مقالات

حاتم الصكر: قصيدة النثر مشروع حداثيّ يُراهن عليه/ صدام الزيدي

هناك أسطورة صينية تحكي عن امرأة رأت نفسها في الحلم فراشةً، فلم تعد تدري بعد يقظتها أهي فراشة حلمت بأنها امرأة، أم أنها امرأة حلمت بأنها فراشة؟ وهكذا صار لولادة قصيدة النثر هذا اللغز أيضاً، فلم يعد أحد يدري أهي نثر صار شعراً، أم شعر صار نثراً؟

فما علاقة الأسطورة آنفة الذكر بقصيدة النثر التي ظلت بنيتها كما رنينها في الذاكرة شعراً بنثر ونثراً بشعر، ولا تبالي بتناقضاتها التي تبدأ باسمها الملتبس الجامع للمتضادات في الشعرية العربية، ومفهوم الشعر كما استقر في التداول والكتابة الشعرية معاً؟

يستعير الناقد والأكاديمي العراقي حاتم الصكر تلك الأسطورة القادمة من الثقافة الصينية في أحد كتبه النقدية، ليتذكرها مجدداً (في فصل افتتاحي يقف فيه أمام بنية قصيدة النثر وتشكلاتها النصية) في مستهل كتابه الأحدث “الثمرة المحرمة” (مقدمات نظرية وتطبيقات في قراءة قصيدة النثر)، الصادر حديثاً عن مجلة “نصوص من خارج اللغة” و”شبكة أطياف الثقافية” بالعاصمة المغربية الرباط.

قضايا كتابة قصيدة النثر

يتناول حاتم الصكر في “الثمرة المُحرّمة” أهم قضايا كتابة قصيدة النثر العربية فنياً وجمالياً وعناصرها البنائية، مقترباً بالدراسة والتطبيق من قصائد ودواوين خمسة وأربعين من شعرائها من الجيل التالي لروادها، والشبان الأقرب إلى الحداثة القائمة التي شهدت تبدل مرجعيات كتابتها، وظهور مؤثرات جديدة، وبروز مزايا فنية داخلية ترسخت عبر النصوص، كالسرد والكثافة والتعيين الزماني والمكاني، والعناية بالدلالة وسواها.

يمتد الكتاب (الواقع في 200 صفحة من القطع الوسط) عبر جناحين: الأول نظري يعالج مستجدات الإيقاع واللغة وقضايا جمالية تتصل بقصيدة النثر وقراءتها. والثاني تطبيقي يقارب نصوصاً مختارة من قصيدة النثر العربية. أما “الثمرة المحرمة” كعنوان، فهو يعكس اعتقاد الناقد الصكر بأن “قصيدة النثر ثمرة شجرة الحداثة الشعرية” التي لم يرِد من أسماهم بـ(حُرّاس التقاليد الثابتة في الكتابة) “أن يسمحوا بتناول ثمارها. لكن ذلك حصل ورضيت قصيدة النثر بعد طردها من جنان متعالية أن تكون كائناً أرضياً يمشي بالشعر حيث مرمى القصيدة وواقعها وآفاقها وحياتها المتجددة”.

رهان مغامرة كبيرة

يعلن الناقد الصكر انحيازه لقصيدة النثر، ومراهنته على جدوى مغامرة كتابتها رغم ما يعترض مشروعها التحديثي من أزمات ذاتية تخص ما يحسب ضمن نصوصها، والحماسة المفرطة لدعاتها الأوائل والمبشرين بها، وما أصاب خطابها من تشويش في التسمية والوصف والاشتراطات، عارضاً دوافعه وأسبابه في مساءلة مبررات قصيدة النثر وحجج خصومها، بكونها “وعداً بالتحديث وواقعاً نصياً وتلقياً نقدياً وفعل قراءة”.

بدءاً يقدم الصكر رؤيته حول بنية قصيدة النثر وما يحفّ بها من مزايا، وحول الراهن الثقافي والشعري وانعكاساته على الكتابة الجديدة، ورؤية المستقبل الشعري احتكاماً إلى النصوص. فقد كان قدر قصيدة النثر واللحظة الشعرية التي ولدت فيها أن تتشكل بِنْيةً صادمة مستفزة منذ لحظة التعارف مع القارئ الذي تتميز في وعيه الأنواع والأجناس كما تراكمت نصوصها في ذاكرته. ويفهرس (القارئ) تلك النصوص بما يفرضه التفريق الحدّي بين الشعر والنثر، ولا يراهما قابلين للتصالح والجمع في إطار نصي واحد. وهو إشكال والتباس واجه قصيدة النثر في حاضنتها الأساسية وفقاً للناقد الصكر في إشارة منه إلى: اعتراضات الفرنسيين أنفسهم على التسمية وتصريح مُنظِّري قصيدة النثر الأوائل بحرج التسمية ومغالطتها وعدم تعبيرها عن المستوى الاصطلاحي عما يراد منها على مستوى المفهوم، ولا تنتهي التناقضات بمعضلة تلقيها في أفق لم يتغير كثيراً ولم يبتعد عن مرمى القصيدة السابق.. فلم تتكيف آليات القراءة وإجراءاتها مع مقترحها الإيقاعي الذي ما زال الكثير من المهتمين بالشعر لا يرونه إلا وهماً وسراباً لعدم تعينه أو ملموسيته، مقارنة بما تقدمه الوزنية من تعيّنات وكثافة موسيقية مرافقة للبنية اللغوية والتصويرية، وكما يتمثل في تجارب شعر التفعيلة الشائع باسم الشعر الحر.

الأدعياء ووهم القصيدة

أما بشأن أدعياء كتابة قصيدة النثر، فيحذِّر الصكر من هؤلاء: فهم يلحقون بها ضرراً كبيراً على مستوى التلقي، وما يشيعون من نماذج تتكرس تقليداً جديداً سرعان ما يوهم بأنه قصائد نثر، إنما يجسِّم خطأ شخّصه أدونيس مبكراً ضمن أوهام الحداثة، وهو وهم التصور بأن كل ما ليس موزوناً هو قصيدة نثر، وذلك (وفقاً للصكر) وهمٌ يتبع في جوهره ما شاب الوعي بموسيقى الشعر من تشويش حاصل من جهتين، الأولى: تحصره في الأوزان فحسب. وإذ تتيح تنويع تفعيلاتها وتوسعاتها وحريتها العددية، فهي لا تفرِّط بالوزنية شرطاً للموسيقى المعززة بالتقفية اللازمة كملحق نغمي يكمل جوّها الموقّع والطربي، فتتآزر على خلق هويتها الإيقاعية التفعيلات والقوافي التي تظل مهيمنة مهما انتظمت بحرّية وبلا ضوابط تقليدية. والثانية: تقيم إيقاع القصيدة على إلغاء الموسيقى تماماً مع جهل أو تجاهل للبدائل الممكنة التي تعوِّض ذلك الغياب بما تقترحه إيقاعا ملائما لتحرر قصيدة النثر من الموسيقى التقليدية ولمقولاتها المتصلة باللغة والسرد والتركيب.

وبين تلك الوجهتين (النظرتين) يشير الدكتور الصكر إلى أن “كتابة قصيدة النثر العربية تمضي متجددة عبر أجيال من الشعراء تتنوع مرجعياتهم والمؤثرات الفاعلة في تجاربهم، فحين كان الجيل الأول من كتّابها يحاول تنفيذ برنامجها الإيقاعي والرؤيوي واللغوي كما تقترحه المرجعيات الفرانكفونية والأنكلوسكسونية، يذهب الجيل الأخير من الشبّان مثلا إلى تجارب عربية تركت بصماتها في أشعارهم وتجسدت في قصائدهم النثرية.. وأخرى من منابت شعرية مختلفة ومتباعدة”.

ويؤكد الناقد أن الرهان يظل قائماً على مستقبل الكتابة الشعرية واتجاهاتها الأسلوبية في احتمالات التبدل والتطور والتغيير.

وبصدد مناقشته لسؤال: ما مستقبل قصيدة النثر؟ قال إن “ما يمكن الوثوق به ووضعه في لائحة التوقع، هو الجانب التقبلي والبنيوي للقصيدة. فالقراءة المستقبلية ستدرج قصيدة النثر بشتى أنواعها وأنماطها: الدلالية والموضوعية والسردية وسواها ضمن جنس الشعر دون تردد وتساؤل. سيخف رفضها وتكون بتراكم نماذجها وتنوع مناخاتها ضمن ذخيرة القراءة وخبرات القارئ – بمصطلحات علماء القراءة والتلقي- ما يجعل قراءتها قيد إمكان الكثير ممن لا يقاربونها حالياً لأزمات موضوعية وذاتية؛ كتسميتها المستفزة، ومخالفتها للسائد المألوف من الشعر، وهذا ما حصل في الشعر العالمي نفسه كتجارب يمكننا استخلاص عِبَرَها ودلالاتها. كما تظل قصيدة النثر إضافة إلى أنواع الجنس الشعري الأخرى بكونها تلبية لتنوع الحساسيات الشعرية ذاتها. فالأمزجة تتأثر رفضاً وقبولاً بسياقات يصعب التكهن بها؛ لأنها تتعلق بيوميات الحياة وثقل أحداثها ووقائعها، ولعل في مقدمتها الحروب باعتبارها وقائع كبرى، والتغيرات السياسية والاجتماعية والتقنية وسواها”.

قصيدة النثر ووسائط التواصل

كما يرى الصكر (في توقعاته لمستقبل قصيدة النثر أيضا) إمكان صيرورتها قصيدة شعبية وجماهيرية بفعل وسائط التواصل، وما تفرضه من هيئات وتشكلات للنوع الشعري (وهذا توقع آخر ممكن – وفقا للصكر- خارج الحدوس المستجيبة للنيات والرغبات)؛ مثلاً، قبول قصيدة الومضة، وما عُرِف عربياً بالهايكو – حتى في مخالفة نماذجه لمنطلقات الهايكو الياباني- ضمن مناخ الشعرية العربية المتحررة من مفهوم القصيدة المقطعية أو الطويلة والملحمية: “تغيرت الحساسية إذاً بفعل الوسائط الشائعة اليوم؛ كالرسائل النصية في الهواتف والأجهزة المحمولة، والقراءة الإلكترونية اليوم لا تتحمل التطويل والإطناب كبنى للنصوص”. ويعتقد الصكر أن التساؤل الذي يلح على المستوى الجمالي هو مقلوب السؤال (عن مستقبل قصيدة النثر المطروح اليوم بشدة)؛ ويعني به: “السؤال عن مستقبل قصيدة النثر ذاتها لا ترشيحها لتكون قصيدة المستقبل”.

تفاؤل

كعادته، واستمراراً لمقارباته وكتبه التي صدرت طوال الفترة الماضية ضمن مشروعه النقدي والتنظيري لقصيدة النثر العربية، يؤكد الصكر في مجمل الاستقصاءات والحدوس والتوقعات الصادرة عنه تفاؤله بمستقبل الحداثة الشعرية، وهو بذلك (بما أنجزه وصولاً إلى كتابه الأحدث “الثمرة المحرمة”) يكون قد أوضح جوانب من الهمّ المثار غالباً بدوافع نقدية وقراءات ترصد ما يصيب القصيدة أحياناً.. مؤكداً أنه “دون أن ننسى كل هذا التفاعل مع القصيدة العالمية والفكر الجديد حول الشعر وصلته بالحياة والمجتمع وخصوصيته في التعبير عن ذلك كله، هو الذي قاد شعرنا منتصف الأربعينات إلى طرق جديدة غيّرت مسار الشعر العربي ووهبته إمكانات حياة معاصرة وأساليب حديثة”؛ مشيراً إلى “الاختلاط الأسلوبي والمفهومي في الكتابة الشعرية مما ينعكس بكيفيات مختلفة ليس كلها سلبياً على الجسم الشعري الحي. فثمة من يرى ميزة وامتيازاً في التعايش بين الأجيال الشعرية العربية -وهو ملمح بارز فيه- ووجود الأجيال مع بعضها في اللحظة نفسها، واستمرار الوزنية والموضوعاتية أساليب أداء ممكنة إلى جانب التحديث الشعري المنفتح”.

الراهن الشعري.. ثمة أمل

يرتبط الراهن الشعري عضوياً بالراهن الثقافي العام، والشعر متأثر بالقيم والمواضعات الزاحفة والمرحّلة من الاجتماعي والسياسي والاقتصادي إلى الثقافي. وهنا يقول الصكر إن الراهن الثقافي (العربي) باعتباره جزءاً من المنظومة الاجتماعية والسياسية والفكرية السائدة هو فضاء تنتعش في مناخه المشروعات الظلامية مستفيدةً مما قال عنه (الصكر) “الفقر الروحي والخواء واستسلام الفرد لأقدار عمياء لا رأي له فيها ولا اختيار. ولكن ما ينعكس ثقافياً على الأنواع والأشكال الشعرية يؤثر بالسلب ثلاثياً عليها، فهو من جهة أولى يعُوق تحديثها ويعطل وتائر تطورها داخلياً، وتداولياً: بعزل الشعر عن محيطه القرائي ويتراجع تقبل الشعر (بالتالي) إلى مراتب دنيا في تسلسل الأولويات الحياتية التي تضغط بدوافع الحرمان. ومن جهة ثالثة: تسمح ببروز رؤى متخلفة أو عتيقة ربما صار تجاوزها واقعاً في الفن نفسه لكنها تعود بقوة السلطة والمعتقد والبطش والفقر. وتلك سياقات لا تنفك عن معاينة الراهن الشعري لأنها تحفّ به وتؤطره وتدخل كذلك في تشكيله وصياغته”.

غير أن الصكر يذهب إلى أن المراقب للمشهد الشعري العام، يمتلك بعض التفاؤل لمبررات يبينها (مؤكداً أنه من فريق التفاؤل) في سياق رؤيته حول الراهن الشعري: “كما ينعكس في كتاباتي وترجمة لقناعتي بأن التقاليد الشعرية العربية ذات جذور تاريخية متقدمة في الزمن تسمح بتوقعات وإمكانات لا تطابق الراهن الخارجي أو السياقي لاشتغالها مستقلةً عن ذلك التأثير، لكنها تدفع مقابل عمل آلياتها الدفاعية ثمناً ليس هيناً يتمثل في زيادة عزلتها وافتقادها التأثير في الوعي السائد وتحوير أفق التلقي وجعله معتقداً بإمكان التحديث ومدياته اللامحدودة”.

مشكلات ذاتية وداخلية

من أبين أهم إشارات الكتاب، المتعلقة بما يجده الناقد الصكر مشكلات ذاتية أو داخلية تعاني منها قصيدة النثر:

“الراهن الثقافي (العربي)  فضاء تنتعش في مناخه المشروعات الظلامية”

–  مشكلتا التلقي والنقد: ظل تلقي قصيدة النثر بسبب غياب النقد غير متوافق في أفق القراءة مع برامجها ومستنداتها النظرية ومزاعمها الفنية بصدد إيقاعها ولغتها خاصةً.. وانطلق التلقي النسقي محاكماً شرعيتها وجدّيتها وجماليتها من توجهات ذات القارئ الذي يحاول من خلالها توفيق تجربة النص الحالي غير المعروفة حتى الآن بالنسبة إليه، مع مخزونه الخاص من تجارب الماضي. وإذا كان التلقي مشكلة جمالية تعاني منها الحداثة وأطروحاتها الصادمة عامةً، فإن النقد يمثل مشكلة تكمل دائرة الأزمات التي تعاني منها قصيدة النثر، بدءاً من الكتابات المنفعلة في فترات انتشارها الأولى، ثم تجاهل الدراسات الأكاديمية والمناهج المدرسية والمجلات العلمية لقصيدة النثر، وهناك النقد المضاد الذي استغلّ غياب نقدها النصي والنظري ليشيع مقولات خاطئة عنها، كأن تصف شاعرة وباحثة كنازك الملائكة مجلة (شعر) بأنها تصدر (بلغة عربية وروح غربية).

– كثير من شعراء قصيدة النثر العرب لا يولون الدلالة اهتماماً (تدور نصوصهم في فراغ دلالي).

– هناك جانبان تغفلهما قراءة قصيدة النثر: الجانب الدلالي فيها، والسرد الذي تعتمده تعويضاً عن غنائيتها.

– بكونها قصيدة رؤيا، تنفتح قصيدة النثر على الخيال والأسطورة (وهو جانب يحتاج إلى عناية الشعراء الشبان).

– انحصرت بعض تيارات كتابة قصيدة النثر في بداياتها في بناء نصوص ذات وجود لغوي غريب العلاقة بين تراكيبه. كما نحا البعض إلى توليد صور واستعارات عسيرة وصادمة، والبعض اقترح إيقاعات بديلة للموسيقى الشعرية التقليدية الغائبة فيها. وعكف بعض آخر على تعميق الخط الدلالي للنص، لا سيما في التجارب الوسطى التالية للرواد وكتاباتهم الأولى.

– أما السرد المستعاض به عن غنائية محلّقة أو مهوّمة، والمجتلَب للنص لإكسابه ملموسية وتعيناً، فقد كان ممكناً في قصيدة النثر بشكل كبير، نظراً إلى الإفادة من طاقة النثر المنصهر في بنيتها.

إلى ذلك، يؤكد الصكر أن ما سيظل يُحسب لقصيدة النثر دون شك أنها “تمثل لحظة حداثة فريدة تمس جوهر القصيدة وخطابها، لا مجرد التغيير في الشكل والرؤية، وأن ضرورتها قائمة، لا بدافع الحماس للمغايرة وكسر المألوف فحسب، بل لكونها تجدد دم الجسد الشعري العربي، وترافق ثقافة عصر يغور في طبقات الوعي، ولا يقف مترنماً على أطلال الذات المنهكة بالهزائم والخسائر والتراجعات”.

ويجد الصكر أن الموقف النقدي من قصيدة النثر، لا سيما في بداياتها، زاد من عملية التلقي. منوهاً أنه “إذا ما تحققت ظروف التلقي المناسبة والإعداد والتأهيل المطلوب للقارئ فستجد قصيدة النثر مناخاً مناسباً للتواصل والتفاعل مع نصوصها وخطابها”. ويعتقد أنها (أي قصيدة النثر) لن تجد القبول المطلوب في سياق القراءة التماثلية التي تحتكم إلى الثوابت التي قامت قصيدة النثر أصلاً – وبجهود نصية متلاحقة من أجيال شعرائها الجدد- على هدمها والخروج عليها.

مجلة شعر ومأزق التلقي

يتوقف الصكر أمام تجربة “مجلة “شعر” في سياق تحليله لـ”مأزق تلقي قصيدة النثر” مشيراً إلى أن الخصوم لم يكونوا وحدهم سبباً في توقف المجلة الأول في خريف عام 1964 (انطلق عددها الأول ببيروت في شتاء 1957)، بل كانت المجموعة ذاتها (أي ما يوصف بجماعة شعر التي قال الصكر إن في وصفها بالجماعة نعتاً لا ترضاه الجماعة وهي التي كان التفرد والتجاوز والرفض أكثر شعاراتها استفزازاً) تعاني من مشكلات داخلية، اعترف ببعضها يوسف الخال – رئيس التحرير- في بيان التوقف الأول، ومنها حاجز اللغة بين المجلة وقرائها وبين قصيدة النثر والمتلقي، ولكن التوليف الفكري للمجموعة وتباين منطلقاتها رغم التمامها الظاهري حول المشروع كان سبباً أكثر أثراً في التوقف وتعثر المشروع التحديثي، الأمر الذي تغفله كثير من الدراسات التي تناولت تجربة المجلة ومشروعها، رغم اعتراف أفراد المجموعة نفسها بذلك، فجبرا إبراهيم جبرا لا يصنف كتابته الشعرية ضمن (قصيدة النثر) بل يسميها (الشعر الحر) بالمصطلح الغربي السليم الذي ينطبق على شعر والت ويتمان، ويدرج شعر توفيق صايغ والماغوط ضمنه، وهو ما نبّه إليه الدكتور عبد الواحد لؤلؤة في دراساته المبكرة حول قصيدة النثر (بحسب الصكر) بينما ينتمي عدد من شعراء المجموعة إلى ميراث قصيدة النثر الفرنسية ذات التمركز اللغوي وإغفال المعنى، مقابل إنتاج علاقات لغوية غريبة وبنى صورية صادمة، كما في شعر أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، ومن الجماعة من لم يهمل الوزنية تماما مثل فؤاد رفقة. أما في المنظور الرؤيوي فثمة متدينون ودنيويون، إليوتيون وبودليريون، وفي الموقف من التراث هناك من يصرخ ويصرح بأنه لا تراث له وأنه خارج الموروث كله، بينما تفرد المجلة وبتأثير مباشر من أدونيس صفحات من كل عدد لمختارات من الشعر العربي القديم، كانت نواة قراءته المعمقة للموروث الشعري التي نتج عنها كتابه المهم “ديوان الشعر العربي”.

ويكشف الصكر أن من أكثر الجنايات التحديثية فداحةً هو ما بشّرت به مجلة (شعر) بحماسة غريبة لأفكار سوزان برنار في أطروحتها عن قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا، وليس الخطأ في تبني أفكار برنار والقوانين التي استقرأتها من متابعة التحديث في أدب لغتها الفرنسية، بل في التلخيص المخل والابتسار الذي صنعه كتّاب المجلة لتلك الأفكار، والصنمية التي منحوها لها.

ويبحث الصكر عن هوية لقصيدة النثر في العراق تحت عنوان “قصيدة النثر في العراق: المرجعيات الفاعلة والهيمنة الموضوعية” متجاوزاً ذلك الجدل حول التسمية والشرعية، ويتقدم لتأمل هوية قصيدة النثر ومدى انتمائها إلى التاريخ الشعري لوطن كتّابها، مشيراً إلى أبرز المؤثرات الفاعلة في أسلوبيتها المعاصرة: تبدُّل المرجعيات والمؤثرات؛ تداخل تجارب الأجيال، وانتهاء دعاوى التقابل العدائي بين تجربة شعراء الداخل والخارج.

تحليل نصي/ تطبيقات

يقدم الصكر إجراءات مقترحة وتطبيقات (قصيدة النثر في معيار التحليل النصي) منطلقاً (على امتداد صفحات الجزء التطبيقي من الكتاب التي أخذت حيزاً واسعاً قياساً بجزئه النظري) في الاختبار التحليلي من اختيار عينات نصية، لا يعني اختيارها حكماً قيمياً بتفوقها أو امتيازها (كما ينوه) بل تمثيلها للفرضيات المنطلقة من الاهتمام بالكيفية النصية والتشكل البنائي للنصوص، سعياً لإزالة الوهم القائم حول فوضى البناء النصي أو مجانيته واعتباطيته في قصيدة النثر، بل هي تعطي انتظاما مضمنا، للقراءة الكاشفة أن تزيل عنه ترميزاته وشفراته وتعرّفنا على أبنيته المضمرة أو المسكوت عنها في نظام القصيدة. وهذه العينات هي: سركون بولص: حانة الكلب في شارع الملوك؛ وديع سعادة: الوصول المستحيل كنزهة رصاصة؛ أمجد ناصر: الجسد في إطار التخييل؛ عباس بيضون: صور أم مسنَّة بقلب سمكة وروح طير؛ قاسم حداد في (قبر قاسم): كمن يسمع شيئا ويرى سواه؛ سيف الرحبي: تحديقة ذئب في مدن الملح؛ طالب عبد العزيز: الأب- غياب لا ينقصه الحضور؛ عبد الودود سيف: زفاف الحجارة للبحر؛ عبده وازن: المخطوفون- ليسوا أحياء لكنهم لم يموتوا؛ عبد الكريم الرازحي: مُساخرة شعرية مع مواقف النفّري؛ خزعل الماجدي: أحزان السنة العراقية؛ محمد حسين هيثم: صنعاء التي لا بحر فيها؛ شوقي شفيق: الرايات أدغال وأحلام شائكة؛ جواد الحطاب: كومونة فقراء الأرض؛ عبد الرزاق الربيعي: تقويم لأعوام المنفى؛ أحمد الفلاحي: ابن الشمس؛ هاني الصلوي: قصيدة الموعد؛ دواوين: إشراقات المركز: قراءات في نماذج شعرية من الحداثة المصرية (جرجس شكري: أشياء ليس لها كلمات؛ محمد عيد إبراهيم: مجنون الصنم؛ محمد حربي: دستُ ظلاً فانتبهتُ)؛ صلاح فائق في مقاطع يومية؛ حسين عبد اللطيف: أمير أور- مراثي الشاعر للرسام؛ صلاح بوسريف: صياغة مغربية لقصة الخلق الرافدينية؛ عبد الزهرة زكي: شريط صامت؛ كاظم خنجر: نزهة بحزام ناسف – قاموس الرعب اليومي؛ محمد اللوزي: بلد الأضرحة؛ ناجي رحيم: غريب في الحشد؛ عبد الفتاح بن حمودة: بستانيّ الكلمات؛ لطيف هلمت: القصيدة كالريح لا تصادق أحداً؛ عدنان محسن: أشعار الجندي الفارّ من ثكنة الشعراء!؛ فضل خلف جبر: من أجل سطوع الذهب؛ نصيف الناصري: خرائب أيامنا؛ باسم فرات: عن القناص الذي هشّم ذراع كهرمانة؛ محمد خضر: نهاية مقترحة لأوديسيس؛ ياسين عدنان: قصيدة السفَر؛ دنيا ميخائيل: الغريبة بتائها المربوطة؛ عبود الجابري: متحف النوم؛ علي وجيه: الخوذة والكاروك؛ حسام السراي: شبح نيويورك؛ فليحة حسن: لو لم يكتشف كولومبس أميركا؛ عباس السلامي: إبرة الشعر وخيط القصيدة؛ سهام جبار: قديما مثل ذكرى في الريح؛ زاهر السالمي: عبوة شعرية ناسفة؛ أديب كمال الدين: شجرة الحروف؛ السيد التوي: الربيع ليس صدفة؛ مقاربات نقدية؛ تبدلات المراجع والمؤثرات؛ أجيال الشعر لا الشعراء؛ السبعينيون: حلم التجاوز والتخطي؛ الثمانينيون: الظل الفاتر.

عنوان الكتاب: الثمرة المحرمة، مقدمات نظرية وتطبيقات في قراءة قصيدة النثر المؤلف: حاتم الصكر

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى