مقالات

ما بين إدلب والسويداء.. الأشجار لا تدافع عن نفسها/ مناهل السهوي

سيارات الأجرة هي الحكايات التي تنتظر من يسمعها، بعضها يحكي بطولات لم تحدث، آخرون يتفاخرون بقصص غيرهم أما البعض فيحكي قصصه الحقيقية، القصص المخيفة تلك التي تمنينا ألّا تمرّ بنا.

نصعد أنا وأمي في التكسي، رجلٌ في منتصف الستين بهيئة مكسورة، لا تحتاج أكثر من مجادلته حول الأجرة قبل الصعود لتتعرف على ذلك الانكسار من طريقة طلب المزيد، لا أجادل، أتعرف سريعاً على الألم، قصّة معتادة لرجل نزح عن قريته في مدينة إدلب وقَدِمَ إلى دمشق تاركاً حقول الزيتون خلفه وأشجار الرمان والأراضي الواسعة ليجلس خلف الموقد ويتذكر حياته الماضية تحت فيء الأشجار، قصص المكسورين لا تنتهي بالنزوح وحسب، دمشق ليست أكثر رأفة من مدينته، ليخسر ثلاثة من أبنائه دفعة واحد في أحد التفجيرات، وماذا بعد؟ لا شيء، ها هو يقطع شوارع هذه المدينة وهو يردد: “نحن الذين كنا ننعم بزيت الزيتون لم نعد نشبع الزيت الأبيض”، تواسيه والدتي بأن الصحة هي أهم من كلّ كروم الزيتون، ترتبك أمّي، لا مواساة لكلّ هذا الألم، وهي تعلم ذلك جيداً، تستذكر أرضنا في القرية، حين تشعر بالضيق بين جدران المنزل، تحمل رغيف خبزٍ، تمشي بين الأشجار ثم تجلس قرب مساكب الكزبرة والخضراوات الطازجة، تملأ رغيفها بها وتتناوله بشهية تحت إحدى أشجار الزيتون المعمّرة، أشعر بالأسى لأن أمي شعرت بالخوف من فقدان أشجارنا، لذلك روت قصة رغيف الخبز، ماذا نفعل حيال تلك الحياة البسيطة؟ لمْ نطلب أكثر منها، لكن الكثيرين فقدوا تلك الحياة ولن يعودوا إليها مطلقاً وإن عادوا سيعودون بربع حياة في أفضل الأحوال.

أراقب العاصمة الجافّة، لا أشجار، لا فيء يداعب وجوهنا المتعبة ولا ظلال نرتمي تحتها، أشجار الزيتون تقلُّ يوماً بعد يومٍ، تصير حطباً أو تموت بعد رحيل أصحابها واستيلاء آخرين عليها، أولئك الذين لا يدركون أن الأشجار تفتقد أصحابها، يردد الرجل الستيني: “لن أرى أشجاري مجدداً، استولت على أرضي العصابات”، تكتفي أمي بترديد دعوة مبهمة أكاد لا أسمعها، يصيبني هوس الزيتون، أعود للمنزل، أفتح الحاسوب وأبحث في الانترنت عن مصير تلك الكروم وكأن أشجار ذلك الرجل تاهت وعليّ أيجادها، أتواتٌ ومصادرات بحق كروم الزيتون، دولار يدفع عن كلّ شجرة يودُّ صاحبها قطف ثمارها، سرقة علنية لشوالات المحصول المجني واحتطاب و.. و.. إذاً لا مواساة ولا بحث عن شجرة زيتون فقدناها، لا شيء يقال، الأشجار لا تدافع عن نفسها، إنّها تيبس وحسب، تجف في انتظار يدي الرجل الستيني.

لن تكون حبات الزيتون على المائدة أكثر رأفة بي، سأنظر إليها بوجف، من أي حقل أتت؟ أيّ أيد قطفتها، هل هي ذاتها تلك الحبات التي وِفْق قصّة أحد الأصدقاء قام أخوه ورفاقه في السجن باستخدام حبات الزيتون للعب الشطرنج، الحبات السوداء مقابل الحبات الخضراء، اثنتان وثلاثون حبة زيتون تغدو تسلية الرفاق في السجن، لا أعلم كيف يميزون الوزير عن الحصان، أو كيف يعرفون الملكة أو الجندي، هل يجب أن يميزوا بينها حقاً؟ لكن السؤال الأكثر إلحاحاً، هل يعودون لتناول تلك الحبات بعد الفروغ من اللعب؟ أم أنهم يخشون تناولها فتبدأ حرب أخرى في بطونهم؟

أشعر بنعمة أن تجلس أمي تحت شجرة الزيتون وهي تحمل رغيف الخبز المليء بالخضروات، أشعر بذلك وما زال صوت الرجل الستيني يردد: “بعد عودتنا أنا وزوجتي من دفن أبنائنا قلت لها: والآن ماذا تبقى لنا؟”

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى