سياسة

جردة بأحداث نصف شهر في الرزنامة الإيرانية/ بكر صدقي

في صباح الثالث من الشهر الجاري، قامت طائرات أمريكية مسيرة باغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، ومعه أبو مهدي المهندس أحد قادة الحشد الشعبي العراقي التابع لإيران، قرب مطار بغداد. توعّد الإيرانيون وأتباعهم عبر الإقليم برد «مزلزل»، بل إن الأمر بلغ بحسن نصر الله أن بشر بطرد الأمريكيين من الإقليم وتداعي «الكيان الإسرائيلي» تلقائياً بنتيجة ذلك.

وجاء الرد المنتظر، بعد أيام قليلة، فأطلقت إيران صواريخ على قاعدتين عسكريتين أمريكيتين في العراق، لم تتسبب بأي خسائر بشرية. لكن صاروخاً من تلك الصواريخ «نجح» في إصابة طائرة نقل ركاب أوكرانية أقلعت للتو من مطار طهران، فقتل ركابها الـ176 جميعاً.

وقبل ذلك مات خمسون شخصاً بسبب التدافع أثناء تشييع جثمان قاسم سليماني، وجرح المئات، في فاتورة باهظة لا يد للأمريكيين أو أي من أعداء نظام ولي الفقيه فيها. كأن «الرد المزلزل» الذي توعد به أركان النظام وفرسان الممانعة على شاشات التلفزيون، كان المقصود به مدنيون إيرانيون، لا عسكريون أمريكيون. للتذكير فمعظم ركاب الطائرة الأوكرانية المنكوبة كانوا إيرانيين أيضاً عائدين من إجازاتهم إلى أماكن إقاماتهم وعملهم في كندا وغيرها من البلدان.

وفي البداية أنكرت السلطات الإيرانية علاقتها بسقوط الطائرة، ولجأت إلى كذبة «الخلل الفني» المزعوم. لكن رئيس الوزراء الكندي قال إن صاروخاً حربياً إيرانياً أطلق على الطائرة فأسقطها. وإذ حوصرت القيادة الإيرانية بأدلة لا يرقى إليها الشك، اضطرت للاعتراف بإطلاق الصاروخ «خطأ» ظناً من مطلقيه أن الطائرة الضحية هي صاروخ حربي معادٍ!

وفي حين كسب فرسان الممانعة على الشاشات سواد الوجه، كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن صاروخين أطلقا على الطائرة الأوكرانية، لا صاروخاً واحداً! هذا مما يدفع للظن أن إسقاط الطائرة المدنية لم يكن بنتيجة خطأ كما قيل، بل يرجح فرضية العمل الإجرامي المقصود! إن الثواني الثلاثين الفاصلة بين إطلاق الصاروخين هي مدة كافية للتأكد من طبيعة الهدف والتراجع عن الخطأ إذا كان التراجع ممكناً. أما إطلاق صاروخين فهو يعني أن الغاية منه هو التأكد من إصابة الهدف: إن لم يصبه الصاروخ الأول، فلا بد أن يصيبه الثاني!

ولكن ما هي مصلحة القيادة الإيرانية في إسقاط طائرة مدنية؟ هذا هو السؤال المنطقي الذي طرح ما يماثله بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، وكذلك حين قصف النظام الغوطة الشرقية بغاز السارين. من العبث البحث، في الحالات المذكورة، عن تفسيرات عقلانية تتسق مع الحس السليم. نحن أمام «عقل» إجرامي شيطاني يبرر كل شيء ومستعد لعمل أي شيء، مدفوعاً بغريزة البقاء في مواجهة قوة متفوقة، بلا أي روادع أخلاقية أو سياسية.

من المحتمل أن القيادة الإيرانية التي فقدت رشدها باغتيال سليماني، وشعرت بضغط الحاجة إلى رد سريع «مزلزل»، بدا لها أنه يمكن إسقاط الطائرة الأوكرانية وتسويق ذريعة «الخلل الفني» بحيث يغطي هول الكارثة الإنسانية على خيبتها في الرد الهزيل على الأمريكيين. بدا لها أن كون معظم ركاب الطائرة من الإيرانيين سيخفض من اهتمام «المجتمع الدولي» بالبحث عن سبب سقوط الطائرة، ويترك التحقيق في الحادث للسلطات الإيرانية. (دم المواطن الإيراني رخيص في نظر النخبة الحاكمة، كرخص دم السوري في نظر نظام بشار) لكن حساب البيدر لم يتطابق مع حساب الحقل، وسرعان ما عرف العالم أجمع أن الصاروخ (بل الصاروخين) الإيراني هو الذي أسقط الطائرة المدنية. وامتلأت الشوارع في المدن الإيرانية بمظاهرات شجاعة مزقت فيها صور سليماني وخامنئي، ونادت بإسقاط النظام. ليرد النظام بمزيد من الاعتقالات، فهذا ما يجيده النظام ويفهمه من الرد «المزلزل» على أمريكا! تماماً كربيبه نظام بشار الذي يقصف المدنيين والمستشفيات والمدارس في المدن السورية كلما تعرض لغارة جوية إسرائيلية.

وتوترت العلاقة بين إيران من جهة، وبريطانيا وفرنسا وألمانيا من جهة ثانية، على خلفية تعليق طهران التزاماتها ببعض بنود الاتفاق النووي الذي سبق لواشنطن أن انسحبت منه من طرف واحد. وقررت الدول الأوروبية الثلاث تفعيل آلية التحقق من الخروقات الإيرانية للاتفاق النووي.

مختصر القول أن القيادة الإيرانية تتخبط في مستنقع من وحل تزداد غرقاً في أعماقه كلما تحركت رغبة منها في النجاة. قد لا يؤدي ذلك، تلقائياً، إلى سقوط النظام. فهذا يتطلب توفر شروط أخرى غير عجز النظام عن إدارة أزماته. فلو كان العجز شرطاً كافياً لسقوط الأنظمة لسقط النظام الطائفي الفاسد في لبنان منذ أشهر.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى