شهادات

منفردة 42/ وائل السوّاح

حين وصلت إلى حمص، بدأت رائحة الألفة وذكريات المودة والعشق الصبياني تتسلّل إلى رئتي فتفسح في المجال لسعادة غامرة تمتلك الكيان والجوانح. كان كل شيء كما تركته قبل عشر سنين. طريق الشام لم يتغير فيه شيء، وكذلك شارع السرايا وحارة الأربعين وقهوة الفرح والساعة الجديدة والساعة القديمة والطلعة الخبيثة التي تتسلّق بهدوء ومكر التلّة الصغيرة التي يقع فيها بيتنا. وتلك النافذة الصغيرة البناء الذي يواجه بيتنا، حيث كانت سهر تطلّ بين الفينة والفينة برأسها إلى الحارة، فتطمئن إلى وجود المعجبين هناك، تحت نافذتها بالضبط، ينتظرون لمحة منها.

كلّنا أحبّ سهر – كلّ أولاد الحارة، ولكنّ المنافسة كانت على أشدها بيني وبين محمد الحسامي الذي يكبرني بسنتين. كان محمد، ولسبب ما كنا نسميه “الحجي”، أطول مني وأقوى وأشدّ، وكنت ولدا نحيلا، أميل إلى الخجل. وكان الحجي يستعرض أمام سهر مهارته في قيادة الدراجة ولعب الطابة والمصارعة، بينما كنت أقف تحت شباكها، وبيدي مجلّة سندباد، استبدلتها بعد سنوات بدواوين نزار قباني. أحببناها دهرا، وراقبناها وهي تكبر، ونكبر معها، وتكبر معنا مشاعرنا وتنضج. على أن أيا منا لم يوجّه لها كلمة واحدة، ولم نكتب لها رسالة حب. أنا فعلت: كتبت لها الرسالة إثر الرسالة، ولكنها كانت تظل في درج المكتبة التي تتوسّط ما بين غرفة النوم وغرفة الجلوس في بيتنا. أخذت معي رزمة الرسائل إلى دمشق حين سافرت للدراسة، وبقيت معي، تتنقّل من بيت لبيت، إلى أن صادرها رجال الأمن فيما صادروا من كتب وصور وقصص وذكريات.

قرعت الجرس، وراحت أصوات الأرجل تتسابق إلى الباب فتفتحه. وراء الباب وقفت أمي. كانت رائحتها نفسها التي عرفتها قبل ست وثلاثين سنة. رائحة من الحنان والحب وملابس البيت المريحة والعرق الأنثوي المخدر انبعثت من ملابس أمي وشعرها الآن احتضتني أو حضنت نفسها بين ذراعي. لم يدم ذلك طويلا. تخلصت مني وقادتني إلى الغرفة الداخلية حيث كان أبي جالسا بأعوامه الثمانين، ينتظر عودة الابن الضال، الابن المسكين، المشاكس، العنيد. ما كان يستطيع الوقوف لحظتئذ. كانت ساقاه خذلتاه إذن وما كان يحب ذلك. واحد وثمانون عاما قضاها منتصب القامة. لم يحن رأسه قط. لم يحنه لحسني الزعيم ولا لجمال عبد الناصر ولا لعبد الحميد السراج ولا لأيّ من الزبانية الذين جاؤوا بعد ذاك. حين أغلق عبد الناصر جريدته اليومية “الفجر” سنة 1958، وأغلق معها المطبعة، خلع الشمع الأحمر، ووضع كرسيا أمام المطبعة وجلس، ثمّ صار يبيع أقلاما ودفاتر لتلامذة المدارس. وحين أغلق البعث الجريدة نفسها ثانية سنة 1963، (لم يكره الطغاة الجرائد؟) صار يعلّم التلاميذ اللغة العربية بأجر أربع ليرات للحصة الواحدة ناقصا الضريبة، واستبدل بدخانه نوعين آخرين من السجائر: الريف وبردى. كان يدخن بردى وسعره يوم ذاك خمسة وخمسون قرشا في القهوة، أما في البيت فكان يدخن “الريف” بعشرين قرشا للعلبة سوية مع نصف بطحة العرق ونصف أوقية اللبن، مازته الوحيدة. وحين أضعت ليرة أرسلني بها إلى أبو بدر البقّال لأشتري له باكيت بردى، بقي يومين دون تدخين. على أنه لم يحنِ رأسه.

وحين زارني في السجن من خلف القضبان، قرّر أن تكون آخر مرة يراني فيها سجينا. وظل يقاوم المرض والشيخوخة والشوق، حتى تلك اللحظة التي رآني فيها بين ذراعيه، ثم مات. لم يمت لحظتها. ولكن صحته تدهورت بسرعة شديدة، وقضى بعد أشهر من حريتي. كأنه كان يقاوم بانتظار أن يراني بعيدا عن القضبان وغباء السجانين وصلافتهم والطريق الطويلة التي كان على الأهل أن يقطعوها سيرا على الأقدام، صعدا إلى أعلى التلة التي يتربع فوقها السجن.

رميت نفسي في أحضانه، ورحت أتنشق العبق السحري المنبثق من لحيته ويديه، وسمعته يقول: ” أنا فخور بك!”

أول تواصل بعد أشهر المنفردة كان حين انتقلت إلى زنزانة كان يقيم فيها منيف ملحم. جاء العقيد كمال يوسف إلى زنزانتي وسألني إن كنت ما أزال أرغب في الانتقال إلى مكان فيه آخرون. أجبت بحماس: نعم. حملت عوازلي وبطانياتي وقصعاتي وعلبة الحلاوة والسجائر والجرائد التي كنت قرأتها مئة مرة ومضيت إلى عالم من البهجة والسرور: المنفردة 42. حين دخلت زنزانة منيف، عانقته طويلا، وقلت له:

“لا أبالي الآن أن أظل ثلاث سنوات.”

كانت ثلاث سنوات هي أطول مدة قضاها رفاقنا في السجن في المرة الأولى عندما أطلق سراحهم في 4 شباط 1980. لم يخطر ببالي وقتها أنني سأعد عشرا من السنوات قبل أن أصبح خارجا. بيد أن سنواتي العشر تصبح لعبة بالمقارنة بمن قضى خمس عشرة أو عشرين أو ثلاثين، كصديقيّ فارس مراد وعماد شيحة.

انكببنا منيف وأنا على الحديث كالجائعين إلى الطعام. كانت الزنزانة بحجم زنزانتي السابقة، 37، وضعت عازلي قبالة عازله، وبقي بينهما مساحة قليلة تكفي فقط لوضع حذائينا والقصعات وعلب الحلاوة. تحدثنا عن الاعتقال والخارج والتوجه الجديد للحزب. دخّنا. أخبرته عن اكتشافي المذهل في زنزانتي بإضافة الزيت إلى البرغل المسلوق الجاف. أكلنا حلاوة وشربنا الشاي العكر البارد والمرفوع منذ الصباح، بمتعة عند المساء مع سيجارة الحمراء القصيرة. تحدثنا بحنين عن حنان. تذكرنا أدق التفاصيل عنها بمتعة فائقة وشبق أحيانا. كانت حنان تخرجنا سوية من زنزانتا، تأخذنا إلى عوالمها الفرحة، المضيئة، والثرية، تلاعبنا وتسامرنا وتحمينا من أنفسنا، ثمّ تعيدنا إلى الزنزانة، وتمضي هي إلى العالم الحقيقي. 

وأطلعني منيف على علبة كبريت حصل عليها من أحد السجانين. كانت تلك ثروة تعادل مُلكا. لإشعال السيجارة في المنفردة، ينبغي أن تكون حذرا وذكيا. اختيار الوقت المناسب والسجان المناسب أمر في غاية الأهمية. فإذا اخترت زمنا عصيبا وكان السجان محمد عاقل أو محمد جمعة، لكان الكابل أقرب إليك من شعلة اللفافة.  تشعل اللفافة وتمج كل نفس منها إلى النهاية، وحين تنتهي تشعل من العقب واحدة جديدة وتمجّها، ثم تفكر في ثالثة، ولكنك تعتقد أن ذلك سيكون كثيرا الآن فتطفئها آسفا لأنك لا تعرف متى يمكنك أن تشعل واحدة جديدة. أما الآن فلدينا علبة كبريت كاملة، أشعرتنا بالأمان والثراء.

في الليلة الأولى لم أنم. كنت جائعا للحديث مع آخر: أي آخر. كنت أخاف أن أفقد ملكة الكلام. وكنت أخاف أن أترك في المنفردة عاما كاملا مثل محمد بدورة، نقيب مهندسي دمشق، الذي كانت زنزانته قبالة زنزانتي. كان يقف في عتمة الزاوية الميتة من الزنزانة المقابلة لزنزانتي. زنزانة 47. لست أنساه: ذلك الرقم المرعب الذي فتح في صدري فجوة للرعب لن تنغلق. كان السجان لسبب ما قد نسي إحكام النافذتين الصغيرتين. اقتربت بفضول من يكتشف قارة جديدة ورعب من يفتح الغرفة الأربعين في قصر الأمير ودفعت النافذة بسبابتي فانفرجت قليلا. أمامي كان يقف في العتمة بوجه أبيض كالح باهت يحاكي وجه الأموات. رفع يده محييا فرددت بالمثل. سألني عن اسمي وسألته عن اسمه: محمد بدورة. انحفر الاسم بالذاكرة، حين سألته بالإشارة وحركة الشفاه كم يوما أمضى في الزنزانة. رفع سبابته يريد أن يقول واحد.  حسبته يقول شهرا، فانتابني انزعاج شديد من فكرة أن يطول بقائي شهرا مثله.  بيد أنه صحّح لي: سنة، فانخلع القلب من مكانه. لم أصدق ولم أستوعب فكرة أن يبقى رجل في الزنزانة عاما كاملا ولا يجن. لم أدر وقتها أنه سيبقى في مكانه أعواما أخرى طوالا، يخرج إلى الحمام ثلاث مرات ويشرب الشاي الماسخ ويأكل الخبز المنفوخ ويكلم الحيطان والخيالات ويسترق السمع إلى أقدام المارين من أمام عالمه المغلق من سجانين ومسجونين. وعلى بعد زنزانتين فقط، كان جاره رياض الترك الذي بقي ثمانية عشر عاما في الزنزانة نفسها، يسامر مرض السكري وآلام الظهر. إذاك كنت قادرا على فعل أي شيء يخرجني من ظلمة القبر تلك بما في ذلك الانتحار.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى