وجها لوجه

عباس بيضون: كان الكتَّاب يولدون شعراء، الآن روائيين!

حسين بن حمزة
عباس ييضون يشبه كتابته ولغته وجملته. لا يختلف الأمر إن كان يتحدث في الشعر أم في الرواية. الحيرة ذاتها. الظنون ذاتها، وقبل كل شي تجنّبه لأي يقين تجاه ما يكتب. لا يفعل صاحب “الوقت بجرعات كبيرة” كنوع من الادعاء أو التواضع، بل كحقيقة يمكنه أن يطرحها ثم يتخلى عنها، أو يظل يشكّك بها. لعل جزءاً من فتنة كتابته موجود في ظنونه عنها. تلك الكتابة التي هي نتيجة تجنّبات أكثر من كونها رصيداً مبنياً بنسق ثابت، والتي هي افتتان مستمر بما يحدث في داخل هذه الكتابة أكثر من الإصغاء إلى ما يدور حولها. نثريته الملموسة والمسننّة في الشعر بدت مثل إشارة إلى أن الروائي الذي في داخله مستعد لنثر أوسع وأكثر استطراداً. عمله الطويل والثمين في الصحافة ساهم في ذلك أيضاً.
كتب صاحب “مرايا فرانكشتاين” ست روايات، ولكنه ظل يعثر على الشعر. يعود إلى الشعر شاعراً، ثم يغرق في رواية جديدة روائياً، وفي الحالتين يظل ذلك الالتباس الثري موجوداً في كتابته.
بعد حصوله على “جائزة الشيخ زايد” عن روايته “خريف البراءة”، صدرت له مجموعة ، “ميتافيزيق الثعلب”، وها هو اليوم وسط رواية جديدة . وفي أدراجه رواية منتهية يقول أنها ستصدر قريباً.
هنا حوار معه:

*تكتب الرواية ثم تعود إلى الشعر .. هل تجد ذلك سهلاً؟ هل لا تزال تجد الشاعر الذي في داخلك منتظراً ومستعداً للشعر بعد ست روايات؟
كان الشاعر في داخلي دائما مختفياً ولا أجده إلا حين يخطر له هو أن يحضر. وحين يحضر يفعل ذلك غالباً لمهمّة كاملة، أي لمشروع كامل ولنصّ يملأ كتاباً. أغلب دواويني كانت نصّاً واحداً انشغل في الفترة ذاتها، وإن بدا أحيانا مقطّعاً إلى قصائد. لقد كتبت عدداً من مجموعاتي الشعريّة بين الروايات بما في ذلك ديواني الأخير”ميتافيزيق الثعلب”. ليست المسألة سهولة أو صعوبة. كلما ما كتبته من شعر كان مفاجئا لي الى درجة السحر. لا أستغرب أن يكتب الشاعر رواية، بل أظن أن لدى كثير من الشعراء هذه الرغبة. أظن أن الكتّاب كانوا يولدون شعرء من قبل، الآن يولدون روائيين بطريقة أو بأخرى. النثر هو الغالب حتى في الشعر. العالم رواية حالياً. الأخبار رواية. اليوميات رواية، الصحافة رواية. بالنسبة للشعر، لا استطيع أن أحكم على الشاعر الذي في داخلي. كنت أخشى أنه توارى. أنه خرج واختفى. كتبتُ كل مجموعاتي الشعرية بما يشبه المعجزة فعلاً. كنت دوماً أعثر على هذا الشاعر في لحظة ما كنت أظن أنه اختفى. ولا مرة تأكدتُ من وجوده. الشعر عطيّة. منحة. ليس انتظاراً ولا استعداداً. هناك استعداد ورغبة طبعاً، ولكن الشعر دائما كان منحة ومفاجأة. نحن ولا مرة واثقون أننا شعراء بالتأكيد.
*تحدثت اكثر من مرة عن مؤثراتك وخصوصاً عن ريتسوس كمعلم وكذلك عن تأثيرات بيار جان جوف وإليوت .. ما هي مصادر الشاعر واحتياطياته عندما يبلغ ما يمكن ان نسميه الحكمة او الكهولة؟ هل ينافس نفسه مثلاً؟ هل تصبح الكتابة مطواعة وبلا قلق ؟
تكلمت دائما عن معلّميّ الشعراء وأضيف إلى ذلك أنّني كنت أجد لغة لكلّ كتاب. قد لا يبدو ذلك لقارئي. لقد فكّرت أحياناً في ذلك ولم أصل إلى تفسير. ليست الكهولة أو الشيخوخة ، كما تجنبت أن تقول، فارقاً في ذلك إلاّ أن يكون السحر قد زال. من الأفضل عند ذلك أن نتوقّف عن كتابة الشعر بدلاً من أن نجترحه. بالتأكيد ليس هناك محلّ للحكمة في ذلك. الشعر يبقى مراهقة دائمة ولايمكن أن يأتي بلا قلق. الشعر ولا مرة يكون مطواعاً. هو باستمرار سحر أو ما يشبه السحر. لم أتحول يوماً إلى شخص يستدرج الشعر في أي لحظة يريدها. لم أتحول إلى شخص متمرّس أو إلى محترف شعر. كان الشعر منحة. كأني أكتب لأول مرة. وربما هذا يفسّر أن كل مجموعاتي تختلف عن بعضها. المجموعة التي سبقت هي كتاب قائم بذاته . والمجموعة التالية هي كتابٌ آخر. دائماً أكتب من محل يبدو أني لا أعرفه، أو من جملة لم أمارسها من قبل. كان مفاجئاً لي أن قرائي وجدوا أن شعري مكتوب بلغة متدرجة ومتوالدة من نفسها. هناك نقاد كانوا يرون أنني اتنقل في الشعر ولكن في المكان نفسه وداخل التجربة ذاتها واللغة التي تنبني على ما سبق. كنت أتفاجئ بذلك، وأنتهي أنا أيضاَ إلى أن أوافقهم. يبدو أن الشعر أو الكتابة تمتلك ماضياً ما، وأنها تُبنى على هذا الماضي، وأن كونناً جدداً في كل كتابة هي فكرة ليست صائبة تماماً. لسنا نملك في كل كتاب لغةً جديدة. هناك لغة تتسرب من كتاب إلى كتاب. الشاعر نفسه ينتقل من كتاب إلى كتاب. يعاود بناء هذه اللغة من المواد نفسها.
*ومع ذلك تقول انها ابنة انعطافات وتنقلات وتجنبّات أكثر من كونها خاضعة لتراتبية ونسب معين .. ما هو نصيب مجموعتك الأخيرة “ميتافيزيق الثعلب” من توصيفك هذا؟ هل هي حيرة إضافية وتجنّب مستمر؟
قلت إنني كنت أجد لغة لكلّ كتاب. هذا بالطبع من المجاز، إذ أنّ هذه اللغات كانت أقرب إلى ان تكون إيقاعات متفاوتة أو مختلفة، وحين فكّرت في ذلك خطر لي أنني كتبت في حياتي بضع قصائد، قد تكون قصيدة “صور” مثالآ أوّل فيما تكون “الوقت بجرعات كبيرة” مثالا ثانيا، أمّا المثال الثالث فقد يكون “زوّار الشتوة الأولى” و”نقد الألم”، وقد تكون”دقيقة تأخير عن الواقع،أبواب بيروتيّة” او “فصل في برلين” مثالا رابعاً. فكّرت أنني بعد هذه “القصائد” صرت أدمجها وأمزج بينها بحيث يتكوّن من هذا المزيج أسلوب. الأمر الأهم هوأنّ نقّادي النبيهين وجدو تدرّجاً بين هذه القصائد، بل وجدوا تسلسلاً، وبالتالي وجدوا فيها أسلوباً ووحدة. إن صحّ ذلك فهو يعني أنني كنت “أنا” في شعري خفية عني، وأنا ما ظننته إستثناء هو أمر دارج ومشترك بين الشعراء. أظن أنني في صناعة الشعر، وربّما في صناعة النثر أيضا أخضع لقواعد وضوابط ثقافيّة بقدر ما هي أخلاقيّة وأن ما تسميه تجنّبات وأسميه أنا “سلبيّات” موجود في شخصي، بطريقة ما، وليس فقط تقنيّات أدبيّة. أما مجموعتي الأخيرة “ميتافيزيق الثعلب” فهي من هذا المزيج الّذي تكلّمت عليه. كتبتُ هذه المجموعة بعفوية أو بسهولة ما. أظن أن هذا الكتاب والذي سبقه “صلاة لبداية الصقيع”، هما أشبه بالمذكرات الشعرية. كأني كنت بمعنى ما أكتب ماضيّ رغم أنهما لا يبدوان كذلك، هما بطريقة مموهة ومواربة سيرة بمعنى من المعاني، وكتابة منجزة انطلاقاً من تاريخ وأحداث شخصية.
*هل يمكن القول إن نثريتك الملموسة والمسنّنة منذ مجموعتك الشعرية الأولى “الوقت بجرعات كبيرة” سهّلت عليك منذ البداية كتابة الرواية .. كأن الروائي أوالناثر الذي في داخلك كان ينتظر الفرصة فقط؟
أظن أن ما قادني إلى النثر الروائي هو النثر نفسه. لا تنس ممارستي الطويلة للصحافة وكتابتي في أغراض ثقافيّة وفنيّة وسياسيّة طوال سنين. لعل الكتابة الصحافيّة كانت العامل الأهم في ذهابي إلى الرواية. أظن أني كتبت النثر كنثر، وتجنّبتُ باستمرار أن أكتب إنشاداً شعرياً. أظن أني حاولت أن أجعل من النثر شعراً. لا تجد في لغتي أي تهويل أو تنميق لغوي أو غناءً مبالغ فيه أو عاطفة مائعة. لا تجد إنشاءاً أو ما يشبه الشعر بدون أن يكون شعراً. لا نجد هذا منذ “الوقت بجرعات كبيرة” وحتى في قصيدة “صور”. لقد كتبتُ بقسوة وبشكل محدد وملموس وبلغة مسننة كما قلت. القسوة كانت خلاصاً من الرخاوة الأسلوبية.
أظن أن فكرتي عن الكتابة كانت تتلاءم منذ البداية مع الرواية، والكني اظن أن الكتابة الصحفية ساهمت بذلك ايضاً. الكتابة الصحفية فيها مسؤولية مرتبطة بقارئ، وهناك رغبة في أن نكتب بطريقة نصل فيها إلى هذا القارئ. أظن أن الرواية هي تقريبا هذا. لا يمكن أن تكتب رواية بدون أن تحسب حساباً للقارئ. الكتابة هكذا هي نوع من عقد بين كاتب رواية وقارئ .
*ولكنك في البداية استثمرت سيرتك أو أجزاء منها في الرواية، كأنك كنت تتمرّن على رواية تالية تتخلى فيها عن أثرك الشخصي فيها.
هذا صحيح. في البداية كان غرضي كتابة شذرات من حياتي. وهذه الشذرات لم يكن مقصوداً منها كتابة سيرة. كان المقصود تحويل لحظات من حياتي إلى كتابة وموضوعات. في “مرايا فرانكشتاين” مثلاً، هناك لحظات متفاوتة، بعضها مهم وبعضها هامشي. لم تكن سيرة منتظمة. لم تروادني هذه الفكرة كلياً. حاولت أن أجد في حياتي لحظات يمكنني أن أعيد كتابتها، ومع إعادة كتابتها تتحول إلى كتابة. ثم أنني أنجزت كتابة لحظات قاسية من من حياتي. كنت في ذلك أتحدى نفسي. كتابة الانهيار العصبي ليست شيئاً مستحباً في الكتابة العربية. أنا كتبت هذا بنوع من التجرؤ، ولكنه تجرؤ على نفسي.
*هل بقيت تلك الكتابة قريبة من الشعر. من شعرك أقصد؟
أظن أن الشاعر حين يكتب النثر يظل قريبا من شعره. رغم أنني في كتابتي الروائية أتجنّب أي ادعاء للشعر، وايّ تشبّه بالشعر.، لكني أظن أيضاً أن الشاعر يملك ما ينقله من الشعر إلى الرواية. يملك لغة. وأنه عندما يكتب نثراً يملك هذا التمرس باللغة. ليس جميع الروائيين ذوي لغات. أحياناً حين نقرأ رواية نشعر أن ما ينقصها هو لغة. الشاعر ينقل هذه المَلَكَة إلى النثر وإلى الرواية. لا أستطيع أن أكون ناقداً لنفسي، ولكني أظن أن الشاعر عندما يكتب رواية، ينقل إليها بعض خبراته التي قد توجد وقد لا توجد لدى روائيين.
*فزت بـ “جائزة الشيخ زايد” عن الرواية وليس عن الشعر.. ماذا عنت لك الجائزة؟ وهل كان ذلك إشارة إضافية إلى رسوخك في الرواية؟
الجائزة عن رواية “خريف البراءة” كانت بالتأكيد هديّة جميلة احتجت إليها لأتأكّد أنّ رواياتي تجد قرّاء ولا تتعيّش على إسمي الشعري. أنا أكتب الرواية لأتحقق من أنني روائي. مسألة الرسوخ لا تعني لي. أظن أنني لم أبنِ مع الرواية نفس السيرة التي بنيتها مع الشعر. في الشعر، كتبتُ مؤَلّفاً متدرجاً متواصلاً. هناك عَصَبٌ ما في الشعر. ولكني لا أدّعي ان كتبت هذا في الرواية. المسألة أنني احب ولدي رغبة ومزاج. أريد أن أكتب رواية بنفس الحب الذي كتبتُ به شعراً. أحب عندما أغرق في كتابة رواية. هناك متعة في ذلك. الكتابة هي نوع من الخوض في نهر، ولكن لا أستطيع حتى الآن أن أن أحدّد روايتي. ما هي، وأين تقع، وما هي وجهتها، وإلى من تنتمي وتنتسب، وجنب أي روايات يمكن أن نضعها. لا أجد أجوبة على هذا. أظن أن هذه الأسئلة لا تُطرح بنفس السهولة على الشعر. في الشعر تننتمي إلى الشعر، ونعرف غالباً أين مكاننا منه. الرواية ليست هكذا. الرواية أبنية متعددة. الرواية محاولات بلا عدد. الرواية هي الروايات كلها. لا أستطيع أن أتكلم عن الرواية كما أتكلم عن الشعر. ليس لعلاقتي بالرواية نفس التاريخ الذي لعلاقتي بالشعر.
* هل هذا يعني أن حضورك الروائي لا يزال حضور شاعر يكتب الرواية، أم تعتبر نفسك روائياً بغض النظر عن “ماضيك” الشعري؟

لا أزال عند نفسي شاعراً يكتب الرواية، وأحيانا أفكّر أن هذا قد يكون ميزتي في الرواية إن كانت لي ميزة. لا أظن أن كتابة شاعر للرواية حدثٌ يستحقّ أن نقف عنده، عدا عن أنّ شعراء كثرا كتبوا روايات وروائيين كثرا بدأوا شعراء. أحد هؤلاء هو فوكنر الذي قال إنّ الشعراء الفاشلين ينتهون روائيين. أخشى على نفسي من هذا القول.


* في موازاة مؤثرات الشعر .. ما هي مؤثراتك الروائية؟ وهل يمكن االحديث عن معلمين في الرواية كما في الشعر أم أنك تجد المقارنة مختلفة وغيردقيقة؟
عندما كتبت الشعر,كان أمامي الشعر كلّه وكنت، بدون أن أقصد، وسط العالم. كتبنا أشعارنا للعالم. كنّا عالميين بدون أن تعني الكلمة غرورا أومباهاة. لا أظنّ أنني في الرواية مررت بنفس التجربة. لقد قرأت روايات أكثر ممّا قرأت شعراً، مع ذلك لا أستطيع أن أتمثل الرواية التي أكتبها كاستمرار لمشروع بهذا الحجم أو تدخّل في ميدان بهذه السعة. لا شكّ أنني أتاُّثّرولم أكن لأكتب رواية لو لم أكن أقرأ روايات. ولكن هذا لا يظهر على شكل تأثيرات واضحة. أقرأ الروايات بمتعة شديدة، ولكن لا أعرف كيف تفعل هذه الروايات في كتابتي. الروايات الّتي أقرأها لا تساعد في ابتكار لغة. في هذا أنا مضطر للاعتماد على .نفسي
* ماذا عن النقد الذي كُتب عنك كروائي؟
أعرف فقط أنّ المقابلة بين الشاعر والروائي هي التي طُرحت.لا أظنّ أن عملي الروائي نال نفس الإهتمام. أظنّني أبحث عن قارىء أتعلّم منه.
* كيف تكتب الرواية؟ هل يبدأ ذلك من جملة أم من موضوع أم من مخطط شبه كامل؟
أظنّ أنّ عذاب الرواية هنا. من أين نبدأ وكيف نبدأ. إذا وجدنا ذلك يمكن أن نسترسل. تشغلني فكرة أن تكون الرواية مختلفة عن رواياتي السابقة. قد أبدأ رواية وأتوقف. غالباً ما أتخلى عن البداية. قد أكتب صفحات كثيرة، ثم أختار صفحة منها لتكون بداية ثانية، وأنطلق من هذه الصفحة. البداية التي أهملها ترشدني تقريباً إلى البداية. أبدأ عادة من فكرة أو حدث رئيسي، ولكن لا يمكن حسم كل ذلك إلا أثناء الكتابة. الجسم الفعلي للرواية يتوالد أثناء الكتابة. أنا الآن أعاني كتابة رواية جديدة. انتهيت بعد أشهر من البحث إلى البداية من حيث وصلت. كتابة شيء بحجم رواية وأن تكتب وانت شاعر، ذلك يعني أنك ستبقى في البداية، أن تبقى روائياً تحت التمرين .
* تقول دوماً ما يشبه هذا عن شعرك أيضاً ..
الشعر لا نتقصّده، ولا نستطيع أن نفكر به قبل الكتابة. الفرق أن الرواية تبدأ من فكرة أو علاقة أو من شيء موجود بالأصل. في الشعر أنت وحيد وتنطلق من لا شيء.
ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى