يستحقّ التفكّر فيه منها أولا، ثمّ في تحديد كمّ القلق الواجب إزاءها ثانيا.

ليس بمقدور أيّ كائن بشري أن يتغافل، أو حتى يصطنع الغفلة، عن القلق بشأن طائفة كبرى من الموضوعات التي باتت همّا إنسانيا يتشاركه الجميع في العالم، وتأتي موضوعات الإرهاب، وفرط الاحترار المناخي، والصعود الدراماتيكي المتوقع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي وخوارزميات الذكاء العميق، وتراجع التعاون العالمي في مقدمة تلك الموضوعات؛ لكن ثمة الكثير من الموضوعات الأخرى التي قد يغفل عناها الكثيرون لأنها لا تمثّل حتى الآن، ربما، مخاطر جدية بات يستشعرها الإنسان في حياته اليومية.

نشر في أميركا خلال الأسابيع الأخيرة كتاب جديد للمؤرخ يوفال نوح هراري حمل عنوان “21 درسا للقرن الحادي والعشرين”، ومن المتوقّع أن يحقق هذا الكتاب مبيعات تصل إلى عدة ملايين من النسخ  على شاكلة ما حققه كتابان سابقان له “البشر العاقلون: موجز تأريخ البشرية”،  و”الإنسان الفائق: موجز تأريخ الغد”. في الأول رحلة استكشافية لإعادة قراءة التأريخ البشري وامتحان المواضعات الراسخة بشأنه، وفي الثاني دراسة مستقبلية للآفاق والمخاطر المحدقة بالكائن البشري.

أما الكتاب الذي نحن بصدده “21 درسا للقرن الحادي والعشرين” فهو دراسة بحثية معمّقة للوضع البشري المعاصر وامتحان العناصر الفاعلة فيه من وجهة نظر تنطوي على قدر غير قليل من الجدّة، وبما يجعل هذا الكتاب، كسائر كتب هراري، مساءلة فلسفية للأفكار أكثر من  كونه محض دراسة تقنية كتلك التي نشهدها في الأدبيات الخاصة بالمستقبليات والتنبؤات وديناميات الصيرورة البشرية في جوانبها كافة.

يُعرَف عن هراري (المولود عام 1976) وهو من المؤرخين الجدد في اسرائيل ولعه الطاغي بالموضوعات المتعلقة بإعادة مساءلة الوضع البشري وبخاصة في الجوانب المعنية بالإرادة الحرة، والوعي، والذكاء – المعرفي والإصطناعي معا -، وهو يفرد تأكيدا خاصا في كلّ كتاباته على “الثورة المعرفية” والكيفية الثورية التي نقلت حال الإنسان العاقل إلى ماهو عليه في يومنا هذا، ولا ينسى هراري بالطبع دراسة كلّ الثورات الأخرى (الثورة الزراعية، الثورة العلمية…) وتأثيراتها الحاسمة في تشكيل معالم الحضارة البشرية. يُعرَفُ عن هراري كذلك أنه نشأ في عائلة يهودية علمانية ذات جذور لبنانية وأوروبية شرقية، وهو يتبع في حياته نمطا بوذيا خاصا ويمارس التأمل اليومي لمدة ساعتين: واحدة صباحا والأخرى مساء، ويرى أنّ بوسع التأمل أن يكون أداة بحث أصيلة تفتح مغاليق مجهولة أمام العقل البشري. يعرَفُ عن هراري كذلك معارضته الراسخة للسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين (والقضية الفلسطينية بعامة) ويرى أن السلطات الإسرائيلية تمارس نوعا من السيطرة والاستبداد تجاه الشعب الفلسطيني نابعا من الشعور الطاغي بالتفرّد المعرفي والفائقية التقنية، وهو لا يفتأ يذكّر بأنّ هذه الغطرسة الإسرائيلية شبيهة بذلك النوع من الاستبداد والعبودية الرقمية التي سيخضع بها البشر لسطوة الآلات المفكّرة بعد بلوغ الذكاء الاصطناعي تخوما غير مسبوقة في العقود القادمة.

 المعضلات العظمى   

   يتناول هراري في كتابه مجموعة كبرى من المعضلات، و يرى أنّ التعامل الأفضل مع هذه المعضلات لا يكون بنكرانها بل بالاختيار الحكيم لما يستحقّ التفكّر فيه منها أولا، ثمّ في تحديد كمّ القلق الواجب ازاءها ثانيا. يتساءل هراري في مقدمة كتابه “ماهي التحديات الأعظم والتغيّرات المهمة التي تواجهنا اليوم؟ وما الذي ينبغي أن نهتمّ بشأنه من تلك التحدّيات؟ وما الذي ينبغي أن نعلّمه لأطفالنا؟”.

هيكل الكتاب

يتوزّع الكتاب، إلى جانب مقدمته الثرية، على خمسة أقسام، متبوعة بعناوين فرعية ذات دلالة درامية، هي: “التحدي التقني”، ويتناول: التحرر من الوهم ، العمل، الحرية ، المساواة. “التحدي السياسي” ويتناول: الجماعة البشرية، الحضارة، القومية، الدين، الهجرة. “اليأس والأمل”، ويتناول: الإرهاب، الحرب، التواضع ، الإله، العلمانية. “الحقيقة”، ويتناول: النكران، العدالة، ما بعد الحقيقة، الخيال العلمي. ويختم هراري كتابه بعنوان غريب هو “المرونة والقدرة على التكيف في أشكال جديدة” وفيه: التعليم، المعنى، التأمّل.

يختلف هراري عن غيره من دارسي المستقبليات وتأريخ الأفكار والباحثين في الوضع البشري بعامة، حيث أنه لا يكتفي بتعريف المواضعات السائدة ومن ثمّ كتابة الوصفات الأنيقة والمختصرة اللازمة للتعامل معها، بل نراه دوما في كلّ كتبه يمتلك ولعا طاغيا في مساءلة الأفكار المعروضة وتعريفها، ومن ثمّ تناول شتى وجهات النظر بشأنها في سياق منظور ثري بالاستبصارات الفلسفية المدعمة بالوقائع التأريخية.

التجارب الفكرية

تعدّ التجارب الفكرية خصيصة فارقة تميّز أطروحات هراري ومقارباته الخاصة في دراسة التأريخ، وقد نجح نجاحا فائقا في نقل التجارب الفكرية من حقل الفيزياء النظرية إلى ميدان دراسة التأريخ. يطرح هراري على سبيل المثال في كتابه هذا تجربة فكرية ذكية لفهم الكيفية التي صنع بها البشر حضارة عالمية وبلغوا بهذا شأوا بعيدا، ويكتب في هذا الشأن “تخيّلْ محاولة تنظيم ألعاب أولمبية عام 1016. يبدو الأمر مستحيلا بشكل واضح؛ فالآسيويون والأفارقة والأوربيون لا يعرفون بوجود الأميركيين، وإمبراطورية ‘سونغ’ الصينية لا ترى أي إمكانية لوجود كينونة سياسية في العالم يمكن أن تعادلها بأي شكل من الأشكال؛ بل حتى ليس ثمة أحد من المشاركين يمتلك علما يرفعه أو نشيدا وطنيا يردّده في احتفاليات الفوز…”.

 لماذا يبدو العالم في حالة انكفاء؟

 يتساءل هراري: بعد كلّ هذه الفتوحات العالمية في ميادين العلم والتقنية، لماذا يبدو الأمر وكأنّ العالم في حالة تراجع وانكفاء؟ يجيب هراري على هذا التساؤل الجوهري بأنّ السبب يكمن في أننا لم نعُد نطيق أبدا أدنى مظاهر البؤس والشقاء بالمقارنة مع ما كان سائدا قبل عقود خلت، ومع أنّ حجم العنف السائد في العالم أصابه تراجع عظيم (على غير ما يتوقع كثيرون) فإننا لا نفتأ نوجّه أبصارنا نحو هؤلاء الذين يموتون كلّ سنة بسبب الحروب لأنّ غضبنا أزاء مشاهد اللا عدالة والظلم قد نما نموا غير مسبوق، وتلك مزية أخلاقياتية عظمى يتغافلها الكثيرون نتيجة سوء فهم مزمن وإدراك قاصر يعجز عن رؤية الصورة العالمية في إطارها الشمولي.

قدرة هراري تتمثل جعل الموضوعات العالمية تتضافر مع المنابع الشخصية في إطار هيكل واضح لصورة العالم قدرة هراري تتمثل في جعل الموضوعات العالمية تتضافر مع المنابع الشخصية في إطار هيكل واضح لصورة العالم

العالمي والشخصي

يختصّ هراري في كتابه هذا بميزة فريدة تكمن في قدرته على جعل الموضوعات العالمية تتضافر مع المنابع الشخصية في إطار هيكل واضح لصورة العالم، ونراه يكتب بهذا الشأن في مقدمته للكتاب:

“مع أنّ هذا الكتاب يتخذ منظورا عالميّ الأبعاد لكني لا أطرح المستوى الشخصي جانبا، بل على النقيض أنا أسعى للتأكيد على الروابط المتينة بين ثورات عصرنا والحيوات الفردية للكائنات البشرية. الإرهاب، على سبيل المثال، هو معضلة سياسية عالمية بمثل ما هو آلية سايكولوجية ذاتية، ويعمل الإرهاب من خلال الضغط على زرّ الخوف الماكث عميقا في عقولنا ومن ثمّ اختطاف الخيال البشري الخلاق للملايين من الأشخاص والاستحواذ عليه وتوجيهه نحو وجهات شريرة، والحال مشابه مع الديمقراطية الليبرالية التي تجري ممارستها لا في أروقة البرلمانات ومحطّات الاقتراع فحسب، بل أيضا على نطاق العصبونات والوصلات العصبية.

إنّه لمن الكلام المقطوع بصحته (الكليشيهات) القول أنّ القناعات الشخصية هي التي تحدّد شكل الهياكل السياسية، ولكن في عصر بات فيه العلماء والمؤسسات والحكومات يتلمّسون وسائل القدرة على تدجين العقل البشري فإنّ الحقيقة البدهية السابقة تكون أكثر مجلبة للشر ممّا سبق في عصور مضت، وعلى أساس هذه الحقيقة فإنّ هذا الكتاب يوفّر للقارئ مرتسمات بشأن سلوك الأفراد وسلوك المجتمعات ككيانات كلية”.

العرب

———————–

في رحاب كتاب: ” الإنسان الإله: موجز تاريخ الغد” للمؤرخ نوح هراري/ كلكامش نبيل

في كتابه “الإنسان الإله: موجز تاريخ الغد” أو Home Deus: A brief history of tomorrow”، يبحر المؤرخ يوفال نوح هراري بنا في رحلات مكوكية إلى الماضي لفهم تاريخ البشر ومستقبله في محاولة منه لإثبات نفسه بأنه مركز الكون.

في كتابه “الإنسان الإله: موجز تاريخ الغد” أو Home Deus: A brief history of tomorrow”، يبحر المؤرخ يوفال نوح هراري بنا في رحلات مكوكية إلى الماضي لفهم تاريخ البشر منذ هجرته من أفريقيا وظهور الوعي قبل سبعين ألف عام مروراً بالثورة الزراعية واكتشاف الكتابة؛ فعصر النهضة والثورة الصناعية، قبل أن ينطلق بنا بسرعة في محاولة للتنبؤ بمستقبل البشرية وما يحمله من بشائر وتهديدات في ظل هيمنة متزايدة للتكنولوجيا وتفوقها على العقل الذي أبدعها وإمكانية تنحيته جانباً.

في المقدمة، يتحدث هراري عن تغيّر الأجندة الإنسانية بعد تحقيق الكثير ممّا كان يشغل بال البشر ويؤرقهم، ويتمثل ذلك في هزيمة ثالوث المجاعة والأمراض والحروب، لتتحوّل طموحات الإنسان المستقبلي إلى تحقيق ثالوث جديد من الألوهية والسعادة والخلود، في تعبير عن رغبة البشر في تحقيق المزيد.

بلغة الأرقام، يحاول هراري إثبات نظريته فنقرأ عن انخفاض نسب ضحايا العنف في العالم من 15% من الوفيات في المجتمعات القديمة إلى 5% في القرن العشرين وحتى نسبة 1% في القرن الحالي. ويوضح أنه في العام 2012، مات ما يقرُب من 56 مليون شخص حول العالم، قضى 620 ألف منهم في أعمال عنف، نصف مليون منهم بفعل الجرائم. في الوقت ذاته، انتحر حوالي 800 ألف شخص وتوفي 1.5 مليون شخص بسبب مرض السُكري، وبذلك يكون السكر أكثر خطورة من البارود. بالمثل يذكر الكتاب أن ماكدونالد قد تقتل من البشر أكثر من وباء إيبولا أو الجفاف أو هجمات القاعدة، ويتحدث عن كون المجاعات لم تعد أكثر من كونها أحداثاً مفتعلة لأهداف سياسية في العادة.

يتحدث هراري عن تغيّر الأجندة الإنسانية بعد تحقيق الكثير ممّا كان يشغل بال البشر ويؤرقهم ويتمثل ذلك في هزيمة ثالوث المجاعة والأمراض والحروب، لتتحوّل طموحات الإنسان المستقبلي إلى تحقيق ثالوث جديد من الألوهية والسعادة والخلود.

يبحث الجزء الأول من الكتاب في أسباب تفوق الجنس البشري وهيمنته فيقودنا بتساؤلاته للتفكير في ظهور الأديان وتطورها وصولاً للأديان الإبراهيمية التي جعلت الإنسان في قمة الهرم لتبرّر بذلك تعامله الفوقي مع الكائنات الأخرى – بخلاف فكر الديانات البدائية – ويمضي الكاتب قُدُما ليستعرض تجارب علمية تحاول تفسير تفوّق الإنسان اعتماداً على الوعي، والوعي بالذات بعد أن ثبتت قدرة الحيوانات على الشعور والإحساس.

يوضح الكتاب الواقع البائس للحيوانات المدجّنة في مصانع إنتاج اللحوم والألبان بهدف خدمة الإنسان ويدين ذلك ضمنياً. ويعتقد أن مصير الإنسان قد يكون مماثلاً لمصير هذه الحيوانات اذا ما تفوق الذكاء الاصطناعي والخوارزميات عليه في المستقبل، ويرى أن الآلة – أو الجنس الجديد من البشر الآلهة – سيجدون المبرّر لاستعباد الإنسان الحالي واستبعاده من الحلبة. وفي سياق بحثه عن أسباب التفوق البشري، يتوصل هراري الى أهمية الحكايات في إيجاد أرضية للتعاون البشري، حيث وفرت هذه الأساطير للفرعون إمكانية السيطرة على مئات الآلاف ليبنوا الأهرام أو يحفروا بحيرة الفيوم وبذلك تُماثِل الآلهة القديمة في مصر وبلاد النهرين – وهي كيانات غير مرئية – الشركات الكبرى في سيطرتها على عالم اليوم وتسييره.

الخيال ليس سيئاً، انه أمر حيوي من دون قصص مقبولة بشكل مشترك حول أشياء مثل النقود والدول أو الشركات، لن يكون في إمكان مجتمع بشري معقد أن يكون فعّالا.

نوح هراري

بالنسبة لهراري، يكْمُن التفوق البشري في الكفاءة العالية على خلق شبكة كبيرة من التعاون مع بقية الأفراد وقدرته على إعطاء معنى لهذا العالم، من خلال الاتفاق على أساطير أو حقائق خيالية كقيمة الورقة النقدية مثلاً. نقرأ، “الخيال ليس سيئاً، انه أمر حيوي من دون قصص مقبولة بشكل مشترك حول أشياء مثل النقود والدول أو الشركات، لن يكون في إمكان مجتمع بشري معقد أن يكون فعّالا”. لكنه يضيف، “يجب أن تكون هذه القصص وسائل فحسب وألا تتحول الى أهداف نسعى لتحقيقها. عندما ننسى أنها مجرد قصص، سوف نفقد تواصلنا مع الواقع.” في إشارة للروايات الدينية والقومية على وجه التحديد.

يبحث الجزء الثاني من الكتاب في جذور الثورة الإنسانية التي بدأت مع اختراع السومريين للكتابة وولادة النُظُم البيروقراطية وكيف أصبح للوثائق المكتوبة سلطة تفوق ما هو موجود على أرض الواقع، ويورد أمثلة تاريخية عن مجاعة الصين وإنقاذ الآلاف من يهود فرنسا من النازية بفضل قوة التأشيرة التي منحها القنصل البرتغالي في تولوز.

يعتبر هراري جميع الأيديولوجيات بما في ذلك الليبرالية والشيوعية أشكالا من العقائد الدينية، على الرغم من تحفظ هؤلاء على اعتبار هذه الأيديولوجيات أدياناً باعتبار الأديان مرادفاً للخرافات والقوى الخارقة، حيث يقول، “في الواقع، يعني الإيمان أن تعتقد بنوع من نظام القوانين الأخلاقية التي لم يخلقها البشر فحسب، بل يتوجب عليهم إطاعتها.”

يتوصل هراري للحديث عن الإيمان الحالي بالإنسانوية وأن “الثقافات الحديثة ترفض الاعتقاد بوجود خطة كونية كبرى. نحن لسنا ممثلين في دراما تتجاوز الحياة، والحياة لا تملك سيناريو ولا نصاً مسرحياً ولا مخرجاً ولا منتجاً – وبالتالي ليس لها معنى”. ويذكر أن علماء عصرنا يرون في الكون عملية عمياء لا هدف لها ولا معنى. ويتطرق بذلك للمعنى الليبرالي للحياة في أن يجد كل شخص المعنى بنفسه وأن الكثير من المتدينين في عصرنا الحالي يتبنون دين الإنسانوية من دون أن يدركوا ذلك. ويشير بشكل مستفيض الى أن انتهاء الأديان لن يؤدي الى اختفاء النظام كما كانوا يعتقدون لأن “التاريخ لا يحتمل الفراغ” وأن الإنسانوية وقيمها حلت محل الأديان منذ مطلع القرن العشرين، فيقول “سوريا المتدينة أكثر عنفاً من هولندا الملحدة”.

يتوسّع هراري في وصف انتصار الليبرالية والرأسمالية على كلٍ من الشيوعية والأديان وتوجهها بالعالم نحو ديانة “عبادة الإنسان” وتركيز القيم الليبرالية على تفرده وتفوقه المعرفي؛ لأنها قدمت للإنسان ما يجعله السلطة الأعلى. فوفق القيم الليبرالية في مختلف مجالات الحياة تكون:

السياسة: الناخب يعرف أفضل من غيره.

الاقتصاد: الزبون دائماً على حق.

الجمال: الجمال في عين الناظر.

التعليم: فكّر بنفسك.

الأخلاق: إذا شعرت بأن الأمر جيد، قُم بفعله.

بعد هذه الفصول المبشرة بإرتقائنا نحو “الإنسان الإله”، يهدم هراري كل ذلك في الجزء الثالث ليعلن تدميرنا لأنفسنا بأنفسنا ويوضّح التحديات التي تواجه قيم الليبرالية بعد أن فصلت تجارب علم النفس الحديث بين الذات الراوية والذات المجربة ويورد أمثلة تنفي وجود “الإرادة الحرة”. يرى هراري أن الكائن الحي عبارة عن خوارزميات وأننا والخيول والأبقار مجرد تمثيل مختلف لمجموعة بيانات وأننا “لا نمتلك فردانية مميزة، وكل ما نقوم به مجرد نظام حيوي كيميائي”.

بعد الفصول المبشرة بإرتقائنا نحو “الإنسان الإله” يهدم هراري كل ذلك في الجزء الثالث ليعلن تدميرنا لأنفسنا بأنفسنا ويوضّح التحديات التي تواجه قيم الليبرالية بعد أن فصلت تجارب علم النفس الحديث بين الذات الراوية والذات المجربة.

كلكامش نبيل

سيوضح هذا الفصل صعود أديان جديدة تتمثل في البيانات Dataism وأن الإنسان سيفقد قيمته وتتفوق الآلة عليه وقد يتغلب الذكاء الاصطناعي على الوعي – أساس تفوق الإنسان. يعتقد هراري أن الإنسان سيفقد قيمته الاقتصادية – في الحروب والصناعة – وأننا سنواجه جيوشاً من العاطلين وهذا يتعارض مع تصوراته الأولى بخصوص حصول الإنسان على السعادة والخلود والألوهية. يُبقي الكاتب على احتمالية عثور الإنسان على وظائف جديدة – كما حصل إبان الثورة الصناعية– ولكنه لا يعتقد أنها قاعدة ثابتة، ويذكر مثالاً يتعلق بإحالة الخيول إلى التقاعد عند انتشار العربات بدلاً من محاولة العثور على وظائف جديدة لها.

يتساءل الكاتب إن كنا سنجد قيمة جديدة للبشر أو أن الإنسان الإله سيجبر بقية البشر على أن يتنحوا جانباً ليكون مصيرهم كمصير الحيوانات إبان الثورة الصناعية. يوضح الكتاب كيف اخترقت التكنولوجيا خصوصياتنا وأنها تعرف عنّا الآن ما يفوق معرفتنا بأنفسنا وأن مشاركتنا لأدق تفاصيل الحياة على وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة محاولة لاثبات وجودنا في عالم البيانات هذا من خلال المساهمة في خلقه “صوّر – ارفع – شارك”. لقد تفوقت الخوارزميات على معرفة الإنسان ولم يعد أفضل من يعرف وهذا هدم لأساس الليبرالية.

على الرغم من واقعية الأمثلة التي يسوقها هراري، إلاّ أنني أختلف معه في تصوره أن تسود الآلة على الإنسان في المستقبل القريب لأنها لا تزال تُصنع وتُطوّر من علماء من البشر وتُسخّر لخدمة الإنسان، لكنني أتفق معه في أنها ومن خلال تطورها ستأخذ مكانه في الكثير من الوظائف، وبالتالي فإننا نتجه إلى عالم تزداد فيه الفوارق الطبقية وتنتشر البطالة وقد يتطلب ذلك تحديداً عالمياً للنسل ليصبح العالم مقتصراً على قلة ثرية تخدمها التكنولوجيا وتترأسها في الوقت نفسه. أعتقد أن ديانة المعلومات الجديدة ستبقى كالأيديولوجيات السياسية مُتبناة من قبل البشر من دون أن يعترفوا بها في وعيهم، ولا ننسى أن أي ديانة تقدم للبشر الكثير على الأرض، بدلاً من وعود ما ورائية، ديانة ناجحة بالتأكيد، ولكنها ستواجه بعقبة كبيرة إذا ما سلبت الإنسان معنى وجوده. لكن السؤال، اذا ما تفوقت فعلاً على البشر فما حاجتها لإيمانهم بها أصلاً؟

ختاماً، الكتاب مجرد احتمالات وليست نبوءات حتمية الوقوع، لكنه كتاب مذهل سيعيد طريقة نظرك للماضي والتفكير في احتمالات أخرى للمستقبل والنتائج التي ستترتب على المجتمع والسياسة والاقتصاد عندما تتفوق خوارزميات لا واعية خارقة الذكاء علينا، وهو شيء نراه يتحقق بشكل متسارع في يومنا هذا.

المصدر: TRT عربي

صحفي عراقي

———————————–

يوفال نوح هراري عالم مستقبليات إسرائيلي يتنبأ بأننا سنقهر الموت قريبا/ إبراهيم الجبين

سيظهر في الغد من يقول: ماذا نفعل بكل هؤلاء البشر؟

برلين – لا يمكنك رؤية المستقبل، دون أن تكون قد نظرت طويلاً في الماضي لتدرك كيف وصلت إلى هذه اللحظة. هذا ما فعله يوفال نوح هراري في دراسته لتاريخ الجنس البشري، كي يتمكن من إدراك أو تنبؤ مستقبل ذاك الجنس.

في زمن سحيق، كنا كائنات غير مهمة، كما يقول هراري. لم يكن تأثيرنا يتعدى تأثير كائن هلامي مثل “قنديل البحر”. لكننا اليوم صرنا حكاماً لكوكب الأرض. والسؤال المهم هنا؛ هو كيف تمكنا من التطور إلى هذه الدرجة؟ يتساءل ساخراً “ما الذي يجعلني أكثر رقياً من الشامبانزي؟ مع أنني وبشكل محرج أكثر الكائنات شبهاً بالشامبانزي نفسه؟”.

من فكرة القرد ذاتها، يذهب هراري بعيداً، بتحليل منطقي لما يمكن أن يحدث لو وضع إنسان وقرد في جزيرة ليصارعا من أجل البقاء. يؤكد المؤرخ وعالم المستقبليات الإسرائيلي، أن القرد سيربح تلك المقارنة. من هنا فإن القيمة الكبرى للفوارق بين الحالتين لا تكمن في الفردية منها، بل في الجمعي. أو في سلوك الجماعات لا في نشاط الأفراد.

ضرورة المجتمع

إن البشر يتحكمون اليوم بالكوكب، لأنهم أكثر الحيوانات قدرة على التعاون فيما بينهم. مع إضافة صفة “المرونة” لذلك التعاون الكبير بين البشر. لأن هناك كائنات أخرى تتعاون فيما بينها، كالنحل على سبيل المثال. لكن تعاونها صارم ومنضبط ولا ينطوي على المرونة التي يتمتع بها البشر.

فلا يمكن للنحلات أن يعملن سوى بطريقة واحدة. ولا يمكن لهنّ أن يعدن بناء نظام تعاونهن ذاك إذا ما انهار بين يوم وليلة. لا يمكنهن إعدام الملكة إذا لم تنجح في قيادتهن. أو تأسيس جمهورية النحل.

الجانب الآخر الذي يرد به هراري على أسئلته يتعلق بالمرونة والتعاون، فهناك آخرون غير البشر قادرون على فعل ذلك، لكنهم يقومون به ضمن نطاقات ضيقة جداً تتطلب معرفة كلّ منهم بالآخر لينشأ ذلك التعاون. لكن البشر لا يحتاجون تلك المعرفة لينشأ فيما بينهم تعاون مرن وبأعداد هائلة.

تعاون البشر المرن هذا، لا يتوقف على الإنجازات الهائلة، برأي هراري، بل أيضاً على الكوارث التي تسبب بها الإنسان، والجرائم التي “ارتكبناها ونرتكبها الآن” كما يقول. فالسجن مثال حقيقي على نظام التعاون البشري المرن. كما هو حال المسالخ، ومعسكرات الاعتقال، وغير تلك الأمثلة الرهيبة.

لكن ما الذي يجعل البشر يتعاونون وبشكل مرن وعلى نطاق واسع؟

الخيال هو الجواب. فنحن كما يعتقد هراري، قادرون ليس فقط على ابتكار القصص الخيالية، بل على تصديقها أيضاً. فجيراننا في الكوكب، مشغولون بتفسير الواقع. كما يفعل القرد حين يقول لقرد آخر “انظر. هناك أسد يقترب”. لكننا نفعل أمراً غير هذا. “البشر يستخدمون لغاتهم، لوصف الواقع الخيالي، فيقولون على سبيل المثال: انظروا. هناك إله فوق الغيوم، وإذا لم تفعل ما آمرك به، فهذا الإله سيقوم بإرسالك إلى الجحيم”. ووحدهم البشر يمكنهم استعمال تلك الميزات من أجل التعاون فيما بينهم، إذا ما صدّقوا جميعاً هذا الخيال الذي احتوته الجملة السابقة عمّا يوجد فوق الغيوم.

بالمقابل لا يمكنك أن تقول لقرد “أعطني موزة، لأنك إذا فعلت، فستذهب بعد موتك إلى جنة القرود، وهناك ستكون آلاف الموزات بانتظارك”.

هراري وهومو ديوس

لكن أكثر أمثلة هراري إثارة، كانت حديثه عن المال. فالمال من وجهة نظره، نموذج قويّ جداً على تطبيق الخيال الجماعي والإيمان به وبناء التعاون بين البشر على أساس ذلك في ما بعد. فقطعة الورق الخضراء التي يسمّونها “دولار”، هي شيء لا قيمة له، لكن المصرفيين والاقتصاديين ووزراء المال في العالم قالوا لك إن قطعة الورق الخضراء التافهة هذه “يمكن أن تشتري لك عشر موزات” وأنت صدقتهم، وستذهب بها إلى بائع يصدّق هذا الأمر أيضاً، وسيقوم بإعطائك مقابلها الموزات العشر. المال هو أكثر خيال يصدّقه البشر، فليس كل البشر يؤمنون بالإله. وليسوا جميعاً من المؤمنين بحقوق الإنسان. لكنهم دون أيّ استثناء مؤمنون بالمال.

يقول هراري إننا نتحكم بالكوكب، لأننا نعيش في عالمين متوازيين، بينما تعيش الحيوانات في العالم الواقعي المادي فقط. عالمها يتكون من “الكينونات الموضوعية” كالبحار والأنهار والجبال. ونحن أيضاً نعيش في عالم موضوعي فيه البحار والأنهار والجبال. ولكننا قمنا عبر العصور ببناء عالم آخر. طبقة أخرى من الواقع الخيالي، مكوّن من الآلهة والمال والحقوق والأمم وغيرها. ومع مرور الزمن، أصبح هذا الواقع الخيالي أكثر قوة من الواقع المادي. وأصبح بقاء تلك الكائنات الموضوعية المادية متوقفاً على الكائنات التي أتى بها الخيال، فبقاء الجبال والأنهار مرتبط اليوم بقرارات غوغل والولايات المتحدة الأميركية والبنك الدولي، وهي أشياء موجودة فقط في خيالنا.

مستقبل البشرية

ولد يوفال نوح هراري في إسرائيل في العام 1976، وهو يهودي من أصول أوروبية شرقية، ودرس وعاش في حيفا، حصل على الدكتوراه من أكسفورد في العام 2002. وهو أستاذ محاضر في قسم التاريخ في جامعة القدس، تخصص في التاريخ العالمي، التاريخ العسكري وكذلك تاريخ أوروبا في العصور الوسطى.

كتابه “العاقل ـ موجز تاريخ الجنس البشري” صدر للمرة الأولى باللغة العبرية في العام 2011، ثم ترجم إلى الإنكليزية في العام 2014 ليتم نقله إلى أكثر من 30 لغة حول العالم. وأصبحت كتبه هي الأكثر مبيعاً في إسرائيل وفي العديد من البلدان.

انشغل هراري بالبحث عن الإنسان، وكيف وصل إلى حالته الراهنة. وكيف سيكون مستقبله. وما هي العلاقة بين التاريخ وعلم الأحياء؟ وهل هناك عدالة في التاريخ؟

عمله الآخر هو “هومو ديوس” أو “موجز تاريخ الغد” الذي صدر في العام 2015 وترجم إلى الإنكليزية في بريطانيا هذا العام 2016. في “هومو ديوس” يعود هراري إلى الماضي، متناولاً تجربة الإنسان مع القضايا الأخلاقية المستمدة من التاريخ. ويحاول رسم صورة لمستقبل البشرية من خلال دراسة فردية الإنسان هذه المرة، إضافة إلى ما أنجزته البشرية في الزمن الراهن واتصال هذا بمسار الإنسان.

يبدأ هراري منذ ما يسمى بـ”الثورة اللفظية” للإنسان. أي منذ تمكّن البشر من إلقاء الأوامر لأول مرة عبر اللغة. تلك الأوامر هي ما صارت لاحقاً مفاهيم تتحكم بوجودهم وحياتهم في ما بينهم. القدرة على إعطاء تلك الأوامر، مكنت البشرية من تحقيق إنجازات هائلة عبر تاريخها الطويل.

ويشرح هراري التهديد الذي تمثله التكنولوجيا على البشرية، وعلى استمرار قدرتها على إعطاء معنى للحياة، في ظل البيئات الجديدة التي نشأت بفعل التطور العلمي، وهو يتنبأ بأن الأجيال البشرية القادمة يمكنها أن تتوصل إلى قدرات خارقة تخوّلها من قهر الموت، والعيش إلى الأبد. فكيف سيكون شكل الحياة حينها؟

يرى هراري في كتابه “ما بعد الإنسان العاقل” أن الثورة الصناعية قد أنتجت فئات عمالية مدنية، وخلال المئتي عام الماضية، ارتبط الحراك السياسي والاجتماعي بتلك الفئات. اليوم نشهد فئات مهملة كبيرة من البشر الذين لا عمل لهم، بعد دخول التقنيات الحديثة حياتنا، مثل الآلات الذكية والكومبيوترات وغيرها. أدوات يتحسّن أداؤها باستمرار. وهذا التطور مرشّح لجعل البشر ينتقلون إلى كرسي الاحتياط في جميع المهام. وحينها سيكون السؤال أمام البشرية في القرن الحادي والعشرين؛ بماذا سنحتاج كل هؤلاء البشر؟ أو ما هو الداعي لكل هذا العدد من البشر؟

يحاول الإجابة على تلك الأسئلة، بالقول “نبقيهم في عالم المخدرات، أو في ألعاب الكومبيوتر”. ويتوقع هراري أن يتم تقسيم البشرية إلى أثرياء وفقراء، الأثرياء سيكونون بمثابة الآلهة الافتراضية. والفقراء سينحدر بهم الحال إلى درك سحيق.

يقول هراري إننا مبرمجون لأن نكون متذمّرين، وحتى عندما يحصل البشر على المتعة ويحققون الإنجازات، فإن هذا “لا يكفيهم بل يريدون المزيد”، ويضيف “أتوقع أن يقوم البشر خلال القرنين القادمين بتحديث أنفسهم إلى فكرة كائن إلهي، من خلال التلاعب البيولوجي أو الهندسة الوراثية أو بخلق سايبورغ يكون جزء منه عضويًا وجزء غير عضوي”. ويعلل هذا بالقول “إن شيئًا لم يتغيّر بيولوجيًا منذ أربعة مليارات سنة. ولكننا سنكون مختلفين عن بشر اليوم كاختلاف قرود الشامبانزي عنّا الآن”.

ووسط حروب الشرق الأوسط الدينية، يرى هراري رأيا آخر، غير ما تؤمن به أطراف النزاعات في تلك المنطقة المشتعلة. فهو يعتقد أنّ المكان الأكثر قداسة الآن على ظهر الكوكب، ليس الأرض المقدّسة في الشرق الأوسط. بل “وادي السليكون” حيث يطوّر الباحثون هناك “ديناً تكنولوجياً” سينتصر على الموت.

الأيام الأخيرة للموت

باحث يؤمن بالخيال مثل هراري، يعتقد أن الدلائل كلها تشير إلى رجل القرن الحادي والعشرين، جادّ في طلب الخلود والمحافظة على الشباب الدائم ومكافحة الشيخوخة. أما الموت فهو كما عرفناه سابقاً، صراع شرس مع الجوع والمرض.

ومن خلاله استمدت حياتنا قيمتها المقدسة في العالم الواقعي. لذلك كان الموت هو ضمان الاستمرار بالنسبة إلى البشرية. ومع الوقت، وتطور الوعي بين الناس، وشيوع المعلومات الطبية، أصبح حتى الناس العاديون، الذين لا انخراط لهم في البحث العلمي يتابعون عن كثب، سير المعركة مع الموت. كما اعتادوا على متابعة آخر التطورات في الأبحاث الطبية.

أصبح البشر يفكّرون في الموت، بطريقة تقنية لا أكثر. ومع الوقت قلّت القداسة التي كانت تصبغه. ولم يعد الموت ذلك الشبح الذي يرتدي عباءة سوداء، ويأتي لخطف الأرواح.

فعندما يذهب شخص إلى الطبيب ويقول “دكتور، ماذا لديّ؟”، سيجيب الطبيب بشيء من هذا القبيل “لديك مرض السلّ” أو “أنت مصاب بالسرطان أو ”لديك مرض الزهايمر”. فيسأله الشخص “وماذا سيحدث؟” فيجيب الطبيب “الموت”. تلك الإجابات، برأي هراري، هي إجابات تقنية لا أكثر، وهي تشخيصات علمية، وبنود في كتب الطب والأكاديميات، ونتائج لعمل ميكروبات محددة ومسببات لم تعد خافية على أحد.

وبالمنطق ذاته، فإن شيئاً ما سيحدث، ويجعل البشرية تتغلب على هذه التقنيات، وبالتالي ينتهي الموت إلى الأبد. لأن الأمراض التي لا تتفوّق على معارفنا، لا تغلبنا، ولكننا نتقبل الهزيمة أمام السرطان والسلّ. بينما لا نحرك ساكناً أمام الزهايمر، مع أن الحق في الحياة لا يقتصر على وقت محدد. فشرعة حقوق الإنسان لا تنص على أن “لكل فرد الحق في الحياة حتى سن الـ90″. بل تقول إن “كل شخص له الحق في الحياة”.

المشروع الرائد بنظر هراري، هو “هزيمة الموت” وهو يستند في قناعته تلك إلى الكثير من الإشارات الصادرة عن مراكز الأبحاث. وكذا ما يشي به التقدم السريع في مجالات الهندسة الوراثية، وعلاجات التجدّد، والبيولوجيا الإلكترونية. هذه الأمور تجعل المستقبليين يتوقعون انتصاراً على الموت يتحقق في غضون بضعة أجيال . البعض يقول إن هذا التاريخ سيكون في 2200، والبعض الآخر يقول إنه سيتحقق بحلول العام 2100.

كاتب سوري

العرب

————————

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى