موسيقا

أُم كلثوم في ذاكرتي…/ نبيل مروة

 

 

المكان هو معبد باخوس في قلعة بعلبك الأثرية. أما المناسبة فهي حفل موسيقي للتذكُّر. بعلبك تتذكّر أم كلثوم المغنّية المصرية الأكثر شهرة وسطوة ومقدرة على الغناء في العالم العربي. هو تذكّرٌ، لمشاهد مضت على زمن غناء أم كلثوم في قلعة بعلبك التاريخية. تَذَكُّرٌ قد يبعث على شهية ميتافورية ألوهِيّة… كأنْ يحلو لي أن اتخيّل فأقول مثلاً إنه استنساخ للقاءٍ لا ينتهي بين الإله “أپولو” إله الشمس وبين “خنوم” أبو الآلهة عند الفراعنة.

لن أنجو ابداً من نفسي أولاً ومن بعض الأصدقاء ثانياً، الذين إن صدّقوا ما كتبته أعلاه، لضحكوا مني وسخروا من هذه المُخيّلة المتكلّفة والمصابة بمتلازمة الألوهة والأسطرة. وها أنا أسمع الآن ذاتي تقهقه على ذاتي…هاهاها!

حسناً! فما أنا فاعلٌ في كوني مشاركاً متواضعاً في هذه المناسبة الجميلة، عازفاً على نايِّ (الفلوت) ضمن أوركسترا لبنانية، ومندمجاً في حدودي القُصوى في قراءة النوتة الموسيقية لأغانٍ لطالما غنيّتها وحفظتها. أغان محفورة في ذاكرتي ووجداني. أعزف وأدندن الكلام فتنساب الذاكرة سيّالة أمام عينيّ.

إذاً، هي ذاكرتي أنا، وليست ذاكرة بعلبك أو أي أحد آخر أو حتى مكان آخر. ذاكرتي التي طُبعت فيها صُور لا حصر لها من أمكنة وروائح وطعمات وأغانٍ وبشر… وأُم كلثوم في ذاكرتي تأخذ مداها عبر ثلاث محطات ورابعتها في محطة مُتخَيَّلة.

محطة أولى مع “أمل حياتي”:

مع هذه الأغنية تحديداً تبدأ ذاكرتي الشخصية مع أم كلثوم، وعلى الأرجح كنت وقتها في السادسة من عمري. وكان أبي يأتي بعد الظهر من عمله متعباً يشتهي قيلولة للراحة، ولكي يضمن حصوله عليها في بيت فيه أولاد كثر يلعبون ويضجّون، يعمد إلى جمعنا، إخوتي الصغار وانا، فيُشَغِّل فونوغرافه الجديد واضعاً أسطوانته المفضلة “أمل حياتي” لكوكب الشرق أم كلثوم، موّجهاً تنبيهه الصارم: “الكل هلق ع النوم ما في حدن يلعب ويعمل ضجّة”! بالطبع كُنا جميعاً نمتثل للأمر فنُلقي بأجسادنا الصغيرة الطرية بعرض السرير الكبير ذي الرفّاصات الحديدية القاسية. ومع انتهاء المقدّمة الموسيقية وبدء صوت أم كلثوم يغني:

أمل حياتى يا حبّ غالي ما ينتهيش / يا أحلى غنوة سمعها قلبي ولا تتنسيش، في هذه اللحظة بالذات يعلو صوت شخير أبي كعلامة ضرورية على تحرّرنا، ليُصبح بمقدورنا التسلّل خارج غرفة النوم لمتابعة مبارياتنا في لعب الـ”غلل” على السجادة المزخرفة في غرفة الجلوس.

في تلك المرحلة شكّلت هذه الأغنية في نفسي عمقاً ميلانكولياً ونزوعاً نحو انطوائية ممزوجة بخوف من صورة أم كلثوم الغامضة، بنَظَّارتيها السوداوين، على غلاف الأسطوانة التي كُتب عليها “كوكب الشرق”.

هذه الصورة كانت تبدو لي لكائن فضائي من كوكب غريب وليست لبشرٍ بملامح أليفة وأنيسة. لذا كانت صورتها الصارمة والغامضة أكثر ما يخيفني في طفولتي ويبعث الحزن في نفسي ممزوجاً بروائح مطبخ أمي الممتلئ ثوماً وكُزبرة.

محطة ثانية مع “ألف ليلة وليلة”:

كنت قد أصبحت مراهقاً في الخامسة عشرة من عمري وفي المرحلة الأولى من انتسابي إلى الحزب الشيوعي اللبناني. المكان ضيعة جنوبية صغيرة، والوقت ليلة صيفية حيث كنت أتنزّه مع رنا صديقتي، وكان صوت أم كلثوم يأتي من بيت مجاور :

كنا نردّد المقطع سوياً إلى أن سكتت رنا فجأة وشبكت يدها بيدي بعدها مالت بجسدها النحيل عليَّ وطبعت قبلة سريعة على خدّي… قبلة واحدة كانت كافية لتنقلني من الأرض إلى السماء.

بعد هذا الحدث بيومين التقيت جهاد صديقي ورفيقي في الحزب. بُحت له بما حصل معي وبمشاعري الجديدة وبأغنية أم كلثوم الملهمة. نظر الرفيق جهاد إليّ مُعاتباً ومُحذِّراً من انجراري وراء العواطف البرجوازية الرخيصة الكامنة في أغاني أم كلثوم، ومؤكداً أن الرفيق كارل ماركس قال إن الدين هو أفيون الشعوب، تستخدمه الرأسمالية والإمبريالية لتخدير الطبقة العاملة، أما الرجعية العربية فهي تستخدم أغاني أم كلثوم بجانب الدين كأفيون لشعوبها من أجل إحباط العملية الثورية، ونحن في الحزب الطليعي الثوري، حزب الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين الثوريين، تقع على أكتافنا مهمّة توعية الجماهير الشعبية على مصالحها الحقيقية، وإنضاج الظروف الموضوعية والذاتية للثورة من أجل وطن حر وشعب سعيد وكذا… صعقتني هذه المداخلة فأعادتني بسرعة مشوّشاً من السماء إلى الأرض.

نصحني الرفيق جهاد بالاستماع إلى أغاني الرفاق خالد وأحمد ومارسيل، وبالابتعاد من كل ما يضر بعملية إنضاج الثورة وخصوصاً أغاني أم كلثوم. حاولت جاهداً أن أقنع رنا بهذا الموقف فأسمعتها أغنيتين، الأولى “صرخة ثائر”، أما الثانية فكانت “أناديكم واشُدُّ على أياديكم وأبوس الأرض تحت نعالكم”. ما زلت إلى اليوم أذكر نظرتها المُشفِقة قائلة لي: “أنا بدي بوس وِجَّك مش تحت نعالهم!” ولكي أُفحمها في ردّي الحاسم والأخير، أسمعتها أغنية ثالثة كنت قد حفظتها خصيصاً لأؤديها لها وهي أغنية “جربت اكتبلك غِنيّة عاطفية…”! ومع ذلك أصرَّت على موقفها في الاستماع والاستمتاع بأغاني أم كلثوم.

رنا ذهبت في سبيلها بلا ندم. أمّا أنا ففضّلتُ البقاء على الأرض بدل التحليق في سماء قبلاتها، لمواكبة التحضيرات لثورة لم ولن تأتي أبداً.

هي قُبلة واحدة اختصرت مرحلة من حياتي وإلى الآن ما زلت أشعر بحرارتها على خدّي عندما أستمع إلى أم كلثوم في أغنية ألف ليلة وليلة.

محطة ثالثة مع “إنت عمري”

لقائي بهذه الأغنية بدأ مذ التقيت سلمى. مصادفة جلسنا في الطائرة مُتجاورين في رحلتنا إلى الاتحاد السوڤياتي حيث كنا نتابع دراستنا الجامعية. أنا كنت مصاباً في رجلي اليُمنى من جراء شظية لصاروخ أصاب منزلنا الكائن في منطقة المزرعة أثناء ما يُسمّى “حرب التحرير”. هي كانت مصابة في صميم قلبها نتيجة فقدانها والدها في الحرب اللبنانية العبثية. أثناء الرحلة كانت تستمع إلى أغنية ما عبر السماعات من آلة مسجلة صغيرة تمسكها بيدها. بين الحين والآخر تُغمض جفنيها وتهز برأسها طرباً. سألتها إلى ماذا تستمع. أجابتني مبتسمة: “إنت عمري لام كلثوم، ألا تعرفها، أتريد أن تسمع معي!؟…” لم تنتظر جوابي، بل أزالت إحدى السمّاعتين من أذنها وقدّمتها لي قائلة: “لا تخف أذني نظيفة …”. مالت بجسمها نحوي فاستمعنا معاً لصوت أم كلثوم يصدح :

خارج المطار انتظرنا سوياً سيارة الأجرة، فبادرتني بالسؤال إذا كنت قد أحببت الأغنية، فأجبتها بنعم مفعمة بالحماسة. سألتها إذا كنا سنتقابل بعد. فكان جوابها أن مالت إليّ ثانيةً وعانقتني وأتبعَتْها بقبلة وقالت ضاحكة: “أكيد سنلتقي طالما أنك احببت هذه الأغنية ولكن في المرّة المقبلة أحب أن أسمعك تعزفها لي على آلتك الموسيقية”.

سوف تظل هذه الأغنية تذكّرني بوجه صديقتي سلمى، الممتلئ حزناً وفرحاً وشهوة. ولسوف يكون لقائي بها بمثابة بداية مرحلة التصالح مع كل أغاني أم كلثوم وما تمثّله من معانٍ ورموز في قاموس الحب من شوق وحنين ولقاء وهجران ولوعة…

محطة رابعة مُتَخَيَّلة:

أثناء انتظاري وقوفاً في خلفية المسرح حاملاً آلتي الموسيقية (الفلوت) أنتظر، كما جميع الموسيقيين، إشارة بدء الحفلة الموسيقية، خُيِّل إلي أنني أرى طيف الست أم كلثوم على بقايا حائط المعبد. اقتربت منه أكثر فتراءى لى أن فمها يبتسم لي. حملقت في الوجه فصدر عنه صوت يقول: “بتبُصِ فيّٓ كِده ليه…

في ايه …هو ايه اللي بِيَحـصل هنا…؟

اُجيب بسرعة بعد تردّد: تقيم لجنة مهرجان بعلبك حفلة غنائية احتفاءً بذكرى غنائك هنا في قلعة بعلبك، وسيكون في برنامج الحفلة سبع فقرات من أجمل أغانيكِ.

الست: هي مين دي لي حتغني زيي انا… يلا قولي مين وبلاش هزار يا ولد.

أنا: بصراحة يا أم كلثوم الغناء سيكون من نصيب مغنّيتين من بلدك مصر “مروة ناجي” و”مي فاروق”، وهما تمتلكان قدرات صوتية هائلة ومعرفة ممتازة في التطريب من دون تكلّف أو مبالغة. أما الأوركسترا فهي كبيرة بقيادة الموسيقي المصري “هشام جبر”. والحق أقول لكِ يا ست أم كلثوم أن هشام جبر هو مؤلّف موسيقي موهوب وقد كتب توزيعاً موسيقياً تجديدياً لأغانيكِ. وبرأيي أن توزيعه أتى موفّقاً ومناسباً من حيث كثافته اللونية، كما أنه جاء مبتكراً وأنيقاً ومن دون إثقال على اللحن الأساس. وعلى رغم أنه أتى على حساب التطريب في الإعادات، إلا أن المغامرة تبقى في إطار التجارب الناجحة لإعادة أداء أغانيكِ الرائعة.

أنا أعرف مدى رفضكِ إدخال الأساليب الغربية في الموسيقى العربية، كما أعرف مدى مقاومتك إدخال الآلات الموسيقية الغربية إلى التخت الشرقي العربي. ولكن أؤكد لك أن الزمن تغيّر كلياً وهناك تراكمات هائلة في الثقافات التي لا بد لها من التفاعل والتلاقح لتستمر وتدوم.

الست: طيب خلاص ما تعمليش فيها زيطة وكدة يعني، أنا ما بحبش الحركات دي أصلاً… يلا بلاش تريقة وكلام فاضي بقى !

أنا: عندي سؤال واحد لكِ يا أم كلثوم !

الست: في ايه تاني يا ولد؟

أنا: كُتِبَ في سيرة حياتك أنكِ قد تزوّجتِ برضاك على الأقل مرّة واحدة وبعضهم يقول مرّات ثلاث من دون تأكيدات مُوَثقة. ولكن أحداً لم يذكر أنك أحببت أحداً. ولم يُكشف ولوْ قصة واحدة متكاملة حول غرامك وعشقك ولوْ سرّاً  بأحد من الرجال أو حتى من النساء. أيُعقل أن تكوني مطربة العالم العربي بلا منازع، امرأة قوية، جبارة وصاحبة رأي تفرضه من دون نقاش على الرجال قبل النساء وفي مجتمع ذكوري بامتياز، ولم تعشقي وتُغرمي بأحد؟ أيُعقل أنكِ لم تعشقي إلا فنّك وشهرتك ونفسك؟ يُحيّرني هذا السؤال يا سومة!

الست: هُوَ انت واخدها جد بقى ليه…؟ انت اسمك ايه؟

أنا: نبيل…

الست: عاشت الأسامي! شوف بقى يا سي نبيل؛ أكيد كل الجدعان اللي كتبوا في سيرة حياتي ذكَروا كيف ابتديت أغني وانا صُغَيَّرة، ولمّا والدي الشيخ أجبرني لوقت طويل على لبس ثياب الصبيان في الحفلات، لأنو كان عيب وحرام إنو البنت يكون لها دور ومكانة زي الصبي. كل الناس كانت عارفة ده، بس ما حدِّش حسِّ بيّا وانا بتعذب من شعور الذل والمهانة… ما حدّش وصف مشاعري وانا بنت صغيرة واقفة بغنّي وسط الرجاله وهُمّ فاكريني صبي. دا كان بالنسبة ليّ ابشع عذاب واستغلال. كنت تايهة ومش فاهمة نفسي أنا إيه صبي أم بنت. بس وقتيها أنا فهمت حاجة مهمة قوي وهي انو ما ينفعش اعيّط واحتج. كان لازم اتفوّق على اخي وابي وكل أهلي، وبعدها قرّرت انو ما حدش رح يوقف في طريقي لا ست ولا راجل.

يا سي نبيل انا حبيت كتير مثل كل نساء الأرض. حبي كان اعمق من اي حد فيكم. انا حبيتهم كلهم رجالة وستات: رامي، قصب، منيرة، بديعة، رياض، محمد، عبد الحليم، سعاد ونور وليلى واسمهان و…

وأنا المرأة التي غنَّت في الحب وأطْرَبَتكم قائلة: “الحب عمره ما جرح… ولا عمره بستانه طرح غير الهنا وغير الفرح…”

موسيقي لبناني

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى